11 Oct 2022
الدرس الرابع عشر: العمل بالحديث
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (4- العمل بالحديث بحسب ما بدا لصاحب الفهم المستقيم:
قال علم الدين الفلاني في: "إيقاظ الهمم": "قال بعض أهل التحقيق: الواجب على من له أدنى دراية بالكتاب وتفسيره، والحديث وفنونه، أن يتتبع كل التتبع، ويميز الصحيح عن الضعيف، والقوى عن غيره فيتبع ويعمل بما ثبتت صحته، وكثرت رواته، وإن كان الذي قلده على خلافه ولا يخفى أن الانتقال من مذهب إلى مذهب ما كان معلومًا في الصدر الأول، وقد انتقل كبار العلماء من مذهب إلى مذهب، وهكذا كان ما كان من الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة ينتقلون من قول إلى قول، والحاصل أن العمل بالحديث يحسب ما بدا لصاحب الفهم المستقيم من المصلحة الدينية هو المذهب عند الكل وهذا الإمام الهمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى كان يفتي، ويقول: هذا ما قدرنا عليه في العلم فمن وجد أوضح منه فهو أولى بالصواب "كذا في تنبيه المغترين".
وعنه أنه قال: "لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعرف مأخذه من الكتاب والسنة أو إجماع الأمة أو القياس الجلي في المسألة". اهـ). [قواعد التحديث: 473-474]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (5- لزوم الإفتاء بلفظ النص مهما أمكن:
قال الفلاني رحمه الله في: "إيقاظ الهمم": قال ابن القيم رحمه الله: "ينبغي للمفتي أن يفتي بلفظ النص مهما أمكنه، فإنه يتضمن الحكم والدليل مع البيان التام فهو حكم مضمون له الصواب، متضمن للدليل عليه في أحسن بيان. وقد كان الصحابة والتابعون والأئمة الذين سلكوا على مناهجهم يتحرون ذلك غاية التحري" ثم قال:
"فألفاظ النصوص عصمة وحجة بريئة من الخطأ والتناقض والتعقيد والاضطراب، ولما كانت هي عصمة الصحابة وأصولهم التي إليها يرجعون، كانت علومهم أصح من علوم من بعدهم وخطؤهم فيما اختلفوا فيه أقل من خطأ من بعدهم، ثم التابعون بالنسبة إلى من بعدهم كذلك وهلم جرا" ثم قال: "قد كان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا سئلوا عن مسألة يقولون: قال الله تعالى كذا قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كذا وفعل كذا، ولا يعدلون عن ذلك ما وجدوا إليه سبيلا قط فمن تأمل أجوبتهم وجدها شفاء لما في الصدور"). [قواعد التحديث: 474]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (6- حرمة الإفتاء بضد لفظ النص:
قال العلامة الفلاني قدس الله سره في: "إيقاظ الهمم" في أواخره: "يحرم على المفتي أن يفتي بضد لفظ النص وإن وافق مذهبه، ومثاله أن يسأل عن رجل صلى من الصبح ركعة ثم طلعت الشمس فهل يتم صلاته أم لا فيقول لا يتمها ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "فليتم صلاته"، ومثل أن يسأل عن رجل مات وعليه صيام هل يصوم عنه وليه؟ فيقول: لا يصوم عنه وليه، وصاحب الشرع يقول: "من مات وعليه صوم صام عنه وليه" ومثل أن يسأل عن رجل باع متاعه ثم أفلس المشتري فوجده بعينه هل هو أحق به؟ فيقول: ليس هو أحق به، وصاحب الشرع يقول: "هو أحق به" أن يسأل ومثل أن يسأل عن أكل كل ذي ناب: هل هو حرام؟ فيقول: ليس بحرام؛ ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "أكل كل ذي ناب من السباع حرم" ومثل أن يسأل عن رجل له شريك في أرض، أو دار أو بستان هل له أن يبيع حصته قبل إعلام الشريك بالبيع وعرضها عليه؟ فيقول: نعم يحل له أن يبيع حصته قبل إعلام شريكه بالبيع، وصاحب الشرع يقول: "من كان له شريك في أرض أو ربعة أو حائط فلا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه"، ومثل أن يسأل عن قتل المسلم بالكافر فيقول نعم: "يقتل المسلم بالكافر، وصاحب الشرع يقول: "لا يقتل المسلم بالكافر"، ومثل أن يسأل عن الصلاة الوسطى فيقول ليست العصر، وصاحب الشرع يقول: "هي صلاة العصر" ومثل أن يسأل عن رفع اليدين عند الركوع، والرفع منه هل مشروع في الصلاة أو ليس بمشروع فيقول ليس بمشروع أو مكروه، وربما غلا بعضهم فقال: إن صلاته باطلة، وقد روى بضعه وعشرون نفسًا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يرفع يديه عند الافتتاح والركوع والرفع منه بأسانيد صحيحة لا مطعن فيها، ومثل أن يسأل عن إكمال عدة شعبان ثلاثين يوما ليلة الإغمام فيقول: لا يجوز إكماله ثلاثين يومًا، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما" وأمثلته كثيرة، وفيما ذكرنا كفاية وقد أنهاها ابن القيم إلى مائة وخمسين مثالًا". اهـ). [قواعد التحديث: 474-478]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (7- رد ما خالف النص أو الإجماع:
قال الإمام القرافي رحمه الله تعالى في فروقه في الفرق الثامن والسبعين:
تنبيه: كل شيء أفتى فيه المجتهد فوقعت فتياه فيه على خلاف الإجماع، أو القواعد أو النص أو القياس الجلي السالم عن المعارض الراجح لا يجوز لمقلدة أن ينقله للناس، ولا يفتي به في دين الله تعالى فإن هذا الحكم لو حكم به حاكم لنقضناه وما لا نقره شرعا بعد نقرره بحكم الحاكم أولى أن لا نقره شرعا إذا لم يتأكد، وهذا لم يتأكد فلا نقره شرعا والفتيا بغير شرع حرام فالفتيا بهذا الحكم حرام، وإن كان الإمام المجتهد غير عاص به، بل مثابا عليه؛ لأنه بذل جهده على حسب ما أمر به، وقد قال عليه الصلاة والسلام: "إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر وإن أصاب فله أجران". فعلى هذا يجب على أهل العصر تفقد مذاهبهم، لكل ما وجدوه من هذا النوع يحرم عليهم الفتيا به، ولا يعرى مذهب من المذاهب عنه، لكنه قد يقل وقد يكثر غير أنه لا يقدر أن يعلم هذا من مذهبه إلا من عرف القواعد والقياس الجلي والنص الصريح عدم المعارض لذلك، وباعتبار هذا الشرط يحرم على أكثر الناس الفتوى فتأمل ذلك فهذا أمر لازم وكذلك كان السلف رضوان الله عليه يتوقفون في الفتوى توقفًا شديدًا، وقال مالك: "لا ينبغي للعامل أن يفتي حتى يراه الناس أهلا لذلك ويرى هو نفسه أهلا لذلك". اهـ). [قواعد التحديث: 478]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (8- تشنيع المتقدمين على من يقول العمل على الفقه لا على الحديث:
قال العلامة الفلاني في "إيقاظ الهمم": "قال عبد الحق الدهلوي في شرح الصراط المستقيم إن التحقيق في قولهم: إن الصوفي لا مذهب له أنه يختار من روايات مذهبة الذي التزمه للعمل عليه ما يكون أحوط، أو يوافق حديثا صحيحا وإن لم يكن ظاهر روايات ذلك المذهب ومشهورها نقل عنه أنه قال في الشرح المذكور: "إذا وجد تابع المجتهد حديثا صحيحا، مخالفا لمذهبه هل له أن يعمل به ويترك مذهبه فيه اختلاف فعند المتقدمين له ذلك قالوا لأن المتبوع والمقتدى به هو النبي، ومن سواه فهو تابع له فبعد أن علم وصح قوله فالمتابعة لغيره غير معقولة، وهذه طريقة المتقدمين". اهـ.
وفي الظهيرية: "ومن فعل مجتهدًا أو تقلد بمجتهد فلا عار عليه ولا شناعة ولا إنكار". اهـ.
وأما الذي لم يكن من أهل الاجتهاد، فانتقل من قول إلى قول من غير دليل، لكن لما يرغب من عرض الدنيا وشهواتها فهو المذموم الآثم "كذا في الحمادي"
وأما "ما" يورد على الألسنة من أن العمل على الفقه لا على الحديث، فتفوه لا معنى له، إذ من البين أن مبنى الفقه ليس إلا الكتاب والسنة، وأما الإجماع والقياس فكل واحد منهما يرجع إلى كل من الكتاب والسنة فما معنى إثبات العمل على الفقه ونفي العمل عن الحديث فإن العمل بالفقه عين العمل بالحديث كما عرفت، وغاية ما يمكن في توجيهه أن يقال إن ذلك حكم مخصوص بشخص مخصوص، وهو من ليس من أهل الخصوص بل من العوام الذين هم كالهوام لا يفهمون معنى الحديث ومراده ولا يميزون بين صحيحه وضعيفه ومقدمه ومؤخره ومجملة ومفسره وموضوعه وغير ذلك من أقسامه، بل كل ما يورد عليهم بعنوان قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهم يعتمدون عليه، وستندون إليه من غير تمييز ومعرفة بأن قائل ذلك من نحو المحدثين أم من غيرهم، وعلى تقدير كونه من المحدثين أعدل وثقة أم لا وإن كان جيد الحفظ أو سيئه أو غير ذلك من فنونه فإن ورد على العامي حديث ويقال له إنه يعمل على الحديث فربما يكون ذلك الحديث موضوعًا ويعمل عليه لعدم التمييز، وربما يكون ذلك الحديث ضعيفًا والحديث الصحيح على خلافه فيعمل على ذلك الحديث الضعيف ويترك الحديث الصحيح، وعلى هذا القياس في كل أحواله يغلط أو يخلط فيقال لأمثاله إنه يعمل بما جاء عن الفقيه لا يعمل بمجرد سماع الحديث لعدم ضبطه وأما من كان من أهل الخصوص، وأهل الخبرة بالحديث وفنونه، فحاشا أن يقال له: إنه يعمل بما جاء من فقيه، وإن كانت الأحاديث الواردة فيه على خلاف ذلك لأن العمل على الفقه لا على الحديث هذا ثم مع هذا لا يخفى ما في هذا اللفظ من سوء الأدب والشناعة والبشاعة فإن التفوه بنفي العمل على الحديث على الإطلاق مما لا يصدر من عاقل فضلًا عن فاضل، ولو قيل بالتوجيه الذي ذكرناه أن العمل بالفقه لا على الحديث لقال قائل بعين ذلك التوجيه إن العمل على الفقه لا على الكتاب فإن العامي لا يفهم شيئًا من الكتاب، ولا يميز بين محكمة ومتشابهة وناسخه ومنسوخه ومفسره ومجملة وعامه وخاصة وغير ذلك من أقسامه، فصح أن يقال إن العمل على الفقه لا على الكتاب والحديث وفساده، أظهر من أن يظهر وشناعته أجلى من أن تستر؛ بل لا يليق بحال المسلم المميز أن يصدر عنه أمثال هذه الكلمات على ما لا يخفى على ذوي الفطانة والدراية، وإذا تحققت ما تلونا عليك عرفت أنه لو لم يكن نص من الإمام على المرام لكان من المتعين على أتباعه من العلماء الكرام، فضلًا عن العوام أن يعملوا بما صح عن سيد الأنام عليه وعلى آله أفضل الصلاة والسلام، ومن أنصف ولم يتعسف عرف أن سبيل أهل التدين من السلف والخلف، ومن عدل عن ذلك فهو هالك يوصف بالجاهل المعاند المكابر، ولو كان الناس من الأكابر وأنشدوا في هذا المعنى شعرًا.
أهل الحديث همو أهل النبي وإن = لم يصحبوا نفسه أنفاسه صحبوا
أماتنا الله سبحانه على محبة المحدثين وأتباعهم من الأئمة المجتهدين، وحشرنا مع العلماء العاملين تحت لواء سيد المرسلين، والحمد لله رب العالمين. اهـ.
وقال العارف الشعراني قدس سره في مقدمة ميزانه: "أقول: الواجب على كل مقلد من طريق الإنصاف أن لا يعمل برخصه قال بها إمام مذهبه، إلا إن كان من أهلها، وأنه يجب عليه العمل بالعزيمة التي قال بها غير إمامه حيث قدر عليها لأن الحكم راجع إلى كلام الشارع بالأصالة لا إلى كلام غيره لا سيما إن كان دليل الغير أقوى خلاف ما عليه بعض المقلدين حتى إنه قال لي: لو وجدت حديثًا في البخاري ومسلم لم يأخذ به إمامي لا أعمل به، وذلك جهل منه بالشريعة وأول من يتبرأ منه إمامه، وكان الواجب عليه حمل إمامه على أنه لم يظفر بذلك الحديث أو لم يصح عنده". اهـ). [قواعد التحديث: 479-483]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (9- رد الإمام السندي الحنفي رحمه الله على من يقول ليس لمثلنا أن يفهم الحديث:
قال علم الدين الفلاني رحمه الله تعالى في: "إيقاظ الهمم" ناقلًا عن شيخه مسند الحرمين في عصره أبي الحسن السندي الحنفي في حواشيه على: "فتح القدير" ما نصه: "والعجب من الذي يقول: أمر الحديث عظيم وليس لمثلنا أن يفهمه فكيف يعمل به؟ وجوابه بعد أن فرضنا موافقة فهمه لفهم ذلك العالم الذي يعتد بعلمه وفهمه بالإجماع، أنه إن كان المقصود بهذا تعظيم الحديث وتوقيره، فالحديث أعظم وأجل لكن من جملة تعظيمه وتوقيره أن يعمل به ويستعمل في مواده، فإن ترك المبالاة به إهانة له نعوذ بالله منه، وقد حصل فهمه على الوجه الذي هو مناط التكليف حيث وافق فهم ذلك العالم فترك العمل بذلك الفهم لا يناسب التعظيم والإجلال فمقتضى التعظيم والإجلال الأخذ به لا بتركه، وإن كان المقصود مجرد الرد عن نفسه بعد ظهور الحق فهذا لا يليق بشأن مسلم فإن الحق أحق بالاتباع إذ لا يعلم ذلك الرجل أن الله عز وجل قد أقام برسوله الحجة على من هو أغبى منه من المشركين الذين كانوا يعبدون الأحجار، وقد قال تعالى فيهم: {أولئك كالأنعام بل هم أضل} فهل أقام عليهم الحجة من غير فهم أو فهموا كلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإن فهم هؤلاء الأغبياء فكيف لا يفهم المؤمن مع تأييد الله تعالى له بنور الإيمان، وبعد هذا فالقول بأنه لا يفهم قريب من إنكار البديهيات، وكثير ممن يعتذر بهذا الاعتذار يحض دروس الحديث أو يدرس الحديث فلولا فهم أو أفهم، كيف قرأ أو أقرأ فهل هذا إلا من باب مخالفة القول الفعل، والاعتذار بأن ذلك الفهم ليس مناطًا للتكليف باطل إذ ليس الكتاب والسنة إلا لذلك الفهم فلا يجوز البحث عنهما بالنظر إلى المعاني التي لا يعمل بها كيف وقد أنزل الله تعالى كتابه الشريف للعمل به وتعقل معانيه ثم أمر رسوله بالبيان للناس عمومًا فقال تعالى: {إنّا أنزلناه قرآنًا عربيًّا لعلّكم تعقلون} وقال: {لتبيّن للنّاس ما نزّل إليهم} فكيف يقال إن كلامه الذي هو بيان للناس غير مفهوم لهم إلا لواحد منهم بل في هذا الوقت، ليس مفهومًا لأحد بناء على زعمهم أنه لا مجتهد في الدنيا منذ كم سنين، ولعل أمثال هذه الكلمات صدرت من بعض من أراد أن لا تنكشف حقيقة رأيه للعوام بأنه مخالف للكتاب والسنة فتوصل إلى ذلك بأن جعل فهم الكتاب والسنة على الوجه الذي هو مناط الأحكام مقصورًا على أهل الاجتهاد، ثم نفى عن الدنيا أهل الأحكام ثم شاعت هذه الكلمات بينهم". انتهى كلام السندي بحروفه، وله تتمة سابغة لتنظر في إيقاظ الهمم للفلاني ويقرب من كلام السندي رحمه الله ما جاء في حواشي تنبيه الأفهام ولفظه: "لا ندري ما هو الباعث لبعض المتفقهة على إنكار الاجتهاد وتحريمه على غير أئمة المذاهب، والمبالغة في التقليد إلى درجة حملت بعض المستشرقين الأوروبيين على الظن بأن الفقهاء إنما هم يعتقدون في الأئمة منزلة التشريع لا منزلة الضبط، والتحرير وهذا وإن يكن سوء ظن أوجبه الفقهاء أنفسهم إلا أن الحقيقة ليست كما ظنه ذلك المستشرق معاذ الله لأن الشارع، واحد والشرع كذلك والأئمة لم ينهوا أحدًا عن العمل بالدليل، والرجوع إلى الكتاب والسنة إذا تعارض القول والنص، ومن كلام الإمام الشافعي بهذا الصدر إذا صح الحديث فهو مذهبي، وقال: إذا رأيتم كلامي يخالف الحديث فاعملوا بالحديث، واضربوا بكلامي عرض الحائط، ومن كلام الإمام الأعظم لا ينبغي لمن لا يعرف دليلي أن يأخذ بكلامي لهذا كان من جاء بعدهم من أصحابهم أو من يوازيهم في العلم من المرجحين يخالفون أئمتهم في كثير من الأحكام التي لم يتقيدوا بقول إمامهم فيها لما قام لهم الدليل على مخالفتها لظاهر النص، وإنما بعض الفقهاء الذين يسترون جهلهم بالتقليد ينتحلون -لدعواهم التقيد بقول الإمام دون نص الكتاب أو السنة- أعذارًا لا يسلم لهم بها أحد من ذوي العقل الراجح من أفاضل المسلمين وعلمائهم العاملين الذين هم على بصيرة من الدين".
وجاء في الحواشي المذكورة أيضًا ما نصه: "يعتذر بعضهم عن سد باب الاجتهاد بسد باب الخلاف، وجمع شتات الأفكار المتأتي عن تعدد المذاهب والحال أن الاجتهاد على طريقة السلف لا يؤدي إلى هذا المحذور كما هو مشاهد الآن عند الزيدية من أهالي جزيرة العرب -وهم الذين ينتسبون إلى زيد بن زين العابدين لا زيد بن الحسن المذكور في حواشي الدر- فإن دعوى الاجتهاد بين علمائهم شائعة مستفيضة وطريقهم فيه طريقة السلف أي أنهم يأتون بالحكم معززًا بالدليل من الكتاب أو السنة أو الإجماع، وليس بعد إيراد الدليل مع الحكم أدنى طريق للخلاف أو الاختلاف اللهم إلا فيما لم يوجد بإزائه نص صريح أو إجماع من الصحابة أو التابعين واحتيج فيه إلى الاستنباط من أصول الدين وليس في هذا من الخطر أو تشتت الأفكار، ولو جزءًا يسيرًا مما في طريقة الترجيح والتخريج عند الفقهاء الآن على أصول أي مذهب من المذاهب الأربعة ويكفي ما في هذه الطريقة من تشتت الأفكار خلاف الخرجين والمرجحين في المسألة الواحدة خلافًا لا ينتهي إلى غاية يرتاح إليها ضمير مستفيد لقذفهم بفكره في تيار تتلاطم أمواجه بين قولهم المتعمد والمعول عليه كذا والصحيح كذا والأصح كذا ..... والمفتي به كذا إلى غير ذلك من الخلاف العظيم في كل مسألة لم ينص عليها الإمام نصًّا صريحًا، ولا يخفى ما في هذا من الافتئات على الدين مما لا يعد شيئًا في جانبه خلاف الأئمة المجتهدين، ومنشؤه التقيد بالتقليد البحت وعدم الرجوع إلى الكتاب والسنة، ولو عند تعذر وجود النص، ومع هذا فإنهم يرون هذا الافتئات على الدين من الدين، ويوجبون على المؤمن العمل بأقوالهم بلا حجة تقوم لهم ولا له يوم الدين مع أن الله تعالى يقول في كتابه العزيز: {هؤلاء قومنا اتّخذوا من دونه آلهةً لولا يأتون عليهم بسلطانٍ بيّنٍ} الآية وفي هذا دليل على فساد التقليد، وأن لا بد في الدين من حجة ثابتة لهذا كان التقليد البحت لا يرضاه لنفسه إلا عامي أعمى، أو عالم لم يصل إلى مرتبة كبار الفضلاء المتقدمين والمتأخرين الذين لم يرضوا لأنفسهم التقليد البحت كالإمام الغزالي وابن حزم وشيخ الإسلام ابن تيميه والإمام السيوطي، والشوكاني وغيرهم ممن اشتهر بالاجتهاد من أئمة المذاهب" انتهى بحروفها). [قواعد التحديث: 483-486]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (10- رد الإمام السندي رحمه الله أيضًا على من يقرأ كتب الحديث لا للعمل:
قال العلامة الفلاني في: "إيقاظ الهمم": "لو تتبع الإنسان من النقول لوجد أكثر مما ذكر، ودلائل العمل على الخبر أكثر من أن تذكر، وأشهر من أن تشهر لكن لبس إبليس على كثير من البشر فحسن لهم الأخذ بالرأي لا الأثر وأوهمهم أن هذا هو الأولى والأخير، فجعلهم بسبب ذلك محرومين عن العمل بحديث خير البشر -صلى الله عليه وسلم- وهذه البلية من البلايا الكبر، إنا لله وإنا إليه راجعون، ومن أعجب العجائب أنهم إذا بلغهم من بعض الصحابة -رضي الله عنهم- ما يخالف الصحيح من الخبر، ولم يجدوا له محملًا جوزوا عدم بلوغ الحديث إليه، ولم يثقل ذلك عليهم، وهذا هو الصواب وإذا بلغهم حديث يخالف قول من يقلدونه اجتهدوا في تأويله القريب والبعيد وسعوا في محامله النائية والدانية وربما حرفوا الكلم عن مواضعها، وإذا قيل لهم عند عدم وجود المحامل المعتبرة لعل من تقلدونه لم يبلغه الخبر أقاموا على القائل القيامة، وشنعوا عليه أشد الشناعة، وربما جعلوه من أهل البشاعة، وثقل ذلك عليهم فانظر أيها العاقل إلى هؤلاء المساكين يجوزون عدم بلوغ الحديث في حق أبي بكر الصديق الأكبر، وأحزابه ولا يجوزون ذلك في أرباب المذاهب مع أن البون بين الفريقين كما بين السماء والأرض، وتراهم يقرءون كتب الحديث ويطالعونها ويدرسونها لا ليعملوا بها بل ليعلموا دلائل من قلدوه، وتأويل ما خالف قوله ويبالغون في المحامل البعيدة، وإذا عجزوا عن المحمل قالوا من قلدنا أعلم منا بالحديث ألا يعلمون أنهم يقيمون حجة الله تعالى عليهم بذلك، ولا يستوي العالم والجاهل في ترك العمل بالحجة وإذا مر عليهم حديث يوافق قول من قلدوه انبسطوا وإذا مر عليهم حديث يخالف قوله أو يوافق مذهب غيره ربما انقبضوا ولم يسمعوا قول الله: {فلا وربّك لا يؤمنون حتّى يحكّموك فيما شجر بينهم ثمّ لا يجدوا في أنفسهم حرجًا ممّا قضيت ويسلّموا تسليمًا} انتهى كلام السندي رحمه الله تعالى). [قواعد التحديث: 487-488]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (11- التحذير من التعسف في رد الأحاديث إلى المذاهب:
قال العلامة المحقق المقري في قواعده: "لا يجوز اتباع ظاهر نص الإمام مع مخالفته لأصول الشريعة عند حذاق الشيوخ. قال الباجي: لا أعلم قولًا أشد خلافًا على مالك من أهل الأندلس، لأن مالكًا لا يجوز تقليد الرواة عنه عند مخالفتهم الأصول، وهم لا يعتمدون على ذلك". اهـ.
وقال أيضًا:
قاعدة:
لا يجوز رد الأحاديث إلى المذاهب على وجه ينقص من بهجتها، ويذهب بالثقة بظاهرها فإن ذلك فساد لها وحط من منزلتها لا أصلح الله المذاهب لفسادها ولا رفعها يخفض درجاتها فكل كلام يؤخذ منه ويرد إلا ما صح لنا عن محمد بل لا يجوز الرد مطلقا؛ لأن الواجب أن ترد المذاهب إليها كما قال الشافعي، وغيره لا أن ترد هي إلى المذاهب كما تسامح فيه بعض الحنفية خصوصًا والناس عمومًا؛ إذ ظاهرها حجة على من خالفها حتى يأتي بما يقاومها فنطلب الجمع مطلقًا ومن وجه على وجه لا يصير الحجة أحجية، ولا يخرجها عن طرق الخاطبات العامة التي ابتنى عليها الشرع، ولا يخل بطرق البلاغة والفصاحة التي جرت من صاحبه مجرى الطبع فإن لم يوجد طلب التاريخ للنسخ فإن لم يكن طلب الترجيح، ولو بالأصل وإلا تساقطا في حكم المناظرة، وسلم لكل ما عنده ووجب الوقف والتخيير في حكم الانتقال، وجاز الانتقال على الأصح.
ثم قال: قاعدة: لا يجوز التعصب إلى المذاهب بالانتصاب للانتصار بوضع الحجاج، وتقريبها على الطرق الجدلية مع اعتقاد الخطأ والمرجوحية عند المجيب، كما يفعله أهل الخلاف إلا على وجه التدريب على نصب الأدلة والتعليم لسلوك الطريق بعد بيان ما هو الحق، فالحق أعلى من أن يعلى وأغلب من أن يغلب، وذلك أن كل من يهتدي لنصب الأدلة، وتقرير الحجاج لا يرى الحق أبدًا في جهة رجل قطعًا ثم إنا لا نرى منصفًا في الخلاف ينتصر لغير مذهب صاحبه مع علمنا برؤية الحق في بعض آراء مخالفيه، وهذا تعظيم للمقلدين بتحقير الدين وإيثار للهوى على الهدى، ولم يتبع الحق أهواءهم، ولله در علي -رضي الله عنه- أي بحر علم ضم جنباه إذ قال لكميل بن زياد لما قال له أترانا نعتقد أنك على الحق وأن طلحة والزبير على الباطل: "اعرف الرجال بالحق، ولا تعرف الحق بالرجال اعرف الحق تعرف أهله"، وما أحسن قول أرسطو لما خالف أستاذه أفلاطون: "تخاصم الحق، وأفلاطون وكلاهما صديق لي، والحق أصدق منه" وقال الشيخ أحمد زروق في عمدة المريد الصادق ما نصه: "قال أبو إسحاق الشاطبي كل ما عمل به المتصوفة المعتبرون في هذا الشأن -يعني كالجنيد وأمثاله- لا يخلو إما أن يكون مما ثبت له أصل في الشريعة فهم خلفاؤه، كما أن السلف من الصحابة والتابعين خلفاء بذلك، وإن لم يكن له أصل في الشريعة فلا أعمل عليه لأن السنة حجة على جميع الأمة، وليس عمل أحد من الأمة حجة على السنة، ولأن السنة معصومة عن الخطأ، وصاحبها معصوم وسائر الأمة لم تثبت لهم العصمة إلا مع إجماعهم خاصة وإذا أجمعوا تضمن إجماعهم دليلًا شرعيًّا والصوفية والمجتهدون كغيرهم ممن لم يثبت لهم العصمة، ويجوز عليهم الخطأ والنسيان والمعصية كبيرها وصغيرها والبدعة محرمها ومكروهها، ولذا قال العلماء: كل كلام منه مأخوذ ومنه متروك إلا ما كان من كلامه عليه الصلاة والسلام قال: وقد قرر ذلك القشيري رحمه الله تعالى أحسن تقرير فقال: فإن قيل فهل يكون الولي معصومًا قيل أما وجوبًا كما يكون للأنبياء فلا، وأما أن يكون محفوظًا حتى لا يصر على الذنوب، وإن حصلت منهيات أو زلات في أوقات فلا يمنع في وصفهم قال: ولقد قيل للجنيد رحمه الله: "العارف يزني؟ " فأطرق مليًّا ثم رفع رأسه وقال: {وكان أمر اللّه قدرًا مقدورًا} وقال: فهذا كلام منصف فكما يجوز على غيرهم المعاصي بالابتداع وغير ذلك يجوز عليهم البدع، فالواجب علينا أن نقف مع الاقتداء به إشكال، بل يعرض ما جاء عن الأئمة على الكتاب والسنة فما قبلاه قبلناه، وما لم يقبلاه تركناه وما عملنا به إذا قام الدليل على اتباع الشارع، ولم يقم لنا الدليل على اتباع أقوال الفقهاء والصوفية، وأعمالهم إلا بعد عرضها، وبذلك رضي شيوخهم علينا وإن جاء به صاحب الوجد والذوق من العلوم والأحوال والفهوم يعرض على الكتاب والسنة فإن قبلاه صح وإلا لم يصح، قال ثم نقول ثانيًا إن نظرنا في رسومهم التي حددوها وأعمالهم التي امتازوا بها عن غيرهم بحسب تحسين الظن، والتماس أحسن المخارج ولم نعرف له مخرجًا فالواجب التوقف عن الاقتداء، وإن كانوا في جنس من يقتدي بهم لا ردا له، ولا اعتراضًا عليه بل لأن لم نفهم وجه رجوعه إلى القواعد الشرعية كما فهمنا غيره. ثم قال بعد كلام: فوجب بحسب الجريان على آرائهم في سلوك أن لا يعمل بما رسموه، بما فيه معارضة بأدلة الشرع، ونكون في ذلك متبعين لآثارهم مهتدين بأنوارهم خلافًا لمن يعرض عن الأدلة ويجمد على تقليدهم فيه فيما لا يصح تقليدهم على مذهبهم فالأدلة الشرعية، والأنظار الفقهية، والرسوم الصوفية تذمه، وترده وتحمد من تحرى واحتاط وتوقف عند الاشتباه، واستبرأ لدينه وعرضه، وهو من مكنون العلم وبالله التوفيق. اهـ.
وقال شمس الدين ابن القيم في كتاب: "الروح": "اعلم أنه لا يعترض على الأدلة من الكتاب والسنة بخلاف المخالف، فإن هذا عكس طريقة أهل العلم، فإن الأدلة هي التي تبطل ما خالفها من الأقوال، ويعترض بها على خالف موجبها فتقدم على كل قول اقتضى خلافها لا أن أقوال المجتهدين تعارض بها الأدلة، وتبطل بمقتضاها وتعدم عليها". اهـ.
وقال رحمه الله أيضًا في الكتاب المذكور: "الفرق بين الحكم المنزل الواجب الاتباع، والحكم المؤول الذي غايته أن يكون جائز الاتباع أن الحكم المنزل هو الذي أنزله الله عز وجل على رسوله وحكم به بين عبادة وهو الحكم الذي لا حكم له سواه، وأما الحكم المؤول فهو أقوال المجتهدين المختلفة التي لا يجب اتباعها، ولا يكفر ولا يفسق من خالفها فإن أصحابها لم يقولوا هذا حكم الله ورسوله، بل قالوا اجتهدنا رأينا فمن شاء قبله، ومن شاء لم يقبله، قال أبو حنيفة رحمه الله تعالى: هذا رأي فمن جاءنا بخير منه قبلناه، ولو كان هو حكم الله لما ساغ لأبي يوسف ومحمد مخالفتهما فيه وكذلك مالك استشاره الرشيد أن يحمل الناس على ما في: "الموطأ" فمنعه مالك، وقال: قد تفرق أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في البلاد وصار عند كل قوم علم غير ما عند الآخرين، وهكذا الشافعي ينهى أصحابه عن تقليده بترك قوله إذا جاء الحديث بخلافه، وهذا الإمام أحمد ينكر على من كتب فتاويه ودونها ويقول: لا تقلدوني ولا تقلد فلانًا ولا فلانًا وخذ من حيث أخذوا ولو علموا رضي الله تعالى عنهم أن أقوالهم وحي يجب اتباعه لحرموا على أصحابهم مخالفتهم، ولما ساغ لأصحابهم أن يفتوا بخلافهم في شيء، ولما كان أحدهم يقول القول ثم يفتي بخلافه فيروي عنه في المسألة القولان والثلاثة وأكثر من ذلك فالرأي والاجتهاد أحسن أحواله أن يسوغ اتباعه، والحكم المنزل لا يحل لمسلم أن يخالفه، ولا يخرج عنه وأما الحكم المبدل، وهو الحكم بغير ما أنزل الله عز وجل فلا يحل تنفيذه، ولا العمل به ولا يسوغ اتباعه وصاحبه بين الكفر والفسوق والظلم". اهـ.
وقال الإمام البخاري رحمه الله تعالى في جزء رفع اليدين قال وكيع: من طلب الحديث كما هو فهو صاحب سنة، ومن طلب الحديث ليقوى هواه فهو صاحب بدعة قال: يعني أن الإنسان ينبغي أن يلغي رأيه لحديث النبي -صلى الله عليه وسلم- حيث يثبت الحديث، ولا يعلل بعلل لا تصح ليقوى هواه، وقد ذكر عن النبي -صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به"
وقد قال معمر: "أهل العلم كان الأول فالأول أعلم، وهؤلاء الآخر فالآخر عندهم أعلم" وروى البخاري رحمه الله تعالى أيضًا في جزء القراءة خلف الإمام عن ابن عباس ومجاهد أنهما قالا: ليس أحد بعد النبي إلا يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي. اهـ). [قواعد التحديث: 488-493]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (12- الترهيب من عدم توقير الحديث وهجر من يعرض عنه والغضب لله في ذلك:
قال الإمام الحافظ أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي رحمه الله تعالى في سننه: باب تعجيل عقوبة من بلغه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- حديث فلم يعظمه ولم يوقره: أخبرنا عبد الله بن صالح حدثني الليث حدثني ابن عجلان عن العجلان عن أبي هريرة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "بينما رجل يتبختر في بردين خسف الله به الأرض، فهو يتجلل فيها إلى يوم القيامة"! فقال له فتي قد سماه وهو في حلة له يا أبا هريرة! أهكذا كان يمشي ذلك الفتي الذي خسف به؟ ثم ضرب بيده فعثر عثرة كاد يتكسر فيها فقال أبو هريرة للمنخرين وللفم: {إنّا كفيناك المستهزئين}.
أخبرنا محمد بن حميد حدثنا هارون -هو ابن المغيرة- عن عمر بن أبي قيس، عن الزبير بن عدي عن خراش بن جبير، قال: رأيت في المسجد فتى يخذف فقال له شيخ: لا تخذف فإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن الخذف فغفل الفتي، فظن أن الشيخ لا يفطن له فخذف فقال له الشيخ: أحدثك أني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينهى عن الخذف ثم تخذف، والله لا أشهد لك جنازة، ولا أعودك في مرض، ولا أكملك أبدًا، فقلت لصاحب لي يقال له مهاجر: انطلق إلى خراش فاسأله، فأتاه فسأله عنه، فحدثه.
أخبرنا سفيان بن حرب حدثنا حماد بن زيد عن أيوب، عن سعيد بن جبير، عن عبد الله بن مغفل قال: نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الخذف وقال: "إنها لا تصطاد صيدًا ولا تنكي عدوًّا، ولكنها تكسر السن، وتفقأ العين" فرفع رجل بينه وبين سعيد قرابة شيئا من الأرض فقال: هذه، وما تكون هذه؟ فقال سعيد: ألا أراني أحدثك عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم تهاون به! لا أكلمك أبدًا.
أخبرنا عبد الله بن يزيد حدثنا كهمس بن الحسن، عن عبد الله بن بريده قال: رأى عبد الله بن مغفل رجلا من أصحابه يخذف، فقال: لا تخذف! فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان ينهى عن الخذف، وكان يكرهه وإنه لا ينكأ به عدو ولا يصاد به صيد، ولكنه قد يفقأ العين ويكسر السن ثم رآه بعد ذلك يخذف فقال له: ألم أخبرك أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان ينهى عنه ثم أراك تخذف، والله لا أكلمك أبدًا!
أخبرنا مروان بن محمد، حدثنا إسماعيل بن بشر، عن قتادة قال: حدث ابن سيرين رجلًا يحدث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال رجل: قال فلان وفلان كذا وكذا، فقال ابن سيرين: أحدثك عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وتقول: قال فلان وفلان كذا وكذا لا أكلمك أبدًا!.
أخبرنا محمد بن كثير عن الأوزاعي عن الزهري عن سالم عن ابن عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا أستأذنت أحدكم امرأته إلى المسجد فلا يمنعها". قال فلان بن عبد الله إذن والله وأمنعها، فأقبل عليه ابن عمر فشتمه شتمة لم أره شتمها أحدًا قبله، ثم قال: أحدثك عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتقول: إذن والله أمنعها؟
أخبرنا محمد بن حميد حدثنا هارون بن المغيرة، عن معروف عن أبي المخارق، قال: ذكر عبادة بن الصامت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن درهمين بدرهم، قال فلان: ما أرى بهذا بأسًا يدًا بيد فقال عبادة: أقول: قال النبي -صلى الله عليه وسلم- وتقول: لا أرى به بأسًا والله لا يظلني وإياك سقف أبدًا.
أخبرنا محمد بن يزيد الرفاعي حدثنا أبو عامر العقدي، عن زمعة عن سلمة بن وهرام عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تطرقوا النساء ليلًا"، قال: وأقبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قافلًا فانساق رجلان إلى أهليهما، وكلاهما وجد مع امرأته رجلًا.
أخبرنا أبو المغيرة، حدثنا الأوزاعي، عن عبد الرحمن بن حرملة الأسلمي، عن سعيد بن المسيب، قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا قدم من سفر، نزل المعرش ثم قال: "لا تطرقوا النساء ليلًا" فخرج رجلان ممن سمع مقالته فطرقا أهلهما فوجد كل واحد منهما مع امرأته رجلا!
أخبرنا أبو المغيرة، حدثنا الأوزاعي، عن عبد الرحمن بن حرملة قال: جاء رجل إلى سعيد بن المسيب يودعه بحج أو عمرة فقال له: لا تبرح حتى تصلي فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يخرج بعد النداء من المسجد، إلا منافق، إلا رجل أخرجته حاجة، وهو يريد الرجعة إلى المسجد" فقال: إن أصحابي بالحرة قال: فخرج قال: فلم يزل سعيد يولع بذكره حتى أخبر أنه وقع من راحلته فانكسرت فخذه. اهـ.
وروى مسلم حديث سالم عن ابن عمر المتقدم ورواه الإمام أحمد وزاد: "فما كلمه عبد الله حتى مات".
قال الطيبي رحمه الله - شارح المشكاة: "عجبت ممن يتسمى بالسني، إذا سمع من سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وله رأي رجح رأيه عليها وأي فرق بينه وبين المبتدع؟ أما سمع: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به"؟ وها هو ابن عمر وهو من أكابر الصحابة وفقهائها كيف غضب لله ورسوله وهجر فلذة كبده لتلك الهنة عبرة لأولي الألباب. اهـ.
وقال النووي في شرح مسلم عند الكلام على حديث عبد الله بن مغفل الذي تقدم: "فيه جواز هجران أهل البدع والفسوق، وأنه يجوز هجرانهم دائمًا فالنهي عنه فوق ثلاثة أيام إنما هي في هجر لحظ نفسه ومعايش الدنيا، وأما هجر أهل البدع فيجوز على الدوام كما يدل عليه هذا مع نظائر له كحديث كعب بن مالك قال السيوطي: "وقد ألفت مؤلفًا سميته: "الزجر بالهجر" لأني كثير الملازمة لهذه السنة". اهـ.
وقال الشعراني قدس سره: "سمع الإمام أحمد بن أبي إسحاق السبيعي يقول إلى متى حديث: "اشتغلوا بالعلم" فقال له الإمام أحمد: "قم يا كافر لا تدخل علينا أنت بعد اليوم ثم إنه التفت إلى أصحابه، وقال: ما قلت أبدًا لأحد من الناس لا تدخل داري غير هذا الفاسق". اهـ. فانظر يا أخي كيف وقع من الإمام هذا الزجر العظيم لمن قال إلى متى حديث: "اشتغلوا بالعلم" فكانوا -رضي الله عنهم- لا يتجرأ أحد منهم أن يخرج عن السنة قيد شبر بل بلغنا أن مغنيًا كان يغني للخليفة فقيل له: إن مالك بن أنس يقول بتحريم الغناء فقال المغني: وهل لمالك وأمثاله أن يحرم في دين ابن عبد المطلب والله يا أمير المؤمنين ما كان التحريم لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا بوحي من ربه عز وجل، وقد قال تعالى: {لتحكم بين النّاس بما أراك اللّه} لم يقل: "بما رأيت يا محمد" فلو كان الدين بالرأي لكان رأي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يحتاج إلى وحي وكان الحق تعالى أمره أن يعمل به بل عاتبه الله تعالى حين حرم على نفسه ما حرم في قصة مارية وقال: {يا أيّها النّبيّ لم تحرّم ما أحلّ اللّه لك} الآية. اهـ.
وقال قدس الله سره أيضًا: "كان الإمام أبو حنيفة -رضي الله عنه- يقول: إياكم وآراء الرجال. ودخل عليه مرة رجل من أهل الكوفة والحديث يقرأ عنده فقال الرجل: دعونا من هذه الأحاديث! فزجره الإمام أشد الزجر وقال له: لولا السنة ما فهم أحد منا القرآن ثم قال للرجل: ما تقول في لحم القرد وابن دليله من القرآن؟ فأفحم الرجل. فقال للإمام: فما تقول أنت فيه؟ فقال: ليس هو من بهيمة الأنغام. فانظر يا أخي إلى مناضلة الإمام عن السنة وزجره من عرض له بترك النظر في أحاديثها فكيف ينبغي لأحد أن ينسب الإمام إلى القول في دين الله بالرأي الذي لا يشهد له ظاهر كتاب ولا سنة وكان -رضي الله عنه- يقول عليكم بآثار من سلف، وإياكم ورأي الرجال وإن زخرفوه بالقول فإن الأمر ينجلي حين ينجلي، وأنتم على صراط مستقيم، وكان يقول: إياكم والبدع والتبدع والتنطع وعليكم بالأمر الأول العتيق، ودخل شخص الكوفة بكتاب: "دانيال" فكاد أبو حنيفة أن يقتله، وقال له أكتاب ثمّ غير القرآن والحديث، وقيل له مرة: ما تقول فيما أحدثه الناس من الكلام في العرض والجوهر والجسم، فقال: هذه مقالات الفلاسفة فعليكم بالآثار وطريقة السلف وإياكم وكل محدث فإنه بدعة، وقيل له مرة: قد ترك الناس العمل بالحديث، وأقبلوا على سماعه فقال -رضي الله عنه: نفس سماعهم للحديث عمل به، وكان يقول: لم تزل الناس في صلاح ما دام فيهم من يطلب الحديث فإذا طلبوا العلم بلا حديث فسدوا، وكان -رضي الله عنه- يقول: قاتل الله عمرو بن عبيد فإنه فتح للناس باب الخوض في الكلام فيما لا يعنيهم، وكان يقول: لا ينبغي لأحد أن يقول قولًا حتى يعلم أن شريعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تقبله" انتهى ملخصًا). [قواعد التحديث: 493-501]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (13- ما يتقى من قول أحد عند قول النبي -صلى الله عليه وسلم:
قال الإمام الدارمي رحمه الله تعالى في مسنده، في باب: "ما يتقى من تفسير حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- وقول غيره عند قوله -صلى الله عليه وسلم": أخبرنا موسى بن خالد حدثنا معتمر عن أبيه قال ليتق من تفسير حديث كما تقي من تفسير القرآن. أخبرنا صدقة بن الفضل حدثنا معتمر عن أبيه قال: قال ابن عباس: أما تخافون أن تعذبوا ويخسف بكم أن تقولوا قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال فلان. أخبرنا الحسن بن بشر حدثنا المعافي عن الأوزاعي قال: كتب عمر بن عبد العزيز أن لا رأي لأحد في كتاب الله، وإنما رأي الأئمة فيما لا ينزل فيه كتاب ولم تمض به سنة من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا رأي لأحد في سنة سنها رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
حدثنا موسى بن خالد حدثنا معتمر بن سليمان عن عبيد الله بن عمر أن عمر بن عبد العزيز خطب فقال: "يا أيها الناس إن الله لم يبعث نبيًّا بعد نبيكم ولم ينزل بعد هذا الكتاب الذي أنزله عليه كتابًا، فما أحل الله على لسان نبيه فهو حلال إلى يوم القيامة، وما حرم على لسان نبيه فهو حرام إلى يوم القيامة ألا وأني لست بقاض ولكني منفذ، ولست بمبتدع ولكني متبع، ولست بخير منكم غير أني أثقلكم حملًا، وأنه ليس لأحد من خلق الله أن يطاع في معصية الله ألا هل أسمعت؟ ".
أخبرنا عبيد الله بن سعيد حدثنا سفيان بن عيينة عن هشام بن حجير قال: كان طاوس يصلي ركعتين بعد العصر فقال له ابن عباس: اتركهما قال: إنما نهى عنهما أن تتخذا سلما، قال ابن عباس: فإنه قد نهى عن صلاة بعد العصر فلا أدري أتعذب عليها أم تؤخر؛ لأن الله يقول: {وما كان لمؤمنٍ ولا مؤمنةٍ إذا قضى اللّه ورسوله أمرًا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم} قال سفيان تتخذ سلما يقول: يصلي بعد العصر إلى الليل حدثنا قبيصة أخبرنا سفيان عن أبي رباح شيخ من آل عمر قال: رأى سعيد بن المسيب رجلًا يصلي بعد العصر الركعتين، يكثر فقال له: يا أبا محمد! أيعذبني الله على الصلاة؟ لا ولكن يعذبك الله بخلاف السنة. اهـ.
وقال الإمام الشافعي -رضي الله عنه- في رسالته: "أخبرني أبو حنيفة بن سماك بن الفضل الشهاب قال: أخبرني ابن أبي ذئب عن المقبري، عن أبي شريح الكعبي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال عام الفتح: "من قتل له قتيل فهو بخير النظرين عن أحب أخذ العقل، وإن أحب فله القود" قال أبو حنيفة: فقلت لابن أبي ذئب أتأخذ بهذا يا أبا الحارث فضرب صدري، وصاح عليّ صياحًا كثيرًا، ونال منى وقال: أحدثك عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتقول: أتأخذ به؟ نعم آخذ به، وذلك الفرض عليّ وعلى من سمعه إن الله تبارك وتعالى اختار محمدًا من الناس فهداهم به، وعلى يديه واختار لهم ما اختار له، وعلى لسانه فعلى الخلق أن يتبعوه طائعين أو داخرين لا مخرج لمسلم من ذلك قال: وما سكت حتى تمنيت أن يسكت". اهـ.
وقال العارف الشعراني في مقدمة ميزانه: "قال الإمام محمد الكوفي رأيت الإمام الشافعي -رضي الله عنه- بمكة وهو يفتي الناس، ورأيت الإمام أحمد إسحاق بن راهويه حاضرين فقال الشافعي: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "وهل ترك لنا عقيل من دار"؟ فقال إسحاق روينا عن الحسن، وإبراهيم أنهما لم يكونا يريانه، وكذلك عطاء ومجاهد فقال الشافعي لإسحاق: لو كان غيرك موضعك لفركت أذنه أقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتقول: قال عطاء ومجاهد والحسن؟ وهل لأحد مع قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حجة -بأبي هو وأمي-". اهـ.
وأخرج الحافظ ابن عبد البر عن بكير بن الأشج، أن رجلًا قال للقاسم بن محمد: عجبًا من عائشة كيف كانت تصلي في السفر أربعًا، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يصلي ركعتين ركعتين؟ فقال: يا بن أخي عليك بسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حيث وجدتها فإن من الناس من لا يعاب. وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: تمتع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال عروة: نهى أبو بكر وعمر عن المتعة فقال ابن عباس: يا تقول ما عروة؟ قال يقولون: نهي أبو بكر وعمر عن المتعة فقال ابن عباس: أراهم سيهلكون أقول قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويقولون: قال أبو بكر وعمر قال ابن عبد البر: يعني متعة الحج، وهو فسخ الحج في عمرة. وقال أبو الدرداء: من يعذرني من معاوية أحدثه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويخبرني برأيه لا أساكنك بأرض أنت فيها، وعن عبادة بن الصامت مثل ذلك، وعن عمر بن دينار عن سالم بن عبد الله عن أبيه قال عمر: إذا رميتم الجمرة سبع حصيات، وذبحتم وحلقتم فقد حل لكم كل شيء إلا الطيب والنساء، قال سالم وقالت عائشة أنا طيبت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لحله قبل أن يطوف بالبيت قال سالم: فسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحق أن تتبع. نقله العلامة الفلاني في إيقاظ الهمم). [قواعد التحديث: 501-504]