11 Oct 2022
الدرس الخامس عشر: مختلف الحديث
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (14- ما يقوله من بلغه حديث كان يعتقد خلافه:
قال الإمام النووي في: "رياض الصالحين" في باب: "وجوب الانقياد لحكم الله وما يقوله عن دعي إلى ذلك". "قال الله تعالى: {فلا وربّك لا يؤمنون حتّى يحكّموك فيما شجر بينهم ثمّ لا يجدوا في أنفسهم حرجًا ممّا قضيت ويسلّموا تسليمًا}. وقال الله تعالى: {إنّما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى اللّه ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون}. ثم ساق شذرة من الأحاديث في ذلك.
وقال -رضي الله عنه- في أذكاره في باب: "ما يقوله من دعي إلى حكم الله تعالى" ما صورته: "وكذلك ينبغي إذا قال له صاحبه هذا الذي فعلته خلاف حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو نحو ذلك أن لا يقول لا ألتزم الحديث، أو لا أعمل بالحديث أو نحو ذلك من العبارات المستبشعة. وإن كان الحديث متروك الظاهر لتخصيص أو تأويل أو نحو ذلك: يقول عند ذلك هذا الحديث مخصوص أو متاول، أو متروك الظاهر بالإجماع، وشبه ذلك". اهـ). [قواعد التحديث: 504-505]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (15- ما روي عن السلف في الرجوع إلى البيت:
قال الإمام الشافعي في الرسالة أخبرنا سفيان بن عيينة، وعبد الوهاب الثقفي عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قضى في الإبهام بخمس عشرة، وفي التي تليها بعشر وفي الوسطى بعشر، وفي التي تلي الخنصر بتسع وفي الخنصر بست قال الشافعي لما كان معروفًا والله أعلم عند عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قضى في اليد بخمسين، وكانت اليد خمسة أطراف مختلفة الجمال والمنافع نزلها منازلها فحكم لكل واحد من الأطراف بقدره من دية الكف فهذا قياس على الخبر قال الشافعي: فلما وجد كتاب آل عمرو بن حزم فيه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "وفي كل إصبع مما هنالك عشر من الإبل" صاروا إليه قال: ولم يقبلوا كتاب آل عمر بن حزم والله أعلم حتى ثبت لهم أنه كتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفي هذا الحديث دلالتان إحداهما قبول الخبر والأخرى أن يقبل الخبر في الوقت الذي يثبت فيه وإن لم يمض عمل من أحد من الأئمة بمثل الخبر الذي قبلوا، ودلالة على أنه لو مضى أيضًا عمل من أحد من الأئمة ثم وجد عن النبي خبر يخالف عمله لترك عمله لخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ودلالة على أن حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يثبت بنفسه لا بعمل غيره بعده قال الشافعي: ولم يقل المسلمون قد عمل فينا عمر بخلاف هذا من المهاجرين والأنصار ولم تذكروا أنتم أن عندكم خلافه، ولا غيركم، بل صاروا إلى ما وجب عليهم من قبول الخبر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وترك كل عمل خالفه. ولو بلغ عمر هذا صار إليه إن شاء الله، كما صار إلى غيره مما بلغه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بتقواه لله وتأديته الواجب عليه في اتباع أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعلمه بأن ليس لأحد مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمر، وأن طاعة الله في اتباع أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم. قال الشافعي: "فإن قال لي قائل: فادللني على أن عمر عمل شيئًا ثم صار إلى غيره لخبر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قلت: فإن أوجدتكه، قال: ففي إيجادك إياي ذلك دليل على أمرين: أحدهما: أنه قد يعمل من جهة الرأي إذا لم يجد سنة والآخر: أن السنة إذا وجدت عليه ترك عمل نفسه، ووجب على الناس ترك كل عمل، وجدت السنة بخلافة، وإبطال أن السنة لا تثبت إلا بخبر تقدمها وعلم أنه لا يوهيها شيء إن خالفها قال الشافعي: "أخبرنا سفيان عن الزهري عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كان يقول والدية على العاقلة، ولا ترث المرأة من دية زوجها شيئًا حتى أخبره الضحاك بن سفيان أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كتب إليه أن يورث امرأة أشيم الضباني من ديته فرجع إليه عمر. قال الشافعي: أخبرنا سفيان عن عمرو بن دينار، وابن طاوس عن طاوس أن عمر قال: أذكر الله امرأ سمع من النبي -صلى الله عليه وسلم- في الجنين شيئًا فقام حمل بن مالك بن النابغة فقال: كنت بين جاريتين لي -يعني ضرتين- فضربت إحداهما الأخرى بمسطح فألقت جنينًا ميتًا فقضى فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بغرة فقال عمر -رضي الله عنه: لو لم نسمع هذا لقضينا فيه بغير هذا، وقال غيره: إن كدنا أن نقضي في مثل هذا برأينا قال الشافعي: فقد رجع عمر عما كان يقضي به لحديث الضحاك إلى أن خالف فيه حكم نفسه، وأخبر في الجنين أنه لو لم يسمع بهذا لقضى فيه بغيره، وقال: إن كدنا أن نقضي في مثل هذا بآرائنا قال الشافعي: يخبر -والله أعلم- أن السنة إذا كانت موجودة بأن في النفس مائة من الإبل فلا يعدو الجنين أن يكون حيًّا فتكون فيه مائة من الإبل، أو ميتا فلا شيء فيه فلما أخبر بقضاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيه سلم له، ولم يجعل لنفسه إلا اتباعه فيما مضى حكمه بخلافه وفيما كان رأيا منه لم يبلغه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيه شيء، فلما بلغه خلاف فعله صار إلى حكم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وترك حكم نفسه وكذلك كان في كل أمره، وكذلك يلزم الناس أن يكونوا. اهـ). [قواعد التحديث: 505-508]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (16- حق الأدب فيما لم تدرك حقيقة من الأخبار النبوية:
نقل القسطلاني في شرح البخاري عند باب: "صفة إبليس" آخر الباب عن: "التوربشتي" في حديث: "إذا استيقظ أحدكم من منامه فتوضأ فليستنثر ثلاثًا، فإن الشيطان يبيت على خيشومه" ما نصه: "حق الأدب دون الكلمات النبوية التي هي مخازن لأسرار الربوبية ومعادن الحكم الإلهية أن لا يتكلم في الحديث وإخوانه بشيء فإن الله تعالى خص رسوله -صلى الله عليه وسلم- بغرائب المعاني وكاشفة عن حقائق الأشياء ما يقصر عن بيانه باع الفهم ويكل عن إدراكه بصر العقل". اهـ.
وقال العارف الشعراني قدس سره في ميزانه: "روينا عن الإمام الشافعي -رضي الله عنه- أنه كان يقول التسليم نصف الإيمان قال له الربيع الجيزي بل هو الإيمان كله يا أبا عبد الله فقال وهو كذلك
وكان الإمام الشافعي يقول: من كمال إيمان العبد أن لا يبحث في الأصول، ولا يقول فيها: "لم ولا كيف" فقيل له: وما هي الأصول فقال: هي الكتاب والسنة، وإجماع الأمة. اهـ. قال الشعراني: أي فنقول في كل ما جاءنا عن ربنا أو نبينا آمنا بذلك على علم ربنا فيه. اهـ.
أقول: رأيت بخط شيخنا العلامة المحقق الشيخ محمد الطندتائي الأزهري ثم الدمشقي على سؤال في فتاوي ابن حجر في الميت إذا ألحد في قبره هل يقعد ويسأل، أم يسأل هو راقد وهل تلبس الجثة الروح إلخ ما نصه: "اعلم أن السؤال عن هذه الأشياء، من باب الاشتغال بما لا يعني وقد ورد: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" وإنما كان من الاشتغال بما لا يعني لأن الله تعالى لم يكلفنا بمعرفة حقائق الأشياء، وإنما كلفنا بتصديق نبيه في كل ما جاء به وبامتثال أمره واجتناب نهيه.
وإنما اشتغل بالبحث عن حقائق الأشياء. هؤلاء الفلاسفة الذين سمعوا أنفسهم بالحكماء؛ لأنهم أنكروا المعاد الجسماني، وقالوا بالحشر الروحاني، وزعموا أن النعيم إنما هو بالعلم، والعذاب إنما هو بالجهل، وقد عم هذا البلاد كثيرًا من العلماء حتى اعتقدوا أن هذه الفلسفة هي الحكمة، ورأوها أفضل ما يكتسبه الإنسان، وإن ما سواها من علوم الدين وآلاتها ليس فضيلة فلا حول ولا قوة إلا بالله، فالواجب تصديق الشارع في كل ما ثبت عنه، وإن لم يفهم معناه فلا تضيع وقتك في الاشتغال بما لا يعنيك. انتهى كلامه رحمه الله تعالى). [قواعد التحديث: 509-511]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (17- بيان إمرار السلف الأحاديث على ظاهرها:
قال العارف الشعراني في ميزانه: "كان الإمام الشافعي يقول الحديث على ظاهره، لكنه إذا احتمل عدة معان، فأولاها ما وافق الظاهر". اهـ.
وقال قدس سره أيضًا: "وقد كان السلف الصالح من الصحابة والتابعين يقدرون على القياس، ولكنهم تركوا ذلك أدبًا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
ومن هنا قال سفيان الثوري: من الأدب إجراء الأحاديث التي خرجت مخرج الزجر، والتنفير على ظاهرها من غير تأويل فإنها إذا أولت خرجت عن مراد الشارع كحديث: "من غشنا فليس منا" وحديث: "ليس منا من تطير أو تطير له" وحديث: "ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية" فإن العالم إذا أولها بأن المراد: "ليس منا" في تلك الخصلة فقط أي وهو منا في غيرها هان على الفاسق الوقوع فيها وقال مثل المخالفة في خصلة واحدة أمر سهل فكان أدب السلف الصالح بعدم التأويل أولى بالاتباع للشارع وإن كان قواعد الشريعة قد تشهد أيضًا لذلك التأويل". اهـ.
وهكذا مذهب السلف في الصفات. قال الحافظ شمس الدين الذهبي الشافعي الدمشقي رحمه الله تعالى في كتاب: "العلو": "قال الإمام العلامة حافظ المغرب أبو عمر يوسف بن عبد البر الأندلسي في شرح الموطأ: أهل السنة يجمعون على الإقرار بالصفات الواردة في الكتاب والسنة وحملها على الحقيقة لا على المجاز إلا أنهم لم يكيفوا شيئًا من ذلك، وأما الجهمية والمعتزلة والخوارج فكلهم ينكرها، ولا يحمل منها شيئًا على الحقيقة، ويزعمون أن من أقر بها مشبه، وهم عند من أقر بها نافون للمعبود" قال الحافظ الذهبي صدق، والله فإن من تأول سائر الصفات، وحمل ما ورد منها على مجاز الكلام أداه ذلك السلب إلى تعطيل الرب، وأن يشابه المعدوم كما نقل عن حماد بن زيد أنه قال: "مثل الجهمية كقوم قالوا في دارنا نخلة قيل: ألها سعف؟ قالوا: لا، قيل: فما في داركم نخلة قلت: كذلك هؤلاء النفاة قالوا: إلهنا الله تعالى، وهو لا في زمان ولا مكان، ولا يرى ولا يسمع ولا يبصر ولا يتكلم، ولا يرضى ولا يريد، ولا ولا وقالوا سبحان المنزه عن الصفات بل نقول سبحان الله تعالى العظيم السميع البصير المريد الذي كلم موسى تكليمًا، واتخذ إبراهيم خليلًا، ويرى في الآخرة المتصف بما وصف نفسه ووصفه به رسله المنزه عن سمات المخلوقين، وعن جحد الجاحدين ليس كمثله شيء، وهو السميع البصير".
ثم قال الذهبي: "وقال عالم العراق أبو يعلى محمد بن الحسين بن الفراء البغدادي الحنبلي في كتاب: "إبطال التأويل" له: لا يجوز رد هذه الأخبار، ولا التشاغل بتأويلها، والواجب حملها على ظاهرها وأنها صفات الله عز وجل لا تشبه بسائر صفات الموصوفين بها من الخلق قال: ويدل على إبطال التأويل أن الصحابة، ومن بعدهم حملوها على ظاهرها، ولم يتعرضوا لتأويلها ولا صرفها عن ظاهرها فلو كان التأويل سائغًا لكانوا إليه أسبق لما فيه من إزالة التشبيه يعني على زعمهم من قال إن ظاهرها تشبيه".
قال الذهبي: قلت: المتأخرون من أهل النظر قالوا مقالة مولده ما علمت أحدًا سبقهم بها. قالوا: هذه الصفات تمر كل جاءت، ولا تؤول مع اعتقاد أن ظاهرها غير مراد. فتفرع من هذا أن الظاهر يعين به أمران:
"أحدهما: أنه لا تأويل لها غير دلالة الخطاب، كما قال السلف: الاستواء معلوم؛ وكما قال سفيان وغيره: قراءتها تفسيرها، يعني أنها بينة واضحة في اللغة لا يبتغى بها مضايق التأويل والتحريف، وهذا هو مذهب السلف مع اتفاقهم أيضًا أنها لا تشبه صفات البشر بوجه، إذ الباري لا مثل له لا في ذاته، ولا في صفاته".
"الثاني: أن ظاهرها هو الذي يتشكل في الخيال من الصفة، كما يتشكل في الذهن من وصف البشر. فهذا غير مراد، فإن الله تعالى فرد صمد ليس له نظير، وإن تعددت صفاته فإنها حق ولكن ما لها مثل ولا نظير فمن ذا الذي عانيه ونعته لنا، ومن ذا الذي يستطيع أن ينعت لنا كيف سمع كلامه؟ والله إنا لعاجزون كالون حائرون باهتون في حد الروح التي فينا وكيف تعرج كل ليلة إذا توفاها بارئها وكيف يرسلها وكيف تستقل بعد الموت، وكيف حياة الشهيد المرزوق عند ربه بعد قتله، وكيف حياة النبيين الآن، وكيف شاهد النبي -صلى الله عليه وسلم- أخاه موسى يصلي في قبره قائمًا ثم رآه في السماء السادسة، وحاوره وأشار عليه بمراجعة رب العالمين، وطلب التخفيف منه على أمته، وكيف ناظر موسى أباه آدم، وحجه آدم بالقدر السابق وكذلك نعجز عن، وصف هيئتنا في الجنة ووصف الحور العين فكيف بنا إذا انتقلنا إلى الملائكة وذواتهم وكيفيتها وأن بعضهم يمكنه أن يلتقم الدنيا في لقمة مع رونقهم، وحسنهم وصفاء جوهرهم النوراني فالله أعلى، وأعظم له المثل الأعلى والكمال المطلق ولا مثل له أصلًا آمنا بالله واشهد بأننا مسلمون". اهـ.
ثم قال الذهبي: "قال الإمام الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي: أما الكلام في كل لصفات: فأما ما روى منها في السنن الصحاح، فمذهب السلف إثباتها وإجراؤها على ظواهرها نفى الكيفية والتشبيه عنها. ثم قال: والمراد بظاهرها أنه لا باطن لألفاظ الكتاب السنة غير ما وضعت له كما قال مالك وغيره: "الاستواء معلوم"
وكذلك القول في السمع والبصر والعلم، والكلام والإرادة والوجه ونحو ذلك. هذه الأشياء معلومة فلا تحتاج إلى بيان وتفسير، لكن الكيف في جميعها مجهول عندنا. وقد نقل الذهبي في كتابه المذكور هذا المذهب عن مائة وخمسين إمامًا بدأ منهم بأبي حنيفة -رضي الله عنهم- وختم بالقرطبي فانظره). [قواعد التحديث: 511-517]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (18- قاعدة الإمام الشافعي رحمه الله في مختلف الحديث:
ساقها ضمن محاورة مع باحث فيما ورد في التغليس بالفجر والإسفار:
قال -رضي الله عنه- في رسالته في باب: "ما يعد مختلفًا وليس عندنا بمختلف" أخبرنا ابن عيينة عن محمد بن عجلان عن عاصم بن عمر بن قتادة عن محمود بن لبيد عن رافع بن خديج أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أسفروا بصلاة الفجر فإن ذلك أعظم للأجر، أو أعظم لأجوركم" قال الشافعي أخبرنا ابن عيينة عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: كنّ من نساء المؤمنات يصلين مع النبي -صلى الله عليه وسلم- الصبح ثم ينصرفن وهن متلفعات بمروجهن ما يعرفهن أحد من الغلس قال الشافعي، وذكر تغليس النبي بالفجر سهل بن سعد وزيد بن ثابت وغيرهما من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شبيهًا بمعنى حديث عائشة قال الشافعي: "قال لي قائل نحن نرى أن يسفر بالفجر اعتمادًا على حديث رافع، ونزعم أن الفضل في ذلك، وأنت ترى جائزًا لنا إذا اختلف الحديثان أن نأخذ بأحدهما، ونحن نعد هذا مخالفًا لحديث عائشة قال الشافعي: فقلت له إن كان مخالفًا لحديث عائشة، فكأن الذي يلزمنا وإياك أن نصير إلى حديث عائشة دونه لأن أصل ما نبني نحن، وأنتم عليه أن الأحاديث إذا اختلفت لم نذهب إلى واحد منها دون غيره إلا بسبب يدل على أن الذي ذهبنا إليه أقوى من الذي تركنا قال: وما ذلك السبب قلت: أن يكون أحد الحديثين أشبه بكتاب الله فإذا أشبه كتاب الله كانت فيه الحجة قال: هكذا نقول، قلت: فإن لم يكن فيه نص في كتاب الله كان أولاهما بنا الأثبت منهما، وذلك أن يكون من رواه أعرف إسنادًا، وأشهر بالعلم والحفظ له من الإملاء أو يكون روى الحديث الذي ذهبنا إليه من وجهين أو أكثر، والذي تركنا من وجه فيكون الأكثر أولى بالحفظ من الأقل، أو يكون الذي ذهبنا إليه أشبه بمعنى كتاب الله أو أشبه بما سواهما من سنن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأولى بما يعرف أهل العلم وأوضح في القياس، والذي عليه الأكثر من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم. قال: وهكذا نقول ويقول أهل العلم. قلت: فحديث عائشة أشبه بكتاب الله؛ لأن الله عز وجل يقول: {حافظوا على الصّلوات والصّلاة الوسطى} فإذا حل الوقت فأولى المصلين بالمحافظة المقدم للصلاة. وهو أيضًا أشهر رجل بالفقه وأحفظ ومع حديث عائشة ثلاثة، كلهم يروي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مثل معنى حديث عائشة: زيد بن ثابت، وسهل بن سعد؛ والعدد الأكثر أولى بالحفظ والنقل، وهذا أشبه بسنن النبي -صلى الله عليه وسلم- من حديث رافع بن خديج قال: وأي سنن قلت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أول الوقت رضوان الله وآخره عفوه". وهو لا يؤثر على رضوان الله شيئًا والعفو لا يحتمل إلا معنيين عفوًا عن تقصير، أو توسعة، والتوسعة تشبه أن يكون الفضل في غيرها إذ لم يؤمر بترك ذلك لغير التي وسع في خلافها. قال: وما تريد بهذا؟ قلت: إذا لم يؤمر بترك الوقت الأول وكان جائزًا أن يصلي فيه، وفي غيره قبله فالفضل في التقديم والتأخير تقصير موسع، وقد أبان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مثل ما قلنا وسئل: أي الأعمال أفضل؟ قال: "الصلاة في أول وقتها" وهو لا يدع موضع الفضل ولا يأمر الناس إلا به وهو الذي لا يجهله عالم أن تقديم الصلاة في أول وقتها أولي بالفضل لما يعرض للآدميين من الأشغال والنسيان والعلل التي لا تجهلها العقول وهو أشبه بمعنى كتاب الله قال أين هو من الكتاب؟ قلت: قال الله جل ثناؤه: {حافظوا على الصّلوات والصّلاة الوسطى} ومن قدم الصلاة في أول وقتها كان أولى بالمحافظة عليها ممن أخرها عن أول الوقت. وقد رأينا الناس فيما وجب عليهم وفيما تطوعوا به، يؤمرون بتعجيله إذا أمكن، لما يعرض للآدميين من الأشغال والنسيان والعلل التي لا تجهلها العقول، وأن تقديم صلاة الفجر في أول وقتها عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود وأبي موسى الأشعري وأنس بن مالك وغيرهم -رضي الله عنهم- مثبت قال الشافعي: فقال إن أبا بكر وعمر وعثمان -رضي الله عنهم، دخلوا الصلاة مغلسين وخرجوا منها مسفرين، بإطالة القراءة، فقلت له قد أطالوا القراءة وأوجزوها، والوقت في الدخول لا في الخروج من الصلاة، وكلهم دخل مغلسًا، وخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منها مغلسًا فخالفت الذي هو أولى بك أن تصير إليه مما ثبت عن رسول، وخالفتهم فقلت يدخل الداخل منها مسفرًا ويخرج مسفرًا، ويوجز القراءة فخالفتهم في الدخول وما احتججت به، من طول القراءة وفي الأحاديث عن بعضهم أنه خرج منها مغلسًا قال الشافعي: فقلت إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما حض الناس على تقديم الصلاة وأخبر بالفضل فيها احتمل أن يكون من الراغبين من يقدمها قبل الفجر الآخر فقال: "أسفروا بالفجر" يعني حتى يتبين الفجر الآخر معترضًا، قال أفيحتمل معنى غير ذلك قال: نعم، يحتمل ما قلت؛ وما بين ما قلنا وقلت، وكل معنى يقع عليه اسم الإسفار. قال: فما جعل معناكم أولى من معنانا؟ قلت: بما وصفت لك من الدليل وبأن النبي -صلى الله عليه وسلم: قال: هما فجران: "فأما الذي كأنه ذنب السرحان فلا يحل شيئا ولا يحرمه وأما الفجر المعترض فيحل الصلاة ويحرم الطعام". يعني على من أراد الصيام". اهـ.
وقال -رضي الله عنه- قبل ذلك في باب وجه آخر من الاختلاف: "قال الشافعي: فقال لي قائل قد اختلف في التشهد فروى ابن مسعود عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يعلمهم التشهد كما يعلمهم السورة من القرآن فقال في مبتدئة ثلاث كلمات التحيات لله فبأي التشهد أخذت قلت: أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عبد الرحمن بن عبد القارئ أنه سمع عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يقول على المنبر هو يعلم الناس التشهد -يقول قولوا: "التحيات لله الزاكيات لله الطيبات، لله الصلوات لله السلام عليك أيها النبي ورحمه الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله" قال الشافعي: هذا الذي علمنا من سبقنا بالعلم من فقهائنا صغارًا، ثم سمعناه بإسناده وسمعنا ما يخالفه فلم نسمع إسنادًا في التشهد يخالفه، ولا يوافقه أثبت عندنا منه وإن كان غيره ثابتًا، وكان الذي نذهب إليه أن عمر لا يعلم الناس على المنبر بين ظهراني أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا ما علمهم النبي -صلى الله عليه وسلم- فلما انتهى إلينا من حديث أصحابنا حديث نثبته عن النبي -صلى الله عليه وسلم- صرنا إليه وكان أولى بنا قال: وما هو قلت أخبرنا الثقة وهو يحيى بن حسان عن الليث بن سعد عن أبي الزبير المكي عن سعيد بن جبير، وطاوس عن ابن عباس أنه قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن فكان يقول التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله السلام عليك أيها النبي ورحمه الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله قال الشافعي: فإن قال قائل: فإنا نرى الرواية اختلفت فيه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فروى ابن مسعود خلاف هذا، وأبو موسى خلاف هذا وجابر خلاف هذا، وكلها قد يخالف بعضها بعضًا في شيء من لفظه ثم علم عمر خلاف هذا كله في بعض لفظه، وكذلك تشهد عائشة -رضي الله عنها- وعن أبيها وكذلك تشهد ابن عمر ليس فيها شيء إلا في لفظه شيء غير ما في لفظ صاحبه، وقد يزيد بعضهم الشيء على البعض قال الشافعي: فقلت له الأمر في هذا بين قال فأبنه لي قلت كل كلام أريد به تعظيم الله جل ثناؤه فعلمهموه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلعله جعل يعلمه الرجل فينسى، والآخر فيحفظه وما أخذ حفظًا فأكثر ما يحترس فيه منه إحالة المعنى. فلم يكن فيه زيادة ولا نقص ولا اختلاف شيء من كلامه يحيل المعنى فلا يسع إحالته، فلعل النبي -صلى الله عليه وسلم- أجاز لكل امرئ منهم ما حفظ كما حفظ إذ كان لا معنى فيه يحيل شيئا عن حكمه، ولعل من اختلفت روايته، واختلف تشهده إنما توسعوا فيه فقالوا على ما حفظوا على ما حضرهم فأجيز لهم قال أتجد شيئًا يدل على إجازة ما وصفت فقلت: نعم قال: وما هو؟ قلت: أخبرنا مالك بن أنس عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عبد الرحمن بن عبد القارئ قال: سمعت عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يقول: سمعت هشام بن حكيم بن حزام، يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرؤها وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- أقرأنيها فكدت أن أعجل عليه ثم أمهلته حتى انصرف ثم لببته بردائه فجئت به النبي -صلى الله عليه وسلم- فقلت: يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأتنيها فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "اقرأ" فقرأ القراءة التي سمعته يقرأ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "هكذا أنزلت" ثم قال: "اقرأ" فقرأت فقال: "هكذا أنزلت إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرءوا ما تيسر منه" قال الشافعي: فإذا كان الله جل ثناؤه لرأفته بخلقه انزل كتابه على سبعة أحرف معرفة منه بأن الحفظ منه قد يزل ليحل لهم يعني قراءته، وإن اختلف اللفظ فيه ما لم يكن في اختلافهم إحالة معنى كان ما سوى كتاب الله أولى أن يجوز فيه اختلاف اللفظ ما لم يحل معناه، وكل ما لم يكن فيه حكم فاختلاف اللفظ فيه لا يحيل معناه، وقد قال بعض التابعين: رأيت أناسا من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأجمعوا لي في المعنى، واختلفوا في اللفظ فقلت لبعضهم ذلك فقال: لا بأس ما لم يحل المعنى قال الشافعي: فقال ما في التشهد إلا تعظيم الله، وإني لأرجو أن يكون كل هذا فيه واسعًا، وأن لا يكون الاختلاف فيه إلا من حيث ما ذكرت، ومثل هذا كما قلت يمكن في صلاة الخوف فيكون إذا جاء بكمال الصلاة على أي الوجوه روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم. اجزأه إذ خالف الله عز وجل بينها وبين ما سواها من الصلوات قال: ولكن كيف صرت إلى اختيار حديث ابن عباس عن النبي في التشهد دون غيره؟ قلت: لما رأيته واسعًا وسمعته عن ابن عباس صحيحًا كان عندي أجمع وأكثر لفظا من غيره فأخذت به غير معنف لمن أخذ بغيره مما ثبت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم. اهـ). [قواعد التحديث: 517-525]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (19- فذلكة وجوه الترجيح بين ما ظاهره التعارض:
اعلم أن من نظر في أحوال الصحابة والتابعين وتابعيهم ومن بعدهم وجدهم متفقين على العمل بالراجح، وترك المرجوح وطرق الترجيح كثيرة جدًّا، ومدار الترجيح على ما يزيد الناظر قوة في نظره على وجه صحيح مطابق للمسالك الشرعية فما كان محصلا لذلك فهو مرجح معتبر، والترجيح قد يكون باعتبار الإسناد وباعتبار المتن وباعتبار المدلول وباعتبار أمر خارج فهذه أربعة أنواع:
1- وجوه الترجيح باعتبار الإسناد:
1- الترجيح بكثرة الرواة: فيرجح ما رواته أكثر على ما رواته أقل، لقوة الظن به وإليه ذهب الجمهور.
قال ابن دقيق العيد: هذا المرجح من أقوى المرجحات وقال الكرخي: إنهما سواء، ولو تعارضت الكثرة من جانب والعدالة من الجانب الآخر ففيه قولان ترجيح الكثرة، وترجيح العدالة فإنه رب عدل يعدل ألف رجل في الثقة كما قيل إن شعبة بن الحجاج كان يعدل مائتين، وقد كان الصحابة يقدمون رواية الصديق على رواية غيره.
2- ترجح رواية الكبير على رواية الصغير لأنه أقرب إلى الضبط إلا أن يعلم أن الصغير مثله في الضبط، أو أكثر ضبطًا منه.
3- ترجح رواية من كان فقيهًا على من لم يكن كذلك لأنه أعرف بمدلولات الألفاظ.
4- ترجح رواية الأوثق.
5- ترجح رواية الأحفظ.
6- أن يكون أحدهما من الخلفاء الأربعة دون الآخر.
7- أن يكون أحدهما صاحب الواقعة لأنه أعرف بالقصة.
8- أن يكون أحدهما مباشرًا لما رواه دون الآخر.
9- أن يكون أحدهما كثير المخالطة للنبي -صلى الله عليه وسلم- دون الآخر لأن كثرة الاختلاط تقتضي زيادة في الاطلاع.
10- أن يكون أحدهما قد ثبتت عدالته بالتزكية والآخر بمجرد الظاهر.
11- أن يكون المزكون لأحدهما أكثر من المزكين للآخر.
12- ترجح رواية من يوافق الحفاظ على رواية من ينفرد عنهم في كثير من رواياته.
13- ترجح رواية من دام حفظه وعقله ولم يختلط على من اختلط في آخر عمره ولم يعرف هل روى الخبر حال سلامته أو حال اختلاطه.
14- تقدم رواية من كان أشهر بالعدالة والثقة من الآخر لأن ذلك يمنع عن الكذب.
15- تقدم رواية من تأخر إسلامه على من تقدم إسلامه لاحتمال أن يكون ما رواه من تقدم إسلامه منسوخًا.
16- تقدم رواية من ذكر سبب الحديث على من لم يذكر سببه.
17- تقدم الأحاديث التي في الصحيحين على الأحاديث الخارجة عنهما.
18- تقدم رواية من لم ينكر عليه على رواية من أنكر عليه فإن وقع التعارض في بعض هذه المرجحات فعلى المجتهد أن يرجح بين ما تعارض منها.
2- وجوه الترجيح باعتبار المتن:
الأول- يقدم الخاص على العام.
الثاني- تقدم الحقيقة على المجاز إذا لم يغلب المجاز.
الثالث- يقدم ما كان حقيقة شرعية أو عرفية على ما كان حقيقة لغوية.
الرابع- يقدم ما كان مستغنيًا عن الإضمار في دلالته على ما هو مفتقر إليه.
الخامس- يقدم الدال على المراد من وجهين على ما كان دالًّا عليه من وجه واحد.
السادس- يقدم ما كان فيه الإيماء إلى علة الحكم على ما لم يكن كذلك لأن دلالة المعلل أوضح من دلالة غير المعلل.
السابع- يقدم المقيد على المطلق.
3- وجوه الترجيح باعتبار المدلول:
الأول- يقدم ما كان مقررًا لحكم الأصل والبراءة على ما كان ناقلًا.
الثاني- أن يكون أحدهما أقرب إلى الاحتياط فإنه أرجح.
الثالث- يقدم المثبت على المنفي لأن مع المثبت زيادة علم.
الرابع- يقدم ما كان حكمه أخف على ما كان حكمه أغلط.
4- وجوه الترجيح باعتبار أمور خارجة:
الأول- يقدم ما عضده دليل آخر على ما لم يعضده دليل آخر.
الثاني- أن يكون أحدهما قولًا والآخر فعلًا فيقدم القول لأن له صيغة والفعل لا صيغة له.
الثالث- يقدم ما كان فيه التصريح على ما لم يكن كذلك كضرب الأمثال ونحوها فإنها ترجح العبارة على الإشارة.
الرابع- يقدم ما عمل عليه أكثر السلف على ما ليس كذلك لأن الأكثر أولى بإصابة الحق.
الخامس- أن يكون أحدهما موافقًا لعمل الخلفاء الأربعة دون الآخر فإنه يقدم الموافق.
السادس- أن يكون أحدهما موافقًا لعمل أهل المدينة.
السابع- أن يكون أحدهما أشبه بظاهر القرآن دون الآخر فإنه يقدم.
وللأصوليين مرجحات آخر في الأقسام الأربعة منظور فيها ولا اعتداد عندي بمن نظر فيما سقناه لأن القلب السليم لا يرى فيه مغمزًا، وبالجملة: فالمرجح في مثل هذه الترجيحات هو نظر المجتهد المطلق فيقدم ما كان عنده أرجح على غيره إذا تعارضت). [قواعد التحديث: 525-530]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (20- بحث الناسخ والمنسوخ:
قال الحافظ ابن حجر في شرح النخبة: "النسخ رفع تعلق حكم شرعي بدليل شرعي متأخر عنه، والناسخ ما دل على الرفع المذكور، وتسميته ناسخا مجاز؛ لأن الناسخ في الحقيقة هو الله تعالى، ويعرف النسخ بأمور أصرحها ما ورد في النص كحديث بريده في صحيح مسلم: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكر الآخرة " ومنها ما يجزم الصحابي بأنه متأخر كقول جابر كان آخر الأمرين من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ترك الوضوء مما مست النار، أخرجه أصحاب السنن ومنها ما يعرف بالتاريخ، وهو كثير وليس منها ما يرويه الصحابي المتأخر الإسلام معارضًا لمتقدم عنه لاحتمال أن يكون سمعه من صحابي آخر أقدم من المتقدم المذكور أو مثله فأرسله، لكن إن وقع التصريح بسماعه له من النبي فيتجه أن يكون ناسخا بشرط أن يكون لم يتحمل عن النبي -صلى الله عليه وسلم- شيئا قبل إسلامه. اهـ). [قواعد التحديث: 530-531]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (21- بحث التحيل على إسقاط حكم أو قلبه:
روى أبو داود والحاكم وصححه من حديث ابن عباس مرفوعًا: "لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها" وفي رواية: "لعن الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها" أي أذابوها قال الخطابي: "في هذا الحديث بطلان كل حيلة يحتال بها المتوصل إلى المحرم وأنه لا يتغير حكمه بتغير هيئته وتبديل اسمه".
قال شيخ الإسلام ابن تيميه: "وجه الدلالة ما أشار إليه الإمام أحمد أن اليهود لما حرم الله عليهم الشحوم، أرادوا الاحتيال على الانتفاع بها، على وجه لا يقال في الظاهر إنهم انتفعوا بالشحم، فجملوه وقصدوا بذلك أن يزول عنه اسم الشحم، ثم انتفعوا بثمنه بعد ذلك لئلا يكون الانتفاع في الظاهر بعين المحرم ثم مع كونهم احتالوا بحيلة خرجوا بها في زعمهم من ظاهر التحريم من هذين الوجهين لعنهم الله تعالى على لسان رسوله على هذا الاستحلال نظرًا إلى المقصود، وأن حكمه التحريم لا تختلف سواء كان جامدًا أو مائعًا، وبدل الشيء يقوم مقامه ويسد مسده فإذا حرم الله الانتفاع بشيء حرم الاعتياض عن تلك المنفعة فعلم أنه لو كان التحريم معلقًا بمجرد اللفظ، وبظاهر من القول دون مراعاة المقصود إلى الشيء المحرم، وحقيقته لم يستحقوا اللعنة لوجهين.
أحدهما: أن الشحم خرج بجمله عن أن يكون شحمًا، وصار ودكًا، كما يخرج الربا بالاحتيال فيه عن لفظ الربا، إلى أن يصير بيعًا عند من يستحل ذلك، فإن من أراد أن يبيع مائة بمائة وعشرين إلى أجل فأعطى سلعة بالثمن المؤجل ثم اشتراها بالثمن الحال، ولا غرض لواحد منهما في السلعة بوجه ما، وإنما هي كما قال فقيه الأمة: "دراهم بدراهم دخلت بينها حريرة" فلا فرق بين ذلك وبين مائة بمائة وعشرين بلا حيلة البتة لا في شرع ولا عقل ولا عرف بل المفسدة، ويلعن فاعله ويؤذنه بحرب منه ومن رسوله، ويتوعده أشد توعد ثم يبيح التحيل على حصول ذلك بعينه مع قيام تلك المفسدة وزيادتها تبعث الاحتيال في مقته ومخادعة الله ورسوله هذا لا يأتي به شرع، فإن الربا على الأرض أسهل وأقل مفسدة من الربا بسلم طويل صعب المراقي يترابى المترابيان على رأسه فيا لله العجب أي مفسدة من مفاسد الربا زالت بهذا الاحتياط والخداع، فهل صار هذا الذئب العظيم عند الله الذي هو من أكبر الكبائر حسنة وطاعة بالخداع والاحتيال، ويا لله كيف قلب الخداع والاحتيال حقيقته من الخبث إلى الطيب، ومن المفسدة إلى المصلحة وجعله محبوبًا للرب تعالى بعد أن كان مسخوطا له؟ وإن كان الاحتيال يبلغ هذا المبلغ، فإنه عند الله عز وجل ورسوله بمكان ومنزلة عظيمة، وإنه من أقوى دعائم الدين، وأوثق عراه وأجل أصوله. ويا لله العجب كيف تزول مفسدة التحليل التي أشار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بلعن فاعله مرة بعد أخرى بتسليف شرطه وتقديمه على صلب العقد وإخلاء صلب العقد من لفظه، وقد وقع التواطؤ والتوافق عليه وأي غرض للشارع، وأي حكمة في تقديم الشرط وتسليفه حتى تزول به اللعنة وتنقلب به خمرة هذا العقد خلًّا، وهل كان عقد التحليل مسخوطًا لله ورسوله بحقيقته ومعناه أم لعدم حقيقة مقارنة الشرط له وحصول نكاح الرغبة مع القطع بانتفاء حقيقته وحصول نكاح التحليل، وهكذا الحيل الربوية فإن الربا لم يكن حرامًا لصورته ولفظه، وإنما كان حرامًا لحقيقته التي امتاز بها عن حقيقة البيع فتلك الحقيقة حيث وجدت وجد التحريم في أي صورة ركبت، وبأي لفظ عبر عنها فليس الشأن في الأسماء وصور العقود، وإنما الشأن في حقائقها ومقاصدها وما عقدت له.
الوجه الثاني: أن اليهود لم ينتفعوا بعين الشحم، وإنما انتفعوا بثمنه. ويلزم من راعي الصور والظواهر والألفاظ دون الحقائق والمقاصد أن لا يحرم ذلك؛ فلما لعنوا على استحلال الثمن، وإن لم ينص على تحريمه، علم أن الواجب النظر إلى الحقيقة والمقصود لا إلى مجرد الصورة. ونظير هذا أن يقال لرجل: لا تقرب مال اليتيم، فيبيعه ويأخذ ثمنه، ويقول: لم أقرب ماله!
وكمن يقول لرجل: لا تشرب من هذا النهر فيأخذ بيديه ويشرب من كفيه، ويقول: لم أشرب منه وبمنزلة من يقول: لا تضرب زيدًا فيضربه فوق ثيابه، ويقول إنما ضربت ثيابه، وأمثال هذه الأمور التي لو استعملها الطبيب في معالجة المرضى لزاد مرضهم، ولو استعملها المريض لكان مرتكبًا لنفس ما نهاه عنه الطبيب كمن يقول له الطبيب: لا تأكل اللحم فإنه يزيد في مواد المرض فيدقه، ويعمل منه هريسة، ويقول: لم آكل اللحم وهذا المثال مطابق العامة الحيل الباطلة في الدين، ويا لله العجب أي فرق بين بيع مائة بمائة وعشرين صريحًا وبين إدخال سلعة لم تقصد أصلًا بل دخولها كخروجها؟ ولهذا لا يسأل العاقد عن جنسها ولا صفتها ولا قيمتها، ولا عيب فيها ولا يبالي بذلك البتة حتى لو كانت خرقة مقطعة أو أذن جدي أو عودًا من حطب، أدخلوه محللًا للربا، ولما تفطن المحتالون إلى أن هذه المسألة لا اعتبار بها في نفس الأمر، وأنها ليست مقصودة بوجه، وأن دخولها كخروجها تهاونوا بها ولم يبالوا بكونها مما يتحول عادة، أو لا يتحول ولا يبالي بعضهم بكونها مملوكة للبائع أو غير مملوكة بل لم يبال بعضهم بكونها مما يباع أو مما لا يباع كالمسجد والمنارة والقلعة، وكل هذا واقع من أرباب الحيل وهذا لما علموا أن المشتري لا غرض له في السلعة، وقالوا: أي سلعة اتفق حضورها حصل بها التحليل كأي يتس اتفق في باب محلل النكاح، وما مثل من وقف مع الظواهر والألفاظ ولم يراع المقاصد والمعاني إلا كمثل رجل قيل له لا تسلم على صاحب بدعة فقبل يده ورجله ولم يسلم عليه، أو قيل له اذهب فاملأ هذه الجرة فذهب وملأها ثم تركها على الحوض، وقال: لم يقل ائتني بها، وكمن قال لوكيله بع هذه السلعة فباعها بدرهم، وهي تساوي مائة، ويلزم من وقف مع الظواهر أن يصحح هذا البيع، ويلزم به الموكل وإن نظر إلى المقاصد تناقض حيث ألقاها في غير موضع، وكمن أعطاء رجلًا ثوبًا فقال: والله لا ألبسه لما فيه من المنة فباعه، وأعطاه ثمنه فقبله وكمن قال: والله لا أشرب هذا الشراب فجعله عقيدًا أو ثرد فيه خبزًا وأكله، ويلزم من وقف مع الظواهر والألفاظ أن لا يحد من فعل ذلك بالخمر، وقد أشار النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى أن من الأمة من يتناول المحرم ويسميه بغير اسمه فقال: "لتشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها يعزف على رءوسهم بالمعازف، والقينات يخسف الله بهم ويجعل منهم القردة والخنازير" رواه أحمد وأبو داود.
قال شيخ الإسلام ابن تيميه: وقد جاء حديث آخر يوافق هذا مرفوعًا وموقوفًا من حديث ابن عباس: "يأتي على الناس زمان يستحل فيه خمسة أشياء بخمسة أشياء يستحلون الخمر باسم يسمونها إياه، والسحت بالهدية والقتل بالرهبة، والزنا بالنكاح والربا بالبيع"
وهذا حق فإن استحلال الربا باسم البيع ظاهر كالحيل الربوية التي صورتها صورة البيع، وحقيقتها حقيقة الربا. ومعلوم أن الربا إنما حرم لحقيقته ومفسدته لا لصورته واسمه. فهب أن المرابي لم يسمه ربا، وسماه بيعًا فذلك لا يخرج حقيقته وماهيته عن نفسها، وأما استحلال الخمر باسم آخر فكما استحل من استحل المسكر من غير عصير العنب، وقال: لا اسميه خمرًا وإنما هو نبيذ كما يستحلها طائفة إذا مزجت، ويقولون: خرجت بالمزج عن اسم الخمر كما يخرج الماء بمخالطة غيره له عن اسم الماء المطلق، وكما يستحلها من يستحلها إذا اتخذت عقيدًا، ويقول: هذه عقيد لا خمر، ومعلوم أن التحريم تابع للحقيقة والمفسدة لا الاسم ولا الصورة، وأما استحلال السحت باسم الهدية فهو أظهر من أن يذكر كرشوة الحاكم والوالي وغيرهما فإن المرتشي ملعون هو والراشي لما في ذلك من المفسدة، ومعلوم قطعًا أنهما لا يخرجان عن اللعنة، وحقيقة الرشوة بمجرد اسم الهدية وقد علمنا وعلم الله وملائكته ومن له اطلاع على الحيل أنها رشوة، وأما استحلال القتل باسم الإرهاب الذي تسميه ولاة الجور سياسة وهيبة وناموسًا وحرمة للملك فهو أظهر من أن يذكر، وأما استحلال الزنا بالنكاح فهو الزنا بالمرأة التي لا غرض له أن تقيم معه ولا أن تكون زوجته وإنما غرضه أن يقضي منها وطره ويأخذ جعلا على الفساد بها ويتوصل إلى ذلك باسم النكاح وإظهار صورته، وقد علم الله ورسوله والملائكة والروح والمرأة أنه محلل لا ناكح، وأنه ليس بزوج وإنما هو تيس مستعار للضراب. فيا لله العجب أي فرق في نفس الأمر بين الزنا وبين هذا. نعم هذا زنا بشهود من البشر، وذلك زنا بشهود من الكرام الكاتبين كما صرح به أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقالا لا يزالان زانيين وإن مكثا عشرين سنة إذا علم أنه إنما يريد أن يحلها، والمقصود أن هذا المحلل إذا قيل له، هذا زنا قال: ليس بزنا، بل نكاح.
كما أن المرابي إذا قيل له هذا ربا، قال: بل هو بيع، ولو أوجب تبدل الأسماء والصور تبدل الأحكام والحقائق، لفسدت الديانات، وبدلت الشرائع واضمحل الإسلام. هذا ملخص ما أفاده في هذه المسألة الإمام ابن القيم في: "إعلام الموقعين" وذكر رحمه الله أيضًا فيه حكم الحيلة في إسقاط الزكاة إذا كان في يده نصاب بأن يبيعه، أو يهبه قبل الحول ثم يشتريه فقال: "هذه حيلة محرمة باطلة، ولا يسقط ذلك عنه فرض الله الذي فرضه، وأوعد بالعقوبة الشديدة من ضيعة وأهمله، فلو جاز إبطاله بالحيلة التي هي مكر وخداع لم يكن في إيجابه والوعيد على تركه فائدة، وقد استقرت سنة الله سبحانه في خلقه شرعًا وقدرًا على معاقبة العبد بنقيض قصده كما حرم القاتل الميراث وورث المطلقة في مرض الموت، وكذلك الفار العبد من الزكاة لا يسقطها عنه فراره ولا يعان على قصد الباطل فيتم مقصودة ويسقط مقصود الرب سبحانه وتعالى. وكذلك عامة الحيل أنى يساعد فيها المتحيل على بلوغ غرضه ويبطل غرض الشارع، وكذلك المجامع في نهار رمضان إذا تغدى أو شرب الخمر أولًا ثم جامع قالوا لا تجب عليه الكفارة، وهذا ليس بصحيح فإن ضمه إلى إثم الجماع إثم الأكل، والشرب لا يناسب التخفيف عنه بل يناسب تغليظ الكفارة عليه فسبحان الله هل أوجب الشارع الكفارة لكون الوطء لم يتقدمه مفطر قبله أو للجناية على زمن الصوم الذي لم يجعله الله محلا للوطء وانقلبت كراهة الشرع له محبة، ومنعه إذنا هذا من المحال، فتأمل كيف تتضمن الحيل المحرمة مناقضة الدين وإبطال الشرائع، ويا لله العجب! أيروج هذا الخداع والمكر والتلبيس على أحكم الحاكمين الذي يعلم خائنة الأعين، وما تخفي الصدور فتعالى شارع هذه الشريعة الفائقة على كل شريعة أن يشرع فيها الحيل التي تسقط فرائضه وتحل محارمه وتبطل حقوق عباده وتفتح للناس أبواب الاحتيال، وأنواع المكر والخداع، وأن يبيح التوصل بالأسباب المشروعة إلى الأمور المحرمة المنوعة، وقد أخبر الله سبحانه عن عقوبة المحتالين على حل ما حرمه عليهم، وإسقاط ما فرضه عليهم في غير موضع من كتابه قال أبو بكر الآجري -وقد ذكر بعض الحيل الربوية التي يفعلها الناس- لقد مسخت اليهود قردة بدون هذا، ولقد صدق إذا أكل حوت صيد يوم السبت، أهون عند الله وأقل جرمًا من أكل الربا الذي حرمه الله بالحيل والمخادعة، ولكن قال الحسن: عجل لأولئك عقوبة تلك الأكلة الوخيمة وأرجئت عقوبة هؤلاء فهذه العظائم والمصائب الفاضحات لو اعتمدها مخلوق مع مخلوق لكان في نهاية القبح فكيف بم يعلم السر وأخفى، وإذا وازن اللبيب بين حيلة أصحاب السبت والحيل التي يتعاطاها أرباب الحيل في كثير من الأبواب ظهر له التفاوت، ومراتب المفسدة التي بينها وبين هذه الحيل فإذا عرف قدر الشرع وعظمة الشارع وحكمته وما اشتمل عليه شرعه من رعاية مصالح عبادة تبين له حقيقة الحال وقطع بأن الله سبحانه تنزه وتعالى أن يسوغ لعبادة نقض شرعه وحكمته بأنواع الخداع والاحتيال. اهـ.
وكما بسط رحمه الله الكلام في ذلك في: "إعلام الموقعين" أطنب فيه أيضًا في كتابه: "إغائة اللهفان" اهتمامًا بهذا الموضوع، ومما جاء فيه قوله ومن مكايده -يعني الشيطان- التي كاد بها الإسلام، وأهله الحيل والمكر والخداع الذي يتضمن تحليل ما حرم الله، وإسقاط ما فرضه ومضادته في أمره ونهيه، وهي من الرأي الباطل الذي اتفق السلف على ذمه فإن الرأي رأيان رأي يوافق النصوص وتشهد له بالصحة والاعتبار وهو الذي اعتبره السلف وعملوا به، ورأي يخالف النصوص، وتشهد له بالإبطال والإهدار فهو الذي ذموه وأنكروه، وكذلك الحيل نوعان نوع يتوصل به إلى فعل ما أمر الله تعالى به، وترك ما نهى عنه والتخلص من الحرام وتخليص المحق من الظالم المانع له، وتخليص المظلوم من يد الظالم الباغي فهذا النوع محمود ظالمًا والظالم مظلومًا والحق باطلًا والباطل حقًّّّّا فهذا النوع الذي اتفق السلف على ذمه، وصاحوا بأهله من أقطار الأرض. قال الإمام أحمد رحمه الله لا يجوز شيء من الحيل في إبطال حق مسلم وقال الميموني: "قلت لأبي عبد الله: من خلف على يمين ثم احتال لإبطالها فهل تجوز تلك الحيل؟ قال: نحن لا نرى الحيلة إلا بما يجوز، قلت: أليس حيلتنا فيها أن تتبع ما قالوا، وإذا وجدنا لهم قولًا في شيء اتبعناه قال بلى هكذا هو. قلت: أو ليس هذا منا نحن حيلة؟ قال: نعم -فبين الإمام أحمد أن من اتبع ما شرع له وجاء عن السلف في معاني الأسماء التي علقت بها الأحكام ليس بمحتال الحيل المذمومة وإن سميت حيلة فليس الكلام فيها، وغرض الإمام أحمد بهذا الفرق بين سلوك الطريق المشروعة التي شرعت بحصول مقصود الشارع، وبين الطرق التي تسلك لإبطال مقصودة فهذا هو سر الفرق بين النوعين، وكلامنا الآن في النوع الثاني" ثم جود الكلام في ذلك فأطال، وأطاب رحمه المولي الوهاب.
وكذلك الإمام أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله تعالى في موافقاته في كتاب: "المقاصد في المسألة العاشرة"، أسبغ البحث في ذلك، ولسهولة الوقوف من هذه الكتب الجليلة اكتفينا بالإحالة عليها والله الموفق). [قواعد التحديث: 532-540]