12 Oct 2022
الدرس السادس
قال أحمد بن فارس بن زكرياء الرازي (ت: 395هـ): (
ومما أوله جيم: جير
يقولون: "جير" بمعنى "حقّاً" قال المفضّل: هي خفضٌ أبداً، وربّما نوّنوها. وأنشد المفضّل:
ألا يا طال بالغربات ليلي ... وما تلقى بنو أسدٍ بهنّه
وقائلةٍ أسيت فقلت جيرٍ ... أسيٌّ إنّه من ذاك إنّه
أصابهم الحما وهم عوافٍ ... وكنّ عليهم نجساً لعنه
فجئت قبورهم بدأ ولما ... فناديت القبور فلم يجبنه
وكيف تجيب أصداءٌ وهامٌ ... وأجسادٌ بدرن وما نحرنه
الحما: أراد الحمام. وبدرن: طعنّ في البوادر.
لا جرم
قال: "جرم" بمعنى "حقّ" قال:
ولقد طعنت أبا عيينة طعنةً ... جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا
وذكر ناس أنها بمعنى "لا بدّ" و"لا محالة".
وأصلح ما قيل في ذلك أن "لا" نفي لما ظنّوا أنه ينفعهم في قوله جل ثناؤه: {لا جرم أنّهم في الآخرة هم الأخسرون} والمعنى "لا" أي "لا ينفعهم ظنهم"
ثمّ يقول مبتدئاً: {جرم أنّهم في الآخرة هم الأخسرون} أي "كسبهم ذلك" "حقّ أنهم في الآخرة هم الأخسرون".
قال ابن قتيبة: وليس قول من قال: "حقّ لفزارة الغضب" بشيء.
والأمر بخلاف ما قاله، لأن الّذي يحصل من الكلمة ما قلناه أنه بمعنى "حقّ" فيكون على هذا "جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا" المعنى: "أحقّت الطّعنة لفزارة الغضب".
ومنه قوله جل ثناؤه: {وتصف ألسنتهم الكذب أنّ لهم الحسنى} ثمّ قال: {لا} وهو ردّ عليهم، وقال بعدها: {جرم أنّ لهم النّار} أي حقّ وكسب.
ومما أوله حاء: حتّى
حتى تكون للغاية. قال الله جلّ ذكره: {هي حتّى مطلع الفجر} بمعنى "إلى" وقال تبارك اسمه: {حتّى يبلغ الكتاب أجله} .
وتكون بمعنى "كي" تقول: "أكلمه حتّى يرضى" أي "كي يرضى".
ويقولون: إنها تكون بمعنى العطف، تقول: "قدم الجيش حتّى الأتباع".
ومذهب أهل البصرة أنه لا يجوز أن يعطف بها حتّى يكون الثاني من الأول, قالوا: لو قلت: "كلّمت العرب حتّى العجم" لم يجز.
وقال الفرّاء لا يجوز "كلّمت أخاك حتّى أباك" وهو مثل الاستثناء، كما لا يجوز "كلمت أخاك إلاّ أباك".
وأجاز الفرّاء: "إنه ليقاتل الرّجّالة حتّى الفرسان", و"إن كلبي ليصيد الأرانب حتّى الظّباء" خفضاً ونصباً.
قال الفراء: لأن الظباء وإن كانت مخالفة للأرانب فإنها من الصيد وهي أرفع منها.
وقال البصريون: هذا خطأ وفيه بطلان الباب.
قالوا: لأن "حتّى" إنما جعلت لما تتناهى إليه الأشياء من أعلاها وأسفلها مما يكون منتهى في الغاية، فإذا قلت "ضربت القوم حتى زيداً" جاز أن يتوهم السامع أن زيداً لم يدخل في الضرب، إما لأنه أعلاهم أو لأنه أدونهم، فمعنى "إلى" فيها قائم إذا كانت "إلى" منتهى الغاية.
والكوفيون لا يجعلون "حتّى" حرف عطف، وإنما يعربون ما بعدها بإضمار.
حاشا
معناه الاستثناء، واشتقاقها من "الحشا" وهي "الناحية" تقول: "خرجوا حاشا زيدٍ" أي: إني أجعله في ناحية من لم يخرج ولا أجعله في جملة من خرج.
قال الشاعر:
بأيّ الحشا أمسى الخليط المباين
ومن ذلك قولهم: "لا أحاشي بك أحداً" أي: لا أجعلك وإيّاه في حشاً واحد، أي في ناحية واحدة بل أميّزك عنه.
ومما أوله خاء: خلا وما خلا
أصلهما من قولنا: "خلا البيت" و"خلا الإناء" إذا لم يكن فيه شيء. كذلك إذا قلنا: "خرج النّاس خلا زيدٍ" فإنّما نريد: أنه خلا من الخروج، أو خلا الخروج منه. وعلى هذا التأويل فالنصب فيه أحسن. ومنه قول العرب: "افعل كذا وخلاك ذمّ" يريدون "عداك الذّمّ" و"خلوت من الذمّ".
ومما أوله ذال: ذو وذات
"ذو" يدل على الملك. تقول: "هو ذو الثوب".
وقد يكون في غير الملك أيضا، بل يكون صفة من صفات نحو قولك: "هو ذو كلام" و"ذو عارضة". فمن الملك قوله جل ثناؤه: {ذو العرش المجيد}.
وأما "ذات" فيكون في المؤنث كـ"ذا". وتكون لها معان أخر.
تكون كناية عن ساعة من يوم أو ليلة أو غير ذلك، كقولك: "ذات يوم"، و"ذات عشية".
وتكون كناية عن الحال كقوله:
وأهل خباء صلح ذات بينهم ... قد احتربوا في عاجل أنا آجله
ومن هذا قوله جل ثناؤه: {وأصلحوا ذات بينكم} أي الحال بينكم وأزيلوا المشاجرة.
ومن الزمان قوله:
لما رأت أرقى وطول تقلبي ... ذات العشاء وليلى الموصولا
وتكون للبنية تقول: "هو في ذاته صالح" أي: في بنيته وخلقته.
وتكون للإرادة والنية كقوله جل ثناؤه: {واللّه عليمٌ بذات الصّدور} أراد السرائر. ومنه فيما ذكروا قوله:
محلتهم ذات الإله ودينهم ... قويم فما يرجون غير العواقب
فقوله: "ذات الإله" أي إرادتهم الله تبارك اسمه.
ومما أوله راء: ربّ
يقولون: للتقليل، وهي مناقضة لـ"كم" الّتي للتكثير، تقول: "ربّ رجلٍ لقيته".
وقال قوم: وضعت لتذكّر شيء ماضٍ من خيرٍ أو شرٍّ. قال الشاعر:
ربّ ركبٍ قد أناخوا حولنا ... يشربون الخمر بالماء الزّلال
قالوا: وعلى هذا التأويل قوله جلّ ثناؤه: {ربما يودّ الّذين كفروا لو كانوا مسلمين}.
رويدٌ
قالوا: هو تصغير "رود" وهو المهل. قال:
كأنّها مثل من يمشي على رود
وقال بعضهم: في قوله جلّ ثناؤه: {أمهلهم رويدًا} أي قليلا.
ومما أوله سين: سوف
تكون للتأخير والتنفيس والأناة.
سوى
تكون بمعنى "غير" وهما جميعاً في معنى "بدل".
وهي مقصورةٌ مكسورة فإذا مدّت فتح أوّلها. قال الشاعر:
تجانف عن جوّ اليمامة ناقتي ... وما عدلت عن أهلها لسوائكا
أي: لغيرك. و"سواء الجحيم" وسطها، في غير معنى الأول.
وقد جاء "سوى" أيضاً. قال الله جلّ ثناؤه: {مكانًا سوًى}.
سيّما:
أصلها "السّيّ" وهو "المثل". تقول: "ولا سيّما كذا" أي "ولا سواء" قال: امرؤ القيس:
ألا ربّ يومٍ لك منّ صالحٍ ... ولا سيّما يوماً بدارة جلجل
وأصله راجع إلى "السّي" وهو المثل. يقولون: "هما سيان" قال "الحطيئة:
فإيّاكم وحيّة بطن واد ... هموز الناب ليس لكم بسيّ
وسمعت أبا الحسن المعروف بابن التركية يقول، سمعت ثعلباً يقول: من قاله بغير اللفظ الّذي قاله امرؤ القيس فقد أخطأ.
ومما أوله شين: شتّان:
أصلها من "شتّ" وهو من "التّشتّت" وهو التّفرق والتباعد، تقول: "شتّان ما هما" أي: بعد ما بينهما، ويقال: هذا هو الأفصح، وينشدون:
شتّان ما يومي علي كورها ... ويوم حيّان أخي جابر
وربما قالوا: "شتان ما بينهما" وليس بالفصيح). [الصاحبي في فقه اللغة: 218-232]
قال أحمد بن فارس بن زكرياء الرازي (ت: 395هـ): (
ومما أوله عين: عن
يدلّ على الانحطاط والنزول، تقول: "نزل عن الجبل" و"عن ظهر الدّابة" و"أخذ العلم عن زيد" لأن المأخوذ عنه أعلى رتبةً من الآخذ.
وتكون بمعنى "بعد" في قوله:
"لم تنتطق عن تفضّل".
ولها وجوه والأصل ما ذكرناه.
على
تكون للعلوّ، تقول: "هو على السطح".
وتكون للعزيمة، كما تقول: "أنا على الحجّ العام".
وتكون للثبات على الأمر تقول: "أنا على ما عرفتني به".
وتكون للخلاف، مثل "زيدٌ على عمرو" أي: مخالفه.
وهي -وإن انشعبت- راجعة إلى أصل واحد.
عوض
"عوض" لزمان غير محدود ولا معلوم كنهه، كما قلناه في "الحين" و"الدهر". قال الأعشى:
رضيعي لبان ثدي أمٍّ تقاسما ... بأسحم داج عوض لا نتفرق
ويقولون: "لا آتيك عوض العائضين".
عسى
للقرب والدّنوّ، قال الله جل ثناؤه: {قل عسى أن يكون ردف لكم}.
والأفصح أن يكون بعدها "أن" وربّما لم يكن. قال:
عسى فرجٌ يأتي به الله إنّه ... له كلّ يوم في خليقته أمر
قال "الكسائي": كل ما في القرآن من "عسى" على وجه الخبر فهو موحّد: {عسى أن يكونوا خيرًا منهم} و{عسى أن يكنّ خيرًا منهنّ} و{عسى أن تكرهوا شيئًا} ووحّد على "عسى الأمر أن يكون كذا".
وما كان على الاستفهام فإنه يجمع كقوله جلّ وعزّ: {فهل عسيتم} قال أبو عبيدة في قوله جل ثناؤه: {فهل عسيتم}: هل عدوتم ذاك، هل جزتموه.
ومما أوله غين: غير
"غير" تكون استثناء، وتقوم مقامها "إلا"، تقول: "خرج الناس غير زيد" تريد "إلاّ زيداً".
أو تكون حالاً، وتقوم مقامها لا تقول: "فعلت ذلك غير خائف منك أي لا خائفاً منك".
ومما أوله فاء: في
زعموا أن "في" للتضمّن، تقول: "المال في الكيس" و"الماء في الجرّة".
ويقولون: إنها تكون بمعنى على في قوله جلّ ثناؤه: {ولأصلّبنّكم في جذوع النّخل}.
وإنها تكون بمعنى مع في قوله جلّ ثناؤه: {في تسع آياتٍ}.
وكان بعضهم يقول: إنما قال: {ولأصلّبنّكم في جذوع النّخل} , لأن الجذع للمصلوب بمنزلة القبر للمقبور فلذلك جاز أن يقال فيه هذا.
وأنشدوا:
هم صلبوا العبديّ في جذع نخلة ... فلا عطست شيبان إلاّ بأجدعا.
ومما أوله قاف: قد
"قد" جواب لمتوقّع، وهي نقيض "ما" التي للنفي.
وليس من الوجه الابتداء بها إلا أن تكون جواباً للمتوقع، وقوله عزّ وجلّ: {قد أفلح المؤمنون} على هذا المعنى، لأن القوم توقعوا علم حالهم عند الله تبارك اسمه فقيل لهم: {قد أفلح المؤمنون} والحقيقة ما ذكرناه.
ومما أوله كاف: كم
موضوعة للكثير في مقابلة "ربّ" تقول: "كم رجل لقيت؟".
وتكون استفهاماً، تقول: "كم مالك?".
وقال الفرّاء: نرى أن قول العرب "كم مالك?" أنها "ما" وصلت من أولها بكاف، ثم إن الكلام كثر بـ"كم" حتى حذفت الألف من آخرها وسكّنت ميمها, كما قالوا: "لم قلت ذاك?" ومعناه: "لم" و"لما قلت" قال الشاعر:
يا أبا الأسود لم أسلمتني ... لهموم طارقات وذكر
وقيل لبعض العرب: "مذ كم قعد فلان؟ " فقال: "كمذ أخذت في حديثك", فزيادة الكاف في "مذ" دليل على أن الكاف في "كم" زائدة.
وعابّ الزّجّاج على الفرّاء قوله في "كم"، وقال: لو كان في الأصل "كما" وأسقطت ألف الاستفهام لتركت على فتحها، كما تقول: "بم" و"عم" و"فيم أنت".
والجواب عمّا قاله ما ذكره أبو زكريّاء وهو كثرة الاستعمال وحجته ما ذكره في "لم".
كيف
كيف سؤال عن حال، تقول: "كيف أنت?" أي: بأيّ حال أنت? وقال بعض أهل اللغة: لها ثلاثة أوجه:
أحدها سؤال محض عن حال، تقول: "كيف زيد?".
والوجه الآخر حالٌ لا سؤال معه، كقولك: "لأكرمنّك كيف كنت" أي: على أيّ حال كنت.
والوجه الثالث "كيف" بمعنى التعجب.
وعلى هذين الوجهين يفسّر قوله: {فقتل كيف قدّر} قالوا: معناها "على أيّ حال قدّر" وتعجيب أيضاً.
ومن التعجيب قوله جلّ ثناؤه: {كيف تكفرون باللّه وكنتم أمواتًا فأحياكم}.
وقد يكون "كيف" بمعنى النفي. قال:
كيف يرجون سقاطي بعدما ... لاح في الرّأس مشيبٌ وصلع
ومنه قوله جلّ ثناؤه: {كيف يكون للمشركين عهدٌ عند اللّه} و{كيف يهدي اللّه قومًا كفروا بعد إيمانهم}.
وتكون توبيخاً، كقوله جلّ ثناؤه: {وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله}.
فأمّا قوله: {فكيف إذا جئنا من كلّ أمّةٍ بشهيدٍ} فهو توكيد لما تقدّم من خبر وتحقيق لما بعده، على تأويل: إن الله لا يظلم مثقال ذرّة في الدنيا فكيف في الآخرة.
كاد
قال أبو عبيدة: "كاد" للمقاربة في قوله جلّ ثناؤه: {لم يكد يراها} أي: لم ير. ولم يقارب.
ومن المقاربة قول جرير:
حيّوا المقام وحيّوا ساكن الدار ... ما كدت تعرف إلا بعد إنكار
ويقولون: "كاد النّعام يطير".
فهذه المقاربة للشبه ولا يكون وبيت جرير يكون.
كان
يدلّ على المضيّ، تقول: "كان له مالٌ".
وتكون بمعنى القدرة, كقوله جلّ ثناؤه: {ما كان لكم أن تنبتوا شجرها} أي ما قدرتم.
وتكون بمعنى "صار" كقولك: "إن كنت أبي فصلني" أي: إذا صرت أبي. وأنشد:
أجزت إليه حرّة أرحبيّة ... وقد كان لون الليل مثل الأرندج
أي: صار.
وتكون بمعنى الرهون، كقوله جلّ ثناؤه: {قل سبحان ربّي هل كنت إلّا بشرًا} أي: هل أنا إلا بشر.
وتكون بمعنى ينبغي قال الله جل ثناؤه {قلتم ما يكون لنا} أي ما ينبغي لنا.
وكان تكون زائدة كقوله:
وجيران لنا كانوا كرام
وفي كتاب الله جل ثناؤه: {قال وما علمي بما كانوا يعملون} أي: بما يعملون, لأنه قد كان عالماً بما عملوه من إيمانهم به.
كأين
"كأين" تكون بمعنى "كم" قال الله جل ثناؤه: {وكأيّن من قريةٍ عتت عن أمر ربّها ورسله}.
وفيها لغتان: "كأين" بالهمز والتشديد. و"كأين" بالتخفيف. وقد قرئ بهما جميعا، قال الشاعر:
وكأين أرينا الموت من ذي تحية ... إذا ما ازدرانا أو أصر لمأثم
وسمعت بعض أهل العربية يقول: ما أعلم كلمة يثبت فيها التنوين خطأ غير هذه.
كأنّ
كلمة تشبيه, قال قوم: هي "إن" دخلت عليها كاف التشبيه ففتحت, وقد تخفف قال الله جل ذكره: {كأن لم يدعنا إلى ضرٍّ مسّه} إلا أنها إذا ثقلت في مثل هذا الموضع قرنت بها الهاء فقيل: "كأنّه لم يدعنا". وقالت الخنساء في التخفيف:
كأن لم يكونوا حمىً يتّقى ... إذ الناس إذ ذاك من عزّ بزّا
أرادت: كأنّهم لم يكونوا.
كلاّ
تكون ردّاً وردعاً ونفياً لدعوى مدع إذا قال: "لقيت زيداً" قلت: "كلاّ".
وربما كان صلةً ليمين، كقوله جلّ ثناؤه: {كلّا والقمر}. وهي -وإن كانت صلةً ليمين- راجعةٌ إلى ما ذكرناه. قال الله جلّ ثناؤه: {كلّا لا تطعه} فهي ردعٌ عن طاعة من نهاه عن عبادة الله جلّ ثناؤه.
ونكتة بابها النفي والنهي.
وزعم ناس أن أصل "كلاّ": "كلا" الكاف التي دخلت تشبيها على "لا"، وذلك أن العرب إذا قالت شيئا قالت: هو كلا و"لا". قال الشاعر:
أصاب خصاصةً فبدا كليلاً ... كلا وانغلّ سائره انغلالا
وهذا ليس بشيء. و"كلا" كلمة موضوعة لما ذكرناه على صورتها في التثقيل، وقد ذكرنا وجوهّ "كلاّ" في كتاب أفردناه.
فأما نقيض "كلاّ" فقال بعض أهل العلم: إن "ذلك" و"هذا" نقيضان لـ"لا". و"أن" كذلك نقيض لـ"كلاّ". قال: وقوله جلّ ثناؤه: {ذلك ولو يشاء اللّه لانتصر منهم} على معنى: ذلك كما قلنا وكما فعلنا. ومثله. {هذا وإنّ للطّاغين لشرّ مآب} بمعنى: هذا كما قلنا وإن للطاغين لشر مآب.
قال: ويدل على هذا المعنى دخول "الواو" بعد قوله: "ذلك" و"هذا" لأن ما بعد الواو يكون منسوقاً على ما قبله بها وإن كان مضمراً. وقال جلّ ثناؤه: {وقال الّذين كفروا لولا نزّل عليه القرآن جملةً واحدةً}، ثم قال: {كذلك} أي كذلك فعلناه ونفعله من التنزيل.
ومثله في القرآن كثير). [الصاحبي في فقه اللغة: 233-251]
قال أحمد بن فارس بن زكرياء الرازي (ت: 395هـ): (
ومما أوله لام
لو ولولا
"لو" تدل على امتناع الشيء لامتناع غيره، تقول: لو حضر زيدٌ لحضرت فامتنع هذا لامتناع هذا.
وكان الفرّاء يقول: "لو" يقوم مقام "إن"، قال جلّ ذكره: {ولو كره الكافرون} بمعنى: وإن كره، ولولا أنها بمعنى "إن" لاقتضت جواباً. لأنّ لو لابدّ لها من جواب ظاهر أو مضمر كقوله جلّ ثناؤه: {ولو نزّلنا عليك كتابًا في قرطاسٍ فلمسوه بأيديهم لقال} وإنّما وضعت مقام "إن" لأنّ في كل واحد منهما معنى الشرط، كما يقال في الكلام: "لأكرمنّك وإن جفوتني ولو جفوتني" و"لأعطينك وإن منعتني, ولو منعتني".
وأمّا "لولا" فإنها تدل على امتناع الشيء لوجود غيره. تقول: "لولا زيدٌ لضربتك" فإنما امتنعت من ضربه لأجل زيد.
وقد تكون "لولا" بمعنى "هلاّ" كقوله جلّ ثناؤه: {فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرّعوا} أي "فهلاّ" قال الشاعر:
تعدّون عقر النيب أفضل مجدكم ... بني ضوطرى لولا الكميّ المقنّعا
أي: "هلاّ".
وكذلك "لوما"، كقوله جل ثناؤه: {لو ما تأتينا بالملائكة} أي "هلاّ تأتينا".
وأما "لولا" الأول فكقوله جلّ ثناؤه: {فلولا أنّه كان من المسبّحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون}.
وقوله جلّ وعزّ: {فلولا كانت قريةٌ آمنت} فلها وجهان: أحدهما أن يكون بمعنى "هلاّ".
والوجه الآخر أن يكون بمعنى "لم" يقول: فلم تكن قرية آمنت فنفعها إيمانها إلاّ قوم يونس.
ومثله: {فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقيّةٍ ينهون عن الفساد في الأرض} بمعنى لم يكن.
لم ولمّا
"لم" تنفي الفعل المستقبل وتنقل معناه إلى الماضي. نحو: "لم يقم زيد" تريد: ما قام زيد.
فإن دخل عليها حرف جزاء لم تنقل معنى الاستقبال، تقول: إن لم تقم ولا يحسن السكوت عليها إلا إذا كانت جواباً لمثبت كأنّ قائلاً قال: "قد خرج زيد" فتقول: "لم".
و"لما" لا تدخل إلاّ على مستقبل، تقول: "جئت ولما يجئ زيدٌ بعد" فيكون بمعنى "لم" كقوله جلّ ثناؤه: {بل لمّا يذوقوا عذاب}.
فأمّا "لمّا" التي للزمان فتكون للماضي، تقول: "قصدتك لمّا ورد فلان".
لن
"لن" تكون جواباً للمثبت أمراً في الاستقبال، يقول: "سيقوم زيد" فتقول أنت: "لن يقوم".
وحكي عن الخليل أنّ معناها: "لا أن" بمعنى "ما هذا وقت أن يكون كذا".
لا
"لا" حرف نسقٍ ينفي الفعل المستقبل، نحو: "لا يخرج زيدٌ". وينهى به نحو: "لا تفعل".
وتكون بمعنى "لم" إذا دخلت على ماض كقوله جلّ ثناؤه: {فلا صدّق ولا صلّى} أي: لم يصّدق ولم يصلّ.
وقال الشاعر:
وأي خميس لا أفأنا نهابه ... وأسيافنا يقطرن من كبشه دماً
وأنشدني أبي:
إن تغفر اللهمّ تغفر جمّا ... وأيّ عبدٍ لك لا ألمّا
أي: أيّ عبد لك لم يلمّ بالذنب.
وكان قطرب يقول: إن العرب تدخل "لا" توكيداً في الكلام كما يدخلون ما في مثل قوله جلّ ثناؤه: {فقليلًا ما يؤمنون} و{فبما نقضهم} وكذلك {ما منعك ألّا تسجد} أي: ما منعك أن تسجد. وكذلك {لا أقسم بيوم القيامة} المعنى: أقسم.
وقد يجوز في قوله {لا أقسم} أن يكون نفى بها كلاماً تقدّم منهم، كأن قال: ليس الأمر كذا؛ ثم قال: أقسم.
وقال زهير في "لا":
مورّث المجد لا يغتال همّته ... عن الريّاسة لا عجزٌ ولا سأم
أي: لا يغتالها عجز.
وقال آخر:
بيوم جدودا لا فضحتم أباكم ... وسالمتم والخيل تدمى نحورها
يريد: فضحتم أباكم.
وحكى قطرب: "ضربت لا زيداً".
وقال آخر:
وقد حداهن بلا غير خرق
وقال الهذلي:
أفعنك لا برق كأنّ وميضه ... غاب تسنّمه ضرام مثقب
ومن الباب قوله جلّ ثناؤه: {لئلّا يعلم أهل الكتاب}.
قال أبو عبيدة في قوله جلّ ثناؤه: {غير المغضوب عليهم ولا الضّالّين} قال: "لا" من حروف الزوائد لتتميم الكلام، والمعنى إلغاؤها.
قال العجاج:
في بئر لا حورٍ سرى وما شعر
أي: بئر حور، أي هلكة.
وقال أبو النجم:
فما ألوم البيض أن لا تسخرا
يقول: فما ألومهنّ أن يسخرن.
وقال الشّمّاخ:
أعائش ما لأهلك لا أراهم ... يضيعون الهجان مع المضيع
يريد: أراهم يضيعون السوام، و"لا" إنما هي لغة.
وقال:
ويلحينني في اللهو أن لا أحبّه ... وللّهو داعٍ دائبٌ غير غافل
المعنى: يلحينني في اللهو أن أحبه.
وفي القرآن: {ما منعك أن تسجد} أي: أن تسجد.
قال أحمد بن فارس: أما قوله إنّ "لا" في {ولا الضّالّين} زائدة فقد قيل فيه: إن "لا" إنما دخلت ها هنا مزيلةً لتوهم متوهم أن الضّالين هم المغضوب عليهم، والعرب تنعت بالواو، يقولون: مررت بالظريف والعاقل فدخلت "لا" مزيلةً لهذا التوهم ومعلمة أن الضّالين هم غير المغضوب عليه.
وأما قوله في شعر الشمّاخ: إن لا زائدة في قوله: ما لأهلك لا أراهم, فغلطٌ من أبي عبيدة لأنه ظنّ أنه أنكر عليهم فساد المال، وليس الأمر كما ظنّ، وذلك أن "الشمّاخ" احتجّ على امرأته بصنيع أهلها أنهم لا يضيعون المال. وذلك أن امرأة الشمّاخ وهي عائشة قالت للشمّاخ: لم تشدّد على نفسك في العيش حتى تلزم الإبل وتعزب فيها؟ فهوّن عليك. فردّ على امرأته فقال: ما لي أرى أهلك يتعهدون أموالهم ولا يضيعونها، بل يصلحونها، وأنت تأمرينني بإضاعة المال? فقال:
أعايش ما لأهلك لا أراهم ... يضيعون الهجان مع المضيع
وكيف يضيع صاحب مذفآت ... على أثباجهنّ من الصقيع
لمال المرء يصلحه فيغنى ... مفاقره أعف من القنوع
و"لا" تنفي الاسم المنكور، نحو: "لا رجلٌ عندك".
لات
اختلف الناس فيها: فمنهم من زعم أن التاء متصلة بـ"لا" وأنها بمنزله "ليس" على تأويل: "وليس حين مناصٍ", نصب "حين" خبر "ليس". وقال الأفوه وجعل "لات" بمعنى "حين":
ترك الناس لنا أكتافهم ... وتولوا لات لم يغن الفرار.
لدن
"لدن" بمعنى "عند". قال الله جلّ ثناؤه: {قد بلغت من لدنّي عذرًا} وقال: {لاتّخذناه من لدنّا} أي: من عندنا.
وقد تحذف النون من لدن قال الشاعر:
من لد لحييه إلى منخوره
ولدى بمعنى "لدن" قال الله جل ثناؤه: {وألفيا سيّدها لدى الباب}.
ليس
"ليس" نفيٌ لفعل مستقبل تقول: "ليس يقوم".
وزعم ناس أنها من حروف النّسق نحو: "ضربت عبد الله ليس زيداً" و"قام عبد الله ليس زيد" و"مررت بعبد الله ليس بزيد"، لا يجوز حذف الباء لأنك لا تضمر المرور والباء. ولو قلت: "ظننت زيداً ليس عمراً قائماً" جاز. قال لبيد:
وإذا جوزيت فرضاً فاجزه ... إنما يجزى الفتى ليس الجمل
والبصريون يقولون: لا يجوز العطف بـ"ليس"، وهي لا تشبه من حروف العطف شيئاً. ألا ترى أنه يبتدأ بها ويضمر فيها.
وروى سيبويه هذا البيت:
إنما يجزي الفتى غير الجمل
قالوا: وخطأ "رأيت زيداً ليس عمراً" لأنه لا يكون على تقديرهم فعل بلا فاعل.
وكان الكسائي يقول: أجريت "ليس" في النسق مجرى "لا".
لعلّ
"لعلّ" تكون استفهاماً وشكّاً. وتكون بمعنى "خليق".
وحكي عن الكسائي أنّ "لعلّما" تأتي بمعنى "كأنما" و"أنما".
وأنكر الفرّاء هذا، قال: لأن "أنما" معبرة عن "أن" ولا يجوز أن تسقط ما منها أبداً.
وأهل البصرة يقولون: "لعلّ" ترجٍّ. وبعضهم يقول: توقّع.
وتكون "لعلّ" بمعنى "عسى".
وتكون بمعنى كي. قال الله جلّ ثناؤه: {وأنهارًا وسبلًا لعلّكم تهتدون} يريد: لكي تهتدوا.
لكن
قال قوم: هي كلمة استدراك تتضمن ثلاثة معانٍ: منها "لا" وهي نفي و"الكاف" بعدها مخاطبة و"النون" بعد الكاف بمنزل "إن" الخفيفة أو الثقيلة، إلا أن الهمزة حذفت منها استثقالاً لاجتماع ثلاثة معان في كلمة واحدة، فـ"لا" تنفي خبراً متقدماً و"إن" تثبت خبراً متأخراً، ولذلك لا تكاد تجيء إلا بعد نفي وجحد، مثل قوله جلّ ثناؤه: {وما رميت إذ رميت ولكنّ اللّه رمى}.
ومما يدلّ على أن النون في "لكن" بمنزلة إن خفيفةً أو ثقيلة، أنك إذا ثقّلت النون نصبت بها وإذا خففتها رفعت بها). [الصاحبي في فقه اللغة: 252-268]
قال أحمد بن فارس بن زكرياء الرازي (ت: 395هـ): (
ومما أوله ميم: مذ ومنذ
هما ابتداء غايةٍ في زمان. نحو "مذ اليوم" و"منذ الساعة".
ما
أصل "ما" أنها تكون لغير الناس. تقول "ما مرّ بك من الإبل؟".
فأمّا قوله جلّ ثناؤه: {وما خلق الذّكر والأنثى} فقال أبو عبيدة: معناه ومن خلق الذكر والأنثى. وكذلك {والسّماء وما بناها} أي "من بناها" وكذلك {ونفسٍ وما سوّاها}.
قال: وأهل مكّة يقولون إذا سمعوا صوت الرعد "سبحان ما سبحت له".
وكان بعضهم يقرأ: {وما خلق الذّكر والأنثى} أي: وخلقه الذكر والأنثى.
و"ما" تكون صلةً، كقوله جلّ ثناؤه: {قليلًا ما تذكّرون} المعنى: قليلاً تذكّرون.
ولو كانت اسماً لارتفع فقلت: "قليلٌ ما تذكرون" أي: قليلٌ تذكركم.
و"ما" تكون للتفخيم، كقوله جلّ ثناؤه: {الحاقّة، ما الحاقّة} ومنه:
بانت لتحزننا عفاره ... يا جارتا ما أنت جاره
وذكر بعضهم أن "ما" هذه هي التي تذكر في التعجب إذا قلنا "ما أحسن زيداً".
وقد تكون "ما" مضمرة، كقوله جلّ ثناؤه: {وإذا رأيت ثمّ} أراد: ما ثمّ. وكما قال: {هذا فراق بيني وبينك} أي: ما بيني. و{لقد تقطّع بينكم} أي ما بينكم. فإذا قلت: "بينكم" فمعناه: وصلكم.
وتكون للنفي، نحو: "ما فعلت".
وتكون لاستفهام، نحو: "ما عندك?".
وزعم ناس في قولهم: "قبل عيرٍ وما جرى" أن "ما" للنفي وأنشدوا قول الشمّاخ:
أعدو القمصّى قبل عيرٍ وما جرى ... ولم تدر ما خبري ولم أدر مالها
يقول: نفرت هذه المرأة منّي مثل ما نفرت أتان من عير من قبل أن يبلوها ويعدوها إليها. وما جرى، أي: لم يجر إليها.
مِنْ
يسميها أهل العربية "ابتداء غاية".
وتكون للجنس، نحو "خاتمٌ من حديد".
وتكون للتبعيض، نحو: "أكلت من الرّغيف".
وتكون رفعاً للجنس نحو: "ما جاءني من رجل".
وتكون صلةً، نحو قوله جلّ ثناؤه: {من خيرٍ من ربّكم}، و{نكفّر عنكم سيّئاتكم}.
وتكون تعجّباً، نحو: "ما أنت من رجل" و"حسبك من رجل".
وتكون بمعنى "على"، قال الله جلّ ثناؤه: {ونصرناه من القوم}. وكان أبو عبيدة يقول في قوله جلّ ثناؤه: {ومن يعمل من الصّالحات}: إن من صلة. قال أبو ذؤيب:
جزيتك ضعف الود لمّا أردته ... وما إن جزاك الضعف من أحد قبلي
وقال غيره: لا تزد من في أمرٍ واجب، يقال: "ما عندي من شيء" و"ما عنده من خير" و"هل عندك من طعام?".
فإذا كان واجباً لم يحسن شيء من هذا: لا تقول "عندك من خير".
مَنْ
اسم لمن يعقل. تقول: "لقيت من لقيت" و"من مرّ بك?" في الاستفهام.
وهو يكون في الواحد والاثنين والجميع. ويخرج الفعل منه على لفظ الواحد والمعنى تثنيه أو جمع. قال:
تعال فإن عاهدتني لا تخونني ... نكن مثل من يا ذئب يصطحبان
وكذلك يكون في المؤنث. قال الله جلّ ثناؤه: {ومن يقنت منكنّ}.
و"من" تضمر. قال الله جلّ ثناؤه: {وإن من أهل الكتاب إلّا ليؤمننّ به} المعنى: إلاّ من.
ومثله {وما منا إلا له مقامٌ} أي: إلا من.
مه ومهما
"مه" زجرٌ وإسكات وأمرٌ بالتوقّف عما يريده المريد، كأنّ قائلاً يريد الكلام بشيء أو فاعلاً يريد فعلاً فيقال لهما "مه" أي: قف ولا تفعل. هذا مشهور في كلام العرب. قال:
مه ما لي الليلة مه ما ليه ... يا راعي ذودي وأجماليه
ويكون هذا على أنّ أمراً تقدّم، فردّ عليه هذا القائل فقال: "مه" ثم مرّ كلام نفسه.
"ومهما" بمنزلة ما في الشرط. قال الله جلّ ثناؤه: {وقالوا مهما تأتنا به من آيةٍ}.
ويقال: إنّها "ما" أدخلت عليها "ما" قالوا: ما تكون إحداهما كالصلة كقوله جل ثناؤه: {أيًّا ما تدعوا} فغيّر اللفظ.
متى
"متى" سؤالٌ عن وقت, تقول: "متى يخرج زيد?".
و"متى" يكون شرطاً يقتضي التكرار. تقول: "متى كلمت زيداً فعلى كذا".
سمعت علّياً يقول: سمعت ثعلباً يقول ذلك.
فأما "متى" التي في لغة هذيل فليست من هذا، لأنهم يقولون: "وضعته متى كمّي" يريدون: الوسط وينشدون:
شربن بماء البحر ثم تصعّدت ... متى لججٍ خضرٍ لهن نئيج
قالوا: معناه من لجج. وقالوا: بمعنى وسط.
ومما أوله نون: نَعم ونِعم
"نعم" عدة تصديق.
و"نِعم " كلمة تنبئ عن المحاسن كلّها.
ومما أوله هاء: هلمّ
قالوا: معناها "تعال".
وكان الفرّاء يقول: أصلها "هل" ضمّ إليها "أمّ" وتأويل ذلك أن يقال: "هل لك في كذا، أمّ" أي: اقصد وتعال.
وكان الفرّاء يقول: معنى "اللهم" يا الله أمّنا بخير. فكثرت في الكلام واختلطت وتركت الهمزة.
ها
قالوا: معناها "خذ. تناول" تقول: "ها يا رجل".
ويؤمر بها ولا ينهى بها. وفي كتاب الله جلّ ثناؤه: {هاؤم اقرءوا كتابيه}.
هات
بمعنى "أعط" على لفظ "رام" و"عاط". قال الله جل ثناؤه: {قل هاتوا برهانكم}.
قال الفرّاء: ولم يسمع في الاثنين، إنّما يقال للواحد والجميع. ويقولون: أنا أهاتيك، وليس من كلامهم هاتيت، ولا ينهى بها.
وبلغني أن رجلاً قال لآخر: هات فقال: لا أهاتيك ولا أؤاتيك.
هيهات
قالوا:
معنى " هيهات " بعد، كقوله عز
وجل حكاية عن قوم: {هيهات هيهات لما توعدون} أي ما أبعد ما توعدون.
ومما أوله واو: ويكأنّ
اختلف أهل العلم فيها. قال أبو زيد: معنى و"يكأنه" ألم تر. وأنشد:
ألا ويك المسرّة لا تدوم ... ولا يبقى على الدّهر النعيم
وأنشد أبو عبيدة:
سألتاني الطّلاق أن رأتاني ... قلّ مالي قد جئتماني بنكر
ويكان من يكن له نشبٌ يحـ ... ـبب ومن يفتقر يعش عيش ضرّ
وحدثني علي بن إبراهيم عن محمد بن فرج عن سلمة عن الفراء قال: هو في كلام العرب تقرير كما يقول القائل: "أما ترى إلى صنع الله".
وحكى الفراء عن شيخ من البصريين قال: سمعت أعرابية تقول لزوجها: أين ابنك ويلك? فقال زوجها: ويكأنّه وراء الباب. معناه: أما ترينه وراء الباب?
قال الفرّاء: ويذهب بها بعض النحويين إلى أنهما كلمتان، يردي "ويك" إنما أراد "ويلك" فحذف اللام ويجعل "أنّ" مفتوحة بفعل مضمر كأنه قال: ويلك أعلم أن.
وقال: إنما حذفوا اللام من ويلك حتى صارت ويك، فقد تقول العرب ذلك لكثرتها في الكلام واستعمال العرب إياها. قال عنترة:
ولقد شفى نفسي وأبرأ سقمها ... قيل الفوارس ويك عنتر أقدمٍ
وقال آخرون: ويك "وي" منفصلة من كأنّ كقولك للرجل: أما ترى بين يديك. فقال: "وي" ثم استأنف كأن الله و"كأن" في معنى الظن والعلم. وفيها معنى تعجب.
قال: وهذا وجه مستقيم، ولم تكتبها العرب منفصلة. ويجوز أنّ يكون كثر بها الكلام فوصلت بما ليس منه، كما اجتمعت العرب على كتاب يا ابن أم: "يا بنؤمّ" فوصلوها لكثرتها.
أولى
سمعت أبا القاسم عليّ بن أبي خالد يقول: سمعت ثعلباً يقول "أولى له" أي: داناه الهلاك.
وأصحابنا يقولون: "أولى" تهدّدٌ ووعيدٌ. وهو قريب من ذلك. وأنشدوا:
ألفيتا عيناك عند القفا ... أولى فأولى لك ذا واقيه
وقال قوم -وأنا أبرأ من عهدته-: إن "أولى" مأخوذ من "الويل".
قالوا: وكان للويل فعل وتصريف درج ولم يبق منه إلا "الويل" قطّ. قال جرير:
يعملن بالأكباد ويلاً وآئلا
فقوله: "أولى": "أفعل" من الويل، إلاّ أن فيه القلب.
وقال قوم "أولى": داناه الهلاك فليحذر. قال:
أولى لكم ثم أولى أن تصيبكم ... منّي نواقر لا تبقى ولا تذر.
ومما أوله ياء: يا
تكون للنداء، نحو: "يا زيد".
وللدعاء نحو: "يا لله".
وتكون للتعجّب، كقوله: "يا له فارساً".
وفي التعجب من المذموم: "يا له جاهلاً".
قال في المدح، أنشد فيه القطّان عن ثعلب:
يا فارساً ما أبو أوفى إذا شغلت ... كلتا اليدين كروراً غير فرّار
وفي الذمّ قول الآخر:
أبو حازم جارٌ لها وابن برثٌنٍ ... فيا لك جاري ذلة وصغار
و"يا" للتلهف والتأسف نحو قوله جلّ ثناؤه: {يا حسرةً على العباد}.
ويكون تنبيهاً كقوله:
يا شاعراً لا شاعر اليوم مثله ... جرير ولكن في كليب تواضع
وعلى هذا يتأوّل قوله جلّ ثناؤه: {ألّا يسجدوا} وقد ذكرناه.
و"يا" تكون للتلذّذ نحو قوله:
يا بردها على الفؤاد لو يقف). [الصاحبي في فقه اللغة: 269-288]