الدروس
course cover
الدرس العشرون: خاتمة الكتاب
11 Oct 2022
11 Oct 2022

1095

0

0

course cover
قواعد التحديث

القسم الرابع

الدرس العشرون: خاتمة الكتاب
11 Oct 2022
11 Oct 2022

11 Oct 2022

1095

0

0


0

0

0

0

0

الدرس العشرون: خاتمة الكتاب


قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (خاتمة الكتاب في فوائد متنوعة يضطر إليها الأثري:

1- سبيل الترقي في علوم الدين:

قال الإمام تقي الدين رحمه الله في إحدى وصاياه: "جماع الخير أن يستعين بالله سبحانه وتعالى في تلقي العلم المأثور عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فإنه الذي يستحق أن يسمى علمًا، وما سواه إما أن يكون علمًا ولا يكون نافعًا، وإما أن لا يكون علمًا وإن سمي به، ولئن كان علمًا نافعًا فلأن يكون في ميراث محمد ما يغني عنه مما هو مثله وخير منه، وليكن همته فهم مقاصد الرسول في أمره ونهيه وسائر كلامه، فإذا اطمأن قلبه أن هذا هو مراد الرسول فلا يعدل عنه فيما بينه وبين الله تعالى ولا مع الناس إذا أمكنه ذلك، وليجهد أن يعتصم في كل باب من أبواب العلم بأصل مأثور من النبي -صلى الله عليه وسلم- وإذا اشبته عليه مما قد اختلف في الناس فليدع بما رواه مسلم في صحيحه عن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يقول إذا قام يصلي من الليل: "الله رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات، والأرض عالم الغيث والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم" فإن الله تعالى قال فيما رواه عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم". اهـ.

2- قاعدة المحققين في مسائل الدين وعلماء الفرق:

قال المحقق ابن القيم رحمه الله في كتابه طريق الهجرتين: "إن عادتنا في مسائل الدين كلها، دقها وجلها، أن نقول بموجبها، ولا نضرب بعضها ببعض، ولا نتعصب لطائفة على طائفة بل نوافق كل طائفة على ما معها من الحق، ونخالفها فيما معها من خلاف الحق لا نستثني من ذلك طائفة ولا مقالة، ونرجو من الله أن نحيا على ذلك ونموت عليه، ونلقى الله به ولا قوة إلا بالله". اهـ.

وقال حكيم مصره بل عصره الشيخ محمد عبده مفتي مصر، في كتاب الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية في مبحث: "سماحة الإسلام" ما لفظه: "آخذ بيد القارئ الآن وأرجع به إلى ما مضى من الزمان، وأقف به وقفه بين يدي خلفاء بني أمية والأئمة من بني العباس ووزرائهم والفقهاء والمتكلون والمحدثون والأئمة المجتهدون من حولهم، والأدباء والمؤرخون والأطباء والفلكيون والرياضيون والجغرافيون والطبيعيون، وسائر أهل النظر من كل قبيل مطيفون بهم، وكل مقبل على عمله فإذا فرغ عامل من العمل أقبل على أخيه ووضع يده في يده يصافح الفقيه المتكلم والمحدث الطبيب والمجتهد الرياضي والحكم، وكل يرى في صاحبه عونًا على ما يشتغل هو به، وهكذا أدخل به بيتًا من بيوت العلم فأجد جميع هؤلاء سواء في ذلك البيت يتحادثون ويتباحثون، والإمام البخاري حافظ السنة بين يدي الحسن البصري شيخ السنة من التابعين يتلقى عنه، وقد سئل الحسن عنه فقال للسائل: "لقد سألت عن رجل كأن الملائكة أدبته، وكأن الأنبياء ربته إن قام بأمر قعد به، وإن قعد بأمر قام به وإن أمر بشيء كان ألزم الناس له، وإن نهى عن شيء كان أترك الناس له ما رأيت ظاهرًا أشبه بباطن منه، ولا باطنًا أشبه بظاهر منه" بل أرفع بصري فأجد الإمام أبا حنيفة أمام الإمام زيد بن علي صاحب مذهب الزيدية من الشيعة يتعلم منه أصول العقائد والفقه، ولا يجد أحدهم من الأخر إلا ما يجد صاحب الرأي في حادثة ممن ينازعه فيه اجتهادًا في بيان المصلحة، وهما من أهل بيت واحد أمر به بين تلك الصفوف التي كانت تختلف وجهتها في الطلب وغايتها واحدة، وهي العلم، وعقيدة كل واحد منهم أن: "فكر ساعة خير من عبادة ستين سنة" كما ورد في بعض الأحاديث.

ثم قال: الخلفاء أئمة في الدين مجتهدون، وبأيديهم القوة، وتحت أمرهم الجيش، والفقهاء والمحدثون والمتكلمون والأئمة المجتهدون الآخرون، هم قادة أهل الدين ومن جند الخلفاء الدين في قوته والعقيدة في أوج سلطانها، وسائر العلماء ممن ذكرنا بعدهم يتمتعون في أكنافهم بالخير والسعادة ورفه العيش وحرية الفكر، لا فرق في ذلك بين من كان من دينهم، ومن كان من دين آخر فهناك يشير القارئ المنصف إلى أولئك المسلمين، وأنصار ذلك الدين، ويقول ها هنا يطلق اسم التسامح مع العلم في حقيقته ها هنا يوصف الدين بالكرم، والحلم ها هنا يعرف كيف يتفق الدين مع المدينة عن هؤلاء العلماء الحكماء تؤخذ فنون الحرية في النظر، ومنهم تهبط روح المسألة بين العقل الوجدان أو بين العقل والقلب، كما يقولون يرى القارئ أنه لم يكن جلاد بين العلم والدين، وإنما كان بين الله أهل العلم بين أهل الدين شيء من التخالف في الآراء شأن الأحرار في الأفكار لا الذين أطلقوا من غل التقليد، وعوفوا من علة التقليد، ولم يكن يجري فيما بينهم اللمز والتنابز بالألقاب، فلا يقول أحد منهم لآخر إنه زنديق أو كافر أو مبتدع أو ما يشبه ذلك، ولا تتناول أحدًا منهم يدٌ بأذى إلا إذا خرج عن نظام الجماعة، وطلب الإجلال بأمن العامة فكان كالعضو المجذم فيقطع ليذهب ضرره عن البدن كله.

ثم قال بعد ذلك تحت عنوان: "ملازمة العلم للدين، وعدوى التعصب في المسلمين" ما صورته "متى ولع المسلمون بالتكفير والتفسيق، ورمى زيد بأنه زنديق؟ أشرنا فيما سبق إلى مبدأ هذا المرض، ونقول الآن: إن ذلك بدأ فيهم عندما بدأ الضعف في الدين يظهر بينهم وأكلت الفتن أهل البصيرة من أهله -تلك الفتن التي كان يثيرها أعداء الدين في الشرق، وفي الغرب لخفض سلطانه وتوهين أركانه- وتصدر للقول في الدين برأيه من لم تمتزج روحه بروح الدين، وأخذ المسلمون يظنون أن من البدع في الدين ما يحسن إحداثه لتعظيم شأنه تقليدًا لمن كان بين أيديهم من الأمم المسيحية وغيرها، وأنشئوا ينسون ماضي الدين، ومقالات سلفهم فيه ويكتفون برأي من يرونه من المتصدرين المتعالين، وتولى شئون المسلمين جهالهم وقام بإرشادهم في الأغلب ضلالهم في أثناء ذلك حدث الغلو في الدين، واستعرت نيران العداوات بين النظار فيه، وسهل كل منهم لجهله بدينه أن يرمي الآخر بالمروق منه لأدنى سبب، وكلما ازدادوا جهلًا بدينهم ازدادوا غلوا فيه بالباطل، ودخل العلم والفكر والنظر -وهي لوازم الدين الإسلامي- في جملة ما كرهوه وانقلب عندهم ما كان واجبًا من الدين محظورا فيه".

3- وصية الغزالي في معاملة المتعصب:

قال الإمام الغزالي رحمه الله تعالى في كتابه فيصل التفرقة، في تتمة الفصل الأول، بعد حكمه على من يتخبط في الجواب، ويعجز عن كشف الغطاء بأنه ليس من أهل النظر، وإنما هو مقلد ما نصه: "وشرط المقلد أن يسكت ويسكت عنه؛ لأنه قاصر عن سلوك طريق الحجاج، ولو كان أهلًا له كان مستتبعا لا تابعا، وإماما لا مأمومًا، فإن خاض المقلد في المحاجة فذلك منه فضول، والمشتغل به صار كضارب في حديد بارد، وطالب لصلاح الفاسد، وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر؟ ".

وقال رحمه الله في موضع آخر منه: "فإذا رأيت الفقيه الذي بضاعته مجرد الفقه يخوض في التكفير والتضليل، فأعرض عنه، ولا تشغل به قلبك ولسانك، فإن التحدي بالعلوم غريزة في الطبع لا يصبر عنه الجهال ولأجله كثر الخلاف بين الناس، ولو ينكث من الأيدي من لا يدري لقل الخلاف بين الخلق".

أقول: هذا بمعنى قول سقراط: لو سكت من لا يعلم لسقط الاختلاف.

وقال الغزالي قدس سره في كتابه "المنقذ من الضلال": "لا مطمع في الرجوع إلى التقليد بعد مفارقته؛ إذ من شرط المقلد أن لا يعلم أنه مقلد، فإذا علم ذلك انكسرت زجاجة تقليده وهو شعب لا يرأب، وشعث لا يلم بالتلفيق، والتأليف إلا أن يذاب بالنار، ويستأنف لها صيغة أخرى مستجدة". اهـ.

4- بيان من يسلم من الأغلاط:

قال الإمام السيد مرتضى اليماني في كتابه إيثار الحق: "واعلم أنه لا يكاد يسلم من هذه الأغلاط إلا أحد رجلين؛ إما رجل ترك البدعة كلها، والتمذهب والتقاليد والاعتزاء إلى المذاهب والأخذ من التعصب بنصيب، وبقي مع الكتاب والسنة كرجل نشأ قبل حدوث المذاهب، ولم يعبر عن الكتاب والسنة بعبارة منه مبتدعة، واستعان بالله وأنصف ووقف في مواقف التعارض والاشتباه، ولم يدع علم ما لم يعلم، ولا تكلف ما لا يحسن، وهذا هو مسلك البخاري، وأئمة السنة غالبًا في ترجمة تصدير الأبواب، وفي العقائد بالآيات القرآنية والأخبار النبوية، كما صنع في أبواب القدر وكتاب التوحيد والرد على الجهمية وأبواب المشيئة، ورجل أتقن العلمين: العقلي والسمعي، وكان من أئمتهما معًا بحيث يرجع إليه أئمتهما في وقائعهما ومشكلاتهما مع حسن قصد وورع وإنصاف وتحر للحق فهذا لا تخلف عنه هداية الله وإعانته، وأما من عادى أحد هذين العلمين، وعادى أهله ولم يكن على الصفة الأولى من لزوم ما يعرف وترك ما لا يعرف، فإنه لا بد أن تدخل عليه البدع والأغلاط والشناعات").  [قواعد التحديث: 646-650]

هيئة الإشراف

#2

11 Oct 2022

قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (تتمة في مقصدين

1- المقصد الأول:

في أن طلب الحديث أن يتقى به الله عز وجل، وأن طلب الشارع للعمل لكونه وسيلة إلى التعبد به.

قال العلامة أبو إسحاق الشاطبي في الموافقات في مقدمتها السابعة: "كل علم شرعي، فطلب الشارع له إنما يكون من حيث هو وسيلة إلى التعبد به لله تعالى، لا من جهة أخرى فإن ظهر فيه اعتبار جهة أخرى فبالتبع". ثم ساق الأدلة على ذلك، ومنها أن الشرع إنما جاء بالتعبد وهو المقصود من بعثة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وجود الكلام في ذلك على عادته رحمه الله ثم قال في المقدمة الثامنة: "العلم الذي هو العلم المعتبر شرعًا أعني الذي مدح الله ورسوله أهله على الإطلاق هو العلم الباعث على العمل الذي لا يخلي صاحبه جاريًا مع هواه كيفما كان، بل هو المقيد لصاحبه بمقتضاه الحامل له على قوانينه طوعًا أو كرهًا، ومعنى هذه الجملة أن أصل العلم في طلبه، وتحصيله على ثلاثة مراتب:

المرتبة الأولى: الطالبون له ولما يحصلوا على كماله بعد، وإنما هم في طلبه في رتبه التقليد فهؤلاء إذا دخلوا في العمل به فبمقتضى الحمل التكليفي، والحث الترغيبي والترهيبي، وعلى مقدار شدة التصديق يخف ثقل التكليف، فلا يكتفي العلم ها هنا بالحمل دون أمر آخر خارج مقوله من زجر أو قصاص أو حد أو تعزير أو ما جرى هذا المجرى، ولا احتياج ها هنا إلى إقامة برهان على ذلك إذ التجربة الجارية في الخلق قد أعطت هذه المرتبة برهانًا لا يحتمل النقيض بوجه.

والمرتبة الثانية: الواقفون منه على براهينه ارتفاعًا عن حضيض التقليد المجرد، واستبصارًا فيه، حسبما أعطاه شاهد النقل الذي يصدقه العقل تصديقا يطمئن إليه ويعتمد عليه إلا أنه بعد منسوب إلى العقل لا إلى النفس بمعنى أنه لم يصر كالوصف الثابت للإنسان وإنما هو كالأشياء المكتسبة، والعلوم المحفوظة التي يتحكم عليها العقل ويعتمد في استجلابها حتى تصير من جملة مودعاته. فهؤلاء إذا دخلوا في العمل خف عليهم خفة أخرى زائدة على مجرد التصديق في المرتبة الأولى، بل لا نسبة بينهما؛ إذ هؤلاء يأبى لهم البرهان المصدق أن يكذبوا، ومن جملة التكذيب الخفي العمل على مخالفة العلم الحاصل لهم، ولكنهم حين لم يصر لهم كالوصف ربما كانت أوصافهم الثابتة من الهوى والشهوة الباعثة الغالبة أقوى الباعثين، فلا بد من الافتقار إلى أمر زائد من خارج غير أنه يتسع في حقهم فلا يقتصر فيه على مجرد الحدود والتعزيرات، بل ثم أمور أخرى كمحاسن العادات، ومطالبة المراتب التي بلغوها بما يليق بها، وأشباه ذلك، وهذه المرتبة أيضًا يقوم البرهان عليها من التجربة إلا أنها أخفى مما قبلها فيحتاج إلى فضل نظر موكول إلى ذوي النباهة في العلوم الشرعية، والأخذ في الإنصافات السلوكية.

والمرتبة الثالثة: الذين صار لهم العلم وصفًا من الأوصاف الثابتة، بمثابة الأمور البديهية في المعقولات الأولى أو تقاربها، ولا ينظر إلى طريق حصولها، فإن ذلك لا يحتاج إليه، فهؤلاء لا يخليهم العلم وأهواءهم إذا تبين لهم الحق، بل يرجعون إليه رجوعهم إلى دواعيهم البشرية وأوصافهم الخلقية، وهذه المرتبة هي المترجم لها، والدليل على صحتها من الشريعة كثير كقوله تعالى: {أم من هو قانتٌ آناء اللّيل ساجدًا وقائمًا يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربّه} ثم قال: {قل هل يستوي الّذين يعلمون والّذين لا يعلمون} الآية. فنسب هذه المحاسن إلى أولي العلم من أجل العلم لا من أجل غيره. وقال تعالى: {اللّه نزّل أحسن الحديث كتابًا متشابهًا مثاني تقشعرّ منه جلود الّذين يخشون ربّهم} والذين يخشون ربهم هم العلماء لقوله: {إنّما يخشى اللّه من عباده العلماء} وقال تعالى: {وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرّسول ترى أعينهم تفيض من الدّمع ممّا عرفوا من الحقّ} الآية. ولما كان السحرة قد بلغوا في علم السحر مبلغ الرسوخ فيه، وهو معنى هذه المرتبة بادروا إلى الانقياد والإيمان حين عرفوا من علمهم أن ما جاء به موسى عليه السلام حق ليس بالسحر ولا الشعوذة، ولم يمنعهم من ذلك التخويف ولا التعذيب الذي توعدهم به فرعون وقال تعالى: {وتلك الأمثال نضربها للنّاس وما يعقلها إلّا العالمون} فحصر تعقلها في العالمين. وهو قصد الشارع من ضرب الأمثال، وقال: {أفمن يعلم أنّما أنزل إليك من ربّك الحقّ كمن هو أعمى} ثم وصف أهل العلم بقوله: {الّذين يوفون بعهد اللّه} إلى آخر الأوصاف وحاصلها يرجع إلى أن العلماء هم العاملون وقال في أهل الإيمان -والإيمان من فوائد العلم- {إنّما المؤمنون الّذين إذا ذكر اللّه وجلت قلوبهم} إلى أن قال: {أولئك هم المؤمنون حقًّا}. ومن هذا قرن العلماء في العمل بمقتضى العلم بالملائكة الذين {لا يعصون اللّه ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون} فقال تعالى: {شهد اللّه أنّه لا إله إلّا هو والملائكة وأولو العلم قائمًا بالقسط لا إله إلّا هو} فشهادة الله تعالى وفق علمه ظاهرة التوافق إذ التخالف محال وشهادة الملائكة على وفق ما علموا صحيحة لأنهم محفوظون من المعاصي وأولو العلم أيضًا كذلك من حيث حفظوا بالعلم، وقد كان الصحابة -رضي الله عنهم- إذا نزلت عليهم آية فيها تخويف أحزنهم ذلك وأقلقهم حتى يسألوا النبي -صلى الله عليه وسلم- كنزول آية البقرة: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه} الآية وقوله: {الّذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم} الآية، وإنما القلق والخوف من آثار العلم بالمنزل والأدلة أكثر من إحصائها هنا وجميعها يدل على أن العلم المعتبر هو الملجئ إلى العمل به، فإن قيل هذا غير ظاهر من وجهين:

أحدهما: أن الرسوخ في العلم، إما أن يكون صاحبه محفوظا به من المخالفة أو لا؛ فإن لم يكن كذلك فقد استوى أهل هذه المرتبة مع من قبلهم ومعناه أن العلم بمجرده غير كاف في العمل به، ولا ملجئ إليه؛ وإن كان محفوظًا به من المخالفة لزم أن لا يعصي العالم إذا كان من الراسخين فيه، لكن العلماء تقع منهم المعاصي ما عدا الأنبياء عليهم السلام، ويشهد لهذا في أعلى الأمور قوله تعالى في الكفار: {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلمًا وعلوًّا}. وقال: {الّذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإنّ فريقًا منهم ليكتمون الحقّ وهم يعلمون}. وقال: {وكيف يحكّمونك وعندهم التّوراة فيها حكم اللّه ثمّ يتولّون من بعد ذلك} وقال: {ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاقٍ} ثم قال: {ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون} وسائر ما في هذا المعنى فأثبت لهم المعاصي والمخالفات مع العلم فلو كان العلم صادًّا عن ذلك لم يقع.

والثاني: ما جاء في ذم العلماء السوء وهو كثير، ومن أشد ما فيه قوله عليه الصلاة والسلام: "إن أشد الناس عذابًا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه" وفي القرآن: {أتأمرون النّاس بالبرّ وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب} وقال: {إنّ الّذين يكتمون ما أنزلنا من البيّنات والهدى} الآية. وقال: {إنّ الّذين يكتمون ما أنزل اللّه من الكتاب ويشترون به ثمنًا قليلًا} الآية. وحديث الثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النار يوم القيامة والأدلة فيه كثيرة، وهو ظاهر في أن أهل العلم غير معصومين بعلهم، ولا هو ما يمنعهم عن إتيان الذنوب فكيف يقال إن العلم مانع من العصيان فالجواب عن الأول أن الرسوخ في العلم يأبى للعالم أن يخالفه بالأدلة المتقدمة، وبدليل التجربة العادية لأن ما صار كالوصف الثابت لا يصرف صاحبه إلا على وفقه اعتيادًا فإن تخلف فعلى أحد ثلاثة أوجه:

الأول: مجرد العناد، فقد يخالف فيه مقتضى الطبع الجبلي، فغيره أولى؛ وعلى ذلك دل قوله تعالى: {وجحدوا بها} الآية وقوله تعالى: {ودّ كثيرٌ من أهل الكتاب لو يردّونكم من بعد إيمانكم كفّارًا حسدًا من عند أنفسهم من بعد ما تبيّن لهم الحقّ} وأشباه ذلك، والغالب على هذا الوجه أن لا يقع إلا لغلبة هوى من حب دنيا أو جاه أو غيره ذلك، بحيث يكون وصف الهوى قد غمر القلب حتى لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرا.

الثاني: الفلتات الناشئة عن الغفلات التي لا ينجو منها البشر، فقد يصير العالم بدخوله الغفلة غير عالم وعليه يدل عند جماعة قوله تعالى: {إنّما التّوبة على اللّه للّذين يعملون السّوء بجهالةٍ ثمّ يتوبون من قريبٍ} الآية. وقال تعالى: {إنّ الّذين اتّقوا إذا مسّهم طائفٌ من الشّيطان تذكّروا فإذا هم مبصرون} ومثل هذا الوجه لا يعترض على أصل المسألة كما لا يعترض نحوه على سائر الأوصاف الجبلية فقد لا تبصر العين ولا تسمع الأذن لغلبة فكر أو غفلة أو غيرهما فترتفع في الحال منفعة العين والأذن حتى يصلب، ومع ذلك لا يقال إنه غير مجبول على السمع والإبصار فما نحن فيه كذلك.

الثالث: كونه ليس من أهل هذه المرتبة، فلم يصر العلم له وصفًا أو كالوصف مع عده من أهلها وهذا يرجع إلى غلط في اعتقاد العالم في نفسه أو اعتقاد غيره فيه، ويدل عليه قوله تعالى: {ومن أضلّ ممّن اتّبع هواه بغير هدًى من اللّه}. وفي الحديث: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من الناس" إلى أن قال: "اتخذ الناس رؤساء جهالًا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا" وقوله: "ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة أشدها فتنة على أمتي الذين يقيسون الأمور بآرائهم" الحديث.

فهؤلاء وقعوا في المخالفة بسبب ظن الجهل علمًا، فليسوا من الراسخين في العلم ولا ممن صار لهم كالوصف، وعند ذلك لا حفظ لهم في العلم فلا اعتراض بهم فأما من خلا عن هذه الأوجه الثلاثة فهو الداخل تحت حفظ العلم حسبما نصته الأدلة، وفي هذا المعنى من كلام السلف كثير وقد روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إن لكل شيء إقبالًا وإدبارًا وإن لهذا الدين إقبالًا وإدبارًا، وإن من إقبال هذا الدين ما بعثني الله به حتى إن القبيلة لتتفقه من عند أسرها، أو قال آخرها حتى لا يكون فيها إلا الفاسق أو الفاسقان فهما مقموعان ذليلان إن تكلما أو نطقا قمعا وقهرا واضطهدا" الحديث وفي الحديث: "سيأتي على أمتي زمان يكثر القراء ويقل الفقهاء ويقبض العلم ويكثر الهرج" إلى أن قال: "ثم يأتي من بعد ذلك زمان يقرأ القرآن رجال من أمتي لا يجاوز تراقيهم ثم يأتي من بعد ذلك زمان يجادل المنافق المشرك يمثل ما يقوله" وعن علي: "يا حملة العلم اعملوا به فإن العالم من علم ثم عمل ووافق عليه عمله، وسيكون أقوام يحملون العلم لا يجاوز تراقيهم تخالف سريرتهم علانيتهم ويخالف علمهم عملهم يقعدون حلقا يباهي بعضهم بعضًا حتى إن الرجل ليغضب على جليسه أن يجلس إلى غيره ويدعه، أولئك لا تصعد أعمالهم تلك إلى الله عز وجل" وعن ابن مسعود: "كونوا للعلم وعاة ولا تكونا له رواة فإنه قد يرعوي، ولا يروي وقد يروي ولا يرعوي" وعن أبي الدرداء: "لا تكون تقيًّا حتى تكون عالمًا، ولا تكون بالعلم جميلًا حتى تكون به عاملًا" وعن الحسن: "العالم الذي وافق علمه عمله ومن خالف علمه عمله فذلك راوية حديث سمع شيئًا فقاله". وقال الثوري: "العلماء إذا علموا عملوا فإذا عملوا شغلوا فإذا شغلوا فقدوا فإذا فقدوا طلبوا فإذا طلبوا هربوا" وعن الحسن قال: "الذي يفوق الناس في العلم جدير أن يفوقهم في العمل" وعنه في قول الله تعالى: {وعلّمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم} قال: علمتم فعلتم ولم تعملوا فوالله ما ذلكم بعلم! وقال الثوري: "العلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل" وهذا تفسير معنى كون العلم هو الذي يلجئ إلى العمل، وقال الشعبي: "كنا نستعين على حفظ الحديث بالعمل به" ومثله عن وكيع بن الجراح، وعن ابن مسعود: "ليس العلم عن كثرة الحديث إنما العلم خشية الله" والآثار في هذا النحو كثيرة، وبما ذكر يتبين الجواب عن الإشكال الثاني فإن علماء السوء هم الذين لا يعملون بما يعلمون، وإذا لم يكونوا كذلك فليسوا في الحقيقة من الراسخين في العلم، وإنما هم رواة والفقه فيما رووا أمر آخر أو ممن غلب عليهم هوى غطى على القلوب، والعياذ بالله على أن المثابرة على طلب العلم والتفقه فيه وعدم اجتزاء باليسير منه يجر إلى العمل به ويلجئ إليه كما تقدم بيانه هو معنى قول الحسن: "كنا نطلب العلم للدنيا فجرنا إلى الآخرة"، وعن معمر أنه قال: "كان يقال من طلب العلم لغير الله يأبى عليه العلم حتى يصيره إلى الله"، وعن حبيب بن أبي ثابت: "طلبنا هذا الأمر، وليس لنا فيه نية ثم جاءت النية بعد" وعن الثوري قال: "كنا نطلب العلم للدنيا فجرنا إلى الآخرة" وهو معنى قوله في كلام آخر: "كنت أغبط الرجل يجتمع حوله، ويكتب عنه فلما ابتليت به وددت أني نجوت منه كفافا لا علي ولا لي" وعن أبي الوليد الطيالسي قال: "سمعت ابن عيينة منذ أكثر من ستين سنة يقول: طلبنا هذا الحديث لغير الله فأعقبنا الله ما ترون"، وقال الحسن: "لقد طلب أقوام العلم ما أرادوا به الله وما عنده فما زال بهم حتى أرادوا به الله وما عنده" فهذا أيضًا مما يدل على صحة ما تقدم.

ثم قال الشاطبي بعد ذلك: "ويتصدى النظر هنا في تحقيق هذه المرتبة وما هي، والقول في ذلك على الاختصار أنها أمر باطن، وهو الذي عبر عنه بالخشية في حديث ابن مسعود، وهو راجع إلى معنى الآية. وعنه عبر في الحديث في أول ما يرفع من العلم الخشوع، وقال مالك: "ليس العلم بكثرة الرواية ولكنه نور يجعله الله في القلوب" وقال أيضًا: "الحكمة والعلم نور يهدي به الله من يشاء وليس بكثرة المسائل، ولكن عليه علامة ظاهرة وهو التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود، وذلك عبارة عن العمل بالعلم من غير مخالفة وبالله التوفيق". اهـ.

وقال الحافظ السخاوي في فتح المغيث، تحت قول العرافي: "واعمل بما تسمع في الفضائل" ما صورته: "لحديث مرسل قال رجل: يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما ينفي عني حجة العلم قال: "العمل"، ولقول مالك بن مغول في قوله تعالى: {فنبذوه وراء ظهورهم} قال: تركوا العمل به ولقول إبراهيم الحربي إنه ينبغي للرجل إذا سمع شيئًا في آداب النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يتمسك به ولأن ذلك سبب ثبوته وحفظه ونموه والاحتياج فيه إليه، ويروى أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم" وعن أبي الدرداء قال: من عمل بعشر ما يعلم علمه الله ما يجهل، وعن ابن مسعود أنه قال: ما عمل أحد بما علمه الله إلا احتاج الناس إلى ما عنده.

وقال النووي في الأذكار: ينبغي لما بلغه شيء من فضائل الأعمال أن يعمل به ولو مرة ليكون من أهله ولا ينبغي أن يتركه مطلقا، بل يأتي بما تيسر منه لقوله -صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بشيء فافعلوا منه ما استطعتم".

قلت: ويروى في الترغيب في ذلك عن جابر مرفوع لفظه: "من بلغه عن الله عز وجل شيء فيه فضيلة فأخذ به إيمانا به ورجاء ثوابه أعطاه الله ذلك وإن لم يكن كذلك"، وله شاهد قال أبو عبد الله محمد بن خفيف ما سمعت شيئًا من سنن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا واستعملته حتى الصلاة على أطراف الأصابع، وهي صعبة. وقال الإمام أحمد: "ما كتبت حديثًا إلا وقد عملت به حتى مر بي في الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- احتجم وأعطى أبا طيبة دينارًا فأعطيت الحجام دينارًا حين احتجمت ويقال: "اسم أبي طيبة دينار"، وحكاه ابن عبد البر ولا يصح وعن أبي عصمة عاصم بن عصام البيهقي قال: بت ليلة عند أحمد فجاء بالماء فوضعه فلما أصبح نظر إلى الماء فإذا هو كما كان فقال: سبحان الله رجل يطلب العلم لا يكون له ورد بالليل، وقال أحمد في قصة: صاحب الحديث عندنا من يستعمل الحديث، وعن الثوري قال: "إن استطعت أن لا تحك رأسك إلا بأثر فافعل" وصلى رجل ممن يكتب الحديث بجنب ابن مهدي فلم يرفع يديه فلما سلم قال له: ألم تكتب عن ابن عيينة حديث الزهري عن سالم عن أبيه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يرفع يديه في كل تكبيرة؟ قال: نعم! قال: فماذا تقول لربك إذا لقيك في تركك لهذا وعدم استعماله، وعن أبي جعفر أحمد بن حمدان بن علي النيسابوري قال: كنت في مجلس أبي عبد الله المروزي فلما حضرت الظهر، وأذن أبو عبد الله خرجت من المسجد فقال: إلى أين يا أبا جعفر قلت: أتطهر للصلاة قال: كان ظبي بك غير هذا يدخل عليك وقت الصلاة، وأنت على غير طهارة، وعن أبي عمرو محمد بن حمدان قال: صلى بنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل بمسجده وعليه إزار ورداء فقلت لأبي: يا أبتا هو محرم فقال: لا، ولكنه يسمع مني المستخرج الذي خرجته على مسلم فإذا مرت به سنة لم يكن استعملها فيما مضى أحب أن يستعملها في يومه وليلته، وأنه سمع من جملة ما قرئ عليّ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى في إزار ورداء فأحب أن يستعمل هذه السنة قبل أن يصبح، وعن بشر بن الحارث أنه قال: يا أصحاب الحديث أتؤدون زكاة الحديث فقيل له: يا أبا نصر، وللحديث زكاة قال: نعم إذا سمعتم الحديث فما كان فيه من عمل أو صلاة أو تسبيح استعملتموه، وفي لفظ عنه رويناه بعلو في جزء للحسن بن عبد الملك أنه لما قيل له: كيف تؤدى زكاته قال: اعملوا من كل مائتي حديث بخمسة أحاديث، وروينا عن أبي قلابة قال: إذا أحدث الله لك علما فأحدث له عبادة، ولكن إنما همك أن تحدث به الناس، وعن الحسن البصري قال: كان الرجل يطلب العلم فلا يلبث أن يرى ذلك في تخشعه وهديه ولسانه وبصره ويده).  [قواعد التحديث: 651-662]

هيئة الإشراف

#3

11 Oct 2022

قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): (2- المقصد الثاني:

فيما روي في مدح رواية الحديث ورواته من بدائع المنظومات:

قال الحافظ أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله بن عساكر الدمشقي المؤرخ الشهير:

واظب على جمع الحديث وكتبه   =   واجهد على تصحيحه في كتبه

واسمعه من أربابه نقلًا كما   =   سمعوه من سمعوه من أشياخهم تسعد به

واعرف ثقات رواته من غيرهم   =   كيما تميز صدقه من كذبه

فهو المفسر لكتاب وإنما   =   نطق النبي لنا به عن ربه

وتفهم الأخبار تعرف حله   =   من حرمه مع فرضه من ندبه

وهو المبين للعباد بشرحه   =   سير النبي المصطفى مع صحبة

وتتبع العالي الصحيح فإنه   =   قرب إلى الرحمن تحظ بقربه

وتجنب التصحيف فيه فربما   =   أدى إلى تحريفه بل قلبه

واترك مقالة من لحاك بجهله   =   عن كتبه أو بدعة في قلبه

فكفى المحدث رفعة أن يرتضي   =   ويعد من أهل الحديث وحزبه

وقال رحمه الله تعالى:

لقول الشيخ: "أنبأني فلان،   =   وكان من الأئمة عن فلان"

إلى أن ينتهي الإسناد أحلي   =   لقلبي من محادثة الحسان

ومشتمل على صوت فصيح   =   ألذ إلي من صوت القيان

وتزييني الطروس بنقش نقس   =   أحب إلى من نقش الغوالي

وتخريج الفوائد والأمالي   =   وتسطير الغرائب والحسان

وتصحيح العوالي من العوالي   =   بنيسابور أو في أصفهان

أحب إليّ من أخبار ليلي   =   وقيس بن الملوح والأغاني

فإن كتابة الأخبار ترقي   =   بصاحبها إلى غرف الجنان

وحفظ حديث خير الخلق مما   =   ينال به الرضا بعد الأمان

فأجر العلم ينمو كل حين   =   وذكر المرء يبقي وهو فاني

وقال الحافظ البرقاني رحمه الله تعالى:

أعلل نفسي بكتب الحديـ   =   ـث وأجمل فيه لها موعدا

وأشغل نفسي بتصنيفه   =   وتخريجه أبدًا سرمدا

فطورًا أصنفة في الشيو   =   خ وطورًا أصنفه مسندا

وأقفو البخاري فيما نحا   =   وصنفه جاهدًا مجهدا

ومسلمًا إذ كان زين الأنا   =   م بتصنيفه مسلمًا مرشدًا

وما لي فيه سوى أنني   =   أراه هوى وافق المقصدا

وأرجو الثواب بكتب الصلا   =   ة على السيد المصطفي أحمدا

وأسأل ربي إله العبا   =   د جربًا على ماله عودا

وقال الحميدي صاحب: "الجمع بين الصحيحين" من قصيدة وافرة:

ولو رواه الدين ضاعت وأصبحت   =   معالمه في الآخرين تبيد

همو حفظو الآثار من كل شبهة   =   وغيرهمو عما افتنوه رقود

وهم هاجروا في جمعها وتبادروا   =   إلى كل أفق والمرام كؤود"

وقاموا بتعديل الرواة وجرحهم   =   قيام صحيح النقل وهو حديد

بتبليغهم صحت شرائع ديننا   =   حدود تحروا حفظها وعهود

وصح لأهل النقل منها احتجاحهم   =   فلم يبق إلا عاند وحقود

ومما ينسب للإمام الشافعي -رضي الله عنه:

كل العلوم سوى القرآن مشغلة   =   إلا الحديث وإلا الفقه في الدين

العلم ما كان فيه: "قال حدثنا"   =   وما سواه فوسواس الشياطين

وأنشد أبو الظهير رحمه الله تعالى:

إذا رمت أن تتوخى الهدى   =   وأن تأتي الحق من بابه

فدع كل قول ومن قاله   =   لقول النبي وأصحابه

فلم تنج من محدثات الأمور   =   بغير الحديث وأربابه

وقال الإمام شمس الدين ابن القيم الدمشقي في الكافية الشافية:

يا من يريد نجاته يوم الحسا   =   ب من الجحيم وموقد النيران

ابتع رسول الله في الأقوال والـ   =   أعمال لا تخرج عن القرآن

وخذ الصحيحين اللذين هما لعقـ   =   ـد الدين والإيمان واسطتان

واقرأهما بعد التجرد من هوى   =   وتعصب وحمية الشيطان

واجعلهما حكمًا ولا تحكم على   =   ما فيهما أصلا بقول فلان

واجعل مقالته كبعض مقالة الـ   =   أشباح تنصرها بكل أوان

وانصر مقالته كنصرك للذي   =   قلدته من غير ما برهان

قد رسول الله عندك وحده   =   والقول منه إليك ذو تبيان

ماذا ترى فرضًا عليك معينًا   =   إن كنت ذا عق ذو إيمان

عرض الذي قالوا على أقواله   =   أو عكس ذاك فذانك الأمران

هي مفرق الطرقات بين طريقنا   =   وطريق أهل الزيغ والعدوان

قدر مقالات العباد جميعهم   =   عدمًا وراجع مطلع الإيمان

واجعل جلوسك بين صحب محمد   =   وتلق معهم عنه بالإحسان

وتلق عنهم ما تلقوه همو   =   عنه من الإيمان والعرفان

أفليس في هذا بلاغ مسافر   =   يبغي الإله وجنة الحيوان

لولا التنافس بين هذا الخلق ما   =   كان التفرق قط في الحسبان

فالرب رب واحد وكتابه   =   حق وفهم الحق منه دان

ورسوله قد أوضح الحق المبيـ   =   ـن بغاية الإيضاح والتبيان

ما ثم أوضح من عبارته فلا   =   يحتاج سامعها إلى تبيان

والنصح منه فوق كل نصيحة   =   والعلم مأخوذ عن الرحمن

فلأي شي يعدل الباغي الهدى   =   عن قوله لولا عمي الخذلان

فالنقل عنه مصدق والقول من   =   ذي عصمة ما عندنا قولان

والعكس عند سواه في الأمرين يا   =   من يهتدي هل يستوى النقلان

تالله قد رح الصياح لمن له   =   عينان نحو الفجر ناظرتان

وأخو العماية في عمايته يقو   =   ل: الليل بعد أيستوى الرجلان

تالله قد رفعت له الأعلام إن   =   كنت المشمر نلت دار أمان

وقال الحافظ ابن عبد البر.

مقالة ذي نصح وذات فوائد   =   إذا من ذوي الألباب كان استماعها

عليكم بآثار النبي فإنها   =   من أفضل أعمال الرجال اتباعها

وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:

هينئًا لأصحاب خير الورى   =   وطوبى لأصحاب أخباره

أولئك فازوا بتذكيره   =   ونحن سعدنا بتذكاره

وهم سبقونا إلى نصره   =   وها نحن أتباع أنصاره

ولما حرمنا لقا عينه   =   عكفنا على حفظ آثاره

عسى الله يجمعنا كلنا   =   برحمة معه في داره

وقوله: "ولما حرمنا   =   إلخ" أخذه من قول ابن خطيب داريا:

لم أسع في طلب الحديث لسمعة   =   أو لاجتماع قديمه وحديثه

لكن إذا فات المحب لقاء من   =   يهوى تعلل باستماع حديثه

وقال العلامة السيد محمد بن إسماعيل الأمير اليماني قدس الله سره:

سلام على أهل الحديث فإنني   =   نشأت على حب الأحاديث من مهدي

همو بذلوا في حفظ سنة أحمد   =   وتنقيحها من جهدهم غاية الجهد

وأعني بهم أسلاف سنة أحمد   =   أولئك في بيت القصيد همو قصدي

أولئك أمثال البخاري ومسلم   =   وأحمد أهل الجد في العلم والجد

رووا وارتووا من بحر علم محمد   =   وليس لهم تلك المذاهب من ورد

كفاهم كتاب الله والسنة التي   =   كفت قبلهم صحب الرسول ذوي المجد

ولها تتمة سابغة الذيل صاح فيها على المتعصب بالويل!

وقال بعض الفضلاء وأجاد:

علم الحديث أجل السؤل والوطر   =   فاقطع به العيش تعرف لذة العمر

وانقل رحالك عن مغناك مرتحلًا   =   لكي تفوز بنقل العلم والأثر

ولا تقل عاقني شغل فليس يري   =   في الترك للعلم عن عذر لمعتذر

وأي شغل كمثل العلم تطلبه   =   ونقل ما قد رووا عن سيد البشر

ألهى عن العلم أقوامًا تطلبهم   =   لذات دنيا غدوا منها على غرر

وخلفوا ما له حظ ومكرمة   =   إلى التي هي دأب الهون والخطر

وأي فخر بدنياه لمن هدمت   =   معايب الجهل منه كل مفتخر

لا تفخرن بدنيا لا بقاء لها!   =   وبالعفاف وكسب العلم فافتخر

يفنى الرجال ويبقى علمهم لهم   =   ذكرًا يجدد في الآصال والبكر

ويذهب الموت بالدنيا وصاحبها   =   وليس يبقى له في الناس من أثر

تظن أنك بالدنيا أخو كبر   =   وأنت بالجهل قد أصبحت ذا صغر

ليس الكبير عظيم القدر غير فتي ما   =   زال بالعلم مشغولا مدى العمر

قد زاحمت ركبتاه كل ذي شرف   =   في العلم والحلم لا في الفخر والبطر

فجالس العلماء المقتدى بهم   =   تستجلب النفع أو تأمن من الضرر

هم سادة الناس حقًّا والجلوس لهم   =   زيادة هكذا قد جاء في الخبر

والمرء يحسب من قوم يصاحبهم   =   فاركن إلى كل صافي العرض عن كدر

فمن يجالس كريما نال مكرمة   =   ولم يشن عرضه شيء من الغير

كصاحب العطر إن لم تستفد هبة   =   من عطره لم تخب من ريحه العطر

ومن يجالس رديء الطبع يرد به   =   وناله دنس من عرضه الكدر

كصاحب الكير إن يسلم مجالسه   =   من نتنه لم يوق الحرق بالشرر

وكل من ليس ينهاه الحياء ولا   =   تقوى فخف كل قبح منه وانتظر

والناس أخلاقهم شتى وأنفسهم   =   منهم بصير ومنهم مخطئ النظر

وأصوب الناس رأيًا من تصرفه   =   فيما به شرف الألباب والفكر

واركن إلى كل من في وده شرف   =   من نابه القدر بين الناس مشتهر

فالمرء يشرف بالأخبار يصحبهم   =   وإن يكن قبل شيئًا غير معتبر

إن العقيق ليسمو عند ناظره   =   إذا بدا وهو منظوم مع الدرر

والمرء يخبث بالأشرار يألفهم   =   ولو غدا حسن الأخلاق والسير

فالماء صفو طهور في أصالته   =   حتى يجاوره شيء من الكدر

فكن بصحب رسول الله مقتديًا   =   فإنهم للهدى كالأنجم الزهر

وإن عجزت عن الحد الذي سلكوا   =   فكن عن الحب فيهم غير مقتصر

والحق بقوم إذا لاحت وجوهم   =   رأيتها من سنا التوفيق كالقمر

أضحوا من السنة العليا في سنن   =   سهل وقاموا بحفظ الدين والأثر

أجل شيء لديهم: "قال أخبرنا   =   عن الرسول" بما قدر صح من خبر

هذي المكارم لا قعبان من لبن   =   ولا التمتع باللذات والأشر

لا شيء أحسن من: "قال الرسول" وما   =   أجل من سند عن كل مشهر

ومجلس بين أهل العلم جادبما   =   حلا من الدر أو حلي من الدرر

يوم يمر ولم أرو الحديث به   =   فلست أحسب ذاك اليوم من عمر

فإن في درس أخبار الرسول لنا   =   تمتعًا في رياض الجنة الخضر

تعللًا إذا عدمنا طيب رؤيته   =   من فاته العين هد الشوق بالأثر

كأنه بين ظهرينا نشاهده   =   في مجلس الدرس بالآصال والبكر

زين النبوة عين الرسل خاتمهم   =   بعثًا وأولهم في سابق القدر

صلى عليه إله العرش ثم على   =   أشباعه ما جرى طل على زهر

مع السلام دوامًا والرضا أبدًا   =   عن صحبه الأكرمين الأنجم الزهر

وعن عبيدك نحن المذنبين فجد   =   بالأمن من كل ما نخساه من ضرر

وتب على الكل منا واعطنا كرمًا   =   دنيا وأخرى جميع السؤل والوطر

سبحانه ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين).  [قواعد التحديث: 662-668]

هيئة الإشراف

#4

11 Oct 2022

قال محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332هـ): ([جاء في آخر نسخة المؤلف قدس سره]

يقول جامعه:

كانت البداءة في تصنيفه في إحدى الجماديين عام "1320هـ" ولما تم ترتيبه شرعت في تبييضه ليلة العشر الأخير من رمضان من العام المذكور في السدة اليمنى العلياء من حرم جامع السنانية في دمشق الفيحاء، ثم صحبته في رحلتي القدسية في أواخر المحرم، وبيضت جانبًا كبيرًا من آخره في عمان البلقاء أيام مسيري إلى القدس منها، وإقامتي بها عشرة أيام من أوائل صفر إلى أن كملت نسخًا وتبييضًا بعونه تعالى صباح الخميس لخمس بقين من صفر المذكور عام "1321هـ" في المسجد الأقصى داخل حرمه الشريف أيام إقامتي في حجرته القبلية. والحمد لله أولًا وآخرًا، وظاهرًا وباطنًا. قاله بفمه ورقمه بقلمه، العبد الذليل الضعيف، أفقر الورى لرحمه مولاه، محمد جمال الدين بن محمد سعيد بن قاسم بن صالح بن إسماعيل بن بكر القاسمي الدمشقي غفر الله له. ولوالديه ولأسلافه وأشياخه وأولاده ومحبيه، ولجميع المؤمنين والحمد لله رب العالمين.

 

[وجاء تحت هذه العبارة بالحبر الأحمر]

بحمده تعالى تم مقابلة على أصلي، وكتبه مؤلفه جمال الدين في 19 ذي الحجة 1324).  [قواعد التحديث: 669]