11 Oct 2022
الدرس السادس عشر: أسباب اختلاف المحدثين والفقهاء
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (22- بيان أسباب اختلاف الصحابة والتابعين في الفروع:
قال الإمام العلامة ولي الله الدهلوي في: "الحجة البالغة" تحت هذه الترجمة "اعلم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يكن الفقه في زمانه مدونًا، ولم يكن البحث في الأحكام يومئذ مثل البحث من هؤلاء الفقهاء حيث يبنون بأقصى جهدهم الأركان، والشروط وآداب كل شيء ممتازًا عن الآخر بدليله، ويفرضون الصور يتكلمون على تلك الصور المفروضة ويحدون ما يقبل الحد، ويحصرون ما يقبل الحصر إلى غير ذلك من صنائعهم، أما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكان يتوضأ فيرى الصحابة وضوءه فيأخذون به من غير أن يبين أن هذا ركن وذلك أدب، وكان يصلي فيرون صلاته فيصلون كما رأوه يصلي، وحج فرمق الناس حجة ففعلوا كما فعل فهذا كان غالب حاله -صلى الله عليه وسلم- ولم يبين أن فروض الوضوء ستة أو أربعة، ولم يفرض أنه يحتمل أن يتوضأ إنسان بغير موالاة، حتى يحكم عليه بالصحة أو الفساد إلا ما شاء الله وقلما كانوا يسألونه عن هذه الأشياء. عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: ما رأيت قومًا خيرًا من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما سألوه عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض كلهن في القرآن منهن: {يسألونك عن الشّهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبيرٌ}، {ويسألونك عن المحيض} قال: ما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم.
قال ابن عمر: لا تسأل عما لم يكن فإني سمعت عمر بن الخطاب يلعن من سأل عما لم يكن
قال القاسم: إنكم تسألون عن أشياء ما كنا نسأل عنها وتنقرون عن أشياء ما كنا ننقر عنها، تسألون عن أشياء ما أدري ما هي، ولو علمناها ما حل لنا أن نكتمها عن عمر بن إسحاق قال: لمن أدركت من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أكثر ممن سبقني منهم فما رأيت قومًا أيسر سيرة، ولا أقل تشديدًا منهم، وعن عبادة بن بسر الكندي، وسئل عن امرأة ماتت مع قوم ليس لها ولي فقال: أدركت أقوامًا ما كانوا يشددون تشديدكم، ولا يسألون مسائلكم "أخرج هذه الآثار الدارمي"، وكان يستفتيه الناس في الوقائع فيفتيهم وترفع إليه القضايا فيقضي فيها، ويرى الناس يفعلون معروفًا فيمدحه أو منكرًا فينكر عليه وكل ما أفتى به مستفتيًا أو قضى به في قضية أو أنكره على فاعله كان في الاجتماعات، وكذلك كان الشيخان أبو بكر وعمر إذا لم يكن لهما علم في المسألة يسألون الناس عن حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال أبو بكر -رضي الله عنهما- سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال فيها شيئا -يعني الجدة- وسأل الناس فلما صلى الظهر قال: أيكم سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال في الجدة شيئا فقال: المغيرة بن شعبة أنا فقال: ماذا؟ قال: قال: أعطاها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سدسا قال: أيعلم ذاك أحد غيرك؟ فقال محمد بن سلمة: صدق - فأعطاها أبو بكر السدس وقصة سؤال عمر الناس في الغرة ثم رجوعه إلى خبر مغيرة، وسؤاله إياهم في الوباء، ثم رجوعه إلى خبر عبد الرحمن بن عوف، وكذا رجوعه في قصة المجوس إلى خبره وسرور عبد الله بن مسعود بخير معقل بن يسار لما وافق رأيه، وقصة رجوع أبي موسى عن باب عمر وسؤاله عن الحديث وشهادة أبي سعيد له، وأمثال ذلك كثيرة معلومة مروية في الصحيحين والسنن، وبالجملة فهذه كانت عادته الكريمة -صلى الله عليه وسلم- فرأى كل صحابي ما يسره الله له من عبادته وفتاواه وأقضيته، فحفظها وعقلها وعرف لكل شيء وجها من قبل حفوف القرائن به فحمل بعضها على الإباحة وبعضها على النسخ لأمارات وقرائن كانت كافية عنده، ولم يكن العمدة عندهم إلا وجدان الاطمئنان والثلج من غير التفات إلى طرق الاستدلال كما ترى الأعراب يفهمون مقصود الكلام فيما بينهم وتثلج صدورهم بالتصريح والتلويح والإيماء من حيث لا يشعرون فانقضي عصره الكريم وهم على ذلك ثم إنهم تفرقوا في البلاد وصار كل واحد مقتدي ناحية من النواحي فكثرت الوقائع ودارت المسائل فاستفتوا فيها فأجاب كل واحد حسب ما حفظه أو استنبط وإن لم يجد فيما حفظه أو استنبط ما يصلح للجواب اجتهد برأيه وعرف العلة التي أدار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عليها الحكم في منصوصاته، فطرد الحكم حيثما وجدها لا يألو جهدًا في موافقه عرضه عليه الصلاة والسلام فعند ذلك وقع الاختلاف بينهم على ضروب منها أن صحابيا سمع حكما في قضية أو فتوى ولم يسمعه الآخر فاجتهد برأيه في ذلك، وهذا على وجوه:
أحدها: أن يقع اجتهاده موافق الحديث مثاله ما رواه النسائي وغيره أن ابن مسعود -رضي الله عنه- سئل عن امرأة مات عنها زوجها ولم يفرض لها -أي لم يعين لها المهر- فقال: لم أر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقضي في ذلك فاختلفوا عليه شهرًا، وألحوا فاجتهد برأيه وقضى بأن لها مهر نسائها لا وكس ولا شطط وعليها العدة، ولها الميراث فقام معقل بن يسار فشهد بأنه قضى بمثل ذلك في امرأة منهم، ففرح بذلك ابن مسعود فرحة لم يفرح مثلها قط بعد الإسلام.
ثانيها: أن يقع بينهما المناظرة ويظهر الحديث بالوجه الذي يقع به غالب الظن فيرجع عن اجتهاده إلى المسموع، مثاله ما رواه الأئمة من أن أبا هريرة -رضي الله عنه- كان من مذهبه أنه من أصبح جنبًا فلا صوم له حتى أخبرته بعض أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- بخلاف مذهبه فرجع.
وثالثها: أن يبلغه الحديث، ولكن لا على الوجه الذي يقع به غالب الظن فلم يترك اجتهاده، بل طعن في الحديث مثاله: ما رواه أصحاب الأصول من أن فاطمة بنت قيس شهدت عند عمر بن الخطاب بأنها كانت مطلقة الثلاث فلم يجعل لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نفقة ولا سكنى فرد شهادتها، وقال: لا أترك كتاب الله بقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت لها النفقة والسكني وقالت عائشة -رضي الله عنها- لفاطمة ألا تتقي الله؟ يعني في قولها لا سكنى ولا نفقة، ومثال آخر روى الشيخان أنه كان من مذهب عمر بن الخطاب أن التيمم لا يجزي للجنب الذي لا يجد ماء، فتمعك في التراب فذكر ذلك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إنما كان يكفيك أن تفعل هكذا" وضرب بيديه الأرض فمسح بهما وجهه ويديه فلم يقبل عمر، ولم ينهض عنده حجة لقادح خفي رآه فيه حتى استفاض الحديث في الطبقة الثانية من طرق كثيرة واضمحل وهم القادح فأخذوا به.
ورابعها: أن لا يصل إليه الحديث أصلًا مثاله: ما أخرج مسلم أن ابن عمر كان يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رءوسهن، فسمعت عائشة بذلك فقالت: يا عجبًا لابن عمر هذا يأمر النساء أن ينقضن رءؤسهن، أفلا يأمرهن أن يحلقن رءوسهن؟ لقد كنت أغتسل أنا ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- من إناء واحد وما أزيد على أن أفرع على رأسي ثلاث إفراغات. مثال آخر: ما ذكره الزهري من أن هندًا لم تبلغها رخصة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المستحاضة فكان تبكي لأنها كانت لا تصلي. ومن تلك الضروب أن يروا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فعل فعلًا فحمله بعضهم على القربة وبعضهم على الإباحة، مثاله: ما رواه أصحاب الأصول في قضية التخصيب -أي النزول بالأبطح عند النفر- نزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- به فذهب أبو هريرة، وابن عمر إلى أنه على وجه القربة فجعلوه من سنن الحج، وذهبت عائشة وابن عباس إلى أنه كان على وجه الاتفاق وليس من السنن، ومثال آخر ذهب الجمهور إلى أن الرمل في الطواف سنة، وذهب ابن عباس إلى أنه إنما فعله النبي -صلى الله عليه وسلم- على سبيل الاتفاق لعارض عرض، وهو قول المشركين حطمتهم حمى يثرب، وليس بسنة ومنها اختلاف الوهم مثاله أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حج فرآه الناس فذهب بعضهم إلى أنه كان متمتعًا، وبعضهم إلى أنه كان قارنًا وبعضهم إلى أنه كان مفردًا، مثال آخر أخرج أبو داود عن سعيد بن جبير أنه قال: قلت لعبد الله بن عباس: يا أبا العباس عجبت لاختلاف أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين أوجب فقال: إني لأعلم الناس بذلك، إنها كانت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حجة واحدة فمن هناك اختلفوا. خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حاجًّا فلما صلى في مسجد ذي الخليفة ركعة أوجب في مجلسه وأهل بالحج حين فرغ من ركعتيه فسمع ذلك منه أقوام فحفظته عنه ثم ركب فلما استقلت به ناقته أهل وأدرك منه أقوام، وذلك أن الناس إنما كانوا يأتون أرسالًا، فسمعوه حين استقلت به ناقته يهل فقالوا: إنما أهل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين استقلت به ناقته ثم مضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- البيداء، وايم الله لقد أوجب في مصلاه، وأهل حين استقلت به ناقته وأهل حين علا على شرف البيداء.
ومنها: اختلاف السهو والنسيان مثاله ما روي أن ابن عمر كان يقول اعتمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عمرة في رجب فسمعت بذلك عائشة فقضت عليه بالسهو.
ومنها: اختلاف الضبط مثاله ما روى ابن عمر أو عمر عنه -صلى الله عليه وسلم- من أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه، فقضت عائشة عليه بأنه لم يأخذ الحديث على وجهه مر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على يهودية يبكي عليها أهلها، فقال: "إنهم يبكون عليها وإنها تعذب في قبرها". فظن العذاب معلولًا للبكاء فظن الحكم عامًّا على كل ميت.
ومنها: اختلافهم في علة الحكم، مثاله: القيام للجنازة فقال قائل: لتعظيم الملائكة فيعم المؤمن والكافر، وقال قائل: لهول الموت فيعمهما، وقال الحسن بن علي -رضي الله عنهما: مر على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بجنازة يهودي فقام لها كراهية أن تعلو فوق رأسه فيخص الكافر.
ومنها: اختلافهم في الجمع بين المختلفين، مثاله: رخص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المتعة عام خيبر، ثم رخص فيها عام أوطاس، ثم نهى عنها، فقال ابن عباس: كانت الرخصة للضرورة، والنهي لانقضاء الضرورة، والحكم باق على ذلك، وقال الجمهور: كانت الرخصة إباحة والنهي نسخًا لها مثال آخر. نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن استقبال القبلة في الاستنجاء فذهب قوم إلى عموم هذا الحكم، وكونه غير منسوخ ورآه جابر يبول قبل أن يتوفى بعام مستقبل القبلة فذهب إلى أنه نسخ للنهي المتقدم، ورآه ابن عمر قضى حاجته مستدبر القبلة مستقبل الشام فرد به قولهم وجمع قوم بين الروايتين. فذهب الشعبي وغيره إلى أن النهي مختص بالصحراء، فإذا كان في المراحيض فلا بأس بالاستقبال والاستدبار، وذهب قوم إلى أن القول عام محكم، والفعل يحتمل كونه خاصًّا بالنبي -صلى الله عليه وسلم- فلا ينتهض ناسخًا ولا مخصصًا، وبالجملة فاختلفت مذاهب أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- وأخذ عنهم التابعون كذلك كل واحد ما تيسر له فحفظ ما سمع من حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومذاهب الصحابة وعقلها وجمع المختلف على ما تيسر له، ورجح بعض الأقوال على بعض واضمحل في نظرهم بعض الأقوال وإن كان مأثورًا عن كبار الصحابة كالمذهب المأثور عن عمر وابن مسعود في تيمم الجنب، اضمحل عندهم لما استفاض من الأحاديث عن عمار وعمران بن الحصين وغيرهما فعند ذلك صار لكل عالم من علماء التابعين مذهب على حياله فانتصب في بلد إمام مثل سعيد بن المسيب وسالم بن عبد الله بن عمر في المدينة، وبعدهما الزهري والقاضي يحيى بن سعيد وربيعة بن عبد الرحمن فيها، وعطاء بن أبي رباح بمكة وإبراهيم النخعي، والشعبي بالكوفة، والحسن البصري بالبصرة، وطاوس بن كيسان باليمن، ومكحول بالشام فأظمأ الله أكبادًا إلى علومهم فرغبوا فيها وأخذوا عنهم الحديث وفتاوي الصحابة، وأقاويلهم ومذاهب هؤلاء العلماء وتحقيقاتهم من عند أنفسهم واستفتي منهم المستفتون ودارت المسائل بينهم، ورفعت إليهم الأقضية وكان سعيد بن المسيب وإبراهيم وأمثالهما جمعوا أبواب الفقه أجمعها، وكان لهم في باب أصول تلقوها من السلف، وكان سعيد وأصحابه يذهبون إلى أن أهل الحرمين أثبت الناس في الفقه، وأصل مذهبهم فتاوي عبد الله بن عمر وعائشة وابن عباس وقضايا قضاة المدينة فجمعوا من ذلك ما يسره الله لهم ثم نظروا فيها نظر اعتبار وتفتيش فما كان منها مجمعًا عليه بين علماء المدينة فإنهم يأخذون عليه بنواجذهم، وما كان فيه اختلاف عندهم فإنهم يأخذون بأقواها وأرجحها إما بكثرة من ذهب إليه منهم، أو لموافقته بقياس قوي أو تخريج صريح من الكتاب والسنة أو نحو ذلك، وإذا لم يجدوا فيما حفظوا منه جواب المسألة خرجوا من كلامه، وتتبعوا الإيماء فحصل لهم مسائل كثيرة في كل باب.
وكان إبراهيم وأصحابه يرون أن عبد الله بن مسعود وأصحابه أثبت الناس في الفقه، كما قال علقمة لمسروق: هل أحد منهم أثبت من عبد الله؟ وقول أبي حنيفة -رضي الله عنه- للأوزاعي: إبراهيم أفقه من سالم، ولولا فضل الصحبة لقلت إن علقمة أفقه من عبد الله بن عمر، وعبد الله هو عبد الله.
وأصل مذهبه فتاوى عبد الله بن مسعود، وقضايا علي -رضي الله عنهما- وفتاواه وقضايا شريح وغيره من قضاة الكوفة فجمع من ذلك ما يسره الله ثم صنع في آثارهم كما صنع أهل المدينة في آثار أهل المدينة، وخرج كما خرجوا فلخص له مسائل الفقه في كل باب باب، وكان سعيد بن المسيب لسان فقهاء المدينة، وكان أحفظهم لقضايا عمر، ولحديث أبي هريرة وإبراهيم لسان فقهاء الكوفة فإذا تكلما بشيء، ولم ينسباه إلى أحد فإنه في الأكثر منسوب إلى أحد من السلف صريحًا وإيماء، ونحو ذلك فاجتمع عليهما فقهاء بلدهما، وأخذوا عنهما، وعقلوه وخرجوا عليه والله أعلم). [قواعد التحديث: 540-555]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (23- بيان أسباب اختلاف مذاهب الفقهاء:
قال الإمام ولي الله الدهلوي قدس سره في الحجة البالغة أيضًا تحت هذه الترجمة ما صورته: "اعلم أن الله تعالى أنشأ بعد عصر التابعين نشئًا من حملة العلم، إنجازًا لما وعده رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حيث قال: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله"، فأخذوا عمن اجتمعوا معه صفة الوضوء والغسل والصلاة والحج والنكاح والبيوع وسائر ما يكثر وقوعه ورووا حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- وسمعوا قضايا قضاة البلدان، وفتاوي مفتيها وسألوا عن المسائل، واجتهدوا في ذلك كله ثم صاروا كبراء قوم ووسدوا إليهم الأمر فنسجوا على منوال شيوخهم، ولم يألوا في تتبع الإيماءات والاقتضاءات فقضوا، وأفتوا ورووا وعلموا وكان صنيع العلماء في هذه الطبقة متشابهًا، وحاصل صنيعهم أن يتمسك بالمسند من حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمرسل جميعًا ويستدل بأقوال الصحابة والتابعين، علمًا منهم أنها إما أحاديث منقولة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اختصروها فجعلوها موقوفة كما قال إبراهيم، وقد روى حديث نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن المحاقلة والمزابنة فقيل له أما تحفظ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حديثًا غير هذا قال: بلي، ولكن أقول قال عبد الله قال علقمة أحب إلي، وكما قال الشعبي، وقد سئل عن حديث وقيل إنه يرفع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: لا عليّ من دون النبي -صلى الله عليه وسلم- أحب إلينا فإن كان فيه زيادة ونقصان كان على من دون النبي -صلى الله عليه وسلم- أو يكون استنباطًا منهم من المنصوص، أو اجتهادًا منهم بآرائهم وهم أحسن صنيعًا في كل ذلك ممن يجيء بعدهم، وأكثر إصابة وأقدم زمانًا وأوعى علمًا فتعين العمل بها إلا إذا اختلفوا وكان حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخالف قولهم مخالفة ظاهرة، وإنه إذا اختلفت أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مسألة رجعوا إلى أقوال الصحابة، فإن قالوا بنسخ بعضها أو بصرفه عن ظاهره أو لم يصرحوا بذلك ولكن اتفقوا على تركه، وعدم القول بموجبه فإنه كإبداء علة فيه، أو الحكم بنسخه أو تأويله اتبعوهم في كل ذلك، وهو قول مالك في حديث: "إذا ولغ الكلب": "جاء هذا الحديث ولكن لا أدري ما حقيقته" يعني حكاه ابن الحاجب في مختصر الأصول لم أر الفقهاء يعلمون به، وإنه إذا اختلفت مذاهب الصحابة في مسألة فالمختار عند كل عالم مذهب أهل بلده وشيوخه لأنه أعرف بصحيح أقاويلهم من السقيم وأوعى للأصول المناسبة لها، وقلبه أميل إلى فضلهم وتبحرهم فمذهب عمر وعثمان وابن عمر وعائشة وابن عباس وزيد بن ثابت وأصحابهم مثل سعيد بن المسيب فإنه كان أحفظهم لقضايا عمر وحديث أبي هريرة، ومثل عروة وسالم وعطاء بن يسار وقاسم وعبيد الله بن عبيد الله والزهري ويحيى بن سعيد وزيد بن أسلم وربيعة، أحق بالأخذ من غيره عند أهل المدينة لما بينه النبي -صلى الله عليه وسلم- في فضائل المدينة ولأنها مأوى الفقهاء ومجمع العلماء في كل عصر، ولذلك ترى مالكًا يلازم محجتهم ومذهب عبد الله بن مسعود وأصحابه وقضايا علي وشريح والشعبي وفتاوي إبراهيم أحق بالأخذ عند أهل الكوفة من غيره، وهو قول علقمة حين مال مسروق إلى قول زيد بن ثابت في التشريك، قال: هل أحد منكم أثبت من عبد الله؟ فقال: لا، ولكن رأيت زيد بن ثابت وأهل المدينة يشركون، فإن اتفق أهل البلد على شيء أخذوا بنواجذه وهو الذي يقول في مثله مالك: السنة التي لا اختلاف فيها عندنا كذا وكذا، وإن اختلفوا أخذوا بأقواها وأرجحها، إما بكثرة القائلين به، أو لموافقته لقياس قوي أو تخريج من الكتاب والسنة، وهو الذي يقول في مثله مالك: هذا أحسن ما سمعت فإذا لم يجدوا فيما حفظوا منهم جواب المسألة خرجوا من كلامهم، وتتبعوا الإيماء والاقتضاء وألهموا في هذه الطبقة التدوين فدون مالك، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب بالمدينة وابن جريج وابن عيينة بمكة، والثوري بالكوفة وربيع بن الصبيح بالبصرة، وكلهم مشوا على هذا المنهج الذي ذكرته، ولما حد المنصور قال لمالك قد عزمت أن آمر بكتبك هذه التي صنفتها فتنسخ ثم أبعث في كل مصر من أمصار المسلمين منها نسخة، وآمرهم بأن يعملوا بما فيها، ولا يتعدوه إلى غيره فقال يا أمير المؤمنين: لا تفعل هذا فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل، وسمعوا أحاديث ورووا روايات، وأخذ كل قوم بما سبق إليهم وأتوا به، من اختلاف الناس فدع الناس وما اختار أهل كل بلد منهم لنفسهم، ويحكي نسبة هذه القصة إلى هارون الرشيد، وأنه شاور مالكًا في أن يعلق الموطأ في الكعبة، ويحمل الناس على ما فيه فقال: لا تفعل فإن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اختلفوا في الفروع، وتفرقوا في البلدان وكل سنة مضت قال وفقك الله يا أبا عبد الله "حكاه السيوطي"
وكان مالك من أثبتهم في حديث المدنيين عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأوثقهم إسنادًا وأعلمهم بقضايا عمر وأقاويل عبد الله بن عمر وعائشة وأصحابهم من الفقهاء السبعة وبه وبأمثاله قام علم الرواية والفتوى، فلما وسد إليه الأمر حدث وأفتى وأجاد وعله انطبق قول النبي -صلى الله عليه وسلم: "يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل، يطلبون العلم فلا يجدون أحدًا أعلم من علام المدينة" على ما قاله ابن عيينة، وعبد الرزاق وناهيك بهما، فجمع أصحابه، رواياته، ومختاراته، ولخصوها، وحرروها وشرحوها وخرجوا عليها، وتكلموا في أصولها ودلائها وتفرقوا إلى المغرب، ونواحي الأرض فنفع الله بهم كثيرًا من خلقه، وإن شئت أن تعرف حقيقة ما قلناه من أصل مذهبه فانظر في كتاب الموطأ، تجده كما ذكرنا، وكان أبو حنيفة -رضي الله عنه- ألزمها بمذهب إبراهيم، وأقرانه لا يجاوزه إلا ما شاء الله، وكان عظيم الشأن في التخريج على مذهبه دقيق النظر في وجوه التخريجات مقبلًا على الفروع أتم إقبال، وإن شئت أن تعلم حقيقة ما قلنا فلخص أقوال إبراهيم وأقرانه من كتاب الآثار لمحمد رحمه الله، وجامع عبد الرزاق ومصنف أبي بكر بن أبي شيبة ثم قايسه بمذهبه تجده لا يفارق تلك المحجة إلا في مواضع يسيرة، وهو في تلك اليسيرة أيضًا لا يخرج عما ذهب إليه فقهاء الكوفة، وكان أشهر أصحابه ذكرًا أبو يوسف رحمه الله فولى قضاء القضاة أيام هارون الرشيد فكان سببًا لظهور مذهبه، والقضاء به في أقطار العراق وخراسان، وما وراء النهر. وكان أحسنهم تصنيفًا وألزمهم درسًا محمد بن الحسن، وكان من خبره أنه تفقه على أبي حنيفة وأبي يوسف، ثم خرج إلى المدينة فقرأ الموطأ على مالك ثم رجع إلى نفسه فطبق مذهب أصحابه على الموطأ مسألة مسألة فإن وافق فيها، وإلا فإن رأى طائفة من الصحابة والتابعين ذاهبين إلى مذهب أصحابه فكذلك، وإن وجد قياسًا ضعيفًا أو تخريجًا لينًا يخالفه حديث صحيح فيما عمل به الفقهاء، أو يخالفه عمل أكثر العلماء تركه إلى مذهب من مذاهب السلف ما يراه أرجح ما هناك، وهذان لا يزالان على محجة إبراهيم، وأقرانه ما أمكن لهما كما كان أبو حنيفة -رضي الله عنه- يفعل ذلك، وإنما كان اختلافهم في أحد شيئين إما أن يكون لشيخهما تخريج على مذهب إبراهيم يزاحمانه فيه، أو يكون هناك لإبراهيم ونظرائه أقوال مختلفة يخالفان شيخهما في ترجيح بعضها على بعض فصنف محمد رحمه الله، وجمع رأي هؤلاء الثلاثة، ونفع كثيرًا من الناس، فتوجه أصحاب أبي حنيفة -رضي الله عنه- إلى تلك التصانيف تلخيصًا وتقريبًا أو شرحًا أو تخريجًا، أو تأسيسًا أو استدلالًا ثم تفرقوا إلى خراسان، وما وراء النهر فيسمى ذلك مذهب أبي حنيفة "
ونشأ الشافعي في أوائل ظهور المذهبين وترتيب أصولهما وفروعهما فنظر في صنيع الأوائل فوجد فيه أمورًا كبحت عنانه عن الجريان في طريقهم، وقد ذكرها في أوائل كتاب الأم. منها: أنه وجدهم يأخذون بالمرسل والمنقطع فيدخل فيهما الخلل فإنه إذا جمع طرق الحديث يظهر أنه كم من مرسل لا أصل له، وكم من مرسل يخالف مسندًا فقرر أن لا يأخذ بالمراسيل إلا عند وجود شروط وهي مذكورة في كتب الأصول، ومنها أنه لم تكن قواعد الجمع بين المختلفات مضبوطة عندهم فكان يتطرق بذلك خلل في مجتهداتهم فوضع لها أصولًا، ودونها في كتاب وهذا أول تدوين كان في أصول الفقه مثاله ما بلغنا أنه دخل على محمد بن الحسن، وهو يطعن على أهل المدينة في قضائهم بالشاهد الواحد مع اليمين، ويقول هذا زيادة على كتاب الله فقال الشافعي: أثبت عندك أنه لا تجوز الزيادة على كتاب الله بخبر الواحد قال: نعم قال: فلم قلت: إن الوصية للوارث لا تجوز لقوله: "ألا لا وصية لوارث" وقد قال الله تعالى: {كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت} الآية، وأورد عليه أشياء من هذا القبيل، فانقطع كلام محمد بن الحسن.
ومنها: أن بعض الأحاديث الصحيحة لم يبلغ علماء التابعين ممن وسد إليهم الفتوى فاجتهدوا بآرائهم، واتبعوا العمومات واقتدوا بمن مضى من الصحابة فأفتوا حسب ذلك ثم ظهرت بعد ذلك في الطبقة الثالثة، فلم يعملوا بها ظنًّا منهم أنها تخالف عمل أهل مدينتهم، وسنتهم التي لا اختلاف لهم فيها، وذلك قادح في الحديث، وعلة مسقطة له أو لم تظهر في الثالثة، وإنما ظهرت بعد ذلك عندما أمعن أهل الحديث في جمع طرق الحديث، ورحلوا إلى أقطار الأرض، وبحثوا عن حملة العلم فكثر من الأحاديث ما لا يرويه من الصحابة إلا رجل، أو رجلان ولا يرويه عنه أو عنهما إلا رجل أو رجلان، وهلم جرا فخفي على أهل الفقه وظهر في عصر الحفاظ الجامعين لطرق الحديث كثير من الأحاديث رواه أهل البصرة مثلًا، وسائر الأقطار في غفلة منهن فبين الشافعي أن العلماء من الصحابة والتابعين لم يزل شأنهم أنهم يطلبون الحديث في المسألة فإذا لم يجدوا تمسكوا بنوع آخر من الاستدلال، ثم إذا ظهر عليهم الحديث بعد رجعوا من اجتهادهم إلى الحديث فإذا كان الأمر على ذلك، لا يكون عدم تمسكهم بالحديث قدحا فيه اللهم إلا إذا بينوا العلة القادحة مثاله حديث القلتين، فإنه حديث صحيح روي بطرق كثيرة معظمها يرجع إلى أبي الوليد بن كثير عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عبد الله، أو محمد بن عباد بن جعفر عن عبيد الله بن عبد الله كلاهما عن ابن عمر ثم تشعبت الطرق بعد ذلك، وهذان وإن كانا من الثقات لكنهما ليسا ممن وسد إليهم الفتوى وعول الناس عليهم فلم يظهر الحديث في عصر سعيد بن المسيب، ولا في عصر الزهري ولم يمش عليه المالكية، ولا الحنيفة فلم يعملوا به وعمل به الشافعي، وكحديث: "خيار المجلس" فإنه حديث صحيح روى بطرق كثيرة، وعمل به ابن عمر وأبو هريرة من الصحابة، ولم يظهر على الفقهاء السبعة ومعاصريهم فلم يكونوا يقولون به، فرأى مالك وأبو حنيفة هذه علة قادحة في الحديث، وعمل به الشافعي.
ومنها أن أقوال الصحابة جمعت في عصر الشافعي فتكثرت واختلفت وتشعبت، ورأى كثيرًا منها يخالف الحديث الصحيح حيث لم يبلغهم، ورأى السلف لم يزالوا يرجعون في مثل ذلك إلى الحديث فترك التمسك بأقوالهم، ما لم يتفقوا وقال: هم رجال ونحن رجال!
ومنها أنه رأى قومًا من الفقهاء يخلطون الرأي الذي لم يسوغه الشرع بالقياس الذي أثبته فلا يميزون واحدًا منها من الآخر، ويسمونه تارة بالاستحسان، وأعني بالرأي أن ينصب مظنة حرج أو مصلحة علة الحكم، وإنما القياس أن تخرج العلة من الحكم المنصوص، ويدار عليها الحكم فأبطل هذا النوع أتم إبطال، وقال: من استحسن فإنه أراد أن يكون شارعا -حكاه ابن الحاجب في مختصر الأصول- مثاله رشد اليتيم أمر خفي فأقاموا مظنة الرشد، وهو بلوغ خمس وعشرين سنة مقامه وقالوا: إذا بلغ اليتيم هذا العمر سلم إليه ماله قالوا: هذا استحسان، والقياس أن لا يسلم إليه، وبالجملة لما رأى في صنيع الأوائل مثل هذه الأمور أخذ الفقه من الرأس فأسس الأصول وفرع الفروع وصنف الكتب فأجاد وأفاد واجتمع عليه الفقهاء وتصرفوا اختصارًا وشرحا واستدلالا وتخريجا، ثم تفرقوا في البلدان، فكان هذا مذهبا للشافعي والله أعلم". اهـ). [قواعد التحديث: 555-568]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (24- بيان الفرق بين أهل الحديث وأصحاب الرأي:
قال الإمام ولي الله الدهلوي قدس سره تحت هذا العنوان في الحجة البالغة ما نصه: "اعلم أنه كان من العلماء في عصر سعيد بن المسيب، وإبراهيم والزهري، وفي عصر مالك وسفيان، وبعد ذلك يكرهون الخوص بالرأي، ويهابون الفتيا والاستنباط إلا لضرورة لا يجدون منها بدا. وكان أكبرهم رواية حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
سئل عبد الله بن مسعود عن شيء فقال: إني لأكره أن أحل لك شيئا حرمه الله عليك، أو أحرم ما أحله الله لك، وقال معاذ بن جبل: يا أيها الناس لا تعجلوا بالبلاء قبل نزوله، فإنه لم ينفك المسلمون أن يكون فيهم من إذا سئل سرد
وروي نحو ذلك عن عمر وعلي وابن عباس وابن مسعود في كراهة التكلم فيما لم ينزل، وقال ابن عمر لجابر بن زيد إنك من فقهاء البصرة فلا تفت إلا بقرآن ناطق أو سنة ماضية فإنك إن فعلت غير ذلك هلكت، وأهلكت، وقال أبو النصر لما قدم أبو سلمة البصرة أتيته أنا، والحسن فقال للحسن: أنت الحسن؟ ما كان أحد بالبصرة أحب إلى لقاء منك، وذلك أنه بلغني أنك تفتي برأيك فلا تفت برأيك إلا أن يكون سنة عن رسول أو كتابًا منزلا. وقال ابن المنكدر: إن العالم يدخل فيما بين الله وبين عبادة، فليطلب لنفسه المخرج، وسئل الشعبي: كيف كنتم تصنعون إذا سئلتم؟ قال: على الخبير، وقعت كان إذا سئل الرجل قال لصاحبه: أفتهم فلا يزال حتى يرجع إلى الأول. وقال الشعبي: ما حدثوك هؤلاء عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فخذ به وما قالوه برأيهم فألقه في الحش "أخرج هذه الآثار عن آخرها الدارمي".
"فوقع شيوع تدوين الحديث والأثر في بلدان الإسلام وكتابه الصحف والنسخ، حتى قل من يكون أهل الرواية إلا كان له تدوين أو صحيفة أو نسخة من حاجتهم، لموقع عظيم، فطاف من أدرك من عظائهم ذلك الزمان بلاد الحجاز والشام والعراق ومصر واليمن وخراسان وجمعوا الكتب، وتتبعوا النسخ وأمعنوا في التفحص غريب الحديث، ونوادر الأثر فاجتمع باهتمام أولئك من الحديث والآثار ما لم يجتمع لأحد قبلهم، ويتسر لهم ما لم يتيسر لأحد قبلهم، وخلص إليهم من طرق الأحاديث شيء كثير حتى كان يكثر من الأحاديث عندهم مائة طريق فما فوقها فكشف بعض الطرق ما استتر في بعضها الآخر، وعرفوا محل كل حديث من الغرابة والاستفاضة وأمكن لهم النظر في المتابعات والشواهد، وظهر عليهم أحاديث صحيحة كثيرة لم تظهر على أهل الفتوى من قبل قال الشافعي: لأحمد أنتم أعلم بالأخبار الصحيحة منا فإذا كان خبر صحيح فأعلموني حتى أذهب إليه كوفيًّا كان أو بصريًّا أو شاميًّا "حكاه ابن الهمام" وذلك لأنه كم من حديث صحيح لا يرويه إلا أهل بلد خاصة كأفراد الشاميين والعراقيين أو أهل بيت خاصة كنسخة بريد عن أبي بردة عن أبي موسى، ونسخة عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أو كان الصحابي مقلا خاملا لم يحمل عنه إلا شرذمة قليلون فمثل هذه الأحاديث يغفل عنها عامة أهل الفتوى، واجتمعت عندهم آثار فقهاء كل بلد من الصحابة والتابعين، وكان الرجل فيما قبلهم لا يتمكن إلا من جمع حديث بلده وأصحابه، وكان من قبلهم يعتمدون في معرفة أسماء الرجال ومراتب عدالتهم على ما يخلص إليهم من مشاهدة الحال، وتتبع القرائن وأمعنت هذه الطبقة في هذا الفن، وجعلوه شيئًا مستقلًّا بالتدوين والبحث، وناظروا في الحكم بالصحة وغيرها فانكشف عليهم بهذا التدوين والمناظرة ما كان خافيًا من حال الاتصال والانقطاع، وكان سفيان ووكيع وأمثالهما يجتهدون غاية الاجتهاد فلا يتمكنون من الحديث المرفوع المتصل إلا من دون ألف حديث كما ذكره أبو داود السجستاني في رسالته إلى أهل مكة، وكان أهل هذه الطبقة يروون أربعين ألف حديث فما يقرب منها بل صح عن البخاري أنه اختصر صحيحة من ستة آلاف حديث. وعن أبي داود أنه اختصر سننه من خمسة آلاف حديث، وجعل أحمد مسنده ميزانًا يعرف به حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم؛ فما وجد فيه ولو بطريق واحد منه! فله وإلا فلا أصل له، فكان رءوس هؤلاء عبد الرحمن بن مهدي ويحيى بن سعيد القطان ويزيد بن هارون وعبد الرزاق وأبو بكر بن أبي شيبة، ومسدد وهناد وأحمد بن حنبل وإسحاق بن واهويه، والفضل بن دكين وعلي المديني وأقرانهم، وهذه الطبقة هي الطراز الأول من طبقات المحدثين فرجع المحققون منهم بعد إحكام فن الرواية، ومعرفة مراتب الأحاديث إلى الفقه فلم يكن عندهم من الرأي أن يجمع على تقليد رجل ممن مضى مع ما يرون من الأحاديث والآثار المناقضة في كل مذهب من تلك المذاهب فأخذوا يتبعون أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- وآثار الصحابة والتابعين والمجتهدين على قواعد أحكموها في نفوسهم وأنا أبينها في كلمات يسيرة.
"كان عندهم أنه إذا وجد في المسألة قرآن ناطق فلا يجوز التحول إلى غيره، وإذا كان القرآن محتملًا لوجوه فالسنة قاضية عليه، فإذا لم يجدوا في كتاب الله أخذوا بسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سواء كان مستفيضًا دائرًا بين الفقهاء أو يكون مختصًّا بأهل بلد أو أهل بيت أو بطريق خاصة، وسواء عمل به الصحابة والفقهاء أو لم يعملوا به، ومتى كان في المسألة حديث فلا يتبع فيها خلاف أثر من الآثار، ولا اجتهاد أحد من المجتهدين وإذا فرغوا جهدهم في تتبع الأحاديث ولم يجدوا في المسألة حديثًا أخذوا بأقوال جماعة من الصحابة والتابعين، ولا يتقيدون بقوم دون قوم ولا بلد دون بلد كما كان يفعل من قبلهم فإن اتفق جمهور الخلفاء والفقهاء على شيء فهو المقنع، وإن اختلفوا أخذوا بحديث أعلمهم علمًا وأورعهم ورعًا أو أكثرهم ضبطًا أو ما اشتهر عنهم، فإن وجدوا شيئًا يستوي فيه قولان فهي مسألة ذات قولين فإن عجزوا عن ذلك أيضًا تأملوا في عمومات الكتاب والسنة وإيماءاتهما واقتضاءاتهما، وحملوا نظير المسألة عليها في الجواب إذا كانتا متقاربتين بادي الرأي لا يعتمدون في ذلك على قواعد من الأصول، ولكن ما يخلص إلى الفهم ويثلج به الصدر كما أنه ليس ميزان التواتر عدد الرواة، ولا حالهم ولكن اليقين الذي يعقبه في قلوب الناس. وكانت هذه الأصول مستخرجه عن صنيع الأوائل وتصريحاتهم، وعن ميمون بن مهران قال: كان أبو بكر إذا ورد عليه الخصم نظر في كتاب الله، فإن وجد فيه ما يقضي بينهم قضى به، وإن لم يكن في الكتاب وعلم من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ذلك الأمر سنة قضى بها، فإن أعياه خرج فسأل المسلمين وقال: أتاني كذا وكذا فهل علمتم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قضى في ذلك بقضاء؟ فربما اجتمع إليه النفر كلهم يذكر من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيه قضاء فيقول أبو بكر: الحمد لله الذي جعل فينا من يحفظ على نبينا؛ فإن أعياه أن يجد فيه سنة من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جمع رءوس الناس وخيارهم فاستشارهم فإذا اجتمع رأيهم على أمر قضى به، وعن شريح أن عمر بن الخطاب كتب إليه: "إن جاءك شيء في كتاب الله فاقض به. ولا يلفتك عنه الرجال، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله ولم يكن فيه سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم يتكلم فيه أحد قبلك فاختر أي الأمرين شئت إن شئت أن تجتهد برأيك ثم تتقدم فتقدم، وإن شئت أن تتأخر فتأخر ولا أرى التأخر إلا خيرًا لك، وعن عبد الله بن مسعود قال أتى علينا زمان لسنا نقضي، ولسنا هنالك وإن الله قد قدر من الأمر أن قد بلغنا ما ترون فمن عرض له قضاء بعد اليوم فليقض فيه بما في كتاب الله عز وجل فإن جاءه ما ليس في كتاب الله فليقض بما قضى به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإن جاءه ما ليس في كتاب الله، ولم يقض به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فليقض بما قضى به الصالحون ولا يقل إني أخاف وإني أرى فإن الحرام بين والحلال بين، وبين ذلك أمور مشتبهة فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك" وكان ابن عباس إذا سئل عن الأمر، فإن كان في القرآن أخبر به وإن لم يكن في القرآن، وكان عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أخبر به، وإن لم يكن فعن أبي بكر وعمر، فإن لم يكن قال فيه برأيه.
عن ابن عباس أما تخافون أن تعذبوا أو يخسف بكم أن تقولوا: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وقال فلان، عن قتاده قال حدث ابن سيرين رجلًا بحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال الرجل: قال فلان كذا وكذا ...، فقال ابن سيرين: أحدثك عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ويقول: قال فلان كذا وكذا عن الأوزاعي، قال: كتب عمر بن عبد العزيز أنه لا رأي لأحد في كتاب الله، وإنما رأي الأئمة فيما لم ينزل فيه كتاب، ولم تمض فيه سنة من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا رأي لأحد في سنة سنها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الأعمش قال كان إبراهيم يقول: يقوم عن يساره، فحدثته عن سميع الزيات عن ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أقامه عن يمينه، فأخذ به. عن الشعبي: جاءه رجل يسأله عن شيء فقال: كان ابن مسعود يقول فيه كذا وكذا، قال: أخبرني أنت برأيك، فقال: ألا تعجبون من هذا؟ أخبرته عن ابن مسعود ويسألني عن رأيي! وديني عندي آثر من ذلك! والله لأن أتغنى بأغنية أحب إليّ من أن أخبرك برأيي. "أخرج هذه الآثار كلها الدارمي".
وأخرج الترمذي عن أبي السائب، قال: كنا عند وكيع فقال لرجل ممن ينظر في الرأي: أشعر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويقول أبو حنيفة: "هو مثله" قال الرجل: فإنه قد روى عن إبراهيم النخعي أنه قال: الإشعار مثله، قال: رأيت وكيعًا غضب غضبًا شديدًا وقال أقول لك قال: رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتقول: قال إبراهيم؟! ما أحقك بأن تحبس ثم لا تخرج حتى تنزع عن قولك هذا!!
عن عبد الله بن عباس وعطاء ومجاهد ومالك بن أنس -رضي الله عنهم- أنهم كانوا يقولون: ما من أحد إلا وهو مأخوذ من كلامه ومردود عليه إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
"وبالجملة فلما مهدوا الفقه على هذه القواعد، فلم تكن مسألة من المسائل التي تكلم فيها من قبلهم، والتي وقعت في زمانهم إلا وجدوا فيها حديثًا مرفوعًا متصلًا أو مرسلًا أو موقوفًا، صحيحًا أو حسنًا أو صالحًا للاعتبار، أو وجدوا أثرًا من آثار الشيخين، أو سائر الخلفاء وقضاة الأمصار، وفقهاء البلدان، أو استنباطًا من عموم، أو إيماء أو اقتضاء، فيسر الله لهم العمل بالنسبة على هذا الوجه، وكان أعظمهم شأنًا وأوسعهم رواية، وأعرفهم للحديث مرتبة، وأتمهم فقهًا أحمد بن محمد بن حنبل ثم إسحاق بن راهويه، وكان ترتيب الفقه على هذا الوجه يتوقف على جمع شيء كثير من الأحاديث والآثار.
"ثم أنشأ الله تعالى قرنًا آخر، فرأوا أصحابهم قد كفوا مئونة جمع الأحاديث، وتمهيد الفقه على أصلهم فتفرغوا لفنون أخرى، كتمييز الحديث الصحيح المجمع عليه بين كبراء أهل الحديث كزيد بن هارون، ويحيى بن سعيد القطان، وأحمد، وإسحاق، وأضرابهم، وكجمع أحاديث الفقه التي بنى عليها فقهاء الأمصار وعلماء البلدان مذاهبهم، وكالحكم على كل حديث بما يستحقه، وكالشاذة والفاذة من الأحاديث التي لم يرووها، أو طرقها التي لم يخرجوها من جهتها الأوائل، مما فيه اتصال أو علو سند أو رواية فقيه عن فقيه أو حافظ عن حافظ، ونحو ذلك من المطالب العلمية، وهؤلاء هم: البخاري ومسلم وأبو داود وعبد الله بن حميد والدارمي وابن ماجه وأبو يعلى والترمذي والنسائي والدارقطني والحاكم والبيهقي والخطيب والديلمي وابن عبد البر وأمثالهم. وكان أوسعهم علمًا عندي، وأنفعهم تصنيفًا وأشهرهم ذكرًا رجال أربعة، متقاربون في العصر:
أولهم: أبو عبد الله البخاري، وكان غرضه تجريد الأحاديث الصحاح المستفيضة المتصلة من غيرها، واستنباط الفقه والسيرة والتفسير منها، فصنف جامعه الصحيح، ووفى بما شرط. وبلغنا أن رجلًا من الصالحين رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في منامه وهو يقول: مالك اشتغلت بفقه محمد بن إدريس وتركت كتابي؟ قال: يا رسول الله وما كتابك؟ قال: صحيح البخاري. ولعمري! إنه نال من الشهرة والقبول درجة لا يرام فوقها.
وثانيهم: مسلم النيسابوري توخى تجريد الصحاح المجمع عليها بين المحدثين المتصلة المرفوعة، مما يستنبط منه السنة، وأراد تقريبها إلى الأذهان، وتسهيل الاستنباط منها، فرتب ترتيبًا جيدًا وجمع طرق كل حديث في موضع واحد ليتضح اختلاف المتن، وتشعب الأسانيد أصرح ما يكون، وجمع بين المختلفات، فلم يدع لمن له معرفة لسان العرب عذرًا في الإعراض عن السنة إلى غيرها.
وثالثهم: أبو داود السجستاني، وكان همته جمع الأحاديث التي استدل بها الفقهاء ودارت فيهم، وبنى عليها الأحكام علماء الأمصار، فصنف سننه، وجمع فيها الصحيح والحسن واللين والصالح للعمل. قال أبو داود: "ما ذكرت في كتابي حديثًا أجمع الناس على تركه" وما كان منها ضعيفًا صرح بضعفه، وما كان فيه علة بينهما بوجه يعرفه الخائض في هذا الشأن. وترجم على كل حديث بما قد استنبط منه عالم وذهب إليه ذاهب، ولذلك صرح الغزالي وغيره بأن كتابه كافٍ للمجتهد.
ورابعهم: أبو عيسى الترمذي، وكأنه استحسن طريقة الشيخين حيث بينا وما أبهما، وطريقة أبي داود حيث جمع كل ما ذهب إليه ذاهب، فجمع كلتا الطريقتين وزاد عليهما بيان مذاهب الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار، فجمع كتابًا جامعًا، واختصر طرق الحديث اختصارًا لطيفًا، فذكر واحدًا، وأومأ إلى ما عداه، وبين أمر كل حديث من أنه صحيح أو حسن أو ضعيف أو منكر وبين وجه الضعف، ليكون الطالب على بصيرة من أمره، فيعرف ما يصلح للاعتبار عما دونه. وذكر أنه مستفيض أو غريب. وذكر مذاهب الصحابة وفقهاء الأمصار، وسمى من يحتاج إلى التسمية، وكنى من يحتاج إلى الكنية، ولم يدع خفاء لمن هو من رجال العلم؛ ولذلك يقال: إنه كاف للمجتهد، مغن للمقلد.
"وكان بإزاء هؤلاء في عصر مالك وسفيان وبعدهم قوم لا يكرهون المسائل، ولا يهابون الفتيا، ويقولون: على الفقه بناء الدين، فلا بد من إشاعته، ويهابون رواية حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والرافع إليه، حتى قال الشعبي: على من دون النبي -صلى الله عليه وسلم- أحب إلينا، فإن كان فيه زيادة أو نقصان، كان على من دون النبي -صلى الله عليه وسلم. وقال إبراهيم: أقول: قال عبد الله وقال علقمة أحب إلينا. وكان ابن مسعود إذا حدث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تربد وجهه وقال: هكذا أو نحوه. وقال عمر حين بعث رهطًا من الأنصار إلى الكوفة: إنكم تأتون الكوفة فتأتون قومًا لهم أزيز بالقرآن، فيأتونكم فيقولون: قد أصحاب محمد، فيأتونكم، فيسألونكم عن الحديث، فأفلوا الرواية عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم. قال ابن عون: كان الشعبي إذا جاءه شيء اتقى، وكان إبراهيم يقول ويقول "أخرج هذه الآثار الدارمي".
"فوقع تدوين الحديث والفقه أو المسائل من حاجتهم بموقع من وجه آخر، وذلك أنه لم يكن عندهم من الأحاديث والآثار ما يقدرون به على استنباط الفقه على الأصول التي اختارها أهل الحديث، ولم تنشرح صدورهم للنظر في أقول علماء البلدان وجمعها والبحث عنها، واتهموا أنفسهم في ذلك، وكانوا اعتقدوا في أتمتهم أنهم في الدرجة العليا من التحقيق، وكان قلوبهم أميل شيء إلى أصحابهم، كما قال علقمة: هل أحد منهم أثبت من عبد الله؟ وقال أبو حنيفة: إبراهيم أفقه من سالم، ولولا فضل الصحبة لقلت: علقمة أفقه من ابن عمر؛ وكان عندهم من الفطانة والحدس وسرعة انتقال الذهن من شيء إلى شيء ما يقدرون به على تخريج جواب المسائل على أقوال أصحابهم، و "كل ميسر لما خلق له" و{كلّ حزبٍ بما لديهم فرحون} فمهدوا الفقه على قاعدة التخريج، وذلك أن يحفظ كل أحد كتاب من هو لسان أصحابه وأعرفهم بأقوال القوم، وأصحهم نظرًا في الترجيح، فيتأمل في كل مسألة وجه الحكم، فكلما سئل عن شيء أو احتاج إلى شيء، رأي فيما يحفظه من تصريحات أصحابه، فإن وجد الجواب فيها، وإلا نظر إلى عموم كلامهم، فأجراه على هذا الصورة أو إشارة ضمنية لكلام، فاستنبط منها، وربما كان لبعض الكلام إيمان أو اقتضاء يفهم المقصود، وربما كان للمسألة المصرح بها نظير يحمل عليها، وربما نظروا في علة الحكم المصرح به بالتخريج أو باليسر والحذف، فأداروا حكمه على غير المصرح به، وربما كان له كلامان، لو اجتمعا على هيئة القياس الاقتراني أو الشرطي، أنتجا جواب المسألة؛ وربما كان في كلامهم ما هو معلوم بالمثال والقسمة، غير معلوم بالحد الجامع المانع، فيرجعون إلى أهل اللسان، ويتكلفون في تحصيل ذاتياته، وترتيب حد جامع مانع له، وضبط مبهمه، وتمييز مشكله، وربما كان كلامهم محتملًا بوجهين، فينظرون في ترجيح أحد المحتملين، وربما يكون تقريب الدلائل خفيًّا، فيبينون ذلك؛ وربما استدل بعض المخرجين من فعل أئمتهم وسكوتهم ونحو ذلك، فهذا هو التخريج، ويقال له: القول المخرج لفلان كذا على مذهب فلان أو على أصل فلان، أو على قول فلان، وجواب المسألة كذا وكذا، ويقال لهؤلاء: المجتهدون في المذهب، وعنى هذا الاجتهاد على هذا الأصل من قال: من حفظ المبسوط كان مجتهدًا! أي: وإن لم يكن له علم برواية أصلًا، ولا بحديث واحد، فوقع التخريج في كل مذهب وكثر، فأي مذهب كان أصحابه مشهورين وسد إليهم القضاء والإفتاء، واشتهر تصانيفهم في الناس، ودرسوا درسًا ظاهرًا انتشر في أقطار الأرض. ولم يزل ينشر كل حين، وأي مذهب كان أصحابه خاملين، ولم يولوا القضاء والإفتاء، ولم يرغب فيهم الناس اندرس بعد حين". اهـ). [قواعد التحديث: 569-583]