11 Oct 2022
الدرس السابع عشر: بيان أن العبرة باتباع الدليل
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (25- بيان حال الناس في الصدر الأول وبعده:
قال الإمام أبو زيد الدبوسي رحمه الله تعالى في تقويم الأدلة: "كان الناس في الصدر الأول أعني: الصحابة والتابعين والصالحين يبنون أمورهم على الحجة، فكانوا يأخذون بالكتاب ثم بالسنة، ثم بأقوال من بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما يصح بالحجة؛ فكان الرجل يأخذ بقول عمر في مسألة، ثم يخالفه بقول علي في مسألة أخرى. وقد ظهر من أصحاب أبي حنيفة أنهم وافقوا مرة، وخالفوه أخرى، بحسب ما تتضح لهم الحجة، ولم يكن المذهب في الشريعة عمريًّا، ولا علويًّا، بل النسبة كانت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكانوا قرونًا أثنى عليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالخير، فكانوا يرون الحجة لا علماءهم ولا نفوسهم، فلما ذهبت التقوى عن عامة القرن الرابع، وكسلوا عن طلب الحجج، جعلوا علماءهم حجة واتبعوهم، فصار بعضهم حنفيًّا، وبعضهم مالكيًّا، وبعضهم شافعيًّا، ينصرون الحجة بالرجال، ويعتقدون الصحة بالميلاد على ذلك المذهب، ثم كان قرن بعدهم اتبع عالمه كيف ما أصابه بلا تمييز، حتى تبدلت السنن بالبدع، فضل الحق بين الهوى". اهـ.
وقال العلامة الدهلوي في الحجة البالغة، في باب حكاية حال الناس قبل المائة الرابعة وبعدها: "اعلم أن الناس كانوا قبل المائة الرابعة غير مجتمعين على التقليد الخالص لمذهب واحد بعينه. قال أبو طالب المكي في قوت القلوب: إن الكتب والمجموعات محدثة، والقول بمقالات الناس، والفتيا بمذهب الواحد من الناس، واتخاذ قوله، والحكاية له من كل شيء، والتفقه على مذهبه، لم يكن الناس قديمًا على ذلك في القرنين الأول والثاني". اهـ.
قال الدهلوي قدس سره: "وبعد القرنين، حدث فيهم شيء من التخريج، غير أن أهل المائة الرابعة لم يكونوا مجتمعين على التقليد الخالص على مذهب واحد والتفقه له، والحكاية لقوله كما يظهر من التتبع، بل كان فيهم العلماء والعامة، وكان من خبر العامة أنهم كانوا في المسائل الإجماعية التي لا اختلاف فيها بين المسلمين أو جمهور المجتهدين لا يقلدون إلا صاحب الشرع، وكانوا يتعلمون من الوضوء والغسل والصلاة والزكاة ونحو ذلك من آبائهم أو معلمي بلدانهم، فيمشون حسب ذلك، وإذا وقعت لهم واقعة استفتوا فيها أي مفت وجدوا من غير تعيين مذهب، وكان من خبر الخاصة أنه كان أهل الحديث منهم يشتغلون بالحديث، فيخلص إليهم من أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- وآثار الصحابة ما لا يحتاجون معه إلى شيء آخر في المسألة من حديث مستفيض أو صحيح قد عمل به بعض الفقهاء، ولا عذر لتارك العمل به، أو أقوال متظاهرة لجمهور الصحابة والتابعين، مما لا يحسن مخالفتها، فإن لم يجد -أي أحدهم- في المسألة ما يطمئن به قلبه، لتعارض النقل وعدم وضوح الترجيح، ونحو ذلك، رجع إلى كلام بعض من مضى من الفقهاء، فإن وجد قولين اختار أوثقهما؟ سواء كان من أهل المدينة أو من أهل الكوفة، وكان أهل التخريج منهم يخرجون فيما لا يجدونه مصرحًا، ويجتهدون في المذهب، وكان هؤلاء ينسبون إلى مذهب أصحابهم فيقال: فلان شافعي، وفلان حنفي، وكان صاحب الحديث أيضًا قد ينسب إلى أحد المذهب لكثرة موافقته له، كالنسائي والبيهقي، ينسبان إلى الشافعي، فكان لا يتولى القضاء ولا الإفتاء إلا مجتهد، ولا يمسى الفقيه إلا مجتهد، ثم بعد هذه القرون، كان ناس آخرون ذهبوا يمينًا وشمالًا وحدث فيهم أمور، منها الجدل والخلاف في علم الفقه. وتفصيله على ما ذكره الغزالي أنه لما انقرض عهد الخلفاء الراشدين المهديين أفضت الخلافة إلى قوم تولوهم بغير استحقاق ولا استقلال بعلم الفتاوى والأحكام، فاضطروا إلى الاستعانة بالفقهاء، وإلى استصحابهم في جميع أحوالهم، وقد كان بقي من العلماء من هو مستمر على الطراز الأول، وملازم صفو الدين، فكانوا إذا طلبوا هربوا أو أعرضوا، فرأى أهل تلك الأعصار عز العلماء، وإقبال الأئمة عليهم، مع إعراضهم، فاشرأبوا بطلب العلم توصلًا إلى نيل العز، ودرك الجاه، فأصبح الفقهاء، بعد أن كانوا مطلوبين طالبين، وبعد أن كانوا أعزة بالإعراض عن السلاطين، أذلة بالإقبال عليهم، إلا من وفقه الله. وقد كان من قبلهم قد صنف ناس في علم الكلام، وأكثروا القال والقيل، والإيراد والجواب، وتمهيد طرق الجدل. فوقع ذلك منهم بموقع من قبل أن كان من الصدور والملوك من مالت نفسه إلى المناظرة في الفقه، وبيان الأولى من مذهب الشافعي وأبي حنيفة رحمه الله، فترك الناس الكلام وفنون العلم وأقبلوا على المسائل الخلافية بين الشافعي وأبي حنيفة رحمه الله على الخصوص، وتساهلوا في الخلاف مع مالك وسفيان وأحمد بن حنبل وغيرهم، وزعموا أن غرضهم استنباط دقائق الشرع، وتقرير علل المذهب، وتمهيد أصول الفتاوى، وأكثروا فيها التصانيف والاستنباطات، ورتبوا فيها أنواع المجادلات والتصنيفات، وهم مستمرون عليه إلى الآن، لسنا ندري ما الذي قدر الله تعالى فيما بعدها من الأعصار، انتهى حاصله. ومنها: أنهم أطمأنوا بالتقليد ودب التقليد في صدروهم دبيب النمل، وهم لا يشعرون. وكان سبب ذلك تزاحم الفقهاء وتجادلهم فيما بينهم، فإنهم لما وقعت المزاحمة في الفتوى، كان كل من أفتى بشيء نوقض في فتواه ورد عليهم، فلم ينقطع الكلام إلا بمصير إلى تصريح رجل من المتقدمين في المسألة. وأيضًا جوز القضاة، فإن القضاة لما جار أكثرهم، ولم يكونوا أمناء لم يقبل منهم إلا ما لا يريب العامة فيه، ويكون شيئًا قد قيل من قبل. وأيضًا جهل رءوس الناس، واستفتاء الناس من لا علم له بالحديث، ولا بطريق التخريج كما ترى ذلك ظاهرًا في أكثر المتأخرين، وقد نبه عليه ابن الهمام وغيره، وفي ذلك الوقت يسمى غير المجتهد فقيهًا. ومنها: أن أقبل أكثرهم على التعمقات في كل فن، فمنهم من زعم أنه يؤسس علم أسماء الرجال، ومعرفة مراتب الجرح والتعديل ثم خرج من ذلك إلى التاريخ: قديمه وحديثه.
ومنهم من تفحص من نوادر الأخبار وغرائبها، وإن دخلت في حد الموضوع. ومنهم من أكثر القال والقيل في أصول الفقه، واستنبط كل لأصحابه قواعد جدلية، فأورد فاستقصى، وأجاب وتفصى، وعرف، وقسم، فحرر، طول الكلام تارة، وتارة اختصر.
ومنهم من ذهب إلى هذا بفرض الصورة المستبعدة التي من حقها أن لا يتعرض لها عاقل، وبفحص العمومات والإيماءات من كلام المخرجين فمن دونهم، مما لا يرتضي استماعه عالم ولا جاهل. وفتنة هذا الجدل والخلاف والتعمق، قريبة من الفتنة الأولى حين تشاجروا في الملك، وانتصر كل رجل لصاحبه: فكما أعقبت تلك ملكًا عضوضًا، ووقائع صماء عمياء، فكذلك أعقبت هذه جهلًا واختلاطًا وشكوكًا ووهمًا ما لها من إرجاء.
فنشأت بعدهم قرون على التقليد الصرف، لا يميزون الحق من الباطل، ولا الجدل من الاستنباط.
فالفقيه يومئذ هو الثرثار المتشدق الذي حفظ أقول الفقهاء، قويها وضعيفها، من غير تمييز، وسردها بشقشقة شدقيه. والمحدث من عد الأحاديث، صحيحها وسقيمها، وهذها كهذ الأسمار بقولة لحييه.
ولا أقول ذلك كليًّا مطردًا، فإن لله طائفة من عباده، لا يضرهم من خذلهم، وهم حجة الله في أرضه، وإن قلوا.
"ولم يأت قرن بعد ذلك إلا هو أكثر فتنة، وأوفر تقليدًا، وأشد انتزاعًا للأمانة من صدور الرجال، حتى اطمأنوا بترك الخوض في أمر الدين، وبأن يقولوا: {إنّا وجدنا آباءنا على أمّةٍ وإنّا على آثارهم مهتدون} وإلى الله المشتكى، وهو المستعان، وبه الثقة وعليه التكلان" انتهى كلام ولي الله الدهلوي، وقد سبقه إلى كشف هذه الأسرار الشيخ الأكبر قدس سره في الفتوحات المكية حيث قال في الباب الثامن عشر وثلاثمائة في معرفة منزل نسخ الشريعة المحمدية وغير المحمدية، بالأغراض النفسية -عافانا الله وإياكم من ذلك ما نصه بعد أبيات صدر بها هذا الباب:
"اعلم -وقفنا الله وإياك- أيها الولي الحميم، والصفي الكريم، أنا روينا في هذا الباب عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- أن رجلًا أصاب من عرضه، فجاء إليه يستحله من ذلك، فقال له: يا ابن عباس! إنني قد نلت منك، فاجعلني في حل من ذلك.
فقال: أعوذ بالله أن أحل ما حرم الله! إن الله قد حرم أعراض المسلمين، فلا أحله، ولكن غفر الله لك. فانظر: ما أعجب هذا التصريف، وما أحسن العلم. ومن هذا الباب خلف الإنسان على ما أبيح له فعله أن لا يفعله، أو يفعله، ففرض الله تحلة الإيمان، وهو من باب الاستدراج والمكر الإلهي، إلا لمن عصمة الله بالتنبيه عليه، فما ثم شارع إلا الله تعالى، قال لنبيه -صلى الله عليه وسلم: {لتحكم بين النّاس بما أراك اللّه} ولم يقل له: "بما رأيت".
بل عاتبه سبحانه وتعالى، لما حرم على نفسه باليمين، في قضية عائشة وحفصة، فقال تعالى: {يا أيّها النّبيّ لم تحرّم ما أحلّ اللّه لك تبتغي مرضاة أزواجك}؟ فكان هذا ما أرته نفسه. فهذا يدلك أن قوله تعالى: {بما أراك اللّه} أنه ما يوحى به إليه، لا ما يره في رأيه. فلو كان الدين بالرأي لكان رأي النبي -صلى الله عليه وسلم- أولى من رأي كل ذي رأي، فإذا كان هذا حال النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما رأته نفسه فكيف رأي من ليس بمعصوم؟ ومن الخطأ أقرب إليه من الإصابة؟ فدل أن الاجتهاد الذي ذكره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إنما هو في طلب الدليل على تعيين الحكم في المسألة الواقعة، لا في تشريع حكم في النازلة. فإن ذلك شرع لم يأذن به الله. ولقد أخبرني القاضي عبد الوهاب الأسدي الإسكندري بمكة المشرفة سنة تسع وتسعين وخمسمائة قال: رأيت رجلًا من الصالحين بعد موته في المنام، فسألته ما رأيت؟ فذكر أشياء؛ منها: قال: ولقد رأيت كتبًا موضوعة، وكتبًا مرفوعة، فسألت ما هذه الكتب المرفوعة؟ فقيل لي: هذه كتب الحديث. فقلت: وما هذه الكتاب الموضوعة؟ فقيل لي: هذه كتب الرأي، حتى يسأل عنها أصحابها. فرأيت الأمر فيه شدة.
اعلم -وفقنا الله وإياك- أن الشريعة، هي المحجة الواضحة البيضاء، محجة السعداء، وطريق السعادة، من مشي عليها نجا، ومن تركها هلك، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما أنزل عليه قوله تعالى: {وأنّ هذا صراطي مستقيمًا فاتّبعوه} خط رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الأرض خطًّا، وخط خطوطًا على جانبي الخط، يمينًا وشمالًا، ثم وضع -صلى الله عليه وسلم- إصبعه على الخط، وقال تاليًا: {وأنّ هذا صراطي مستقيمًا فاتّبعوه ولا تتّبعوا السّبل} وأشار إلى تلك الخط المستقيم. ولقد أخبرني بمدينة "سلا" -مدينة بالمغرب على شاطئ البحر المحيط، يقال لها: منقطع التراب، ليس وراءها أرض- رجل من الصالحين الأكابر من عامة الناس، قال: رأيت في النوم محجة بيضاء مستوية، عليها نور سهلة، ورأيت عن يمين تلك المحجة وشمالها خنادق وشعابًا وأودية، كلها شوك، لا تسلك لضيقها، وتوعر مسالكها، وكثرة شوكها، والظلمة التي فيها، ورأيت جميع الناس يخطبون فيها خبط عشواء، ويتركون المحجة البيضاء السهلة، وعلى المحجة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونفر قليل معه يسير وهو ينظر إلى من خلفه، وإذا في الجماعة متأخر عنها، لكنه عليها، الشيخ أبو إسحاق إبراهيم بن قرقور المحدث، كان سيدًا فاضلًا في الحديث، اجتمعت بابنه، فكان يفهم عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه يقول له: ناد في الناس بالرجوع إلى الطريق، فكان ابن قرقور يرفع صوته ويقول في ندائه، ولا من داع، ولا من متداع: "هلموا إلى الطريق هلموا" قال: فلا يجيبه أحد، ولا يرجع إلى الطريق أحد.
واعلم أنه لما غلبت الأهواء على النفوس، وطلبت العلماء المراتب عند الملوك، تركوا المحجة البيضاء وجنحوا إلى التأويلات البعيدة لينفذوا أغراض الملوك فيما لهم فيه هوى نفس ليستندوا في ذلك إلى أمر شرعي مع كون الفقيه ربما لا يعتقد ذلك، ويفتي به، وقد رأينا منهم جماعة على هذا من قضاتهم، وفقهائهم ولقد أخبرني الملك الظاهر غازي ابن الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب -وقد وقع بيني وبينه في مثل هذا كلام- فنادى بمملوك وقال: جئني بالحرمدان فقلت: ما شأن الحرمدان قال: أنت تنكر على ما يجري في بلدي، ومملكتي من المنكرات والظلم وأنا والله أعتقد مثل ما تعتقد أنت فيه من أن ذلك كله منكر، ولكن والله يا سيدي ما منه منكر إلا بفتيا فقيه، وخط يده عندي بجواز ذلك فعليهم لعنة الله، ولقد أفتاني فقيه هو فلان -وعين لي أفضل فقيه عنده في بلده في الدين والتقشف- بأنه لا يجب عليّ صوم شهر رمضان هذا بعينه، بل الواجب على شهر في السنة، والاختيار لي فيه أي شهر شئت من شهور السنة، قال السلطان فلعنته في باطني، ولم أظهر له ذلك -وهو فلان فسماه لي- رحم الله جمعيهم.
"فليعلم أن الشيطان قد مكنه الله من حضرة الخيال، وجعل له سلطانا فيها فإذا رأى أن الفقيه يميل إلى هوى يعرف أنه لا يرضى عند الله زين له سوء عمله بتأويل غريب، يمهد له فيه، وجها يحسنه في نظره ويقول له: إن الصدر الأول قد دانوا الله بالرأي، وقاس العلماء في الأحكام واستنبطوا العلل للأشياء فطردوها، وحكموا في المسكوت عنه بما حكموا به في المنصوص عليه، للعلة الجامعة بينهما، والعلة من استنباطه فإذا مهد له هذا السبيل جنح إلى نيل هواه، وشهوته بوجه شرعي في زعمه فلا يزال هكذا فعله في كل ماله أو لسلطانه فيه هو نفس ويرد الأحاديث النبوية، ويقول لو أن هذا الحديث يكون صحيحًا وإن كان صحيحًا يقول لو لم يكن له خبر آخر يعارضه، وهو ناسخ له لقال به الشافعي إن كان هذا الفقيه شافعيًّا -أو قال به أبو حنيفة- إن كان الرجل حنفيًّا وهكذا قول أتباع هؤلاء الأئمة كلهم، ويرون أن الحديث والأخذ به مضلة وأن الواجب تقليد هؤلاء الأئمة وأمثالهم فيما حكموا به، وإن عارضت أقوالهم الأخبار النبوية، فالأولى الرجوع إلى أقاويلهم وترك الأخذ بالأخبار والكتاب والسنة فإن قلت لهم قد روينا عن الشافعي -رحمه الله- أنه قال: إذا أتاكم الحديث يعارض قولي فاضربوا بقولي الحائط، وخذوا بالحديث فإن مذهبي الحديث، وقد روينا عن أبي حنيفة أنه قال لأصحابه: حرام على كل من أفتى بكلامي ما لم يعرف دليلي، وما روينا شيئًا من هذا عن أبي حنيفة إلا من طريق الحنفيين، ولا عن الشافعي إلا من طريق الشافعية، وكذلك المالكية والحنابلة فإذا ضايقهم في مجال الكلام هربوا وسكنوا، وقد جرى لنا هذا معهم مرارًا بالمغرب وبالمشرق فما منهم أحد على مذهب من يزعم أنه على مذهبه فقد انتسخت الشريعة بالأهواء، وإن كانت الأخبار الصحاح موجودة مسطرة في الكتب الصحاح، وكتب التواريخ بالتجريح والتعديل موجودة والأسانيد محفوظة مصونة من التغيير والتبديل، ولكن إذا ترك العمل بها، واشتغل الناس بالرأي ودانوا أنفسهم بفتاوى المتقدمين مع معارضة الأخبار الصحاح لها فلا فرق بين عدمها ووجودها إذا لم يبق لها حكم عندهم، وأي نسخ أعظم من هذا، وإذا قلت لأحدهم في ذلك شيئًا يقول لك هذا هو المذهب، وهو والله كاذب فإن صاحب المذهب قال له إن عارض الخبر كلامي فخذ بالحديث، واترك كلامي في الحش فإن مذهبي الحديث. فلو أنصف لكان على مذهب الشافعي من ترك كلام الشافعي للحديث المعارض فالله يأخذ بيد الجميع" انتهى كلام الشيخ الأكبر قدس سره). [قواعد التحديث: 583-592]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (26- فتوى الإمام تقي الدين أبي العباس فيمن تفقه على مذهب:
ثم اشتغل بالحديث فرأى في مذهبه ما يخالفه الحديث كيف يعمل؟
سئل شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيميه عليه الرحمة، والرضوان عن رجل تفقه على مذهب من المذاهب الأربعة، وتبصر فيه واشتغل بعده بالحديث فوجد أحاديث صحيحة لا يعلم لها ناسخًا ولا مخصصًا ولا معارضًا؛ وذلك المذهب فيه ما يخالف تلك الأحاديث، فهل له العمل بالمذهب، أو يجب عليه الرجوع إلى العمل بالحديث ومخالفة مذهبه؟ فأجاب رحمه الله تعالى: "قد ثبت بالكتاب والسنة والإجماع، أن الله تعالى افترض على العباد طاعته وطاعة رسوله، ولم يوجب على هذه الأمة طاعة أحد بعينه في كل ما أمر به ونهى عنه إلا رسوله -صلى الله عليه وسلم- حتى كان صديق الأمة وأفضلها بعد نبيها -صلى الله عليه وسلم، ورضي عنه يقول: "أطيعوني ما أطعت الله، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم". واتفقوا كلهم على أنه ليس أحد معصومًا في كل ما أمر به ونهى عنه إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولهذا قال غير واحد من الأئمة: كل أحد يؤخذ من كلامه ويترك، إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهؤلاء الأئمة الأربعة قد نهوا الناس عن تقليدهم في كل ما يقولونه. وذلك هو الواجب وقال أبو حنيفة: "هذا رأيي، وهذا أحسن ما رأيت، فمن جاء برأي خير منه قبلناه" ولهذا لما اجتمع أفضل أصحابه أبو يوسف بإمام دار الهجرة مالك بن أنس، وسأله عن مسألة الصاع، وصدقة الخضروات، ومسألة الأحباس، فأخبره مالك بما دلت عليه السنة في ذلك، فقال: رجعت لقولك يا أبا عبد الله ولو رأى صاحبي ما رأيت لرجع كما رجعت.
ومالك رحمه الله كان يقول: "إنما أنا بشر أصيب وأخطئ فاعرضوا قولي على الكتاب والسنة". أو كلام هذا معناه. والشافعي رحمه الله كان يقول: "إذا صح الحديث بخلاف قولي فاضربوا بقولي الحائط. وإذا رأيت الحجة موضوعة على طريق فهي قولي. وفي قال مع إعلامه نهيه عن تقليده وتقليد غيره من العلماء. والإمام أحمد رحمه الله كان يقول: "من ضيق علم الرجل أن يقلد دينه الرجال. قال: "لا تقلد دينك الرجال، فإنهم لم يسلموا أن يغلطوا". وقد ثبت في الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين... " ولازم ذلك أن من لم يفقه في الدين لم يرد الله به خيرًا فيكون التفقه في الدين فرضًا. والتفقه في الدين معرفة الأحكام الشرعية بأدلتها السمعية فمن لم يعرف ذلك لم يكن متفقهًا في الدين. لكن من الناس من قد يعجز عنها، فيلزمه ما يقدر عليه.
وأما القادر على الاستدلال، فقيل: يحرم عليه التقليد مطلقًا وقيل يجوز مطلقًا، وقيل يجوز عند الحاجة كما إذا ضاق الوقت عند الاستدلال، وهذا القول أعدل الأقوال إن شاء الله تعالى، والاجتهاد ليس هو أمرًا لا يقبل التجزء والانقسام، بل يكون الرجل مجتهدا في فن أو باب أو مسألة دون فن وباب ومسألة وكل فاجتهاده بحسب وسعه فمن نظر في مسألة قد تنازع العلماء فيها فرأى مع أحد القولين نصوصًا لم يعلم لها معارضًا بعد نظر مثله فهو بين الأمرين إما أن يتبع قول القائل الآخر لمجرد كونه الإمام الذي اشتغل على مذهبه، ومثل هذا ليس بحجة شرعية بل مجرد عادة تعارضها عادة غيره واشتغاله بمذهب إمام آخر، وإما يتبع القول الذي ترجح بنظره بالنصوص الدالة عليه فحينئذ موافقته لإمام يقاوم به ذلك الإمام، وتبقى النصوص النبوية سالمة في حقه عن المعارض بالعمل فهذا هو الذي يصلح، وإنما تنزلنا هذا التنزل لأنه قد يقال إن نظر هذا قاصر، وليس اجتهاده تامًّا في هذه المسألة لضعف آلة الاجتهاد في حقه أما إذا قدر على الاجتهاد التام الذي يعتقد معه أن القول الآخر ليس معه ما يدفع النص فهذا يجب عليه اتباع النصوص، وإن لم يفعل كان متبعًا للظن، وما تهوى الأنفس وكان من أكبر العصاة لله ولرسوله بخلاف من يكون للقول الآخر حجة راجحة على هذا النص ويقول: "أنا لا أعلمها" فهذا يقال له قال الله تعالى: {فاتّقوا اللّه ما استطعتم} وقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" والذي تستطيعه من العلم، والفقه في هذه المسألة قد دل على أن حكمك في ذلك حكم المجتهد المستقل إذا تغير اجتهاده، وانتقال الإنسان من قول إلى قول لأجل ما تبين له من الحق هو محمود فيه بخلاف إقراره على قول لا حجة معه عليه، وترك القول الذي وضحت حجته أو الانتقال عن قول إلى قول بمجرد عادة واتباع هوى فهذا مذموم وإذا كان المقلد قد سمع الحديث وتركه لا سيما إذا كان قد رواه أيضًا عدل فمثل هذا وحده لا يكون عذرًا في ترك النص فمن ترك الحديث لاعتقاده أنه لم يصح، أو راويه مجهول، ونحو ذلك ويكون غيره قد علم صحته وثقة راويه فقد زال عذر ذلك في حق هذا، ومن ترك الحديث لاعتقاده أن ظاهر القرآن يخالفه، أو القياس أو عمل لبعض الأمصار وقد تبين لآخر أن ظاهر القرآن لا يخالفه، وأن نص الحديث الصحيح مقدم على الظواهر ومقدم على القياس، والعمل لم يكن عذر ذلك الرجل عذرًا في حقه فإن ظهور المدارك الشرعية للأذهان، وخفاءها عنها أمر لا يضبط طرفاه لا سيما إذا كان التارك للحديث معتقدًا أنه يترك العمل به المهاجرون والأنصار أهل المدينة النبوية، وغيرها الذين يقال إنهم لا يتركون الحديث إلا لاعتقادهم أنه منسوخ، أو معارض براجح وقد بلغ من بعدهم أن المهاجرين والأنصار لم يتركوه بل قد عمل به بعضهم أو من سمعه منهم، ونحو ذلك مما يقدح في هذا المعارض للنص، وإذا قيل لهذا المستفتي المسترشد أنت أعلم أم الإمام الفلاني كانت هذه معارضه فاسدة لأن الإمام الفلاني قد خالفه في هذه المسألة من هو نظير من الأئمة، ولست من هذا ولا من هذا ولكن نسبة هؤلاء الأئمة إلى نسبة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود وأبي ومعاذ ونحوهم إلى الأئمة وغيرهم، فكما أن هؤلاء الصحابة بعضهم لبعض أكفاء في موارد النزاع فإذا تنازعوا في شيء ردوه إلى الله ورسوله، وإن كان بعضهم قد يكون أعلم في مواضع أخر، وكذلك موارد النزاع بين الأئمة، وقد ترك الناس قول عمر وابن مسعود -رضي الله عنهما- في مسألة تيمم الجنب وأخذوا بقول أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- وغيره لما احتج بالكتاب والسنة، وتركوا قول عمر في دية الأصابع، وأخذوا بقول معاوية بن أبي سفيان لما كان من السنة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "هذه وهذه سواء" وقد كان بعض الناس يناظر ابن عباس -رضي الله عنهما- في المتعة فقال له قال أبو بكر وعمر فقال ابن عباس يوشك أن ينزل عليكم حجارة من السماء أقول قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتقولون قال أبو بكر وعمر، وكذلك ابن عمر -رضي الله عنهما- لما سألوه عنها فأمر بها فعارضوه بقول عمر فبين لهم أن عمر لم يرد ما يقولونه فألحوا عليه فقال لهم أرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحق أن يتبع أم عمر؟ مع علم الناس بأن أبا بكر وعمر أعلم من ابن عمر وابن عباس -رضي الله عنهم- ولو فتح هذا الباب لأوجب أن يعرض عن أمر الله ورسوله، وبقي كل إمام في أتباعه بمنزلة النبي -صلى الله عليه وسلم- في أمته. وهذا تبديل للدين وشبيه بما عاب الله به النصارى في قوله: {اتّخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون اللّه والمسيح ابن مريم وما أمروا إلّا ليعبدوا إلهًا واحدًا لا إله إلّا هو سبحانه عمّا يشركون} والله سبحانه أعلم". اهـ. كلام الإمام تقي الدين قدس سره). [قواعد التحديث: 593-596]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (27- بيان معرفة الحق بالدليل:
قال الإمام الرباني أبو العباس أحمد الشهير بزروق المغربي قدس الله سره في كتابه: "قواعد التصوف":
"قاعدة: العلماء مصدقون فيما ينقلون؛ لأنه موكول لأمانتهم مبحوث معهم فيما يقولون لأنه نتيجة عقولهم، والعصمة غير ثابتة لهم فلزم التبصر طلبًا للحق والتحقيق لا اعتراضًا على القائل والناقل، ثم إن أتى المتأخر بما لم يسبق إليه فهو على رتبيه، ولا يلزمه القدح في المتقدم ولا إساءة الأدب معه لأن ما ثبت من عدالة المتقدم قاض برجوعه للحق عند بيانه لو سمعه". اهـ.
وقال الأصفهاني في: "أطباق الذهب" في المقالة الثالثة والثلاثين: "مثل المقلد بين يدي المحقق كالضرير عند البصير المحدق، ومثل الحكيم والحشوي كالميتة، والمشوي ما المقلد إلا جمل مخشوش له عمل مغشوش قصاراه لوح منقوش يقنع بظواهر الكلمات، ولا يعرف النور من الظلمات يركض خيول الخيال في ظلال الضلال شغله نقل النقل عن نخبة العقل، وأقنعه رواية الرواية عن در الدراية يروي في الدين عن شيخ هم كمن يقود الأعمى في ليل مدلهم ومن عرف الحق بالعنت تورط في هوة العنت، والحق وراء السماع والعلم بمعزل عن الرقاع فما أسعد من هدى إلى العلم ونزل رباعه وأرى الحق حقًّا ورزق اتباعه".
وقال أيضًا في المقالة السابعة والثلاثين: "الحق يتضح بالأدلة، والشهور تشتهر بالأهلة، وشفاء الصدور يحصل بالبلة طالب الحق ضيف الله، والدليل القاطع سيف الله به يفك العلم وينشر، وبه يبقر الحق ويقشر ومثل العلوم والبرهان كمثل المصباح والأدهان الحجة للأحكام كالعماد للخيام إعصار الظن كدر كعصارة الدن، الزم اليقين تكن من المتقين فشواظ الوهم يشوي حمامة القلب شيا، {وإنّ الظّنّ لا يغني من الحقّ شيئًا}. اهـ.
وفي كتاب قاموس الشريعة: "لا يصح لامرئ إلا موافقة الحق، ولا يلزم الناس طاعة أحد لأجل أنه عالم أو إمام مذهب، وإنما يلزم الناس قبول الحق ممن جاء به على الإطلاق، ونبذ الباطل ممن جاء به بالاتفاق".
وفيه أيضًا: "كل مسألة لم يخل الصواب فيها من أحد القولين، ففسد أحدهما لقيام الدليل على فساده صح أن الحق في الآخر قال الله تعالى: {فماذا بعد الحقّ إلّا الضّلال فأنّى تصرفون}.
وفيه أيضًا: "والذي يحرم على العالم تضييع الاجتهاد والسكوت بعد التبصرة، والإفراد بعد القطع حديث عبادة بن الصامت: بايعنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أن نقول الحق ونعمل به، وأن لا تأخذنا في الله لومة لائم في العسر، واليسر والمنشط والمكره". اهـ.
وقال الإمام مفتي مكة الشيخ محمد عبد العظيم بن ملا فروخ في رسالته: "القول السديد في بعض مسائل الاجتهاد والتقليد" في الفصل الأول: "اعلم أنه لم يكلف الله تعالى أحدًا من عبادة أن يكون حنفيًّا أو مالكيًّا أو شافعيًّا أو حنبليًّا، بل أوجب عليهم الإيمان بما بعث به محمد، والعمل بشريعته غير أن العمل بها متوقف على الوقوف عليها، والوقوف عليها له طرق فما كان منها مما يشترك فيه العامة، وأهل النظر، كالعلم بفريضة الصلاة والزكاة والحج والصوم والوضوء إجمالًا، وكالعلم بحرمة الزنا والخمر واللواطة وقتل النفس ونحو ذلك مما علم من الدين بالضرورة، فذلك لا يتوقف فيه على اتباع مجتهد ومذهب معين، بل كل مسلم عليه اعتقاد ذلك، يجب عليه فمن كان في العصر الأول فلا يخفى وضوح ذلك في حقه، ومن كان في الأعصار المتأخرة فلوصول ذلك إلى عمله ضرورة من الإجماع والتواتر والآيات والسنن المستفيضة المصرحة بذلك في حق من وصلت إليه، وأما ما لا يتوصل إليه إلا بضرب من النظر والاستدلال فمن كان قادرًا عليه بتوفر آلته وجب عليه فعله كالأئمة المجتهدين، ومن لم يكن له قدرة عليه، وجب عليه اتباع من أرشده إلى ما كلف به من هو من أهل النظر والاجتهاد والعدالة، وسقط عن العاجز تكليفه في البحث، والنظر لعجزه لقوله تعالى: {لا يكلّف اللّه نفسًا إلاّ وسعها} وقوله تعالى: {فاسألوا أهل الذّكر إن كنتم لا تعلمون} وهي الأصل في اعتماد التقليد كما أشار إليه المحقق الكمال بن الهمام في التحرير". اهـ.
وقال الإمام ابن الجوزي في تلبيس إبليس: "اعلم أن المقلد على غير ثقة فيما قلد، وفي التقليد إبطال منفعة العقل لأنه خلق للتأمل والتدبر وقبيح بمن أعطى شمعة يستضيء بها أن يطفئها، ويمشي في الظلمة واعلم أن عموم أصحاب المذاهب يعظم في قلوبهم التفحص عن أدلة إمامهم فيتبعون قوله وينبغي النظر إلى القول لا إلى القائل كما قال علي -رضي الله عنه- للحارث بن عبد الله الأعور بن الحوطي وقد قال له أتظن أن طلحة، والزبير كانا على الباطل فقال له: يا حارث إنه ملبوس عليك إن الحق لا يعرف بالرجال اعرف الحق تعرف أهله". اهـ.
وقال ابن القيم: "فإذا جاءت هذه - أي النفس المطمئنة - بتجريد المتابعة للرسول لجاءت تلك -أي الأمارة- بتحكيم آراء الرجال وأقوالهم فأتت بالشبهة المضلة بما يمنع من كمال المتابعة، وتقسم بالله ما مرادها إلا الإحسان والتوفيق والله يعلم أنها كاذبة، وما مرادها إلا التفلت من سجن المتابعة إلى قضاء إرادتها وحظوظها وتريه -أي وترى النفس الأمارة صاحبها- تجريد المتابعة للنبي -صلى الله عليه وسلم- وتقديم قوله على الآراء في صورة تنقص العلماء وإساءة الأدب عليهم المفضي إلى إساءة الظن به، وأنهم قد فاتهم الصواب فكيف لنا قوة برد عليهم أو نحظى بالصواب دونهم وتقاسمهم بالله إن أرادت إلا إحسانًا وتوفيقًا {أولئك الّذين يعلم اللّه ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولًا بليغًا}.
والفرق بين تجريد متابعة المعصوم، وإهدار أقواله، وإلغائها أن تجريد المتابعة أن لا تقدم على ما جاء به الرسول الله -صلى الله عليه وسلم- قول أحد، ولا رأيه كائنًا من كان بل تنظر في صحة الحديث أولًا فإذا صح نظر في معناه ثانيًا فإذا تبين له لم يعدل عنه، ولو خالفه من بين المشرق والمغرب، ومعاذ الله أن تتفق الأمة على ترك ما جاء به نبينا، بل لا بد أن يكون في الأمة من قال به، ولو خفي عليك فلا تجعل جهلك بالقائل حجة على الله تعالى ورسوله في تركه، بل اذهب إلى النص ولا تضعف، واعلم أنه قد قال به قائل قطعًا، ولكن لم يصل إليك علمه هذا مع حفظ مراتب العلماء وموالاتهم واعتقاد حرمتهم وأمانتهم واجتهادهم في حفظ الدين وضبطه فهم -رضي الله عنهم- دائرون بين الأجر والأجرين والمغفرة، ولكن لا يوجب هذا إهدار النصوص وتقديم قول الواحد منهم عليها بشبهة أنه أعلم منك فإن كان كذلك فمن ذهب إلى النصوص أعلم فهلا وافقته إن كنت صادقًا فمن عرض أقوال العلماء على النصوص ووزنها بها وخالف بها ما منها خالف النص لم يهدر أقوالهم ولم يهضم جانبهم، بل اقتدى بهم فإنهم كلهم أمروا بذلك بل مخالفتهم في ذلك أسهل من مخالفتهم في القاعدة الكلية التي أمروا بها ودعوا إليها من تقديم النص على أقوالهم، ومن هذا يتبين الفرق بين تقليد العالم في جميع ما قال وبين الاستعانة بفهمه والاستضاءة بنور علمه، فالأول يأخذ قوله من غير نظر فيه ولا طلب دليله من الكتاب والسنة والمستعين بأفهامهم يجعلهم بمنزلة الدليل الأول فإذا وصل استغنى بدلالته عن الاستدلال بغيره فمن استدل بالنجم على القبلة لم يبق لاستدلاله معنى إذا شاهدها. قال الشافعي: أجمع الناس على أن من استبانت له سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يكن له أن يدعها لقول أحد، ومن هذا يتبين الفرق بين الحكم المنزل الواجب الاتباع، والحكم المؤول الذي غايته أن يكون جائز الاتباع بأن الأول هو الذي أنزل الله تعالى على رسوله متلوًّا، أو غير متلو إذا صح وسلم من المعارضة، وهو حكمه الذي ارتضاه لعباده، ولا حكم له سواه، وأن الثاني أقوال المجتهدين المختلفة التي لا يجب اتباعها، ولا يكفر ولا يفسق من خالفها فإن أصحابها لم يقولوا هكذا حكم الله ورسوله قطعًا، وحاشاهم عن قول ذلك، وقد صح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- النهي عنه في قوله: "وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله، وذمة رسوله فلا تجعل لهم ذمة الله ولا ذمة نبيه، ولكن أجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك فإنكم أن تخفروا ذممكم، وذمة أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله، ورسوله وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك فإنك لا تدري أتصيب حكم الله أم لا" أخرجه الإمام أحمد في مسنده ومسلم في صحيحه من حديث بريدة، بل قالوا اجتهدنا رأينا فمن شاء قبله، ومن شاء لم يقبله ولم يلزم أحد منهم بقول الأئمة قال الإمام أبو حنيفة: "هذا رأي فمن جاء بخير منه قبلته" ولو كان هو عن حكم الله لما ساغ لأبي يوسف ومحمد وغيرهما مخالفته فيه، وكذلك قال مالك لما استشاره هارون الرشيد في أن يحمل الناس على ما في الموطأ فمنعه من ذلك وقال: "قد نفر أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في البلاد، وصار عند كل قوم من الأحاديث ما ليس عند الآخرين" وهذا الشافعي ينهى أصحابه عن تقليده، ويوصيهم بترك قوله إذا جاء الحديث بخلافه، وهذا الإمام أحمد منكر على من كتب فتاويه ودونها ويقول: لا تقلدوني ولا تقلد فلانًا وفلانًا وخذ من حيث أخذوا". اهـ. كلام ابن القمي نقله الفلاني في: "إيقاظ الهمم".
وقال السيد الشريف المشتهر فضله في سائر الأقطار الأمير عبد القادر الحسني الجزائري ثم الدمشقي في مقدمة كتابه: "ذكرى العاقل، وتنبيه الغافل" ما نصه: "اعلموا أنه يلزم العاقل أن ينظر في القول ولا ينظر إلى قائله، فإن كان القول حقًّا قبله سواء كان قائله معروفا بالحق أو الباطل، فإن الذهب يستخرج من التراب والنرجس من البصل، والترياق من الحيات ويجتني الورد من الشوك فالعاقل يعرف الرجال بالحق ولا يعرف الحق بالرجال والكلمة من الحكمة ضالة العاقل يأخذها من عند كل من وجدها عنده سواء كان حقيرًا أو جليلًا وأقل درجات العالم أن يتميز عن العامي بأمور منها أنه لا يعاف العسل إذا وجده في محجمة الحجام، ويعرف أن الدم قذر لا لكونه في المحجمة، ولكنه قذر في ذاته فإذا عدمت هذه الصفة في العسل فكونه في ظرف الدم المستقذر لا يكسبه تلك الصفة ولا يوجب نفرة عنه، وهذا وهم باطل غلب على أكثر الناس فمهما نسب كلام إلى قائل حسن اعتقادهم فيه قبلوه، وإن كان القول باطلا وإن نسب القول إلى من ساء فيه اعتقادهم ردوه، وإن كان حقا ودائما يعرفون الحق بالرجال، ولا يعرفون الرجال بالحق، وهذا غاية الجهل والخسران فالمحتاج إلى الترياق إذا هربت نفسه منه حيث علم أنه مستخرج من حية جاهل فيلزم تنبيهه على أن نفرته جهل محض وهو سبب حرمانه من الفائدة التي هي مطلوبة فإن العالم هو الذي يسهل عليه إدراك الفرق بين الصدق والكذب في الأقوال وبين الحق والباطل في الاعتقادات، وبين الجميل والقبيح في الأفعال لا بأن يكون ملتبسًا عليه الحق بالباطل والكذب بالصدق والجميل بالقبيح ويصير يتبع غيره ويقلده فيما يعتقد، وفيما يقول فإن هذه ما هي إلا صفات الجهال والمتبعون من الناس على قسمين قسم عالم مسعد لنفسه ومسعد لغيره، وهو الذي عرف الحق بالدليل لا بالتقليد ودعا الناس إلى معرفة الحق بالدليل لا بأن يقلدوه، وقسم لنفسه ومهلك لغيره وهو الذي قلد آباءه وأجداده فيما يعتقدون ويستحسنون، وترك النظر بعقله ودعا الناس لتقليده، والأعمى لا يصح أن يقود العميان وإذا كان تقليد الرجال مذموما غير مرضي في الاعتقادات فتقليد الكتب أولى وأخرى بالذم، وإن بهيمة تقاد أفضل من مقلد ينقاد، وإن أقوال العلماء والمتدينين متضادة متخالفة في الأكثر، واختيار واحد منها واتباعه بلا دليل باطل لأنه ترجيح بلا مرجح فيكون معارضًا بمثله، وكل إنسان من حيث هو إنسان فهو مستعد لإدراك الحقائق على ما هي عليه؛ لأن القلب الذي هو محل العلم بالإضافة إلى حقائق الأشياء كالمرآة بالإضافة إلى صور المتلونات تظهر فيها كلها على التعاقب، لكن المرآة قد لا تنكشف فيها الصور لأسباب أحدها: نقصان صورتها كجوهر الحديد قبل أن يدور ويشكل ويصقل، والثاني: لخبثه وصدئه وإن كان تام الشكل.
والثالث: لكونه غير مقابل للجهة التي فيها الصورة كما إذا كانت الصورة وراء المرآة.
والرابع: لحجاب مرسل بين المرآة والصورة وجهتها فكذلك القلب مرآة مستعدة لأن ينجلي فيها صور المعلومات كلها، وإن خلت القلوب عن العلوم التي خلت عنها لهذه الأسباب الخمسة أولها نقصان في ذات القلب كقلب الصبي فإنه لا تنجلي له المعلومات لنقصانه.
والثاني: لكدورات الأشغال الدنيوية، والخبث الذي يتراكم على وجه القلب منها فالإقبال على طلب كشف حقائق الأشياء والإعراض عن الأشياء الشاغلة القاطعة هو الذي يجلو القلب ويصفيه.
والثالث: أن يكون معدولًا به عن جهة الحقيقة المطلوبة.
والرابع: الحجاب فإن العقل المتجرد للفكر في حقيقة من الحقائق ربما لا تنكشف له لكونه محجوبًا باعتقاد سبق إلى القلب وقت الصبا على طريق التقليد والقبول بحسن الظن فإن ذلك يحول بين القلب والوصول إلى الحق ويمنع أن ينكشف في القلب غير ما تلقاه بالتقليد، وهذا حجاب عظيم حجب أكثر الخلق عن الوصول إلى الحق لأنهم محجوبون باعتقادات تقليدية رسخت في نفوسهم وجمدت عليها قلوبهم.
والخامس الجهل بالجهة التي يقع فيها العثور على المطلوب فإن الطالب لشيء ليس يمكنه أن يحصله إلا بالتذكر للعلوم التي تناسب مطلوبة حتى إذا تذكرها ورتبها في نفسه ترتيبًا مخصوصًا يعرفه العلماء فعند ذلك يكون قد صادف جهة المطلوب فتظهر حقيقة المطلوب لقلبه فإن العلوم المطلوبة التي ليست فطرية لا تصاد إلا بشبكة العلوم الحاصلة، بل كل علم لا يحصل إلا عن علمين سابقين يأتلفان ويزدوجان على وجه مخصوص فيحصل من ازدواجهما علم ثالث على مثال حصول النتاج من ازدواج الفحل والأنثى، ثم كما أن من أراد أن يستنتج فرسًا لم يمكنه ذلك من حمار وبعير، بل من أصل مخصوص من الخيل الذكر والأنثى، وذلك إذا وقع بينهما ازدواج مخصوص، فكذلك كل علم فله أصلان مخصوصان، وبينهما طريق مخصوص في الازدواج يحصل من ازدواجهما العلم المطلوب فالجهل بتلك الأصول وبكيفية الازدواج هو المانع من العلم ومثاله ما ذكرناه من الجهل بالجهة التي الصورة فيها". اهـ. ملخصًا). [قواعد التحديث: 596-604]
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (28- بيان أن معرفة الشيء ببرهانه طريقة القرآن الكريم:
قال الأستاذ العلامة مفتي الديار المصرية الشيخ محمد عبده في المقالة أثرت عنه ما صورته: "سعادة الناس في دنياهم، وأخراهم بالكسب والعمل فإن الله خلق الإنسان، وأناط جميع مصالحه ومنافعه بعمله وكسبه والذين حصلوا سعادتهم بدون عمل ولا سعى هم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وحدهم لا يشاركهم في هذا أحد من البشر مطلقًا، والكسب مهما تعددت وجوهه فإنها ترجع إلى كسب العلم لأن أعمال الإنسان إنما تصدر عن إرادته وإرادته تنبعث عن آرائه، وآراؤه هي نتائج علمه فالعلم مصدر الأعمال كلها دنيوية وأخروية فكمالا يسعد الناس في الدنيا إلا بأعمالهم كذلك لا يسعدون في الآخرة إلا بأعمالهم، وحيث كان للعلم هذا الشأن فلا شك أن الخطأ فيه خطأ في طريق السير إلى السعادة عائق أو مانع من الوصول إليها فلا جرم أن الناس في أشد الحاجة إلى ما يحفظ من هذا الخطأ، ويسير بالعلم في طريقة القويم حتى يصل السائر إلى الغاية".
ثم قال: "اعتنى العلماء في كل أمة بضبط اللسان، وحفظه من الخطأ في الكلام، ووضعوا لذلك علومًا كثيرة، وما كان للسان هذا الشأن إلا لأنه مجلي للفكر وترجمان له، وآله لإيصال معارفه من ذهن إلى آخر فأجدر بهم أن تكون عنايتهم بضبط الفكر أعظم كما أن اللفظ مجلي الفكر هو غطاؤه أيضًا فإن الإنسان لا يقدر على إخفاء أفكاره إلا بحجاب الكلام الكاذب حتى قال بعضهم إن اللفظ لا يوجد إلا ليخفي الفكر".
ثم كشف الأستاذ النقاب عن حقيقة الفكر الصحيح الذي ينتفع بالميزان، ويكون مطلقًا يجري في مجراه الذي وضعه الله تعالى عليه، إلى أن يصل إلى غايته؛ أما المقيد بالعادات، فهو الذي لا شأن له، وكأنه لا وجوده له، وقد جاء الإسلام ليعتق الأفكار من رقها، ويحلها من عقلها، فترى القرآن ناعيًا على المقلدين، ذاكرًا لهم بأسوأ ما يذكر به المجرم ولذلك بني على اليقين ثم قال: "على طالب العلم أن يسترشد بم تقدمه، سواء كانوا أحياء أم أمواتًا، ولكن عليه أن يستعمل فكره فيما يؤثر عنهم، فإن وجده صحيحًا أخذ به وإن وجده فاسدًا تركه، وحينئذ يكون ممن قال الله تعالى فيهم: {فبشّر عباد، الّذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه} الآية، وإلا فهو كالحيوان، والكلام كاللحام له أو الزمام يمنع به عن كل ما يريد صاحب الكلام منعه عنه، وينقاد إلى حيث يشاء المتكلم أن ينقاد إليه من غير عقل ولا فهم".
ثم ألمع إلى الأشياء التي تجعل الفكر صحيحًا مطلقًا، فقال: "إن الكلام عنه يحتاج إلى شرح طويل، ويمكن أن نقول فيه كلمة جامعة يرجع إليها كل ما يقال وهي الشجاعة، الشجاع: هو الذي لا يخالف في الحق لومة لائم فمتى لاح له يصرح به ويجاهر بنصرته، وإن خالف في ذلك الأولين والآخرين. ومن الناس من يلوح له نور الحق فيبقى متمسكًا بما عليه الناس ويجتهد في إطفاء نور الفطرة، ولكن ضميره لا يستريح فهو يوبخه إذا خلا بنفسه ولو في فراشه لا يرجع عن الحق أو يكتم الحق لأجل الناس إلا الذي لم يأخذ إلا بما قال الناس، ولا يمكن أن يأتي هذا من موقن يعرف الحق معرفة صحيحة".
وبعد أن أفاض في الكلام على الشجاعة وبين احتياج الفكر والبصيرة في الدين إليها قال: "وهنا شيء يحسبه بعضهم شجاعة، وما هو بشجاعة وإنما هو وقاحة وذلك كالاستهزاء بالحق وعدم المبالاة بالحق فترى صاحب هذه الخلة يخوض في الأئمة، ويعرض بتنقيص أكابر العلماء غرورًا وحماقة، والسبب في ذلك أنه ليس عنده من الصبر والاحتمال وقوة الفكر، ما يسبر به أغوار كلامهم، ويمحص به حججهم وبراهينهم ليقبل ما يقبل عن بينة، ويترك ما يترك عن بينه، وهذا ولا شك أجبن ممن تحمل ثقل التقليد على ما فيه، وربما تنبع في عقله خواطر ترشده إلى البصيرة أو تلمع في ذهنه بوارق من الاستدلال لو مشى في نورها لاهتدى وخرج من الحيرة، وأما المستهزئ فهو أقل احتمالًا من المقلد فإن الهوى الذي يعرض لفكرة إنما يأتيه من عدم صبره، وثباته على الأمور وعدم التأمل فيها، والحاصل أن الفكر الصحيح يوجد بالشجاعة، وهي ها هنا التي يسميها بعض الكتاب العصريين: "الشجاعة الأدبية" وهي قسمان شجاعة في رفع القيد الذي هو التقليد الأعمى، وشجاعة في وضع القيد الذي هو الميزان الذي لا ينبغي أن يقر رأي ولا فكر إلا بعد ما يوزن به ويظهر رجحانه، وبهذا يكون الإنسان عبدًا للحق وحده، وهذه الطريقة طريقة معرفة الشيء بدليله وبرهانه ما جاءتنا من علم المنطبق، وإنما هي طريقة القرآن الكريم الذي ما قرر شيئًا إلا واستدل عليه، وأرشد متبعيه إلا الاستدلال، وإنما المنطق آله لضبط الاستدلال كما أن النحو آله لضبط الألفاظ في الإعراب والبناء". اهـ). [قواعد التحديث: 605-606]