12 Oct 2022
الدرس السابع
قال أحمد بن فارس بن زكرياء الرازي (ت: 395هـ): (
باب معاني الكلام
وهي عند بعض أهل العلم عشرة: خبرٌ. واستخبار. وأمر. ونهي. ودعاء. وطلب. وعرض. وتحضيض. وتمنّ. وتعجّبٌ.
فهذا:
باب الخبر:
أما أهل اللغة فلا يقولون في الخبر أكثر من أنّه إعلامٌ. تقول: "أخبرته. أخبره" والخبر هو العلم.
وأهل النظر يقولون: الخبر ما جاز تصديق قائله أو تكذيبه. وهو إفادة المخاطب أمراً في ماضٍ من زمان أو مستقبل أو دائم. نحو "قام زيد" و"يقوم زيد" و"قائم زيد".
ثم يكون واجباً وجائزاً وممتنعاً.
فالواجب قولنا: "النار محرقة".
والجائز وقولنا: "لقي زيد عمراً".
والممتنع قولنا: "حملت الجبل".
والمعاني التي يحتملها لفظ "الخبر" كثيرة:
فمنها التعجب نحو "ما احسن زيداً".
والتمنّي نحو: "وددتك عندنا".
والإنكار: "ما له عليّ حق".
والنفي: "لا بأس عليك".
والأمر نحو قوله جلّ ثناؤه: {والمطلّقات يتربّصنّ}.
والنهي نحو قوله: {لا يمسّه إلّا المطهّرون}.
والتعظيم نحو "سبحان الله".
والدّعاء نحو "عفا الله عنه".
والوعد نحو قوله جلّ وعزّ: {سنريهم آياتنا في الآفاق}.
والوعيد نحو قوله: {وسيعلم الّذين ظلموا}.
والإنكار والتبكيت نحو قوله جلّ ثناؤه: {ذق إنّك أنت العزيز الكريم}.
وربّما كان اللفظ خبراً والمعنى شرطٌ وجزاء، نحو قوله: {إنّا كاشفوا العذاب قليلًا إنّكم عائدون} فظاهره خبر، والمعنى: إنّا إن نكشف عنكم العذاب تعودوا.
ومثله {الطّلاق مرّتان} المعنى: من طلّق امرأته مرتين فليمسكها بعدهما بمعروف أو يسرّحها بإحسان.
والذي ذكرناه في قوله جل ثناؤه: {ذق إنّك أنت العزيز الكريم} فهو تبكيت.
وقد جاء في الشعر مثله. قال شاعر يهجو جريراً:
أبلغ جريراً وأبلغ من يبلّغه ... أني الأغرّ وأني زهرة اليمن
فقال جريرٌ مبكّتاً له:
ألم تكن في وسوم قد وسمت بها ... من حان موعظةٌ يا زهرة اليمن
ويكون اللفظ خبراً، والمعنى دعاء وطلب مرّ في الجملة. ونحوه: {إيّاك نعبد وإيّاك نستعين} معناه فأعنّا على عبادتك. ويقول القائل: "أستغفر الله" والمعنى: اللهم اغفر. قال الله جلّ ثناؤه: {لا تثريب عليكم اليوم يغفر اللّه لكم} ويقول الشاعر:
استغفر الله ذنبا لست محصيه ... رب العباد إليه الوجه والعمل.
باب الاستخبار
الاستخبار طلب خبر ما ليس عن المستخبر، وهو الاستفهام.
وذكر ناس أن بين الاستخبار والاستفهام أدنى فرق. قالوا: وذلك أن أولى الحالين الاستخبار لأنك تستخبر فتجاب بشيء، فربّما فهمته وربّما لم تفهمه، فإذا سألت ثانيةً فأنت مستفهم تقول: أفهمني ما قتله لي. قالوا: والدليل على ذلك أن الباري جل ثناؤه يوصف بالخبر ولا يوصف بالفهم.
وجملة باب الاستخبار أن يكون ظاهره موافقاً لباطنه كسؤالك عنّا لا تعلمه، فتقول: "ما عندك?" و"من رأيت?".
ويكون استخباراً، في اللفظ، والمعنى تعجب. نحو: {ما أصحاب الميمنة}.
وقد يسمى هذا تفخيماً. ومنه وقوله: {ماذا يستعجل منه المجرمون} تفخيم للعذاب الذي يستعجلونه.
ويكون استخباراً والمعنى توبيخ. نحو {أذهبتم طيّباتكم}. ومنه قوله:
أغررتني وزعمت أنـ ... ـنك لابنٌ بالصيف تامر
ويكون اللفظ استخباراً، والمعنى تفجع. نحو: {مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها}.
ويكون استخباراً، والمعنى تبكيت نحو: {أأنت قلت للنّاس} والمعنى تبكيت للنصارى فيما ادعوه.
ويكون استخباراً، والمعنى تقرير. نحو قوله جلّ ثناؤه: {ألست بربّكم}.
ويكون استخباراً، والمعنى تسوية. نحو: {سواءٌ عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم}.
ويكون استخباراً، والمعنى استرشاد. نحو: {أتجعل فيها من يفسد فيها}.
ويكون استخباراً، والمعنى إنكار نحو: {أتقولون على اللّه ما لا تعلمون}. ومنه قول القائل:
وتقول عزّة قد مللت فقل لها ... أيملّ شيءٌ نفسه فأملّها
ويكون اللفظ استخباراً، والمعنى عرض. كقولك: "ألا تنزل".
ويكون استخباراً، والمعنى تحضيض. نحو قولك: "هلاّ خيراً من ذلك" وكقوله:
بني ضوطرى لولا الكمي المقنّعا
ويكون استخباراً والمراد به الإفهام. نحو قوله جلّ ثناؤه: {وما تلك بيمينك} قد علم أن لها أمراً قد خفي على موسى عليه السلام، فأعلمه من حالها ما لم يعلمه.
ويكون استخباراً، والمعنى تكثير، نحو قوله جلّ ثناؤه: {وكم من قريةٍ أهلكناها} {وكأيّن من قريةٍ}. ومثله:
كم من دنيٍّ لها قد صرت أتبعه ... ولو صحا القلب عنها كان لي تبعا
وقال آخر:
وكم من غائط من دون سلمى ... قليل الأنس ليس به كتيع
ويكون استخباراً، والمعنى نفي. قال الله جلّ ثناؤه: {فمن يهدي من أضلّ اللّه} فظاهره استخبار والمعنى: لا هادي لمن أضلّ الله. والدليل على ذلك قوله في العطف عليه: {وما لهم من ناصرين}.
ومما جاء في الشعر منه قول الفرزدق:
أين الذين بهم تسامي دارماً ... أم من إلى سلفي طهيّة تجعل
ومنه قوله جلّ ثناؤه: {أفأنت تنقذ من في النّار} أي لست منقذهم.
وقد يكون اللفظ استخبارًا، والمعنى إخبار وتحقيق. نحو قوله جلّ ثناؤه: {هل أتى على الإنسان حينٌ من الدّهر} قالوا معناه: قد أتى.
ويكون بلفظ الاستخبار، والمعنى تعجّب. كقوله جلّ ثناؤه: {عمّ يتساءلون} و{لأيّ يومٍ أجّلت}.
ومن دقيق باب الاستفهام أن يوضع في الشرط وهو في الحقيقة للجزاء. وذلك قول القائل: "إن أكرمتك تكرمني" المعنى: أتكرمني إن أكرمتك؟ قال الله جلّ ثناؤه: {أفإن متّ فهم الخالدون} تأويل الكلام: أفهم الخالدون إن متّ? ومثله: {أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم} تأويله: أفتنقلبون على أعقابكم إنّ مات?
وربّما حذفت العرب ألف الاستفهام. ومن ذلك قول الهذليّ:
رفوني وقالوا يا خويلد لم ترع ... فقلت وأنكرت الوجوه هم هم
أراد: أهم?
وقال آخر:
لعمرك ما أدري وإن كنت دارياً ... شعيث بن سهم أم شعيث بن منقر
وقال آخر:
لعمرك ما أدري وإن كنت دارياً ... بسبع رمين الجمر أم بثمان
وعلى هذا حمل بعض المفسرين قوله جل ثناؤه في قصة إبراهيم عليه السلام: {هذا ربّي}: أي: أهذا ربي؟). [الصاحبي في فقه اللغة: 289-297]
قال أحمد بن فارس بن زكرياء الرازي (ت: 395هـ): (
باب الأمر
الأمر عند العرب ما إذا لم يفعله المأمور به سمي المأمور به عاصياً. ويكن بلفظ "افعل" و"ليفعل" نحو: {أقيموا الصّلاة} ونحو قوله سبحانه: {وليحكم أهل الإنجيل}.
فأما المعاني التي يحتملها لفظ الأمر فأن يكون أمراً، المعنى مسألة. نحو اضرب زيدا و... يا فتى. ويكون اللفظ أمرا وهو دعاء نحو قولك: "اللهم اغفر لي". قال الشاعر:
ما مسّها من نقبٍ ولا دبر ... اغفر له اللهمّ إن كان فجر
ويكون أمراً، والمعنى وعيد. نحو قوله جلّ ثناؤه: {فتمتّعوا فسوف تعلمون}. ومثله قوله جلّ ثناؤه: {اعملوا ما شئتم}. ومنه قول عبيد:
حتّى سقيناهم بكأسٍ مرّةٍ ... فيها المثمّل ناقعاً فليشربوا
ومن الوعيد قوله:
ارووا عليّ وأرضوا بي رحالكم ... واستسمعوا يا بني ميثاء إنشادي
ما ظنّكم ببني ميثاء إن رقدوا ... ليلاً وشدّ عليهم حيّة الوادي
وقد جاء في الحديث: "إذا لم تستحي فاصنع ما شئت" أي: إن الله جل ثناؤه مجازيك، قال الشاعر:
إذا لم تخش عاقبة الليالي ... ولم تستحي فاصنع ما تشاء
ويكون اللفظ أمراً، والمعنى تسليم. نحو قوله جلّ ثناؤه: {فاقض ما أنت قاض}.
ويكون أمراً، والمعنى تكوين. نحو قوله جلّ ثناؤه: {كونوا قردةً خاسئين}. وهذا لا يجوز أن يكون إلا من الله جلّ ثناؤه.
ويكون أمراً، وهو ندب نحو قوله جلّ ثناؤه: {فانتشروا في الأرض}.
مثله:
فقلت لراعيها انتشر وتبقّل
ويكون أمراً، وهو تعجيز. نحو قوله جلّ ثناؤه: {فانفذوا لا تنفذون إلاّ بسلطانٍ}.
ومثله:
خلّ الطريق لمن يبني المنار بها ... وابرز ببرزة حيث اضطرّك القدر
ويكون أمراً، وهو تعجب. نحو قوله جلّ ثناؤه: {أسمع بهم}. قال الشاعر:
أحسن بها خلةً لو أنها صدقت ... موعودها ولو انّ النّصح مقبول
ويكون أمراً، وهو تمنٍّ. تقول لشخص تراه: "كن فلاناً".
ويكون أمراً، وهو واجب. في أمر الله جلّ ثناؤه: {أقيموا الصّلاة}.
ويكون اللفظ أمراً، والمعنى تلهيفٌ وتحسير. كقول القائل: "مت بغيظك" ومت بدائك" وفي كتاب الله جلّ ثناؤه: {قل موتوا بغيظكم} ثم قال جرير:
موتوا من الغيظ غمّاً في جزيرتكم ... لن تقطعوا بطن وادٍ دونه مضر
ويكون أمراً، والمعنى خبر. كقوله جلّ ثناؤه: {فليضحكوا قليلًا وليبكوا كثيرًا} المعنى: انهم سيضحكون قليلاً ويبكون كثيراً.
فإن قال قائل: فما حال الأمر في وجوبه وغير وجوبه?
قيل له: أمّا العرب فليس يحفظ عنهم في ذلك شيء، غير أن العادة بأنّ من أمر خادمه بسقيه ماءً فلم يفعل، أنّ خادمه عاصٍ: وان الآمر معصيّ. وكذلك إذا نهى خادمه عن الكلام فتكلّم، لا فرق عندهم في ذلك بين الأمر والنهي.
فأما "النهي" فقولك: "لا تفعل" ومنه قوله:
لا تنكحي إن فرّق الدهر بيننا ... أغمّ القفا والوجه ليس بأنزعا
وأمّا "الدعاء، والطّلب" فيكون لمن فوق الداعي والطالب. نحو: "اللهم اغفر" ويقال للخليفة: "انظر في أمري". قال الشاعر:
إليك أشكو فتقبّل ملقي ... واغفر خطاياي وثمّر ورقي
و"العرض. والتحضيض" متقاربان. إلا أن العرض أرفق. والتحضيض أعزم. وذلك قولك في العرض "ألا تنزل. ألا تأكل".
والإغراء والحثّ قولك: "ألم يأن لك أن تطيعني". وفي كتاب الله جل ثناؤه: {ألم يأن للّذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر اللّه}.
والحثّ والتحضيض كالأمر ومنه قوله عزّ وجلّ: {أن ائت القوم الظّالمين، قوم فرعون ألا يتّقون} فهذا من الحثّ والتخصيص، معناه: ائتهم ومرهم بالاتقاء.
و"لولا" يكون لهذا المعنى، وقد مضى ذكرها. وربما كان تأويلها النفي، كقوله جلّ ثناؤه: {لولا يأتون عليهم بسلطانٍ بيّنٍ} المعنى: اتخذوا من دونه آلهة لا يأتون عليهم بسلطان بين.
و"التمني" قولك: "وددتك عندنا" وقوله:
وددت وما تغني الودادة أنني ... بما في ضمير الحاجبيّة عالم
قال قوم: من الأخبار، لأن معناه "ليس" إذا قال القائل: "ليت لي مالاً" فمعناه: ليس لي مالٌ.
وآخرون يقولون: لو كان خبراً لجاز تصديق قائله أو تكذيبه.
وأهل العربية مختلفون فيه على هذين الوجهين.
وأما "التعجب" فتفضيل شخص من الأشخاص أو غيره على أضرابه بوصف. كقولك: ما أحسن زيداً. وفي كتاب الله جلّ ثناؤه: {قتل الإنسان ما أكفره} وكذلك قوله جلّ ثناؤه: {فما أصبرهم على النّار} وقد قيل: إنّ معنى هذا: "ما الذي صبّرهم على النار".
وآخرون يقولون: "ما أصبرهم: ما أجرأهم". قال وسمعت أعرابيّاً يقول لآخر: ما أصبرك على الله، أي ما أجرأك عليه جل جلاله.
باب الخطاب يأتي بلفظ المذكر أو لجماعة الذّكران
إذا جاء الخطاب بلفظ مذكّر ولم ينصّ فيه على ذكر الرجال فإنّ ذلك الخطاب شامل للذكران والإناث. كقوله جلّ ثناؤه: {يا أيّها الّذين آمنوا اتّقوا اللّه وأقيموا الصّلاة وآتوا الزّكاة}. كذا تعرف العرب هذا.
فإن قال القائل: "هذا لقوم من بني فلان" فقد ذهب أكثر أهل اللغة إلى أن "القوم" للرجال دون النساء.
فسمعت عليّ بن إبراهيم القطان يقول، سمعت ثعلباً يقول: يقال: "امرؤ, وامرءان, وقوم" و"امرأة. وامرأتان. ونسوة".
وسمعت عليّاً يقول: سمعت المفسّر يقول: سمعت عبد الله بن مسلم يقول:
القوم للرجال دون النساء، ثم يخالطهم النساء فيقال: "هؤلاء القوم قوم فلان" ولا يجوز للنساء ليس فيهن رجل: هؤلاء قوم فلان، ولكن يقال: هؤلاء من قوم فلان، لأن قومه رجال والنساء منهم.
قال: وإنّما سمّي الرّجال دون النساء قوماً، لأنهم يقومون في الأمور وعند الشدائد يقال قائم وقوم، كما يقال: زائر وزور. وصائم وصوم. ونائم ونوم. ومثله "النّفر" لأنهم ينفرون مع الرجال إذا استنفرهم. قال امرؤ القيس:
فهو لا تنمي رميّته ... ما له لا عدّ من نفره
ومما يدلّ على أن القوم للرجال دون النساء قول زهير:
وما أدري وسوف إخال أدري ... أقول آل حصن أم نساء.
باب أقلّ العدد الجمع
الرّتب في الأعداد ثلاث: رتبة الواحد. ورتبة الاثنين. ورتبة الجماعة، فهي للتوحيد والتثنية والجمع، لا يزاحم في الحقيقة بعضها بعضاً. فإن عبّر عن واحد بلفظ جماعة وعن اثنين بلفظ جماعة فذلك كله مجاز والتحقيق ما ذكرناه.
فإذا قال القائل: "عندي دراهم, أو أفراسٌ, أو رجال" فذلك كله عبارة عن أكثر من اثنين.
وإلى ذلك ذهب عبد الله بن عباس -ومكانه من العلم باللغة مكانه- في قوله جلّ ثناؤه: {فإن كان له إخوةٌ فلأمّه السّدس} إلى أن الحجب في هذا الموضع عن الثلث إلى السدس لا يكون إلا بأكثر من اثنين.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "الاثنان فما فوقهما جماعة" فإنما أراد أنهما إذا صلّيا فقد حازا فضل الجماعة، لا أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- سمّي الشخصين جماعة.
وقول القائل: إن أقلّ ذلك أن يجمع واحد إلى واحد فهذا مجاز، وإنما الحقيقة أن يقال: كان واحد فثنّي ثم جمع.
ولو كان الأمر على ما قالوه لما كان للتثنية ولا للاثنين معنى بوجه، ونحن نقول: خرجا. ويخرجان فلو كان الاثنان جمعاً لما كان لقولنا يخرجان معنىً، وهذا لا يقوله أحد). [الصاحبي في فقه اللغة: 298-308]
قال أحمد بن فارس بن زكرياء الرازي (ت: 395هـ): (
باب الخطاب الذي يقع به الإفهام من القائل والفهم من السامع
يقع ذلك بين المتخاطبين من وجهين: أحدهما الإعراب، والآخر التصّريف. هذا فيمن يعرف الوجهين، فأمّا من لا يعرفهما فقد يمكن القائل إفهام السامع بوجوه يطول ذكرها من إشارة وغير ذلك, وإنّما المعوّل على ما يقع في كتاب الله جلّ ثناؤه من الخطاب أو في سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو غيرهما من الكلام المشترك في اللفظ.
فأمّا الإعراب فبه تميّز المعاني ويوقف على أغراض المتكلمين. وذلك أنّ قائلاً لو قال: "ما أحسن زيد" غير معرب أو "ضرب عمر زيد" غير معرب لم يوقف على مراده. فإن قال: "ما أحسن زيداً" أو "ما أحسن زيد" أو "ما أحسن زيدٌ" أبان بالإعراب عن المعنى الذي أراده.
وللعرب في ذلك ما ليس لغيرها: فهم يفرقون بالحركات وغيرها بين المعاني.
يقولون "مفتح" للآلة التي يفتح بها. و"مفتح" لموضع الفتح.
و"مقص" لآلة القص. و"مقص" للموضع الذي يكون فيه القصّ.
و"محلب" للقدح يحلب فيه و"محلب" للمكان يحتلب فيه ذوات اللبن. ويقولون: "امرأة طاهر" من الحيض لان الرجل لا يشركها في الحيض. وطاهرة من العيوب لأن الرجل يشركها في هذه الطّهارة.
وكذلك "قاعد" من الحبل و"قاعدة" من القعود.
ثم يقولون: "هذا غلاماً أحسن منه رجلاً" يريدون الحال في شخص واحد.
ويقولون: "هذا غلام أحسن منه رجل" فهما إذاً شخصان.
وتقول: "كم رجلاً رأيت?" في الاستخبار و"كم رجلٍ رأيت" في الخبر يراد به التكثير.
و"هن حواجّ بيت الله" إذا كنّ قد حججن. و"حواجّ بيت الله" إذا أردن الحجّ.
ومن ذلك "جاء الشتاء والحطب" لم يرد أنّ الحطب جاء، إنما أراد الحاجة إليه، فإن أراد مجيئهما قال: "والحطب".
وهذا دليل يدل على ما وراءه.
وأما التصريف فإنّ من فاته علمه فاته المعظم، لأنا نقول: "وجد" وهي كلمة مبهمة فإذا صرفنا أفصحت فقلنا في المال "وجداً", وفي الضالة "وجداناً", وفي الغضب "موجدةً" وفي الحزن "وجداً".
وقال الله جلّ ثناؤه: {وأمّا القاسطون فكانوا لجهنّم حطبًا} وقال: {وأقسطوا إنّ اللّه يحبّ المقسطين} فانظر كيف تحول المعنى بالتصريف من العدل إلى الجور.
ويكون ذلك في الأسماء والأفعال فيقولون للطريقة في الرمل "خبّة" وللأرض المخصبة والمجدبة "خبّة".
وتقول في الأرض السهلة الخوّارة "خارت، تخور، خوراً، وخؤورًا"، وخورانا وفي الإنسان إذا ضعف "خار، خوراً"، وفي الثور "خار، خواراً".
ويقولون للمرأة الضخمة "ضناك" وللزّكمة "ضناك".
ويقولون للإبل التي ذهبت ألبانها "شول" وهي جمع "شائلة". والتي شالت أذنابها للّقح "شوّل" وهي جمع "شائل".
ويقولون لبقية الماء في الحوض "شول".
ويقولون للعاشق: "عميد" وللبعير المتأكل السّنام "عمد". إلى غير ذلك من الكلام الذي لا يحصى.
باب معاني ألفاظ العبارات التي يعبّر بها عن الأشياء
ومرجعها إلى ثلاثة وهي: المعنى، والتفسير، والتأويل.
وهي وإن اختلفت فإن المقاصد بها متقاربة.
فأما المعنى فهو القصد والمراد. يقال: "عنيت بالكلام كذا" أي: قصدت وعمدت. أنشدني القطان عن ثعلب عن ابن الأعرابي:
مثل البرام غدا في أصدةٍ خلق ... لم يستعن وحوامي الموت تغشاه
فرّجت عنه بصرعينا لأرملة ... وبائس جاء معناه كمعناه
يقول في رجل قدّم ليقتل، وأنه فرج عنه بصرعين، أي فرقين من غنم: يقول: قد كنت أعددتها لأرملة تأتيني تسألني أو لبائس مثل هذا المقدّم ليقتل معنا، أي إن مقصدهما في السؤال والبؤس ومقصد واحد.
ويجوز أن يكون المعنى "الحال" أي حالهما واحدة.
وقال قوم: اشتقاق "المعنى" من "الإظهار" يقال: "عنت القربة" إذا لم تحفظ الماء بل أظهرته، و"عنوان الكتاب" من هذا.
وقال آخرون: "المعنى" مشتق من قول العرب "عنت الأرض بنبات حسن" إذا أنبتت نباتاً حسناً. قال الفراء: "لم تعن بلادنا بشيء" إذا لم تنبت.
وحكى ابن السّكّيت: "لم تعن" من "عنت. تعني" فإن كان هذا فإنّ المراد بالمعنى الشيء الذي يفيده اللفظ كما يقال: "لم تعن هذه الأرض" أي لم تفد.
وأما "التفسير" فإنه "التفصيل" كذا قال ابن عباس في قوله جلّ ثناؤه: {وأحسن تفسيرًا} أي: تفصيلاً.
وأما اشتقاقه فمن "الفسر".
أخبرني القطّان عن المعدانّي عن أبيه عن معروف عن الليث عن الخليل قال: الفسر البيان، واشتقاقه من فسر الطبيب للماء إذا نظر إليه، ويقال لذلك: "التّفسرة" أيضاً.
وأما "التّأويل" فآخر الأمر وعاقبته. يقال: "إلى أي شيء مآل هذا الأمر?" أي مصيره وآخره وعقباه.
وكذا قالوا في قوله جلّ ثناؤه: {وما يعلم تأويله إلّا اللّه} أي: لا يعلم الآجال والمدد إلاّ الله جلّ ثناؤه، لأن القوم قالوا في مدّة هذه الملة ما قالوه، فأعلموا أن مآل الأمر وعقباه لا يعمله إلا الله جل ثناؤه.
واشتقاق الكلمة من "المآل" وهو العاقبة والمصير، قال عبدة بن الطبيب:
وللأحبّة أيام تذكّرها ... وللنّوى قبل يوم البين تأويل
وقال الأعشى:
على أنًّها كانت تأوّل حبّها ... تأّوّل ربعيّ السّقاب فأصحبا
يقول: إن حبّها كان صغيراً في قلبه فآل إلى العظم ولم يزل ينبت حتى أصحب، فصار كالسّقب الذي لم يزل يشبّ حتى أصحب، يعني أنه إذا استصحبته أمّه صحبها.
باب الخطاب المطلق والمقيّد
أمّا الإطلاق فأن يّذكر الشيء باسمه لا يقرن به صفة ولا شرط ولا زمان ولا عدد ولا شيء يشبه ذلك.
والتقييد: أن يذكر بقرينٍ من بعض ما ذكرناه، فيكون ذلك القرين زائداً في المعنى. من ذلك أن يقول القائل: "زيدٌ ليثٌ"، فهذا إنما شبّهه بليث في شجاعته، فإذا قال: "هو كالليث الحرب" فقد زاد "الحرب" وهو الغضبان الذي حرب فريسته، أي: سلبها. فإذا كان كذا كان أدهى له. ومن المطلق قوله:
ترائبها مصقولة كالسّجنجل
فشبّه صدرها بالمرآة، لم يزد على هذا.
وذكر ذو الرّمة أخرى فزاد في المعنى حتى قيّد فقال:
ووجهٌ كمرآة الغريبة أسجح
فذكر المرآة كما ذكر امرؤ القيس السّجنجل، وزاد الثاني ذكر الغريبة فزاد في المعنى، وذلك أن الغريبة ليس لها من يعلمها محاسنها من مساويها فهي تحتاج أن تكون مرآتها أصفى وأنقى لتريها ما تحتاج إلى رؤيته من سنن وجهها.
ومنه قول الأعشى:
تروح على آل المحلّق جفنةٌ ... كجابية الشيخ العراقيّ تفهق
فشبّه الجفنة بالجابية، وهي الحوض، وقيدها بذكر الشيخ العراقي، لأن العراقي إذا كان بالبدو لم يعرف مواضع الماء ومواقع الغيث، فهو على جمع الماء الكثير أحرص من البدوي العارف بالمناقع والأحساء.
وفي هذا الباب قول حميد بن ثور يصف بعيراً:
محلّى بأطواقٍ عتاقٍ يبينها ... على الضّرّ راعى الثّلّة المتعيّف
فقال "راعي ثلّة" ولم يطلق اسم الراعي، وذلك أنهم يقولون: إنّ راعي الغنم أجهل الرّعاة، فيقول: إنّ هذا البعير محلّىً بأطواق عتاق، أي كريمة، يبينها راعي الثلّة على جهله فكيف بغيره ممن يعرف). [الصاحبي في فقه اللغة: 309-318]
قال أحمد بن فارس بن زكرياء الرازي (ت: 395هـ): (
باب الشيء يكون ذا وصفين فيعلّق بحكم من الأحكام على أحد وصفيه
أمّا الفقهاء فمختلفون في هذا.
فأمّا مذهب العرب فإنّ العربي قد يذكر الشيء بإحدى صفتيه فيؤثّر ذلك، وقد يذكره فلا يؤثّر بل يكون الأمر في ذلك وفي غيره سواءً. ألا ترى القائل يقول:
من أناس ليس من أخلاقهم ... عاجل الفحش ولا سوء الطّمع
فلو كان الأمر على ما يذهب إليه من يخالف مذهب العرب لاستجيز عاجل الفحش إذا كان الشاعر إنما ذكر العاجل.
وقد قال الله جلّ ثناؤه: {ولا تكونوا أوّل كافرٍ به} والكفر لا يجوز في حال من الأحوال.
وحكى ناس عن أبي عبيد أنه كان يقول بالمذهب الأول، ويقول في قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لي الواجد يحل عقوبته وعرضه» فدل أن غير الواجد مخالف للواجد.
والذي نقوله في الباب: إن أبا عبيد إنما سلك فيما قاله من هذا مسلك التّأوّل ذاهباً إلى مذهب من يقول بهذه المقالة، ولم يحك ما قاله عن العرب، ولو حكاه عنهم للزم القول به، لأنّ أبا عبيد ثقة أمين فيما يحكيه عن العرب.
فأما في الذي تأوّله فإنّا نحن نخالفه فيه كما نخالفه في مسألة متعة الحج وفي ذوي الأرحام وغير ذلك من المسائل المختلف فيها.
باب سنن العرب في حقائق الكلام والمجاز
نقول في معنى الحقيقة والمجاز:
إن "الحقيقة" من قولنا: "حقّ الشيء" إذا وجب.
واشتقاقه من الشيء المحقّق وهو المحكم، تقول: ثوب محقّق النّسج أي محكمه. قال الشاعر:
تسربل جلد وجه أبيك إنّا ... كفيناك المحقّقة الرّقاقا
وهذا جنس من الكلام يصدّق بعضه بعضاً من قولنا: "حقٌّ وحقيقة. ونصّ الحقاق".
فالحقيقة: الكلام الموضوع موضعه الذي ليس باستعارة ولا تمثيل، ولا تقديم فيه ولا تأخير، كقول القائل: "أحمد الله على نعمه وإحسانه". وهذا أكثر الكلام. قال الله جلّ ثناؤه: {والّذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون}.
وأكثر ما يأتي من الآي على هذا.
ومثله في شعر العرب:
لمال المرء يصلحه فيغنى ... مفاقره أعف من القنوع
وقول الآخر:
وفي الشرّ نجاةٌ حـ ... ـين لا ينجيك إحسان
وأمّا "المجاز" فمأخوذ من "جاز، يجوز" إذا استنّ ماضياً تقول: "جاز بنا فلان. وجاز علينا فارس" هذا هو الأصل. ثم تقول: "يجوز أن تفعل كذا" أي: ينفذ ولا يردّ ولا يمنع. وتقول: "عندنا دراهم وضح وازنة وأخرى تجوز جواز الوازنة" أي: إن هذه وإن لم تكن وازنة فهي تجوز "مجازها" وجوازها لقربها منها.
فهذا تأويل قولنا: "مجاز" أي: إن الكلام الحقيقيّ يمضي لسننه لا يعترض عليه، وقد يكون غيره يجوز جوازه لقربه منه، إلاّ أنّ فيه من تشبيهٍ واستعارة وكفٍّ ما ليس في الأول، وذلك كقولك: "عطاء فلان مزنٌ واكفٌ" فهذا تشبيه وقد جاز مجاز قوله: "عطاؤه كثير وافٍ".
ومن هذا في كتاب الله جل ثناؤه: {سنسمه على الخرطوم} فهذا استعارة. وقال: {وله الجوار المنشآت في البحر كالأعلام} فهذا تشبيه. ومنه قول الشاعر:
ألم تر أنّ الله أعطاك سورةً ... ترى كلّ ملك دونها يتذبذب
فإنك شمسٌ والملوك كواكبٌ ... إذا طلعت لم يبد منهن كوكب
فالمجاز هنا عند ذكر "السّورة" وإنما هي من البناء. ثم قال: "يتذبذب". والتذبذب يكون لذباذب الثوب وهو ما يتدلّى منه فيضطرب, ثم شبهه بالشمس وشبههم بالكواكب.
وجاء هذان البابان في نظوم كتاب الله جلّ ثناؤه، وكذلك يجيء بعدهما ما نذكره في سنن العرب لتكون حجّة الله جلّ اسمه عليهم أكد، ولئلاّ يقولوا: إنما عجزنا عن الإتيان بمثله لأنه بغير لغتنا وبغير السّنن التي نستنّها. لا، بل أنزله جل ثناؤه بالحروف التي يعرفونها وبالسّنن التي يسلكونها في أشعارهم ومخاطباتهم ليكون عجزهم عن الإتيان بمثله أظهر وأشهر.
ثم جعله تبارك اسمه أحد دلائل نبوّة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
ثم أعلمهم ألاّ سبيل لهم إلى معارضته، وقطع العذر بقوله جلّ ثناؤه: {قل لئن اجتمعت الإنس والجنّ على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعضٍ ظهيرًا}.
فمن سنن العرب مخالفة ظاهر اللفظ معناه، كقولهم عند المدح: "قاتله الله ما أشعره" فهم يقولون هذا ولا يريدون وقوعه.
ومنه قول امرئ القيس يصف رامياً:
فهو لا تنمي رميّته ... ما له لا عدّ من نفره
يقول: إذا عدّ نفره لم يعدّ معهم، كأنه قال: قتله الله، أماته الله، حتى لا يعدّ.
ومنه قولهم: "هوت أمّه. وهبلته، وثكلته" قال: كعب بن سعد يرثي أخاه:
هوت أمّه ما يبعث الصبح غادياً ... وماذا يؤدّى الليل حين يؤوب
وهذا يكون عند التعجب من إصابة الرجل في رميه أو في فعل يفعله.
وكان عبد الله بن مسلم بن قتيبة يقول في هذا الباب: من ذلك الدعاء على جهة الذم لا يراد به الوقوع كقوله الله جل ثناؤه: {قتل الخرّاصون}.
و{قتل الإنسان ما أكفره}. و{قاتلهم اللّه أنّى يؤفكون} " وأشباه ذلك.
قال أحمد بن فارس: وهذا وإن أشبه ما تقدم ذكره فإنه لا يجوز لأحد أن يطلق فيما ذكره الله جلّ ثناؤه أنه دعاء لا يراد به الوقوع، بل هو دعاء عليهم أراد الله وقوعه بهم فكان كما أراد، لأنهم قتلوا وأهلكوا وقوتلوا ولعنوا، وما كان الله جلّ ثناؤه ليدعو على أحد فتحيد الدعوة عنه: قال الله جلّ ثناؤه: {تبّت يدا أبي لهبٍ} فدعا عليه ثم قال: {وتبّ} أيّ وقد تبّ وحاق به التبّاب.
وابن قتيبة يطلق إطلاقات منكرةً ويروي أشياء شنعة، كالذي رواه عن الشّعبيّ أنّ أبا بكر وعمر وعليّاً توفوا ولم يجمعوا القرآن.
قال: وروى شريك عن إسماعيل بن أبي خالد قال: سمعت الشّعبي يقول ويحلف بالله: لقد دخل علي حفرته وما حفظ القرآن.
وهذا كلام شنع جدّاً في من يقول "سلوني قبل أن تفقدوني، سلوني فما من آية إلاّ أعلم أبليل نزلت أم بنهار، أم في سهل أم في جبل".
وروى السّدّيّ عن عبد خيرٍ عن عليّ رضي الله تعالى عنه أنه رأى من الناس طيرةً عند وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقسم ألاّ يضع على ظهره رداءً حتى يجمع القرآن قال: فجلس في بيته حتّى جمع القرآن، فهو أول مصحف جمع فيه القرآن، جمعه في قلبه، وكان عند آل جعفر فانظر إلى قول القائل: جمعه من قلبه.
وحدّثنا علي بن إبراهيم عن علي بن عبد العزيز قال: قال أبو عبيد حدّثني نصر بن بابٍ عن الحجاج عن الحكم عن أبي عبد الرحمن السّلمي أنه قال: ما رأيت أحداً أقرى من عليّ صلوات الله عليه، صلّينا خلفه فأسوأ برزخاً ثم رجع فقرأه ثم عاد إلى مكانه.
قال أبو عبيد البرزخ: ما بين كل شيئين، ومنه قيل للميت: هو في البرزخ، لأنه بين الدنيا والآخرة، فأراد أبو عبد الرحمن بالبرزخ ما بين الموضع الذي أسقط علي صلوات الله عليه منه ذلك الحرف إلى الموضع الذي كان انتهى إليه.
باب أجناس الكلام
في الاتفاق والافتراق
يكون ذلك على وجوه:
فمنه اختلاف اللفظ والمعنى، وهو الأكثر الأشهر، مثل "رجل، وفرس" و"سيف، ورمح".
ومنه اختلاف اللفظ واتفاق المعنى، كقولنا: "سيف, وعضب" و"ليث، وأسد" على مذهبنا في أن كل واحد منهما فيه ما ليس في الآخر من معنى وفائدة.
ومنه اتفاق اللفظ واختلاف المعنى، كقولنا عين الماء وعين المال وعين الرّكبة وعين الميزان.
ومنه في كتاب الله جل ثناؤه:
{قضى} بمعنى: حتم كقوله جلّ ثناؤه {قضى عليها الموت}.
وقضى بمعنى: أمر كقوله جلّ ثناؤه: {وقضى ربّك ألاّ تعبدوا إلاّ إيّاه} أي أمر.
ويكون قضى بمعنى: أعلم كقوله جلّ ثناؤه: {وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب} أي أعلمناهم.
وقضى بمعنى: صنع كقوله جلّ ثناؤه: {فاقض ما أنت قاضٍ} وكقوله جلّ ثناؤه: {ثمّ اقضوا إليّ} أي اعملوا ما أنتم عاملون.
وقضى: فرغ. ويقال للميت: قضى أي فرغ.
وهذه وإن اختلفت ألفاظها فالأصل واحد.
ومنه اتفاق اللفظ وتضادّ المعنى كـ"الظنّ" وقد مضى الكلام عليه.
ومنه تقارب اللفظين والمعنيين كـ"الحزم" و"الحزن". فالحزم من الأرض أرفع من الحزن. وكـ"الخضم" وهو بالفم كله. و"القضم" وهو بأطراف الأسنان.
ومنه اختلاف اللفظين وتقارب المعنيين كقولهم مدحه إذا كان حيًّا و"أبنه" إذا كان ميتاً.
ومنه تقارب اللفظين واختلاف المعنيين وذلك قولنا "حرج" إذا وقع في الحرج و"تحرج" إذا تباعد عن الحرج. وكذلك "أثم، وتأثم"، و"فزع" إذا أتاه الفزع و"فزع عن قلبه" إذا نحّي عنه الفزع قال الله جلّ ثناؤه: {حتّى إذا فزّع عن قلوبهم} أراد والله أعلم: أخرج منها الفزع). [الصاحبي في فقه اللغة: 319-328]