11 Oct 2022
الدرس التاسع عشر: الأدب مع أهل الاجتهاد
قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (32- بيان وجوب موالاة الأئمة المجتهدين وأنه إذا وجد لواحد منهم قول صح الحديث بخلافة فلا بد له من عذر في تركة وبيان العذر:
قال الإمام شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيميه رضي الله عنه وأرضاه وجعل الجنة متقلبه ومثواه آمين في كتابه: "رفع الملام عن الأئمة الأعلام" في مقدمته بعد الخطبة ما صورته: يجب على المسلمين بعد موالاة الله ورسوله موالاة المؤمنين كما نطق به القرآن خصوصًا العلماء الذين هم ورثة الأنبياء الذين جعلهم الله بمنزلة النجوم يهتدى بهم في ظلمات البر والبحر، وقد أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم.
ثم قال: فإنهم خلفاء الرسول في أمته والمحيون لما مات من سنته بهم قام الكتاب وبه قاموا وبهم نطق الكتاب وبه نطقوا، وليعلم أنه ليس أحد من الأئمة المقبولين عند الأمة قبولًا عامًّا يتعمد مخالفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في شيء من سنته دقيق ولا جليل فإنهم متفقون اتفاقًا يقينيًّا على وجوب اتباع الرسول، وعلى أن كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولكن إذا وجد لواحد منهم قول قد جاء حديث صحيح بخلافه فلا بد له من عذر في تركه وجماع الأعذار ثلاثة أصناف أحدهم: عدم اعتقاد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قاله، والثاني: عدم اعتقاده إرادة تلك المسألة بذلك القول، والثالث: اعتقاده أن ذلك الحكم منسوخ وهذه الأصناف الثلاثة تتفرع إلى أسباب متعددة:
السبب الأول:
أن لا يكون الحديث قد بلغه، ومن لم يبلغه الحديث لم يكلف أن يكون عالمًا بموجبه، وإذا لم يكن قد بلغه، وقد قال في تلك القضية بموجب ظاهر آية أو حديث آخر أو بموجب قياس أو موجب استصحاب، فقد يوافق ذلك الحديث تارة، ويخالفه أخرى وهذا السبب الغالب على أكثر ما يوجد من أقوال السلف مخالفًا لبعض الأحاديث فإن الإحاطة بحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم تكن لأحد من الأمة، وقد كان النبي يحدث أو يفتي أو يقضي أو يفعل الشيء فيسمعه أو يراه من يكون حاضرًا، ويبلغه أولئك أو بعضهم لمن يبلغونه فينتهي علم ذلك إلى من شاء الله من العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، ثم في مجلس آخر قد يحدث أو يفتي أو يقول شيئًا ويشهده بعض من كان غائبًا من ذلك المجلس، ويبلغونه لمن أمكنهم فيكون عند هؤلاء من العلم ما ليس عند هؤلاء، وعند هؤلاء ما ليس عند هؤلاء، وإنما يتفاضل العلماء من الصحابة ومن بعدهم بكثرة العلم أو جودته، وأما إحاطة واحد بجميع حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهذا لا يمكن ادعاؤه قط واعتبر ذلك بالخلفاء الراشدين الذين هم أعلم الأمة بأمور رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وسنته وأحواله خصوصًا الصديق -رضي الله عنه- الذي لم يكن يفارقه حضرًا ولا سفرًا، بل كان يكون معه في غالب الأوقات حتى إنه يسمر عنده بالليل في أمور المسلمين، وكذلك عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فإنه -صلى الله عليه وسلم- كثيرًا ما يقول: "دخلت أنا وأبو بكر وعمر وخرجت أنا وأبو بكر وعمر" ثم مع ذلك لما سئل أبو بكر -رضي الله عنه- عن ميراث الجدة قال: "مالك في كتاب الله في شيء ولكن اسأل الناس" فسألهم فقام المغيرة بن شعبة، ومحمد بن مسلمة فشهد أن النبي أعطاها السدس، وقد بلغ هذه السنة عمران بن حصين وليس هؤلاء الثلاثة مثل أبي بكر وغيره من الخلفاء ثم قد اختصوا بعلم هذه السنة التي قد اتفقت الأمة على العمل بها، وكذلك عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- لم يكن يعلم سنة الاستئذان حتى أخبره بها أبو موسى استشهد بالأنصار. وعمر أعلم ممن حدثه بهذه السنة ولم يكن عمر أيضًا يعلم أن المرأة ترث من دية زوجها بل يرى أن الدية للعاقلة حتى كتب إليه الضحاك بن سفيان، وهو أمير الرسول على بعض البوادي يخبره أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها فترك رأيه لذلك وقال: "لو لم نسمع بهذا لقضينا بخلافه".
ولم يكن يعلم حكم المجوس في الجزية حتى أخبره عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب". ولما قدم: "سرغ" وبلغه أن الطاعون بالشام استشار المهاجرين الأولين الذين معه ثم الأنصار ثم مسلمة الفتح، فأشار كل عليه بما رأى، ولم يخبره أحد بسنة حتى قدم عبد الرحمن بن عوف فأخبره بسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الطاعون وأنه قال: "إذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارًا منه وإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه " وتذاكر هو وابن عباس أمر الذي يشك في صلاته، فلم يكن قد بلغته السنة في ذلك حتى حدثه عبد الرحمن بن عوف عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه يطرح الشك ويبني على ما استيقن، وكان مرة في السفر فهاجت ريح فجعل يقول: من يحدثنا عن الريح قال أبو هريرة: "فبلغني وأنا في أخريات الناس فحثثت راحلتي حتى أدركته فحدثنه بما أمر به النبي عند هبوب الريح". فهذه مواضع لم يكن يعلمها حتى بلغه إياها من ليس مثله، ومواضع أخر لم يبلغه ما فيها من السنة فقضى فيها أو أفتى فيها بغير ذلك مثل ما قضى في دية الأصابع أنها مختلفة بحسب منافعها، وقد كان عند أبي موسى وابن عباس -وهما دونه بكثير في العلم- علم بأن النبي قال: "هذه وهذه سواء" يعني الإبهام، والخنصر فبلغت هذه السنة لمعاوية في إمارته فقضى بها ولم يجد المسلمون بدًّا من اتباع ذلك. ولم يكن عيبًا في عمر -رضي الله عنه- حيث لم يبلغه الحديث. وكذلك كان ينهى المحرم عن التطيب قبل الإحرام، وقبل الإفاضة إلى مكة بعد رمي جمرة العقبة هو وابنه عبد الله -رضي الله عنهما- وغيرهما من أهل الفضل، ولم يبلغهم حديث عائشة -رضي الله عنها: "طيبت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لحرمه قبل أن يحرم، ولحله قبل أن يطوف" وكان يأمر لابس الخف أن يمسح عليه إلى أن يخلعه من غير توقيت، واتبعه على ذلك طائفة من السلف، ولم تبلغهم أحاديث التوقيت التي صحت عند بعض من ليس مثلهم في العلم، وقد روي ذلك عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من وجوه متعددة صحيحة.
وكذلك عثمان -رضي الله عنه- لم يكن عنده علم بأن المتوفى عنها زوجها تعتد في بيت الموت، حتى حدثته الفريعة بنت مالك أخت أبي سعيد الخدري بقضيتها لما توفي زوجها، وأن النبي قال لها: "امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله" فأخذ به عثمان، وأهدي له مرة صيد كان قد صيد لأجله فهم بأكله حتى أخبره علي -رضي الله عنه- أن النبي رد لحمًا أهدي له.
وكذلك علي -رضي الله عنه- قال: "كنت إذا سمعت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حديثًا نفعني الله بما شاء أن ينفعني منه، وإذا حدثني غيره استحلفته فإذا حلف لي صدقته، وحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر" وذكر حديث صلاة التوبة المشهور، وأفتى هو وابن عباس وغيرهما بأن المتوفى عنها إذا كانت حاملا تعتد أبعد الأجلين، ولم يكن قد بلغتهم سنة الله في سبيعة الأسلمية حيث أفتاها النبي -صلى الله عليه وسلم- بأن عدتها وضع حملها وأفتى هو وزيد وابن عمر وغيرهم بأن المفوضة إذا مات عنها زوجها فلا مهر لها، ولم تكن بلغتهم سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "في بروع بنت واشق" وهذا باب واسع يبلغ المنقول منه عن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عددًا كثيرًا جدًّا، وأما المنقول منه عن غيرهم، فلا يمكن الإحاطة به فإنه ألوف فإن هؤلاء كانوا أعلم الأمة وأفقهها وأتقاها وأفضلها، فمن بعدهم أنقص، فخفاء بعض السنة عليه أولى فلا يحتاج إلى بيان فمن اعتقد أن كل حديث صحيح قد بلغ كل واحد من الأئمة وإمامًا معينًا فهو مخطئ خطأ فاحشًا قبيحًا.
ولا يقولن قائل: "إن الأحاديث قد دونت وجمعت، فخفاؤها والحال هذه بعيد! " لأن هذه الدواوين المشهورة في السنن، إنما جمعت بعد انقراض الأئمة المتبوعين، ومع هذا فلا يجوز أن يدعى انحصار حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في دواوين معينة، ثم لو فرض انحصار حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فليس كل ما في الكتب يعلمه العالم، ولا يكاد ذلك يحصل لأحد، بل قد يكون عند الرجل الدواوين الكثيرة، وهو لا يحيط بما فيها، بل الذين كانوا قبل جمع هذه الدواوين أعلم بالسنة من المتأخرين بكثير لأن كثيرًا مما بلغهم وصح عندهم قد لا يبلغنا إلا عن مجهول أو بإسناد منقطع أو لا يبلغنا بالكلية فكانت دواوينهم صدورهم التي تحوي أضعاف ما في الدواوين، وهذا أمر لا يشك فيه من علم القضية. ولا يقولن قائل "من لم يعرف الأحاديث كلها لم يكن مجتهدا" لأنه إن اشترط في المجتهد علمه بجميع ما قاله النبي -صلى الله عليه وسلم- وفعله فيما يتعلق بالأحكام فليس في الأمة مجتهد، وإنما غاية العلم أن يعلم جمهور ذلك وعظمه بحيث لا يخفى عليه إلا القليل من التفصيل، ثم إنه قد يخالف ذلك القليل من التفصيل الذي يبلغه.
السبب الثاني:
أن يكون الحديث قد بلغه لكنه لم يثبت عنده إما لأن محدثه أو محدث محدثه أو غيره من رجال الإسناد مجهول عنده أو متهم أو سيئ الحفظ، وإما أنه لم يبلغه مسندًا بل منقطعًا أو لم يضبط لفظ الحديث مع أن ذلك الحديث، قد رواه الثقات لغيره بإسناد متصل بأن يكون غيره يعلم من المجهول عنده الثقة، أو يكون قد رواه غير أولئك المجروحين عنده، أو قد اتصل من غير الجهة المنقطعة، وقد ضبط ألفاظ الحديث بعض المحدثين الحفاظ، أو لتلك الرواية من الشواهد والمتابعات ما يبين صحتها، وهذا أيضًا كثير جدًّا وهو في التابعين وتابعيهم إلى الأئمة المشهورين من بعدهم أكثر من العصر الأول أو كثير من القسم الأول، فإن الأحاديث كانت قد انتشرت واشتهرت، لكن كانت تبلغ كثيرًا من العلماء من طرق ضعيفة، وقد بلغت غيرهم من طرق صحيحة غير تلك الطرق فتكون حجة من هذا الوجه مع أنها لم تبلغ من خالفها من هذا الوجه، ولهذا وجد في كلام غير واحد من الأئمة تعليق القول بموجب الحديث على صحته فيقول قولي في هذه المسألة كذا، وقد روي فيها حديث بكذا فإن كان صحيحًا فهو قولي.
السبب الثالث:
اعتقاد ضعف الحديث باجتهاد قد خالفه فيه غيره، مع قطع النظر عن طريق آخر، سواء كان الصواب معه أو مع غيره، أو معهما عند من يقول: كل مجتهد مصيب ولذلك أسباب:
منها: أن يكون الحديث يعتقده أحدهما ضعيفًا، ويعتقده الآخر ثقة -ومعرفة الرجال علم واسع- ثم قد يكون المصيب من يعتقد ضعفه لاطلاعه على سبب جارح، وقد يكون الصواب مع الآخر لمعرفته أن ذلك السبب غير جارح، إما لأن جنسه غير جارح أو لأنه كان له فيه عذر يمنع الجرح، وهذا باب واسع وللعلماء بالرجال وأحوالهم في ذلك من الإجماع والاختلاف مثل ما لغيرهم من سائر أهل العلم في علومهم.
ومنها: أن لا يعتقد أن المحدث سمع الحديث ممن حدث عنه وغيره يعتقد أنه سمعه لأسباب توجب معروفة ذلك.
ومنها: أن يكون للمحدث حالان: حال استقامة وحال اضطراب، مثل أن يختلط أو تحرق كتبه، فما حدث به في حال الاستقامة صحيح، وما حدث به حال الاضطراب ضعيف، فلا يدري ذلك الحديث من أي النوعين. وقد علم غيره أنه مما حدث به في حال الاستقامة.
ومنها: أن يكون المحدث قد نسي ذلك الحديث، فلم يذكره فيما بعد. أو أنكر أن يكون حدثه معتقدًا أن هذا علة توجب ترك الحديث، ويرى غيره أن هذا مما يصح الاستدلال به، والمسألة معروفة.
ومنها: أن كثيرًا من الحجازيين يرون أن لا يحتج بحديث عراقي أو شامي إن لم يكن له أصل بالحجاز حتى قال قائلهم: "نزلوا أحاديث أهل العراق بمنزلة أحاديث أهل الكتاب، لا تصدقوهم، ولا تكذبوهم". وقيل لآخر: "سفيان عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله حجة؟ " قال: إن لم يكن له أصل بالحجاز فلا. وهذا لاعتقادهم أن أهل الحجاز ضبطوا السنة فلم يشذ عنهم منها شيء، وأن أحاديث العراقيين وقع فيها اضطراب أوجب التوقف فيها، وبعض العراقيين يرى أن لا يحتج بحديث الشاميين، وإن كان أكثر الناس على ترك التضعيف بهذا فمتى كان الإسناد جيدًا كان الحديث حجة سواء كان الحديث حجازيًّا أو عراقيًّا أو شاميًّا أو غير ذلك.
وقد صنف أبو داود السجستاني كتابًا في مفاريد أهل الأمصار من السنن، يبين ما اختص به أهل كل مصر من الأمصار من السنن التي لا توجد مسنده عند غيرهم، مثل المدينة ومكة والطائف ودمشق وحمص والكوفة والبصرة وغيرها إلى أسباب أخر غير هذه.
السبب الرابع:
اشتراطه في خبر الواحد العدل الحافظ شروطًا يخالفه فيها غيره مثل اشتراط بعضهم عرض الحديث على الكتاب والسنة، واشتراط بعضهم أن يكون المحدث فقيها إذا خالف قياس الأصول، واشتراط بعضهم انتشار الحديث وظهوره إذا كان فيما تعم به البلوى إلى غير ذلك مما هو معروف في مواضعه.
السبب الخامس:
أن يكون الحديث قد بلغه وثبت عنده، لكن نسيه وهذا يرد في الكتاب والسنة، مثل الحديث المشهور عن عمر -رضي الله عنه- أنه سئل عن الرجل يجنب في السفر فلا يجد الماء. فقال: "لا يصلي حتى يجد الماء" فقال له عمار: "يا أمير المؤمنين أما تذكر إذ كنت أنا وأنت في الإبل فاجتنبنا، فأما أنا فتمرغت كما تمرغ الدابة، وأما أنت فلم تصل، فذكرت ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "إنما يكفيك هكذا" وضرب بيديه الأرض فمسح بها وجهه وكفيه. فقال له عمر: "اتق الله يا عمار" فقال: "إن شئت لم أحدث به" فقال: "بل نوليك من ذلك ما توليت" فهذه سنة شهدها عمر، ثم نسيها، حتى أفتى بخلافها، وذكره عمار فلم يذكر، وهو لم يكذب عمارًا، بل أمره أن يحدث به. وأبلغ من هذا أنه خطب الناس فقال: "لا يزيد رجل على صداق أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- وبناته إلا رددته" فقالت امرأة: "يا أمير المؤمنين! بل تحرمنا شيئًا أعطانا الله إياه؟ ثم قرأت: {وآتيتم إحداهنّ قنطارًا}. فرجع عمر إلى قولها، وقد كان حافظًا للآية ولكن نسيها. وكذلك ما روي عن عليًّا ذكر الزبير يوم الجمل شيئًا عهده إليهما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فذكره حتى انصرف عن القتال، وهذا كثير في السلف والخلف.
السبب السادس:
عدم معرفته بدلالة الحديث، تارة لكون اللفظ الذي في الحديث غريبًا عنده، مثل لفظ: المزابنة، والمحاقلة، والمخابرة، والملامسة، والمنابذة، والغرر إلى غير ذلك من الكلمات الغريبة التي قد يختلف العلماء في تفسيرها، وكالحديث المرفوع: "لا طلاق ولا عتاق في إغلاق". فإنهم قد فسروا الإغلاق بالإكراه ومن يخالفه لا يعرف هذا التفسير وتارة لكون معناه في لغته وعرفه غير معناه في لغة النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يحمله على ما يفهمه في لغته، بناء على أن الأصل بقاء اللغة كما سمع بعضهم آثارًا في الرخصة في النبيذ فظنوه بعض أنواع المسكر لأنه لغتهم وإنما هو ما ينبذ لتحلية الماء قبل أن يشتد فإنه جاء مفسرًا في أحاديث كثيرة صحيحة، وسمعوا لفظ الخمر في الكتاب والسنة فاعتقدوه عصير العنب المشتد خاصة بناء على أنه كذلك في اللغة، وإن كان قد جاء من الأحاديث أحاديث صحيحة تبين أن الخمر اسم لكل شراب مسكر وتارة لكون اللفظ مشتركا أو مجملا أو مترددًا بين حقيقة ومجاز، فيحمله على الأقرب عنده وإن كان المراد هو الآخر كما حمل جماعة من الصحابة في أول الأمر الخيط الأبيض والخيط الأسود على الحبل، وكما حمل آخرون قوله: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم}. على اليد إلى الإبط، وتارة لكون الدلالة من النص خفية، فإن جهات دلالات الأقوال متسعة جدًّا يتفاوت الناس في إدراكها وفهم وجوه الكلام بحسب منح الحق سبحانه ومواهبه، ثم قد يعرفها الرجل من حيث العموم ولا يتفطن لكون هذا المعنى داخلا في ذلك العام ثم قد يتفطن له تارة ثم ينساه بعد ذلك، وهذا باب واسع جدًّا لا يحيط به إلا الله، وقد يغلط الرجل فيفهم من الكلام ما لا تحتمله اللغة العربية التي بعث الرسول بها.
السبب السابع:
اعتقاده أن لا دلالة في الحديث، والفرق بين هذا وبين الذي قبله: أن الأول لم يعرف جهة الدلالة والثاني عرف جهة الدلالة، لكن اعتقد أنها ليست دلالة صحيحة بأن يكون له من الأصول ما يرد تلك الدلالة سواء كانت في نفس الأمر صوابًا أو خطأ مثل أن يعتقد أن العام المخصوص ليس بحجة وأن المفهوم ليس بحجة وأن العموم الوارد على سبب مقصور على سببه أو أن الأمر المجرد لا يقتضى الوجوب أو لا يقتضي الفور أو أن المعرف باللام لا عموم له، أو أن الأفعال المنفية لا تنفي ذواتها ولا جميع أحكامها، أو أن المقتضي لا عموم له فلا يدعى العموم في المضمرات والمعاني إلى غير ذلك مما يتسع القول فيه فإن شطر أصول الفقه تدخل مسائل الخلاف منه في هذا القسم، وإن كانت الأصول المجردة لم تحط بجميع الدلالات المختلف فيها، وتدخل فيه أفراد أجناس الدلالات هل هي من ذلك الجنس أم لا مثل أن يعتقد أن هذا اللفظ المعين مجمل بأن يكون مشتركًا دلالة تعين أحد معنييه أو غير ذلك.
السبب الثامن:
اعتقاده أن تلك الدلالة قد عارضها ما دل على أنها ليست مرادة مثل معارضة العام بخاص أو المطلق بمقيد أو الأمر المطلق بما ينفي الوجوب أو الحقيقة بما يدل على المجاز إلى أنواع المعارضات. وهو باب واسع أيضًا، فإن تعارض دلالات الأقوال وترجيح بعضها على بعض بحر خضم.
السبب التاسع:
اعتقاده أن الحديث معارض بما يدل على ضعفه أو نسخة أو تأويله إن كان قابلا للتأويل، بما يصلح أن يكون معارضا بالاتفاق مثل آية أو حديث آخر أو مثل إجماع، وهذا نوعان: "أحدهما" أن يعتقد أن هذا المعارض راجح في الجملة، فيتعين أحد الثلاثة من غير تعيين واحد منها، وتارة يعين أحدها بأن يعتقد أنه منسوخ أو أنه مؤول ثم قد يغلط في النسخ، فيعتقد المتأخر متقدمًا، وقد يغلط في التأويل بأن يحمل الحديث على ما يحتمله لفظه أو هناك ما يدفعه، وإذا عارضه من حيث الجملة فقد لا يكون ذلك المعارض دالًّا وقد لا يكون الحديث المعارض في قوة الأول إسنادًا أو متنًا وتجيء هنا الأسباب المتقدمة وغيرها في الحديث الأول، والإجماع المدعى في الغالب إنما هو عدم العلم بالمخالف، وقد وجدنا من أعيان العلماء من صاروا إلى القول بأشياء متمسكهم فيها عدم العلم بالمخالف مع أن ظاهر الأدلة عندهم يقتضي خلاف ذلك، لكن لا يمكن العالم أن يبتدئ قولًا لم يعلم به قائلا -مع علمه- بأن الناس قد قالوا خلافه حتى إن منهم من يعلق القول فيقول: إن كان في المسألة إجماع فهو أحق ما يتبع، وإلا فالقول عندي كذا وكذا، وذلك مثل من يقول لا أعلم أحدًا أجاز شهادة العبد وقبولها محفوظ عن علي وأنس وشريح وغيرهم، ويقول أجمعوا على أن المعتق بعضه لا يرث، وتوريثه محفوظ عن علي وابن مسعود، وفيه حديث حسن عن النبي، ويقول آخر: لا أعلم أحدًا أوجب الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- في الصلاة وإيجابها محفوظ عن أبي جعفر الباقر، وذلك أن غاية كثير من العلماء أن يعلم أهل العلم الذين أدركهم في بلاده وأقوال جماعات غيرهم كما تجد كثيرًا من المتقدمين لا يعلم إلا قول المدنيين والكوفيين، وكثيرًا من المتأخرين لا يعلم إلا قول اثنين أو ثلاثة من الأئمة المتبوعين، وما خرج عن ذلك فإنه عنده مخالف الإجماع؛ لأنه لا يعلم به قائلا وما زال يقرع سمعه خلافه، فهذا لا يمكنه أن يصير إلى حديث يخالف هذا لخوفه أن يكون هذا خلافًا للإجماع أو لاعتقاده أنه مخالف للإجماع -والإجماع أعظم الحجج- وهذا عذر كثير من الناس في كثير مما يتركونه، وبعضهم معذور فيه حقيقة وبعضهم معذور فيه، وليس في الحقيقة بمعذور وكذلك كثير من الأسباب قبله وبعده.
السبب العاشر:
معارضته بما يدل على ضعفه أو نسخة أو تأويله مما لا يعتقد غيره، أو جنسه معارض أو لا يكون في الحقيقة معارضًا راجحًا، كمعارضة كثير من الكوفيين الحديث الصحيح بظاهر القرآن، واعتقادهم أن ظاهر القرآن من العموم، ونحوه مقدم على نص الحديث ثم قد يعتقد ما ليس بظاهر ظاهرًا لما في دلالات القول من الوجوه الكثيرة، ولهذا ردوا حديث الشاهد واليمين، وإن كان غيرهم يعلم أن ليس في ظاهر القرآن ما يمنع الحكم بشاهد ويمين ولو كان فيه ذلك، فالسنة هي المفسرة للقرآن عندهم، وللشافعي في هذه القاعدة كلام معروف، ولأحمد فيها رسالته المشهورة في الرد على من يزعم الاستغناء بظاهر القرآن عن تفسير سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد أورد فيها من الدلائل ما يضيق هذا الموضع عن ذكره، ومن ذلك دفع الخبر الذي هو تخصيص لعموم الكتاب أو تقييد لمطلقة أو فيه زيادة عليه، واعتقاد من يقول ذلك أن الزيادة على النص كتقييد المطلق نسخ، وأن تخصيص العام نسخ وكمعارضه طائفة من المدنيين الحديث الصحيح بعمل أهل المدينة بناء على أنهم مجمعون على مخالفة الخبر، وأن إجماعهم حجة مقدمة على الخبر، كمخالفة أحاديث خيار المجلس بناء على هذا الأصل وإن كان أكثر الناس قد يثبتون أن المدنيين قد اختلفوا في تلك المسألة، وأنهم لو أجمعوا وخالفهم غيرهم لكانت الحجة في الخبر، وكمعارضة قوم من البلدين بعض الأحاديث بالقياس الجلي، بناء على أن القواعد الكلية لا تنقض بمثل هذا الخبر إلى غير ذلك من أنواع المعارضات سواء كان المعارض مصيبًا أو مخطئًا.
"فهذه الأسباب العشرة ظاهرة. وفي كثير من الأحاديث يجوز أن يكون للعالم حجة في ترك العمل بالحديث، لم نطلع نحن عليها فإن مدارك العلم، واسعة ولم نطلع نحن على جميع ما في بواطن العلماء، والعالم قد يبدي حجته وقد لا يبديها وإذا أبداها قد تبلغنا وقد لا تبلغ، وإذا بلغتنا فقد ندرك موضع احتجاجه وقد لا ندركه سواء كانت الحجة صوابًا في نفس الأمر أم لا، لكن نحن وإن جوزنا هذا فلا يجوز لنا أن نعدل عن قول ظهرت حجته بحديث صحيح وافقه طائفة من أهل العلم إلى قول آخر قاله عالم يجوز أن يكون معه ما يدفع به هذه الحجة، وإن كان أعلم إذ تطرق الخطأ إلى آراء العلماء أكثر من تطرقه إلى الأدلة الشرعي فإن الأدلة الشرعية حجة الله على جميع عباده بخلاف رأي العالم، والدليل الشرعي يمتنع أن يكون خطأ إذا لم يعارضه دليل آخر ورأي العالم ليس كذلك، ولو كان العمل بهذا التجويز جائزًا لما بقي في أيدينا شيء من الأدلة التي يجوز فيها مثل هذا لكن الغرض أنه في نفسه قد يكون معذورًا في تركه له، ونحن معذورون في تركنا لهذا الترك وقد قال سبحانه: {تلك أمّةٌ قد خلت لها ما كسبت}.
وقال سبحانه: {فإن تنازعتم في شيءٍ فردّوه إلى اللّه والرّسول} وليس لأحد أن يعارض الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بقول أحد من الناس كما قال ابن عباس -رضي الله عنهما- لرجل سأله من مسألة فأجابه فيها بحديث فقال له: قال أبو بكر، وعمر = فقال ابن عباس: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتقولون: قال أبو بكر، وعمر، وإذا كان الترك بكونه لبعض هذه الأسباب فإذا جاء حديث صحيح فيه تحليل أو تحريم أو حكم فلا يجوز أن يعتقد أن التارك له -من العلماء الذين وصفنا أسباب تركهم- يعاقب لكونه حلل الحرام أو حرم الحلال أو حكم بغير ما أنزل الله، وكذلك إن كان في الحديث وعيد على فعل من لعنه أو غضب أو عذاب ونحو ذلك فلا يجوز أن يقول إن ذلك العالم الذي أباح هذا أو فعله داخل في هذا الوعيد، وهذا مما لا نعلم بين الأمة فيه خلافًا إلا شيئًا عن بعض معتزلة بغداد مثل المريسي وضربائه أنهم زعموا أن المخطئ من المجتهدين يعاقب على خطئه، وهذا لأن لحوق الوعيد لمن فعل المحرم مشروط بعلمه بالتحريم أو بتمكنه من العلم بالتحريم. فإن من نشأ ببادية، أو كان حديث عهد بالإسلام، أو فعل شيئًا من المحرمات، غير عالم بتحريمها لم يأثم ولم يحد، وإن لم يستند في استحلاله إلى دليل شرعي فمن لم يبلغه الحديث المحرم، واستند في الإباحة إلى دليل شرعي أولى أن يكون معذورًا، ولهذا كان هذا مأجورًا محمودًا لأجل اجتهاده قال الله سبحانه: {داوود وسليمان} إلى قوله {وعلمًا} فاختص سليمان بالفهم وأثنى عليهما بالحكم والعلم. وفي الصحيحين عن عمرو بن العاص -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر" فتبين أن المجتهد مع خطئه له أجر وذلك لأجل اجتهاده، وخطؤه مغفور له لأن درك الصواب في جميع أعيان الأحكام إما متعذر أو متعسر، وقد قال تعالى: {وما جعل عليكم في الدّين من حرج} وقال تعالى: {يريد اللّه بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} وفي الصحيحين عن النبي أنه قال لأصحابه عام الخندق: "لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة" فأدركهم صلاة العصر في الطريق فقال بعضهم: لا نصلي إلا في بني قريظة وقال بعضهم: لم يرد منا هذا فصلوا في الطريق فلم يعب واحدة من الطائفتين فالأولون تمسكوا بعموم الخطاب فجعلوا صورة الفوات داخلة في العموم، والآخرون كان معهم من الدليل ما يوجب خروج هذه الصورة عن العموم فإن المقصود المبادرة إلى القوم، وهي مسألة اختلف فيها الفقهاء اختلافًا مشهورًا هل يخص العموم بالقياس، ومع هذا فالذين صلوا في الطريق كانوا أصوب، وكذلك بلال -رضي الله عنه- لما باع الصاعين بالصاع أمره النبي برده ولم يرتب على ذلك حكم آكل الربا من التفسيق واللعن والتغليظ لعدم علمه كان بالتحريم، وكذلك عدي بن حاتم وجماعة من الصحابة لما اعتقدوا أن قوله تعالى: {حتّى يتبيّن لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود} معناه الحبال البيض والسود فكان أحدهم يجعل عقالين: أبيض وأسود ويأكل حتى يتبين أحدهما من الآخر، فقال النبي لعدي: "إن وسادك إذن لعريض، إنما هو بياض النهار وسواد الليل" فأشار إلى عدم فقهه لمعنى الكلام ولم يرتب على هذا الفعل ذم من أفطر في رمضان، وإن كان من أعظم الكبائر بخلاف الذين أفتوا المشجوج في البرد بوجوب الغسل فاغتسل فمات فإنه قال: "قتلوه قتلهم الله هلا سألوا إذ لم يعلموا إنما شفاء العيّ السؤال" فإن هؤلاء أخطئوا بغير اجتهاد إذ لم يكونوا من أهل العلم وكذلك لم يوجب على أسامة بن زيد قودًا ولا دية ولا كفارة لما قتل الذي قال: "لا إله إلا الله" في غزوة الحرقات فإنه كان معتقدًا جواز قتله بناء على أن هذا الإسلام ليس بصحيح مع أن قتله حرام، وعمل بذلك السلف وجمهور الفقهاء في أن ما استباحه أهل البغي من دماء أهل العدل بتأويل سائغ لم يضمن بقود، ولا دية ولا كفارة وإن كان قتلهم وقتالهم محرمًا، وهذا الشرط الذي ذكرناه في لحوق الوعيد لا يحتاج أن يذكر في كل خطاب لاستقرار العلم به في القلوب كما أن الوعد على العمل مشروط بإخلاص العمل لله، وبعدم حبوط العمل بالردة ثم إن هذا الشرط لا يذكر في كل حديث فيه وعد ثم حيث قدر قيام الموجب للوعيد فإن الحكم يتخلف عنه الوعيد لمانع، وموانع لحوق الوعيد متعددة؛ منها التوبة ومنها الاستغفار ومنها الحسنات الماحية للسيئات ومنها بلاء الدنيا ومصائبها ومنها شفاعة شفيع مطاع ومنها رحمة أرحم الراحمين، فإذا عدمت هذه الأسباب كلها -ولن تعدم إلا في حق من عتا وتمرد وشرد على الله شراد البعير على أهله- فهنالك يلحق الوعيد به وذلك أن حقيقة الوعيد بيان أن هذا العمل سبب في هذا العذاب فيستفاد من ذلك تحريم الفعل وقبحه أما أن كل شخص قام به ذلك السبب يجب وقوع ذلك المسبب به فهذا باطل قطعًا لتوقف ذلك المسبب على وجود الشرط، وزوال جميع الموانع وإيضاح هذا أن من ترك العمل بحديث فلا يخلو من ثلاثة أقسام:
"إما أن يكون تركًا جائزًا باتفاق المسلمين، كالترك في حق من لم يبلغه ولا قصر في الطلب مع حاجته إلى الفتيا أو الحكم، كما ذكرناه عن الخلفاء الراشدين وغيرهم، فهذا لا يشك مسلم أن صاحبه لا يلحقه من معرة الترك شيء.
"وإما أن يكون تركا غير جائز. فهذا لا يكاد يصدر من الأئمة إن شاء الله تعالى لكن الذي قد يخاف على بعض العلماء، أن يكون الرجل قاصرا في درك تلك المسألة فيقول مع عدم أسباب القول، وإن كان له فيها نظر واجتهاد، أو يقصر في الاستدلال فيقول قبل أن يبلغ النظر نهايته مع كونه متمسكًا بحجة أو يغلب عليه عادة أو غرض بمنعه من استيفاء النظر لينظر فيما يعارض ما عنده، وإن كان لم يقل إلا بالاجتهاد، والاستدلال فإن الحد الذي يجب أن ينتهي إليه الاجتهاد قد ينضبط للمجتهد، ولهذا كان العلماء يخافون مثل هذا خشية أن لا يكون الاجتهاد المعتبر قد وجد في تلك المسألة المخصوصة فهذه ذنوب، لكن لحوق عقوبة الذنب بصاحبه إنما تنال لمن لم يتب، وقد يمحوها الاستغفار والإحسان والبلاء والشفاعة والرحمة ولم يدخل في هذا من يغلبه الهوى ويصرعه حتى ينصر ما يعلم أنه باطل أو من يجزم بصواب قول أو خطئة من غير معرفة منه بدلائل ذلك القول نفيًا وإثباتًا فإن هذين في النار كما قال النبي -صلى اله عليه وسلم: "القضاة ثلاثة: قاضيان في النار، وقاض في الجنة؛ فأما الذي في الجنة فرجل علم الحق فقضى به، وأما اللذان في النار فرجل قضى للناس على جهل ورجل علم الحق وقضى بخلافه" والمفتون كذلك لكن لحوق الوعيد للشخص المعين أيضًا له موانع كما بيناه فلو فرض وقوع بعض هذا من بعض الأعيان من العلماء المحمودين عند الأمة مع أن هذا بعيد أو غير واقع لم يعدم أحدهم هذه الأسباب، ولو وقع لم يقدح في إمامتهم على الإطلاق فإنا لا نعتقد في القوم العصمة، بل نجوز عليهم الذنوب ونرجو لهم مع ذلك أعلى الدرجات لما اختصهم الله به من الأعمال الصالحة والأحوال السنية، وأنهم لم يكونوا مصرين على ذنب، وليسوا بأعلى درجة من الصحابة -رضي الله عنهم- والقول فيهم كذلك فيما اجتهدوا فيه من الفتاوى والقضايا والدماء التي كانت بينهم وغير ذلك، ثم إنهم مع العلم بأن التارك الموصوف معذور بل مأجور لا يمنعنا أن نتبع الأحاديث الصحيحة التي لم نعلم لها معارضا يدفعها، وأن نعتقد وجوب العمل بها على الأمة ووجوب تبليغها، وهذا مما لا يختلف العلماء فيه" انتهى المقصود من هذا البحث من فتوى شيخ الإسلام، ولها تتمة بديعة فلتنظر). [قواعد التحديث: 629-645]