11 Oct 2022
الدرس الثاني عشر: كتب الحديث
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (الباب التاسع: في كتب الحديث؛ وفيه فوائد
1- بيان طبقات كتب الحديث:
قال الإمام العارف الكبير الشيخ أحمد المعروف بشاه ولي الله الدهلوي قدس الله سره في كتابه: "حجة الله البالغة" تحت الترجمة المذكورة ما نصه: "اعلم أنه لا سبيل لنا إلى معرفة الشرائع والأحكام إلا خبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بخلاف المصالح فإنها قد تدرك بالتجربة والنظر الصادق والحدس ونحو ذلك، ولا سبيل لنا إلى معرفة أخباره إلا تلقي الروايات المنتهية إلية بالاتصال والعنعنة سواء كانت من لفظه أو كانت أحاديث موقوفة قد صحت الرواية بها عن جماعة الصحابة والتابعين بحيث يبعد إقدامهم على الجزم بمثله لو النص أو الإشارة من الشارع فمثل ذلك رواية عنه دلالة، وتلقي تلك الروايات لا سبيل إليه في يومنا هذا إلا تتبع الكتب المدونة في علم الحديث، فإنه لا يوجد اليوم رواية يعتمد عليها غير مدونة.
"وكتب الحديث على طبقات مختلفة، ومنازل متباينة، فوجب الاعتناء بمعرفة طبقات كتب الحديث فنقول: هي باعتبار الصحة، والشهرة على أربع طبقات، وذلك لأن أعلى أقسام الحديث ما ثبت بالتواتر، وأجمعت الأمة على قبوله والعمل به ثم ما استفاض من طرق متعددة لا يبقى معها شبهة يعتد بها، واتفق على العمل به جمهور فقهاء الأمصار أو لم يختلف فيه علماء الحرمين خاصة فإن الحرمين محل الخلفاء الراشدين في القرون الأولى، ومحط رجال العلماء طبقة بعد طبقة، يبعد أن يسلموا منهم الخطأ الظاهر؛ أو كان قولًا مشهورًا معمولًا به في قطر عظيم مرويًّا عن جماعة عظيمة من الصحابة والتابعين؛ ثم صح أو حسن سنده، وشهد به علماء الحديث ولم يكن قولًا متروكًا لم يذهب إليه أحد من الأمة.
"أما ما كان ضعيفًا موضوعًا أو منقطعًا أو مقلوبًا في سنده أو متنه، أو من رواية المجاهيل، أو مخالفًا لما أجمع عليه السلف، طبقة بعد طبقة فلا سبيل إلى القول به".
"فالصحة أن يشترط مؤلف الكتاب على نفسه إيراد ما صح، أو حسن غير مقلوب ولا شاذ ولا ضعيف إلا من بيان حاله، فإن إيراد الضعيف مع بيان حاله لا يقدح في الكتاب".
"والشهرة أن تكون الأحاديث المذكورة فيها دائرة على ألسنة المحدثين قبل تدوينها، وبعد تدوينها فيكون أئمة الحديث قبل المؤلف رووها بطرق شتى وأوردوها في مسانيدهم، ومجاميعهم وبعد المؤلف اشتغلوا برواية الكتاب وحفظه وكشف مشكله وشرح غريبه وبيان إعرابه وتخريج طرق أحاديثه واستنباط فقهها، والفحص عن أحوال رواتها طبقة بعد طبقة إلى يوما هذا حتى لا يبقى شيء مما يتعلق به غير مبحوث عنه إلا ما شاء الله، ويكون نقاد الحديث قبل المصنف وبعده، وافقوه في القول بها وحكموا بصحتها وارتضوا رأي المصنف فيها، وتلقوا كتابه بالمدح والثناء ويكون أئمة الفقه لا يزالون يستنبطون ويعتمدون عليها ويعتنون بها ويكون العامة لا يخلون عن اعتقادها، وتعظيمها، وبالجملة فإذا اجتمعت هاتان الخصلتان في كتاب كان من الطبقة الأولى ثم وثم، وإن فقدتا رأسا لم يكن له اعتبار، وما كان أعلى حد في الطبقة الأولى فإنه يصل إلى حد التواتر وما دون ذلك يصل إلى الاستفاضة ثم إلى الصحة القطعية أعني القطع المأخوذ في علم الحديث المفسد للعمل، والطبقة الثانية إلى الاستفاضة أو الصحة القطعية، أو الظنية وهكذا ينزل الأمر.
فالطبقة الأولى: محصرة بالاستقراء في ثلاثة كتب: الموطأ وصحيح البخاري وصحيح مسلم، قال الشافعي: أصح الكتب بعد كتاب الله موطأ مالك، واتفق أهل الحديث على أن جميع ما فيه صحيح على رأي مالك ومن وافقه، وأما على رأي غيره فليس فيه مرسل، ولا منقطع إلا قد اتصل السند به من طرق أخرى فلا جرم أنها صحيحة من هذا الوجه.
"ولم يزل العلماء يخرجون أحاديثه، ويذكرون متابعاته وشواهده، ويشرحون غريبة ويضبطون مشكله، ويبحثون عن فقهه، ويفتشون عن رجاله إلى غاية. ليس بعدها غاية وإن شئت الحق الصراح، فقس كتاب: "الموطأ" بكتاب: "الآثار" لمحمد و"الأمالي" لأبي يوسف، تجد بينه وبينهما بعد المشرقين فهل سمعت أحدًا من المحدثين والفقهاء تعرض لهما واعتنى بهما؟
"أما الصحيحان فقد اتفق المحدثون على أن جميع ما فيهما من المتصل المرفوع صحيح بالقطع وأنهما متواتران إلى مصنفيهما، وأن كل من يهون أمرهما فهو مبتدع غير سبيل المؤمنين، وإن شئت الحق الصراح فقسهما بكتاب ابن أبي شيبة، وكتاب الطحاوي، ومسند الخوارزمي وغيرهما تجد بينها وبينهما بعد المشرقين.
وهذه الكتب الثلاثة التي اعتنى القاضي عياض في المشارق بضبط مشكلها ورد تصحيفها.
الطبقة الثانية: كتب لم تبلغ مبلغ الموطأ والصحيحين، ولكنها تتلوها، كان مصنفوها معروفين بالوثوق والعدالة والحفظ، والتبحر في فنون الحديث ولم يرضوا في كتبهم هذه بالتساهل فيما اشترطوا على أنفسهم، وتلقاها من بعدهم بالقبول، واعتنى بها المحدثون والفقهاء طبقة بعد طبقة واشتهرت فيما بين الناس، وتعلق بها القوم شرحا لغريبها، وفحصًا عن رجالها، واستنباطًا لفقهها وعلى تلك الأحاديث بناء عامة العلوم كسنن أبي داود وجامع الترمذي ومجتبى النسائي وهذه الطبقة الأولى اعتنى بأحاديثها "رزين" في "تجريد الصحاح"، وابن الأثير في "جامع الأصول".
وكاد مسند أحمد يكون من جملة هذه الطبقة، فإن الإمام أحمد جعله أصلا يعرف به الصحيح والسقيم. قال: "ما ليس فيه فلا تقبلوه".
والطبقة الثالثة: مسانيد وجوامع ومصنفات صنفت قبل البخاري ومسلم: وفي زمانهم وبعدهما، جمعت بين الصحيح والحسن والضعيف والمعروف والغريب والشاذ والمنكر والخطأ والصواب والثابت والمقلوب، ولم تشتهر في العلماء ذلك الاشتهار وإن زال عنها اسم النكارة المطلقة، ولم يتداول ما تفردت به الفقهاء كثير تداول، ولم يفحص عن صحتها وسقمها المحدثون كثير فحص ومنه ما لم يخدمه لغوي لشرح غريب، ولا فقيه لتطبيقه بمذاهب السلف ولا محدث ببيان مشكله، ولا مؤرخ بذكر أسماء رجاله ولا أريد المتأخرين المتعمقين، وإنما كلامي في الأئمة المتقدمين من أهل الحديث فهي باقية على استتارها واختفائها وخمولها كمسند أبي يعلى ومصنف عبد الرزاق ومصنف أبي بكر بن أبي شيبة ومسند عبد بن حميد، والطيالسي وكتب البيهقي والطحاوي والطبراني، وكان قصدهم جمع ما وجدوه لا تلخيصه وتهذيبه وتقريبه من العمل.
والطبقة الرابعة: كتب قصد مصنفوها بعد قرون متطاولة جمع ما لم يوجد في الطبقتين الأوليين، وكانت في المجاميع والمسانيد المختفية فنوهوا بأمرها، وكانت على ألسنة من لم يكتب حديثه المحدثون ككثير من الوعاظ المتشدقين وأهل الأهواء والضعفاء أو كانت من آثار الصحابة والتابعين أو من أخبار بني إسرائيل أو من كلام الحكماء والوعاظ خلطها الرواة بحديث النبي -صلى الله عليه وسلم- سهوا أو عمدًا أو كانت من محتملات القرآن والحديث الصحيح فرواها بالمعنى قوم صالحون لا يعرفون غوامض الرواية فجعلوا المعاني أحاديث مرفوعة أو كانت معاني مفهومة من إشارات الكتاب والسنة جعلوها أحاديث مستبدة برأسها عمدًا، وكانت جملًا شتى في أحاديث مختلفة جعلوها حديثًا واحدا بنسق واحد، ومظنة هذه الأحاديث كتاب: "الضعفاء" لابن حبان، وكامل بن عدي، وكتب الخطيب وأبي نعيم والجوزقاني وابن عساكر وابن النجار والديلمي؛ وكاد مسند الخوارزمي يكون من هذه الطبقة، وأصلح هذه الطبقة ما كان ضعيفًا محتملًا وأسوؤها ما كان موضوعًا أو مقلوبا، شديد النكارة. وهذه الطبقة مادة كتاب: "الموضوعات" لابن الجوزي.
"وها هنا طبقة خامسة: منها ما اشتهر على ألسنة الفقهاء والصوفية والمؤرخين ونحوهم وليس له أصل في هذه الطبقات الأربع؛ ومنها: ما دسه الماجن في دينه العالم بلسانه فأتى بإسناد قوى لا يمكن الجرح فيه، وكلام بليغ لا يبعد صدوره عنه -صلى الله عليه وسلم- فأثار في الإسلام مصيبة عظيمة. لكن الجهابذة من أهل الحديث يوردون مثل ذلك على المتابعات، والشواهد فتهتك الأستار ويظهر العوار.
"أما الطبقة الأولى والثانية فعليهما اعتماد المحدثين، وحوم حماهما مرتعهم ومسرحهم، وأما الثالثة فلا يباشرها للعمل عليها والقول بها إلا النحارير الجهابذة الذين يحفظون أسماء الرجال وعلل الأحاديث نعم ربما يؤخذ منها المتابعات والشواهد وقد جعل الله لكل شيء قدرًا، وأما الرابعة فالاشتغال بجمعها والاستنباط منها نوع تعمق من المتأخرين، وإن شئت الحق فطوائف المبتدعين من الرافضة والمعتزلة وغيرهم يتمكنون بأن يلخصوا منها شواهد مذاهبهم فالأنصار بها غير صحيح في معارك العلماء بالحديث والله أعلم"). [قواعد التحديث: 404-410]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (2- بيان الرموز لكتب الحديث على طريقة الحافظ ابن حجر في التدريب:
قال رحمه الله في مقدمة التقريب: "وقد اكتفيت بالرقم على اسم كل راو إشارة إلى من أخرج حديثه من الأئمة؛ فللبخاري في: "صحيحة" "خ"، فإن كان حديثه عنده معلقا "خت"، وللبخاري في: "الأدب المفرد" "بخ"، وفي: "خلق أفعال العباد" "عخ"، وفي: "جزء القراءة" "ز"، رفع اليدين" "ي"، ولمسلم "م"، وفي مقدمة صحيحة
"مق"، ولأبي داود "د"، وفي: "المراسيل" له "مد"، وفي: "فضائل الأنصار" "صد"، وفي: "الناسخ" "خد"، وفي: "القدر" "قد"، وفي: "التفرد" "ف"، وفي: "المسائل" "ل"، وفي: "مسند مالك" "كد"، وللترمذي "ت"، وفي: "الشمائل" له "تم"، وللنسائي "س"، وفي: "مسند علي" له "عس"، وفي كتاب: "عمل يوم وليلة" "سي"، وفي: "خصائص علي" "ص"، وفي: "مسند مالك" "كس"، ولابن ماجه "ق"، فإن كان حديث الرجل في أحد الأصول الستة اكتفى برقمه ولو أخرج له في غيرها، وإذا اجتمعت فالرقم "ع" وأما علامة "4" فهي لهم سوى الشيخين، ومن ليست له عندهم رواية مرقوم عليه تمييز إشارة إلى أنه ذكر ليتميز عن غيره"). [قواعد التحديث: 411]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (3- بيان الرموز لكتب الحديث على طريقة السيوطي في الجامع الكبير والجامع الصغير:
"خ" للبخاري، "م" لمسلم، "ق" لهما. "د" لأبي داود، "ت" للترمذي، "ن" للنسائي، "هـ" لابن ماجه، "4" لهؤلاء الأربعة، "3" لهم إلا ابن ماجه، "حم" للإمام أحمد في مسنده "عم" لابنه في زوائده "ك" للحاكم، فإن كان في المستدرك أطلقت، وإلا بينته "خد" للبخاري في الأدب، "تخ" له في التاريخ، "حب" لابن حبان في صحيحه، "طب" لسعيد بن منصور في سننه، "طس" له في الأوسط، "طص" له في الصغير، "ص" لسعيد بن منصور في سننه، "ش" لا بن أبي شيبة، "عب" لعبد الرزاق في الجامع، "ع" لأبي يعلى في مسنده، "قط" للدارقطني فإن كان في السنن أطلقت، وإلا بينته، "فر" للديلمي في الفردوس، "حل" لأبي نعيم في الحلية، "هب" للبيهقي في شعب الإيمان، "هق" له في السنن، "عد" لأبي عدي في الكامل، "عق" للعقيلي في الضعفاء، "خط" للخطيب، فإن كان في التاريخ أطلقت وإلا بينته، "ض" للضياء المقدسي في المختارة، "ط" لأبي داود الطيالسي، "كر" لابن عساكر في تاريخه "كذا في مقدمة الجامع الكبير"). [قواعد التحديث: 411-412]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (4- بيان ما اشتمل على الصحيح فقط أو مع غيره من هذه الكتب المرموز بها:
قال الحافظ السيوطي في مقدمة جمع الجوامع ما نصه: "جميع ما في الكتب الخمسة: خ، م، حب، ك، ض، صحيح، فالعزو إليها معلم بالصحة، سوى ما في: "المستدرك" من المتعقب، فأنبه عليه؛ وكذا ما في: "موطأ مالك" وصحيح ابن خزيمة وأبي عوانة وابن السكن والمنتقى لابن الجارود والمستخرجات، فالعزو إليها معلم بالصحة أيضًا، وفي د ما سكت عليه فهو صالح وما بين ضعفه نقلت عنه؛ وفي ت. ن. هـ. ط. حم. عم. عب. ص. ش. ع. طب. طس. قط. حل. هب. هق. صحيح وحسن، وضعيف فأبينه غالبا؛ وكل ما كان في مسند أحمد فهو مقبول، فإن الضعيف الذي فيه يقرب من الحسن؛ وكل ما عزى إلى عق عد خط كر أو للحكيم الترمذي في: "نوادر الأصول" أو للحاكم في تاريخه أو لابن الجارود في تاريخه، أو للديلمي في مسند الفردوس فهو ضعيف فيستغنى بالعزو إليها أو إلى بعضها عن بيان ضعفه، وإذا أطلقت العزو إلى ابن جرير فهو في تهذيب الآثار فإن كان في تفسيره أو في تاريخه بينته". اهـ.
وقد بسط الكلام في ذلك صاحب "الأجوبة الفاضلة" في السؤال الثاني ونصه:
هل كل ما في هذه الكتب الضخام، كالسنن الأربعة، وتصانيف البيهقي، وتصانيف الدارقطني، والحاكم، وابن أبي شيبة وغيرها من الكتب المشتهرة من الأحاديث المجموعة، صحيح لذاته أو لغيره، أو حسن لذاته أو لغيره أم لا؟
الجواب:
ليس كل ما في هذه الكتب وأمثالها صحيحًا أو حسنًا، بل هي مشتملة على الأخبار الصحيحة والحسنة والضعيفة والموضوعة؛ أما كتب السنن فذكر ابن الصلاح والعراقي وغيرهما أن فيها غير الحسن من الصحيح، والضعيف، وذكر النووي أن في السنن الصحيح والحسن والضعيف والمنكر، ومن ها هنا اعترضوا على تسمية صاحب المصابيح أحاديث السنن بالحسان، بأنه اصطلاح لا يعرف عند أهل الفن؛ وذكر العراقي أنه قد تساهل من أطلق الصحيح على كتب السنن، كأبي طاهر السلفي حيث قال في الكتب الخمسة: اتفق على صحتها علماء المشرق والمغرب؛ وكالحاكم حيث أطلق على جامع الترمذي "الجامع الصحيح"، وكذلك الخطيب أطلق عليه اسم الصحيح، وذكر الذهبي في "أعلام سير النبلاء" أن أعلى ما في كتاب أبي داود من الثابت، ما أخرجه الشيخان وذلك نحو شطر الكتاب ثم يليه، ما أخرجه أحد الشيخين ورغب عنه الآخر ثم يليه ما رغبا عنه، وكان إسناده جيدًا سالمًا من علة وشذوذ ثم يليه ما كان إسناده صالحًا، وقبله العلماء لمجيئه من وجهين لينين فصاعدًا ثم يليه ما ضعف إسناده لنقص حفظ راويه فمثل هذا يسكت عنه أبو داود غالبًا ثم يليه ما كان بين الضعف من جهة رواته فهذا لا يسكت عنه بل يوهنه غالبًا، وقد يسكت عنه بحسب شهرته ونكارته، وذكر أيضًا قال أبو نصر عبد الرحيم بن عبد الخالق الجامع -أي جامع الترمذي- على أربعة أقسام قسم مقطوع بصحته، وقسم على شرط أبي داود والنسائي، وقسم أبان عن علته، وقسم رابع أبان عنه فقال ما أخرجت في كتابي هذا إلا حديثًا عمل به بعض الفقهاء سوى حديث: "فإن شرب في الرابعة فاقتلوه" وحديث: "جمع بين الظهر والعصر بالمدينة من غير خوف ولا سفر" وذكر أيضًا قد كان ابن ماجه حافظًا صدوقًا واسع العلم وإنما غض من رتبة سننه ما في الكتاب من المناكير، وقليل من الموضوعات.
وقال ابن الصلاح في مقدمته: "كتاب أبي عيسى الترمذي أصل في معرفة الحديث الحسن". وقال أيضًا: "ومن مظانه سنن أبي داود روينا عنه أنه قال ذكرت فيه الصحيح وما يشبهه ويقاربه وروينا عنه أيضًا ما معناه إنه يذكر في كل باب أصح ما يعرفه في ذلك الباب وقال: ما كان في كتابي من حديث فيه وهن شديد بينته، وما لم أذكر فيه شيئًا فهو صالح، وبعضها أصح من بعض.
قلت: فعلى هذا ما وجدناه في كتابه مذكورًا مطلقًا، وليس في واحد من الصحيحين ولا نص على صحته أحد ممن ميز بين الصحيح والحسن جزمنا بأنه من الحسن عند أبي داود وقد يكون في ذلك ما ليس بحسن عند غيره.
وقال أيضًا: حكى أبو عبد الله بن منده الحافظ أنه سمع محمد بن سعد البارودي بمصر يقول: كان من مذهب النسائي أن يخرج عن كل من لم يجمع على تركه قال ابن منده، وكذلك أبو داود يأخذ مأخذه، ويخرج الإسناد الضعيف إذا لم يجد في الباب غيره لأنه أقوى عنده من رأي الرجال وذكر السيوطي في: "ديباجة زهر الربى على المجتبى" قال الحافظ أبو الفضل بن طاهر في شروح الأئمة كتاب أبي داود والنسائي ينقسم على ثلاثة أقسام الأول: الصحيح المخرج في الصحيحين؛ الثاني: صحيح على شرطهما؛ وقد حكى عبد الله بن منده أن شرطهما إخراج أحاديث أقوام لم يجمع على تركهم إذا صح الحديث باتصال الإسناد من غير قطع، ولا إرسال فيكون هذا القسم من الصحيح إلا أنه طريق لا يكون طريق ما أخرجه البخاري ومسلم في صحيحهما بل طريقه ما ترك البخاري ومسلم من الصحيح.
القسم الثالث: أحاديث أخرجاها من غير قطع عنهما بصحتها، وقد أبانا عليها بما يفهمه أهل المعرفة.
وذكر أيضًا قال الأمام أبو عبد الله بن رشيد كتاب النسائي أبدع الكتب المصنفة في السنن وأحسنها ترصيفًا وكأن كتابه بين جامع البخاري ومسلم مع حظ كثير من بيان العلل، وبالجملة فهو أقل الكتب بعد الصحيحين حديثًا ضعيفًا، ورجلًا مجروحًا ويقاربه كتاب أبي جارود وكتاب الترمذي، ومقابله من الطرف الآخر كتاب ابن ماجه فإنه تفرد فيه بإخراج أحاديث عن رجال متهمين بالكذب وسرقة الأحاديث، وبعض تلك الأحاديث لا تعرف إلا من جهتهم، وأما ما حكاه ابن طاهر عن أبي زر عن الرازي أنه نظر فيه فقال: لعله لا يكون فيه تمام ثلاثين حديثًا مما فيه ضعف فهي حكاية لا تصح لانقطاع سندها، وإن كانت صحيحة فلعله أراد ما فيه من الأحاديث الساقطة إلى الغاية. وذكر أيضًا: ذكر بعضهم أن النسائي لما صنف السنن الكبرى أهداه إلى أمير الرملة فقال له الأمير: أكل ما في هذا صحيح قال لا! قال: فجرد الصحيح، فصنف: "المجتبى" وهو بالباء الموحدة. وقال الزركشي في تخريج أحاديث الرافعي: ويقال بالنون أيضًا.
وقال السيوطي في التدريب: قال شيخ الإسلام -يعني الحافظ ابن حجر- مسند الدارمي ليس دون السنن في الرتبة، بل لو ضم إلى الخمسة لكان أولي من ابن ماجه، فإنه أمثل منه بكثير. وقال العراقي: اشتهر تسميته بالمسند كما سمى البخاري كتابه بالمسند، لكون أحاديثه مسندة إلا أن فيه المرسل والمقطع والمقطوع كثيرًا، على أنهم ذكروا في ترجمة الدارمي أن له الجامع والمسند والتفسير وغير ذلك؛ فلعل الموجود الآن هو الجامع والمسند قد فقد.
وأما تصانيف الدارقطني فقال العيني في: "البناية شرح الهداية" في بحث قراءة الفاتحة في حقه: "من أين له تضعيف أبي حنيفة وهو مستحق التضعيف، وقد روى في مسنده أحاديث سقيمة ومعلولة ومنكرة وغريبة وموضوعة". اهـ. وقال أيضًا في بحث جهر البسملة: "الدارقطني كتابه مملوء من الأحاديث الضعيفة والشاذة والمعللة، وكم فيه من حديث لا يوجد في غيره وحكى أنه لما دخل مصر سأله بعض أهلها تصنيف شيء في الجهر بالبسملة فصنف فيه جزءًا فأتاه بعض المالكية فأقسم عليه أن يخبره بالصحيح من ذلك فقال كل ما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في الجهر فليس بصحيح وأما عن الصحابة فمنه صحيح، ومنه ضعيف". اهـ.
وأما تصانيف البيهقي: فهي أيضًا مشتملة على الأحاديث الضعيفة، وكذا تصانيف الخطيب فإنه قد تجاوز عن حد التحامل واحتج بالأحاديث الموضوعة صرح به العيني في البناية في بحث البسملة.
وأما تصانيف الحاكم: فقال الزيلعي في تخريج أحاديث الهداية: "قال ابن دحية في كتابه: "العلم"؛ المشهور: يجب على أهل الحديث أن يتحفظوا من قول الحاكم، فإنه كثير الغلط ظاهر السقط، وقد غفل عن ذلك كثير من جاء بعده وقلده في ذلك". اهـ.
وقال العيني في "البناية": "قد عرف تساهله وتصحيحه للأحاديث الضعيفة، بل الموضوعة". اهـ.
وقال السيوطي في رسالة التعقبات على ابن الجوزي: قال شيخ الإسلام ابن حجر: تساهله وتساهل الحاكم في المستدرك أعدم النفع بكتابهما إذ ما حدث فيهما إلا ويمكن أنه مما وقع فيه التساهل فلذلك وجب على الناقد الاعتناء بما ينقله منهما من غير تقليد لهما". اهـ.
وفي طبقات الشافعية لتقي الدين شهبة: قال الذهبي في المستدرك جملة وافرة على شرطهما، وجملة وافرة على شرط أحدهما، ومجموع ذلك نحو نصف الكتاب وفيه نحو الربع مما صح سنده، وفيه بعض الشيء معلل وما بقى مناكير وواهيات لا تصح وفي ذلك بعض الموضوعات قد أعلمت عليها لما اختصرته". اهـ.
وفي مقدمة ابن الصلاح: "هو -أي الحاكم- واسع الخطو في شرط الصحيح متساهل في القضاء به. فما حكم بصحته ولم نجد ذلك لغيره من الأئمة إن لم يكن من قبيل الصحيح فهو من قبيل الحسن يحتج به ويعمل إلا أن تظهر فيه علة توجب ضعفه". اهـ.
وتبعه النووي حيث قال في التقريب: "فما صححه ولم نجد فيه لغيره تصحيحًا ولا تضعيفًا حكمنا بأنه حسن إلا أن يظهر فيه علة توجب ضعفه" قال السيوطي في التدريب: "قوله فما صححه احتراز مما وجد في الكتاب ولم يصرح بتصحيحه فلا يعتمد عليه". اهـ. لكن تعقب ابن الصلاح البدر بن جماعة فقال في مختصره: الصواب أن يتتبع، ويحكم عليه بما يليق من الحسن أو الصحة أو الضعف وتبعه في هذا التعقب شراح الألفية العراقي والأنصاري والسخاوي، وقالوا: إنما قال ابن الصلاح ما قال بناء على رأيه، أنه ليس لأحد أن يصحح في هذه الأعصار حديثًا وذكر ابن الصلاح أن صحيح ابن حبان يقاربه -أي مستدرك الحاكم- في التساهل لكن نقل العراقي عن الحازمي أنه قال: ابن حبان أمكن في الحديث من الحاكم. اهـ.
وقال السيوطي في التدريب: "قيل ما ذكر من تساهل ابن حبان ليس بصحيح، غايته أن يسمي الحسن صحيحًا، فإن كان نسبته إلى التساهل باعتبار وجد أن الحسن في كتابه فهي مشاحة في الاصطلاح، وإن كان باعتبار خفة شروطه، فإنه يخرج في الصحيح ما كان راويه ثقة غير مدلس سمع من شيخه، وسمع منه الآخذ عنه ولا يكون هناك إرسال ولا انقطاع، وإذا لم يكن في الراوي جرح ولا تعديل كان كل من شيخه والراوي عنه ثقة ولم يأت بحديث منكر فهو عنده ثقة، وفي كتاب الثقات له كثير ممن هذا حاله ولأجل هذا ربما اعترض عليه في جعله ثقة من لم يعرف حاله فلا اعتراض عليه فإنه لا مشاحة في ذلك، وهذا دون شرط الحاكم، فالحاصل أن ابن حبان وفي بالتزام شروطه، ولم يوف الحاكم". اهـ.
ومما يدل على كون ابن حبان أشد تحريًا من الحاكم ما نقله السيوطي في: "اللآلئ المصنوعة" عن تخريج أحاديث الرافعي للزركشي أن تصحيح الضياء المقدسي صاحب المختارة أعلى مرتبة من تصحيح الحاكم، وأنه قريب من تصحيح الترمذي، وابن حبان. اهـ. وذكر النووي في شرح المهذب اتفق الحفاظ على أن البيهقي أيضًا أشد تحريًا من الحاكم. اهـ. وذكر ابن الصلاح كتب المسانيد غير ملتحقة بالكتب الخمسة التي هي الصحيحان وسنن أبي داود وسنن النسائي وجامع الترمذي وما جرى مجراها في الاحتجاج بها، والركون إلى ما هو فيها كمسند أبي داود الطيالسي ومسند عبيد الله بن موسى ومسند أحمد ومسند إسحاق بن رهويه ومسند عبد بن حميد ومسند الدارمي ومسند أبي يعلى الموصلي ومسند الحسن بن سفيان ومسند البراز وأشباهها، فهذه عادتهم فيها أن يخرجوا في مسند كل صحابي ما رووه من حديثه غير متقيدين بأن يكون حديثًا محتجًا به. اهـ.
وفي التدريب: "صرح الخطيب وغيره بأن الموطأ مقدم على كل كتاب من الجوامع والمسانيد فعلى هذا هو بعد صحيح الحاكم وأما ابن حزم فقال: أولى الكتب الصحيحان ثم صحيح سعيد بن السكن والمنتقى لابن الجارود وقاسم بن أصبغ، ثم بعد هذه الكتب كتاب أبي داود وكتاب النسائي ومصنف قاسم بن أصبغ ومصنف الطحاوي ومسانيد أحمد والبزار وابني أبي شيبة أبي بكر وعثمان، وابن راهويه، والطيالسي، والحسن بن سفين، وابن سنجر، وعلي بن المديني، وما جرى مجراها التي أفردت بكلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم ما كان فيه الصحيح فهو أجل، مثل مصنف عبد الرزاق، ومصنف ابن أبي شيبة، وبقي بن مخلد، وكتاب محمد بن نصر المروزي، وابن المنذر، ثم مصنف حماد بن مسلمة، وسعيد بن منصور، ووكيع وموطأ مالك، وموطأ ابن أبي ذئب، وموطأ ابن وهب، ومسائل ابن حنبل، وفقه أبي ثور. انتهى ملخصًا.
ثم نقل السيوطي عنه أنه قال: في الموطأ نيف وسبعون حديثًا، وقد ترك مالك نفسه العمل بها، وفيها أحاديث ضعيفة. ونقل الذهبي في سير النبلاء عن ابن حزم نحو ما مر، وقال: ما أنصف ابن حزم، بل رتبة الموطأ أن يذكر تلو الصحيحين مع سنن أبي داود، لكنه تأدب وقدم المسندات النبوية الصرفة وما ذكر سن ابن ماجه، ولا جامع أبي عيسى، فإنه ما رآهما، ولا دخلا إلى الأندلس إلا بعد موته. اهـ.
وذكر الزرقاني في شرح الموطأ عن السيوطي أن الموطأ صحيح كله على شرط مالك.
وقال الذهبي في سير النبلاء: فيه -أي مسند أحمد- جملة من الأحاديث الضعيفة مما يسوغ نقلها، ولا يجب الاحتجاج بها، وفيه أحاديث معدودة شبيهة الموضوعة، لكنها قطرة في بحر. اهـ.
وقال ابن تيمية في منهاج السنة: "صنف أحمد كتابا في فضائل الصحابة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم، وقد روى في هذا الكتاب ما ليس في المسند، وليس كل ما رواه أحمد في المسند وغيره يكون حجة عنده، بل يروى ما رواه أهل العلم، وشرطه في المسند أن لا يروى عن المعروف بالكذب عنده، وإن كان في ذلك ما هو ضعيف، وشرطه في المسند أمثل من شرط أبي داود في سننه. وأما في كتب الفضائل فروى ما سمعه من شيوخه سواء كان صحيحًا أو ضعيفًا، فإنه لم يقصد أن لا يروى في ذلك إلا ما ثبت عنده، ثم زاد ابنه عبد الله على مسند أحمد زيادات، وزاد أبو بكر القطيعي زيادات. وفي زيادات القطيعي أحاديث كثيرة موضوعة، فظن ذلك الجهال أنه من رواية أحمد، رواها أحمد في المسند، وهذا خطأ قبيح. اهـ.
وخالفه العراقي وادعى أن في مسند أحمد موضوعات وصنف جزءا مستقلًّا وقال فيه بعد الحمد والصلاة: "قد سألتني بعض أصحابنا من مقلدي الإمام أبي عبد الله أحمد بن حنبل في سنة خمسين وسبعمائة، أو بعدها بيسير، أن أفرد له ما وقع في مسند الإمام أحمد من الأحاديث التي قيل فيها إنها موضوعة، فذكرت له أن الذي في المسند من هذا النوع أحاديث ذوات عدد ليست بالكثيرة، ولم يتفق لي جمعها، فلما قرأت المسند سنة ستين وسبعمائة على الشيخ المسند علاء الدين أبي الحسن علي بن أحمد بن محمد بن صالح الدمشقي وقع في أثناء السماع كلام: هل في المسند أحاديث ضعيفة أو كله صحيح؟ فقلت: إن فيه أحاديث ضعيفة كثيرة، وإن فيه أحاديث يسيرة موضوعة فبلغني بعد ذلك أن بعض ما ينتمي إلى مذهب أحمد أنكر هذا إنكارا شديدًا. ونقل عن الشيخ ابن تيمية الذي وقع فيه من هذا هو من زيادات القطيعي، لا من رواية أحمد، ولا من رواية ابنه، فحرضني قول هذا القائل على أن جمعت في هذه الأوراق ما وقع في المسند من رواية أحمد، ومن رواية ابنه مما قال فيه بعض أئمة هذا الشأن إنه موضوع" انتهى ملخصًا. ثم أورد تسعة أحاديث من المسند، ونقل عن ابن الجوزي وغيره الحكم بوضعها، ورده في بعضها، ثم قام لرده الحافظ ابن حجر فصنف "القول المسدد في الذب عن مسند أحمد" قال فيه بعد الحمد والصلاة: فقد رأيت أن أذكر في هذه الأوراق ما حضرني من الكلام على الأحاديث التي زعم أهل الحديث أنها موضوعة وهي في مسند أحمد... إلخ ونقل فيه جزء شيخه العراقي حرفًا حرفًا، وأجاب عنه حديثًا حديثًا، ثم أورد عدة أحاديث أخر من المسند حكم عليها ابن الجوزي بالوضع مما لم يذكره العراقي ونفى وضعها بالبراهين الساطعة والحجج القاطعة.
وفي التدريب: "قيل: وإسحاق يورد أمثل ما ورد عن ذلك الصحابي فيما ذكره أبو زرعة والرازي عنه، قال العراقي: ولا يلزم من ذلك أن يكون جميع ما فيه صحيحًا، بل هو أمثل بالنسبة لما تركه، وفيه الضعيف". اهـ. وفيه أيضًا: "قيل: ومسند البزار يبين فيه الصحيح من غيره. قال العراقي: ولم يفعل ذلك إلا قليلًا إلا أنه يتكلم في تفرد بعض رواة الحديث ومتابعة غيره". اهـ.
وفي منهاج السنة لابن تيميه: "ما ينقله الثعلبي في تفسيره: لقد أجمع أهل العلم بالحديث أنه يروي طائفة من الأحاديث الموضوعة كالحديث الذي يرويه في أول كل سورة وأمثال ذلك ولهذا يقولون: هو كحاطب ليل.
وهكذا الواحدي تلميذه، وأمثالهما من المفسرين، ينقلون الصحيح والضعيف ولهذا لما كان البغوي عالمًا بالحديث أعلم به من الثعلبي والواحدي، وكان تفسيره مختصر تفسير الثعلبي لم يذكر في تفسيره شيئًا من الأحاديث الموضوعة التي يرويها الثعلبي، ولا ذكر تفاسير أهل البدع التي يذكرها الثعلبي مع أن الثعلب فيه خير ودين لكنه لا خبر له في الصحيح والسقيم من الأحاديث، وأما أهل العلم الكبار أصحاب التفسير مثل تفسير محمد بن جرير الطبري وبقي بن مخلد وابن أبي حاتم وأبي بكر بن المنذر وأمثالهم فلم يذكروا فيها مثل هذه الموضوعات دع من هو أعلم منهم مثل تفسير أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه بل ولا يذكر مثل هذا عبد بن حميد ولا عبد الرزاق مع أن عبد الرزاق كان يميل إلى التشيع ويروي كثيرًا من فضائل علي -رضي الله عنه- وإن كانت ضعيفة وقد أجمع أهل العلم بالحديث على أنه لا يجوز الاستدلال بمجرد خبر يرويه الواحد من جنس الثعلب والنقاش والواحدي وأمثال هؤلاء المفسرين لكثره ما يروونه من الحديث ويكون ضعيفًا بل موضوعا". اهـ. وفي موضع آخر منه قد روى أبو نعيم في الحلية في أول فضائل الصحابة، وفي كتاب مناقب أبي بكر وعمر وعثمان وعلي أحاديث بعضها صحيحة وبعضها ضعيفه بل منكرة، وكان رجلا عالما بالحديث لكن هو وأمثاله يروون ما في الباب لأن يعرف أنه قد روى كالمفسر الذي ينقل أقوال الناس في التفسير والفقيه الذي يذكر الأقوال في الفقه، وإن كان كثير من ذلك لا يعتقد صحته بل يعتقد ضعفه لأنه يقول إنما نقلت ما ذكر غيري فالعهدة على القائل لا على الناقل. اهـ. وفي موضع آخر منه: "إن أبا نعيم روى كثيرًا من الأحاديث التي هي ضعيفه بل موضوعة، باتفاق علماء الحديث، وأهل السنة والشيعة وهو وإن كان حافظا ثقة كثير الحديث واسع الرواية لكن روى كما هو عادة المحدثين يروون ما في الباب لأجل المعرفة بذلك، وإن كان لا يحتج من ذلك إلا ببعضه". اهـ.
وفي موضع آخر منه: "الثعلبي يروي ما وجد، صحيحا كان أو سقيما، وإن كان غالب الأحاديث التي في تفسيره صحيحة، ففيه ما هو كذب موضوع". وفي موضع آخر منه: "كتاب الفردوس للديلمي فيه موضوعات كثيرة، أجمع أهل العلم على أن مجرد كونه رواه لا يدل على صحة الحديث". اهـ. وفي موضع آخر: "النسائي صنف خصائص علي، وذكر فيه عدة أحاديث كثيرة في فضائل علي كثير منها ضعيف"، وفي موضع آخر منه: "من الناس من قصد رواية كل ما روي في الباب من غير تمييز بين صحيح وضعيف كما فعله أبو نعيم وكذلك غيره ممن صنف في الفضائل مثل ما جمعه أبو الفتح بن أبي الفوارس وأبو علي الأهوازي وغيرهما في فضائل معاوية، ومثل ما جمعه النسائي في فضائل علي، وكذلك ما جمعه أبو القاسم بن عساكر في تاريخه في فضائل علي وغيره، وهذه عبارات العلماء قد أفادت وجود المنكرات والمضعفات في الكتب المدونة وأمثالها كثيرة لا تخفى على الناظر في الكتب المشتهرة، ولعل المتدبر يعلم مما نقلنا أن ما ارتكز في أذهان بعض العوام أن كل حديث في السنن محتج به غير معتد به وكذا ما ارتكز في أذهان البعض أن كل حديث في السنن محتج به غير معتد به. وكذا ما ارتكز في أذهان البعض أن كل حديث في غير الكتب الستة أو السبعة ضعيف غير محتج به". اهـ). [قواعد التحديث: 412-439]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (5- الرجوع إلى الأصول الصحيحة المقابلة على أصل صحيح لمن أراد العمل بالحديث:
قال النووي في التقريب: "ومن أراد العمل بحديث من كتاب، فطريقة أن يأخذه من نسخة معتمدة قابلها هو أو ثقة بأصول صحيحة، فإن قابلها بأصل محقق معتمد أجزأه". اهـ.
وقال العلامة ملا علي القاري في مرقاة المفاتيح عند قول صاحب: "المشكاة" -وإذا نسبت الحديث إليهم كأني أسندت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم: "علم من كلام المصنف أنه يجوز نقل الحديث من الكتب المعتمدة التي اشتهرت وصحت نسبها لمؤلفيها كالكتب الستة وغيرها من الكتب المؤلفة، سواء في جواز من نقله مما ذكر، أكان نقله للعمل بمضمونة، وما اقتضاه كلام ابن الصلاح من اشتراطه، حملوه على الاستحباب، ولكن يشترط في ذلك الأصل أن يكون قد قوبل على أصل له معتمد مقابلة صحيحة لأنه حينئذ يحصل به الثقة التي مدار الاعتماد عليها صحة واحتجاجًا.
"وعلم من كلام المنصف أيضًا أنه لا يشترط في النقل من الكتب المعتمدة للعمل أو للاحتجاج أن يكون له به رواية إلى مؤلفيها، ومن ثم قال ابن برهان: ذهب الفقهاء كافة إلى أنه لا يتوقف العمل بالحديث على سماعه، بل إذا صحت عنه النسخة من السنن جاز العمل بها وإن لم يسمع". اهـ.
وفي تدريب الراوي شرح تقريب النواوي: "حكى الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني الإجماع على جواز النقل من الكتب المعتمدة، ولا يشترط اتصال السند إلى مصنفيها، وذلك شامل لكتب الحديث والفقه. وقال الطبري في تعليقه: من وجد حديثًا في كتاب صحيح، جاز له أن يرويه ويحتج به، وقال قوم من أصحاب الحديث: لا يجوز له أن يروي لأنه لم يسمعه، وهذا غلط، وكذا حكاه إمام الحرمين في البرهان عن بعض المحدثين، وقال: هم عصبة لا مبالاة بهم في حقائق الأصول -يعني المقتصرين على السماع، لا أئمة الحديث-
وقال عز الدين بن عبد السلام في جواب سؤال كتبه إليه أبو محمد بن عبد الحميد، وأما الاعتماد على كتب الفقه الصحيحة الموثوقة، فقد اتفق العلماء في هذا العصر على جواز الاعتماد عليها والاستناد إليها؛ لأن الثقة قد حصلت بها كما تحصل بالرواية، ولذلك اعتمد الناس على الكتب المشهورة في النحو واللغة والطب وسائر العلوم، لحصول الثقة بها، وبعد التدليس، ومن زعم أن الناس اتفقوا على الخطأ في ذلك، فهو أولى بالخطأ منهم، ولولا جواز الاعتماد على ذلك لتعطل كثير من المصالح المتعلقة بها، قال: وكتب الحديث أولى بذلك من كتب الفقه وغيرها، لاعتنائهم بضبط النسخ وتحريرها، فمن قال: إن شرط التخريج من كتاب يتوقف على اتصال السند فقد خرق الإجماع". اهـ). [قواعد التحديث: 440-442]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (6- إذا كان عند العالم الصحيحان:
أو أحدهما أو كتاب من السنن موثوق به هل له أن يفتي بما فيه.
قال المسند الجليل علم الدين الفلاني في: "إيقاظ الهمم": "قال الإمام ابن القيم: إذا كان عند الرجل الصحيحان أو أحدهما، أو كتاب من سنن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- موثوق بما فيه فهل له أن يفتي بما يجده فيه فقالت طائفة من المتأخرين ليس "له" ذلك لأنه قد يكون منسوخًا أو له معارض أو يفهم من دلالته خلاف ما دل عليه، أو يكون أمر ندب فيفهم منه الإيجاب، أو يكون عاما له مخصص أو مطلقا له مقيد، فلا يجوز له العمل به ولا الفتيا حتى يسأل أهل الفقه والفتيا، وقالت طائفة: بل له أن يعمل به ويفتي بل متعين عليه كما كان الصحابة يفعلون إذا بلغهم الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وحدث به بعضهم بعضا بادروا إلى العمل به، من غير توقف، ولا بحث عن معارض، ولا يقول أحد منهم قط هل عمل بهذا فلان وفلان ولو رأوا ذلك لأنكروا عليه أشد الإنكار، وكذلك التابعون وهذا معلوم بالضرورة لمن له أدنى خبرة بحال القوم وسيرتهم وطول العهد بالسنة وبعد الزمان، ولو كانت سنن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يسوغ العمل بها بعد صحتها حتى يعمل بها فلان وفلان لكان قول فلان وفلان عيارًا على السنن ومزكيا لها وشرطا في العمل بها، وهذا من أبطل الباطل وقد أقام الله الحجة برسول الله -صلى الله عليه وسلم- دون آحاد الأمة، وقد أمر النبي بتبليغ سننه ودعا لمن بلغها فلو كان من بلغته لا يعمل بها حتى يعمل بها الإمام فلان والإمام فلان لم يكن في تبليغها فائدة وحصل الاكتفاء بقول فلان وفلان.
قالوا: والنسخ الواقع الذي أجمعت عليه الأمة لا يبلغ عشرة أحاديث البتة، بل ولا شطرها فتقدير وقوع الخطأ في الذهاب إلى المنسوخ أقل بكثير في وقوع الخطأ من تقليد من يصيب ويخطئ، ويجوز عليه التناقض والاختلاف ويقول القول ويرجع عنه ويحكي عنه في المسألة الواحدة عدة أقوال، ووقوع الخطأ في فهم كلام المعصوم أقل بكثير من وقوع الخطأ في فهم كلام الفقيه المعين، فلا يعرض احتمال خطأ لمن عمل بالحديث وأفتى به إلا وأضعاف أضعافه حاصل لمن قلد من لا يعلم خطأه من صوابه، والصواب في هذه المسألة التفصيل: فإن كانت دلالة الحديث ظاهرة بينة لكل من سمعه لا يحتمل غير المراد فله أن يعمل به ويفتي به ولا يطلب له التزكية من قول فقيه وإمام، بل الحجة قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإن خالفه من خالفه، وإن كانت دلالة خفية لا يتبين له المراد فيها لم يجز له أن يعمل ولا يفتي بما يتوهمه مرادًا، حتى يسأل ويطلب بيان الحديث ووجهه وإن كانت دلالة ظاهرة كالعام على أفراده، والأمر على الوجوب، والنهي على التحريم فهل له العمل والفتوى يخرج على أصل وهو العمل بالظواهر قبل البحث على المعارض، وفيه ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره الجواز والمنع والفرق بين العام، فلا يعمل به قبل البحث عن المخصص والأمر والنهي فيعمل به قبل البحث من المعارض، وهذا كله إذا كان ثمّ أهلية، ولكنه قاصر في معرفة الفروع وقواعد الأصوليين والعربية، وأما إذا لم يكن ثم أهلية ففرضه ما قال الله: {فاسألوا أهل الذّكر إن كنتم لا تعلمون} وقول النبي -صلى الله عليه وسلم: "ألا اسألوا إذا لم تعلموا، إنما شفاء العي السؤال".
وإذا جاز اعتماد المستفتي على ما يكتبه المفتي من كلامه وكلام شيخه وإن علا، فاعتماد الرجل على ما كتبه الثقات من كلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أولى بالجواز وإذا قدر أنه لم يفهم الحديث كما لو لم يفهم فتوى المفتي، فيسأل من يعرفه معناه كما يسأل من يعرفه معنى جواب المفتي وبالله التوفيق). [قواعد التحديث: 442-445]