12 Oct 2022
الدرس التاسع
قال أحمد بن فارس بن زكرياء الرازي (ت: 395هـ): (
باب الإضمار
من
سنن العرب الإضمار. ويكون على ثلاثة أضرب:
إضمار الأسماء.
وإضمار الأفعال.
وإضمار الحروف.
فمن إضمار الأسماء قولهم: "ألا يسلمي" يريدون "ألا يا هذه اسلمي".
وفي كتاب الله جلّ ثناؤه {ألّا يسجدوا للّه} بمعنى: ألا يا هؤلاء اسجدوا. فلما لم يذكر "هؤلاء" بل أضمرهم اتصلت "يا" بقوله: "اسجدوا" فصار كأنه فعل مستقبل.
ومثله قول ذي الرّمّة:
ألا يسلمي يا دار ميٍّ على البلى ... ولا زال منهلا بجرعائك القطر
وأخبرني علي بن إبراهيم عن محمد بن فرج عن سلمة عن الفرّاء أنه سمع بعض العرب يقول: "ألا يرحمنا" يعني: ألا يا ربنا ارحمنا.
ويقولون:
يا هل أتاها على ما كان من حدثٍ
و:
يقولون لي يحلف ولست بحالفٍ
بمعنى: يا هذا احلف.
ويضمرون من الأسماء "من" فيقولون: "ما في حيّنا إلا له إبل" أي: من له إبل.
و"كذبتم بني شاب قرناها" أي: من شاب.
وفي كتاب الله جلّ ثناؤه: {وما منّا إلّا له مقامٌ معلوم} أي: من له مقام.
ويضمرون "هذا" كقول حميد:
أنت الهلالي الذي كانت مرّةً ... سمعنا به والأرحبيّ المعلف
أي: وهذا الأرحبيّ, يعني بعيره.
باب إضمار الحروف
ويضمرون الحروف فيقول قائلهم:
ألا أيهذا الزّاجري أشهد الوغى
بمعنى أن أشهد.
ويقولون: "والله لكان كذا" بمعنى لقد.
ويقول النابغة:
لكلفتني ذنب امرئ
وفي كتاب الله جل ثناؤه: {ألم، غلبت الرّوم} قالوا: معناها لقد غلبت. إلا أنه لما أضمر "قد" أضمر اللام.
وفي كتاب الله جلّ ثناؤه: {سنعيدها سيرتها الأولى} فقالوا: إلى سيرتها.
و{اختار موسى قومه} أي من قومه.
ويقولون: "اشتقتك" أي إليك.
و"هل يسمعونكم" بمعنى لكم.
و"أو جاءوكم حًصرت" أي قد حصرت.
ويقول قائلهم: "حلفت بالله لناموا" أي لقد.
وفي كتاب الله جلّ ثناؤه: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} أي فعليكم.
وقيل في قوله جلّ ثناؤه: {وترغبون أن تنكحوهنّ} معناها عن وقوم يقولون: في أن تنكحوهن.
وفي كتاب الله جلّ ثناؤه: {ومن آياته يريكم البرق} أي أن يريكم البرق.
وكقوله جلّ ثناؤه: {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا}.
باب إضمار الأفعال
من ذلك: "قيل, ويقال". قال الله جلّ ثناؤه: {فأمّا الّذين اسودّت وجوههم أكفرتم} معناه: فيقال لهم، لأن أمّا لا بد لها في الخبر من فاء، فلما أضمر القول أضمر الفاء.
ومثله:
فلا تدفنوني إن دفني محرّمٌ ... عليكم ولكن خامري أمّ عامر
أي اتركوني للتي يقال لها "خامري" أم عامر.
ومنه: {ثمّ يخرجكم طفلًا ثمّ لتبلغوا أشدّكم} أي: ثم يعمّركم لتبلغوا أشدّكم.
ومن باب الإضمار: "أثعلباً وتفرّ" أي: أترى ثعلباً.
وفي كتاب الله جلّ ثناؤه: {وتتلقّاهم الملائكة هذا يومكم} أي يقولون.
و"أسر رجلٌ أسيراً ليلاً فلما أصبح رآه أسود فقال: أعبداً سائر الليلة" كأنه قال: ألا أراني أسرت عبداً.
ومن الإضمار: {قل لمن ما في السّماوات والأرض قل للّه} فهذا مضمر كأنه لما سألهم عادوا بالسؤال عليه فقيل له: {قل للّه}.
ومن الإضمار: {فقلنا اضربوه ببعضها كذلك} معناه: فضربوه فحيّ كذلك "يحيى الله الموتى".
ومثله في كتاب الله كثير.
باب من الإضمار الآخر
العرب تضمر الفعل فيشتبه المعنى حتى يعتبر فيوقف على المراد. وذلك كقول الخنساء:
يا صخر ورّاد قد تناذره ... أهل الموارد ما في ورده عار
ظاهر هذا أن معناه: ما على ما ورده عار، وليس في ورد الماء عار فيبجح به. ولكن معناه: ما في ترك ورده مخافةً عارٌ. وإنما عنت أنه ورد ماءً مخوفاً يتحاماه الناس فينذر بعضهم بعضاً، تقول: فهو يرد هذا الماء لجرأته.
ومثله قول النابغة:
فإني لا ألام على دخول ... ولكن ما وراءك يا عصام
يقول: لا ألام على ترك الدخول، لأنّ النّعمان قد كان نذر دمه متى رآه، فخاطب بهذا الكلام حاجبه.
وقال الأعشى:
اأزمعت من آل ليلى ابتكاراً ... وشطّت على ذي هوىً أن تزارا
ظاهر هذا: أازمعت أن تبتكر منهم. وإنّما المعنى: أأزمعت من أجل آل ليلى وشوقك إليهم أن تبتكر من أهلك? لأنه عزم الرحلة إليها لا عنها، ألا تراه يقول:
وبانت بها غربات النّوى ... وبدّلت شوقاً بها وادّكارا
وفي كتاب الله جل ثناؤه: {لا يستأذنك الّذين يؤمنون باللّه واليوم الآخر أن يجاهدوا} التأويل: لا يستأذنك الذي يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يقعدوا عن الجهاد.
باب التعويض
من سنن العرب التّعويض وهو إقامة الكلمة مقام الكلمة. فيقيمون الفعل الماضي مقام الراهن، كقوله جلّ ثناؤه: {قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين} المعنى: أم أنت من الكاذبين.
ومنه: {وما جعلنا القبلة الّتي كنت عليها} بمعنى: أنت عليها.
ومن ذلك إقامة المصدر مقام الأمر، كقوله جلّ ثناؤه: {فسبحان اللّه حين تمسون وحين تصبحون} والسّبحة: الصلاة. يقولون: "سبّح سبحة الضحى".
فتأويل الآية: سبّحوا لله جل ثناؤه، فصار في معنى الأمر والإغراء، كقوله جلّ ثناؤه: {فضرب الرّقاب}.
ومن ذلك إقامة الفاعل مقام المصدر، يقولون: "قم قائماً" قال:
قم قائماً قم قائما ... لقيت عبداً نائماً
وعشراء رائما ... وأمةً مراغما
وفي كتاب الله جلّ ثناؤه: {ليس لوقعتها كاذبةٌ} أي تكذيب.
ومن ذلك إقامة المفعول مقام المصدر، كقوله جلّ ثناؤه: {بأيّيكم المفتون} أي الفتنة.
تقول العرب: "ما له معقول. وحلف محلوفه بالله. وجهد مجهوده". ويقولون: "ما له معقول ولا مجلود" ويريدون العقل والجلد ... قال الشمّاخ:
من اللواتي إذا لانت عريكتها ... يبقى لها بعدها آل ومجلود
ويقول الآخر:
إن أخا المجلود من صبرا
ومن ذلك إقامة المصدر مقام الفعل، ويقولون: "لقيت زيداً وقيله كذا" أي يقول كذا. قال كعب:
يسعى الوشاة حواليها وقيلهم ... إنك يا ابن أبي سلمي لمقتول
تأويله: يقولون. ولذلك نصب.
ومن ذلك وضعهم "فعيلاً" في موضع "مفعل" نحو "أمرٌ حكيم" بمعنى محكم.
ووضعهم "فعيلاً" في موضع "مفعل" نحو: {عذابٌ أليمٌ} بمعنى مؤلم وتقول:
أمن ريحانة الداعي السميع
بمعنى: مسمع.
ومن ذلك وضعهم: "مفعولاً" بمعنى "فاعل" كقوله جل ثناؤه: {عذابٌ أليم} أي ساتراً، وقيل: مستوراً عن العيون كأنّه أخذةٌ لا يحسّ بها أحد.
ومن ذلك إقامة الفعل مقام الحال كقوله جلّ ثناؤه: {يا أيّها النّبيّ لم تحرّم ما أحلّ اللّه لك تبتغي مرضاة أزواجك} أي مبتغياً.
وقال:
الرّيح تبكي شجوه ... والبرق يلمع في غمامه
أراد: لامعاً). [الصاحبي في فقه اللغة: 386-397]
قال أحمد بن فارس بن زكرياء الرازي (ت: 395هـ): (
باب من النظم الذي جاء في القرآن
من نظم كتاب الله جلّ ثناؤه الاقتصاص, وهو أن يكون كلام في سورة مقتصاً من كلام في سورة أخرى أو في السورة معها. كقوله جلّ ثناؤه: {وآتيناه أجره في الدّنيا وإنّه في الآخرة لمن الصّالحين} والآخرة دار ثواب لا عمل، وهو مقتصّ عن قوله: {ومن يأته مؤمنًا قد عمل الصّالحات فأولئك لهم الدّرجات العلى}.
ومنه قوله جلّ ثناؤه: {ولولا نعمة ربّي لكنت من المحضرين} مأخوذ من قوله جل ثناؤه: {فأولئك في العذاب محضرون} وقوله: {ثمّ لنحضرنّهم حول جهنّم}.
فأما قوله جلّ ثناؤه: {ويوم يقوم الأشهاد} فيقال: إنها مقتصة من أربع آيات لأن "الأشهاد" أربعة:
الملائكة في قوله جلّ ثناؤه: {وجاءت كلّ نفسٍ معها سائقٌ وشهيدٌ}, والأنبياء صلوات الله عليهم: {كيف إذا جئنا من كلّ أمّةٍ بشهيدٍ وجئنا بك على هؤلاء شهيدًا}.
وأمّة محمد -صلى الله عليه وسلم- لقوله جلّ ثناؤه: {وكذلك جعلناكم أمّةً وسطًا لتكونوا شهداء على النّاس}.
والأعضاء لقوله جلّ ثناؤه: {يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون}.
ومن الاقتصاص قوله جلّ ثناؤه: {إنّي أخاف عليكم يوم التّناد} قرئت مخففةً ومشددة.
فمن شدّد فهو "ندّ" إذا نفر، وهو مقتصّ من قوله: {يوم يفرّ المرء من أخيه} إلى آخر القصة.
ومن خفّف فهو تفاعل من النّداء مقتصّ من قوله جلّ ثناؤه: {ونادى أصحاب الجنّة أصحاب النّار}. {ونادى أصحاب النّار أصحاب الجنّة}. {ونادى أصحاب الأعراف}، وما أشبه هذا من الآي الذي فيها ذكر النداء.
باب الأمر المحتاج إلى بيان وبيانه متصل به
قال الله جل ثناؤه: {يسألونك عن الأنفال}, فبيان هذا السؤال متصل به وهو قوله جل ثناؤه: {قل الأنفال للّه والرّسول}.
ومثله: {يسألونك ماذا أحلّ لهم قل أحلّ لكم الطّيّبات} و{يسألونك عن السّاعة أيّان مرساها قل إنّما علمها عند ربّي} ومنه {أم يقولون شاعرٌ نتربّص به ريب المنون، قل تربّصوا}.
فهذا وما أشبهه هو الابتداء الذي تمامه متصل به.
باب ما يكون بيانه مضمراً فيه
وذلك مثل قوله جل ثناؤه: {حتّى إذا جاءوها وفتحت أبوابها}, فهذا محتاج إلى بيان لأن {حتّى إذا} لا بد لها من تمام فالبيان ها هنا مضمر، قالوا: تأويله: حتى إذا جاءوها جاءوها وفتحت أبوابها.
ومثله: {ولو أنّ قرآنًا سيّرت به الجبال} فتمامه مضمر كأنه قال جلّ ثناؤه: "لكان هذا القرآن".
وهذا هو الذي يسمّى في سنن العرب "باب الكفّ" وقد ذكر.
باب ما يكون بيانه منفصلاً منه ويجيء في السورة معها أو في غيرها
قال الله جلّ ثناؤه: {وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم} قال أهل العلم: بيان هذا العهد قوله جلّ ثناؤه: {لئن أقمتم الصّلاة وآتيتم الزّكاة وآمنتم برسلي} الآية، فهذا عهده جل ثناؤه، وعهدهم تمام الآية في قوله جلّ ثناؤه: {لأكفّرنّ عنكم سيّئاتكم} فإذا وفوا بالعهد الأول أعطوا ما وعدوه.
وقال جلّ ثناؤه: {ويقول الّذين كفروا لست مرسلًا}, فالردّ على هذا قوله جل ثناؤه: {يس والقرآن الحكيم، إنّك لمن المرسلين}.
وهذا هو الذي يسميه أهل القرآن جواباً.
ومن الباب قوله جلّ ثناؤه في الإخبار عنهم: {ربّنا اكشف عنّا العذاب إنّا مؤمنون} فقيل لهم: {ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضرٍّ للجّوا في طغيانهم}.
ومن الباب قوله جلّ ثناؤه: {وقالوا لولا نزّل هذا القرءان على رجلٍ من القريتين عظيمٍ} فردّ عليهم حين قيل: {وربّك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة}.
ومن الباب قوله: {وإذا قيل لهم اسجدوا للرّحمن قالوا وما الرّحمن} ومنه قوله: {الرّحمن، علّم القرآن}.
ومنه قوله: {قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا} فقيل هلم: {لئن اجتمعت الإنس والجنّ على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله}.
ومنه {وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم} فقيل لهم في الجواب: {فإن يصبروا فالنّار مثوًى لهم}.
ومنه: {أم يقولون نحن جميعٌ منتصرٌ}، فقيل لهم: {ما لكم لا تناصرون}.
ومنه قوله جل ثناؤه في قصة من قال: {لو أطاعونا ما قتلوا} فردّ عليهم بقوله: {لو كنتم في بيوتكم لبرز الّذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم}.
ومن الباب قوله جلّ ثناؤه: {أم يقولون تقوّله} فردّ عليهم: {ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل، لأخذنا منه باليمين}.
ومنه قوله جل ثناؤه حكاية عنهم: {مال هذا الرّسول يأكل الطّعام ويمشي في الأسواق}. قيل لهم: {وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلاّ إنّهم ليأكلون الطّعام ويمشون في الأسواق}.
ومنه قوله جل ثناؤه: {وقال الّذين كفروا لولا نزّل عليه القرآن جملةً واحدةً} فقيل في سورة أخرى: {وقرآنًا فرقناه}.
ومنه: {ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحًا أن اعبدوا اللّه فإذا هم فريقان يختصمون} فتفسير هذا الاختصام ما قيل في سورة أخرى: {قال الملأ الّذين استكبروا من قومه للّذين استضعفوا لمن آمن منهم أتعلمون أنّ صالحًا مرسلٌ من ربّه} إلى آخر القصّة.
وقال في قصّة قوم: {لهم البشرى في الحياة الدّنيا} فالبشرى قوله جلّ ثناؤه في موضع آخر: {تنزّل عليهم الملائكة ألّا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنّة}.
ومنه حكايةً عن فرعون أنه قال: {وما أهديكم إلّا سبيل الرّشاد} فردّ الله عليه في قوله جلّ ثناؤه: {وما أمر فرعون برشيدٍ}.
ومن الباب قوله جلّ ثناؤه: {يوم يبعثهم اللّه جميعًا فيحلفون له} وذكر هذا الحلف في قوله جلّ ثناؤه: {واللّه ربّنا ما كنّا مشركين}.
ومنه قوله جلّ وعزّ في قصة نوح عليه السلام: {أنّي مغلوبٌ فانتصر} فقيل في موضع آخر: {ونصرناه من القوم الّذين كذّبوا بآياتنا}.
ومنه قوله جلّ ثناؤه: {وقالوا قلوبنا غلفٌ} أي أوعية للعلم فقيل لهم: {وما أوتيتم من العلم إلا قليلًا}.
وهذا في القرآن كثير أفردنا له كتاباً وهو الذي يسمّى "الجوابات".
باب آخر من نظم القرآن
وذلك أن تجيء الكلمة إلى جنب الكلمة كأنها في الظاهر معها، وهي في الحقيقة غير متصلة بها: قال الله جلّ ثناؤه: {إنّ الملوك إذا دخلوا قريةً أفسدوها وجعلوا أعزّة أهلها أذلّةً وكذلك يفعلون}. فقوله: {وكذلك يفعلون} من قول الله جلّ اسمه لا قول المرأة.
ومنه: {الآن حصحص الحقّ أنا راودته عن نفسه وإنّه لمن الصّادقين}، انتهى قول المرأة ثم قال يوسف: {ذلك ليعلم أنّي لم أخنه بالغيب}.
ومنه: {يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا}، وتمّ الكلام فقالت الملائكة: {هذا ما وعد الرّحمن}.
ومنه قوله جل ثناؤه: {إنّ الّذين اتّقوا إذا مسّهم طائفٌ من الشّيطان تذكّروا فإذا هم مبصرون}, فهذه صفة الأتقياء المؤمنين ثم قال: {وإخوانهم يمدّونهم في الغيّ} فهذا رجّع على كفّار مكة يمدّهم إخوانهم من الشياطين في الغّيّ.
باب إضافة الشيء إلى من ليس له لكن أضيف إليه لاتّصاله به
وذلك قوله: "سرج الفرس" و"ثمرة الشجرة" و"غنم الرّاعي" قال الشاعر:
فروحهن يحدوهن قصرا ... كما يحدو قلائصه الأجير.
باب آخر من الإضافة
ومن ذلك إضافة الشيء إلى نفسه وإلى نعته.
فالإضافة الأولى قول النّمر:
سقيّة بين أنهارٍ ودورٍ ... وزرعٍ نابٍ وكروم جفن
والجفن: هو الكرم.
فأمّا إضافته إلى نعته فقولهم: "بارحة الأولى, ويوم الخميس, ويوم الجمعة".
وفي كتاب الله جلّ ثناؤه: {ولدار الآخرة} و{حقّ اليقين} ). [الصاحبي في فقه اللغة: 399-408]
قال أحمد بن فارس بن زكرياء الرازي (ت: 395هـ): (
باب جمع شيئين في الابتداء بهما وجمع خبريهما، ثم يردّ إلى كل مبتدأ به خبره
من ذلك قول القائل: "إني وإيّاك على عدل أو على جور" فجمع شيئين في الابتداء وجمع الخبرين. ومراده: إني على عدلٍ وإيّاك على جور, وهذا في كلامهم وأشعارهم كثير, قال امرؤ القيس:
كانّ قلوب الطّير رطباً ويابساً ... لدى وكرها العنّاب والحشف البالي
أراد: كأنّ قلوب الطير رطباً العنّاب ويابساً الحشف.
ومن هذا في القرآن: {وإنّا أو إيّاكم لعلى هدًى أو في ضلالٍ مبينٍ}, معناه: وإنّا على هدى وإيّاكم في ضلال.
ومنه قوله جل ثناؤه: {قل أرأيتم إن كان من عند اللّه وكفرتم به وشهد شاهدٌ من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم} إذا رد كل شيء إلى ما يصلح أن يتصل به كان التأويل: "قل أرأيتم إن كان من عند الله وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن وكفرتم به واستكبرتم".
ومثله: {وزلزلوا حتّى يقول الرّسول والّذين آمنوا معه متى نصر اللّه ألا إنّ نصر اللّه قريبٌ} قالوا: لمّا لم يصلح أن يقول الرسول متى نصر الله كان التأويل: وزلزلوا حتى قال المؤمنون: متى نصر الله؟ فقال الرسول: ألا إن نصر الله قريب, ردّ كلّ كلام إلى من صلح أن يكون له.
ومن الباب قول ذي الرّمّة:
ما بال عينك منها الماء ينٍسكب ... كأنّه من كلى مفريّة سرب
وفراء غرفيّه أثأى خوارزها ... مشلشلٌ ضيعته بينها الكتب
فمعنى البيتين: كأنه من كلى مفرّيةٍ وفراء غرفيّة أثأى خوارزها سربٌ مشلشلٌ ضيّعته بينها الكتب.
وفي كتاب الله جلّ ثناؤه: {ومن رحمته جعل لكم اللّيل والنّهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله} المعنى: جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار لتبتغوا من فضله.
ومن قوله عزّ وجلّ: {ولا تطرد الّذين يدعون ربّهم بالغداة والعشيّ يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيءٍ وما من حسابك عليهم من شيءٍ فتطردهم فتكون من الظّالمين} تأويله والله أعلم: ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي فتكون من الظالمين، ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم.
قال ومن هذا الباب قول امرئ القيس:
فلا وأبيك ابنة العامريّ ... لا يدّعي القوم أنّي أفر
تميم بن مرٍّ وأشياعها ... وكندة حولي جميعاً صبر
معناه: لا يدّعي القوم تميمٌ وأشياعها أنّي أفر وكندة حولي
باب التقديم والتأخير
من سنن العرب تقديم الكلام وهو في المعنى مؤخّر، وتأخيره وهو في المعنى مقدّم. كقول ذي الرّمّة:
ما بال عينك منها الماء ينسكب
أراد: ما بالك عينك ينسكب منها الماء.
وقد جاء مثل ذلك في القرآن قال الله جلّ ثناؤه: {ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكانٍ قريبٍ} تأويله والله أعلم: ولو ترى إذ فزعوا وأخذوا من مكان قريب فلا فوت؛ لأنّ لا فوت يكون بعد الأخذ.
ومن ذلك قوله جلّ ثناؤه: {هل أتاك حديث الغاشية} يعني القيامة {وجوهٌ يومئذٍ خاشعةٌ} وذلك يوم القيامة ثم قال: {عاملةٌ ناصبةٌ} والنّصب والعمل يكونان في الدنيا، فكأنه إذاً على التقديم والتأخير معناه: وجوهٌ عاملة ناصبةٌ في الدنيا، يومئذ -أي يوم القيامة- خاشعة. والدليل على هذا قوله جلّ اسمه: {وجوهٌ يومئذٍ ناعمةٌ}.
ومنه قوله جلّ ثناؤه: {فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنّما يريد اللّه ليعذّبهم بها في الحياة الدّنيا} المعنى: لا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا.
وكذلك قوله جلّ ثناؤه: {فألقه إليهم ثمّ تولّ عنهم فانظر ماذا يرجعون} معناه: فألقه إليهم فانظر ماذا يرجعون ثم تولّ عنهم.
ومن ذلك قوله جلّ ثناؤه: {إنّ الّذين كفروا ينادون لمقت اللّه أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون} تأويله: لمقت الله إياكم في الدنيا حين دعيتم إلى الإيمان فكفرتم، ومقته إياكم اليوم أكبر من مقتكم أنفسكم اليوم إذا دعيتم إلى الحساب وعند ندمكم على ما كان منكم.
ومنه قوله جلّ ثناؤه: {ولولا كلمةٌ سبقت من ربّك لكان لزامًا وأجلٌ مسمًّى} فأجلٌ معطوف على كلمةٌ، التأويل: ولولا كلمة سبقت من ربّك وأجلٌ مسمّىً -أراد الأجل المضروب لهم وهي الساعة- لكان العذاب لازماً لهم
باب الاعتراض
ومن سنن العرب أن يعترض بين الكلام وتمامه كلامٌ، ولا يكون هذا المعترض إلا مفيداً. ومثال ذلك أن يقول القائل: "اعمل -والله ناصري- ما شيئت" إنما أراد: اعمل ما شيئت. واعترض بين الكلامين ما اعترض.
قال الشّمّاخ:
لولا ابن عفّان والسلطان مرتقبٌ ... أوردت فجّاً من اللّعباء جلمودي
قوله: "والسلطان مرتقب" معترض بين قوله: "لولا ابن عفان" وبين قوله: "أوردت".
ومن ذلك في كتاب الله جلّ ثناؤه: {واتل عليهم نبأ نوحٍ إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات اللّه} -فعلى الله توكلت- {فأجمعوا أمركم} إنما أراد: إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فاجمعوا أمركم. واعترض بينهما قول: {فعلى الله توكلت}.
ومثله قول الأعشى:
فإن يمس عندي الهمّ والشيب والعشا ... فقد بنّ منّي والسّلام تفلّق
بأشجع أخاذ على الدّهر حكمه ... فمن أيّ ما تجني الحوادث أفرق
أراد: فقد بنّ مني بأشجع. والسّلام تفلّق اعتراض.
ومثل هذا في كتاب الله جل ثناؤه وإشعار العرب كثير، وإنما نذكر من الباب رسماً.
باب الإيماء
العرب تشير إلى المعنى إشارة وتومئ إيماءً دون التصريح، فيقول القائل: "لو انّ لي من يقبل مشورتي لأشرت" وإنما يحثّ السّامع على قبول المشورة.
وهو في أشعارهم كثير قال الشاعر:
إذا غرّد المكّاء في غير روضةٍ ... فويلٌ لأهل الشّاء والحمرات
أومأ إلى الجدب، وذلك أن المكّاء يألف الرياض، فإذا أجدبت الأرض سقط في غير روضة.
ومنه قول الأفوه:
إنّ بني أودٍ هم ما هم ... للحرب أو للجدب عام الشّموس
أومأ بقوله: "عام الشموس" إلى الجدب وقلة المطر والغيم، أي إنّ كلّ أيّامهم شموس بلا غيم.
ويقولون: "هو طويل نجاد السيّف" إنما يريدون طول الرّجل.
و"غمر الرّداء" يومئون إلى الجواد. و"فدًا له ثوبي".
و"هو واسع جيب الكمّ" إيماءً إلى البذل.
و"طرب العنان" يومئون إلى الخفّة والرّشاقة.
وفي كتاب الله جل ثناؤه: {وقل ربّ أعوذ بك من همزات الشّياطين، وأعوذ بك ربّ أن يحضرون} هذا إيماء إلى "أن يصيبوني بسوء" وذلك أن العرب تقول: "اللّبن محضور" أي: تصيبه الآفات.
باب إضافة الفعل إلى من وقع به ذلك الفعل
ومن سنن العرب إضافة الفعل إلى من يقع به ذلك الفعل. يقولون: "ضرب زيداً وأعطيته بعد -ضربه- كذا" فينسب الضرب إلى زيد وهو واقع به.
قال الله جل ثناؤه: {ألم، غلبت الرّوم} -فالغلبة واقعة بهم من غيرهم ثم قال- {وهم من بعد غلبهم سيغلبون} فأضاف الغلب إليهم، وإنما كان كذا لأن الغلب وإن كان لغيرهم فهو متصل بهم لوقوعه بهم.
ومثله: {وآتى المال على حبّه}. و{يطعمون الطّعام على حبّه} فالحب في الظاهر مضاف إلى الطعام والمال، وهو في الحقيقة لصاحب الطعام وصاحب المال.
ومثله: {ولمن خاف مقام ربّه} و{ذلك لمن خاف مقامي} أي مقامه بين يدي.
ومثله قول طرفة:
وبركٍ هجودٍ قد أثارت مخافتي
فأضاف المخافة إلى نفسه وإنما المخافة للبرك). [الصاحبي في فقه اللغة: 409-418]
قال أحمد بن فارس بن زكرياء الرازي (ت: 395هـ): (
باب ما يجري من غير ابن آدم مجرى بني آدم في الإخبار عنه
من سنن العرب أن تجري الموات وما لا يعقل في بعض الكلام مجرى بني آدم. فيقولون في جمع أرض "أرضون" وفي جمع كره "كرون" وفي جمع إرة "إرون" وفي جمع ظبة السيف "ظبون" وينشدون:
يرى الراءون بالشّفرات منها ... كنار أبي حباحب والظّبينا
ويقولون: "لقيت منه الأقورين" و"أصابتني منه الأمرون" و"مضت له سنون".
ويتعدّون هذا إلى أكثر منه فيقول الجعدي:
تمزّزتها والدّيك يدعو صباحه ... إذا ما بنو نعشٍ دنوا فتصوّبوا
وقال الله جل ذكره: {في فلكٍ يسبحون} و{لقد علمت ما هؤلاء ينطقون} و{إنّي رأيت أحد عشر كوكبًا والشّمس والقمر رأيتهم لي ساجدين} و{يا أيّها النّمل ادخلوا مساكنكم} و{لو كان هؤلاء آلهةً ما وردوها}.
ويقولون في جمع برة "برين".
وأكثر من قول النابغة قول القائل:
إذا أشرف الديك يدعو بعض أسرته ... إلى الصّباح وهم قوم معازيل
وجعل له أسرة وسماهم قوماً.
باب اقتصارهم على ذكر بعض الشيء وهم يريدونه كلّه
من سنن العرب الاقتصار على ذكر بعض الشيء وهم يريدونه كلّه, فيقولون: "قعد على صدر راحلته ومضى". ويقول قائلهم:
الواطئين على صدور نعالهم
وذكر بعض أهل اللغة في هذا الباب قول لبيد:
أو يرتبط بعض النفوس حمامها
وإنه إنما أراد كلاّ.
وذكروا في هذا الباب قوله جلّ ثناؤه: {قل للمؤمنين يغضّوا من أبصارهم}.
وقال آخرون: "من" هذه للتبعيض لأنهم أمروا بالغضّ عما يحرم النّظر إليه. ومن الباب {يحذّركم اللّه نفسه} إي إيّاه.
ومنه: {تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك}.
ومنه قوله:
يوماً بأجود نائلاً منه إذا ... نفس البخيل تجهّمت سؤالها
ومنه: {ويبقى وجه ربّك}.
و:
"تواضعت سور المدينة"
و:
رأت مرّ السنين أخّذن منّي
و:
طول الليالي أسرعت في نقضي
و:
صرف المنايا بالرّجال تقلّب
وقال الجعدي:
جزعت وقد نالتك حدّ رماحنا ... بقوهاء يثني ذكرها في المحافل.
باب الاثنين يعبر عنهما بهما مرّة وبأحدهما مرة
قال أبو زكريا الفراء: تقول العرب: "رأيته بعيني, وبعينيّ" و"الدار في يدي, وفي يديّ". وكل اثنين لا يكاد أحدهما ينفرد فهو على هذا المثال مثل: "اليدين، والرّجلين".
قال الفرزدق:
فلو بخلت يداي بها وضنت ... لكان عليّ للقدر الخيار
فقال: "ضنت" بعد قوله "يداي".
وقال:
وكأنّ بالعينين حبّ قرنفل ... أو سنبلاً كحلت به فانهلّت
وقال:
إذا ذكرت عيني الزمان الذي مضى ... بصحراء فلجٍ ظلّتا تكفان.
باب الحمل
هذا باب ما يترك حكم ظاهر لفظه لأنه محمول على معناه. ويقولون: "ثلاثة أنفس" والنفس مؤنّثة لأنّهم حملوه على الإنسان. ويقولون: "ثلاث شخوص" لأنهم يحملون ذلك على أنهنّ نساء.
و:
إن كلاباً هذه عشر أبطنٍ
يذهبون إلى القبائل.
وفي كتاب الله جلّ ثناؤه: {السّماء منفطرٌ} حمل على السّقف.
وهذا يتّسع جداً.
وقد ذكر في هذا الباب ما تقدم ذكره من قوله جلّ ثناؤه: {مستهزئون، اللّه يستهزئ بهم}, وهذا في باب المحاذاة أحسن.
ومن الحمل قوله: {إنّا رسول ربّ العالمين}, قال أبو عبيدة أراد الرّسالة, ومن الباب قوله جلّ وعزّ: {سعيرًا} -والسعير مذكّر- ثم قال: {إذا رأتهم} فحمله على النار.
وقوله جلّ ثناؤه: {وأحيينا به بلدةً ميتًا} حمله على المكان.
ولهذا نظائر كثيرة.
باب من ألفاظ الجمع والواحد والاثنين
من الجمع الذي لا واحد له من لفظه "العالم. والأنام. والرّهط. والنّفر. والمعشر. والجند. والجيش. والنّاس. الغنم. والنّعم. والإبل".
وربّما كان للواحد لفظ ولا يجيء الجمع بذلك اللفظ نحو قولنا: "امرؤ. وامرءان. وقوم" و"امرأة. وامرأتان. ونسوة".
ومن الاثنين اللذين لا واحد لهما لفظاً قولهم "كلا وكلتا. واثنان. والمذروان. وعقله بثنايين.
وجاء يضرب أصدريه, وازدريه, ودواليه, من التّداول.
ولبّيك, وسعديك, وحنانيك" وقد قيل: إن واحد حنانيك "حنانٌ" وينشد:
فقالت حنانٌ ما أتى بك ها هنا ... أذو نسبٍ أم أنت بالحيّ عارف.
باب ما يجري من كلامهم مجرى التهكم والهزء
يقولون الرجل يستجهل "يا عاقل! " ويقول شاعرهم:
فقلت لسيّدنا يا حليـ ... ـم إنك لم تأس أسواً رفيقا
ومن الباب "أتاني فقريته جفاءً وأعطيته حرماناً".
ومنه قوله:
ولم يكونوا كأقوامٍ علمتهم ... يقرون ضيفهم الملويّة الجددا
يعني: السّياط.
ويقول الفرزدق:
قريناهم المأثورة البيض
وقال عمرو:
قريناكم فعجّلنا قراكم ... قبيل الصّبح مرداةً طحونا
ومن الباب حكايةً عنهم: {إنّك لأنت الحليم الرّشيد}.
باب الكف
ومن سنن العرب الكفّ. وهو أن يكفّ عن ذكر الخبر اكتفاءً بما يدلّ عليه الكلام. كقول القائل:
وجدّك لو شيءٌ أتانا رسوله ... سواك ولكن لم نجد لك مدفعا
المعنى: لو أتانا رسول سواك لدفعناه.
وقال آخر:
إذا قلت سيري نحو ليلى لعلّها ... جرى دون ليلى مائل القرن أعضب
وترك خبر "لعلّها".
وقال:
فمن له في الطّعن والضّراب ... يلمع في كفيّ كالشّهاب
أي: من له في سيف.
ومنه قوله جل وعز في قصة فرعون: {أفلا تبصرون، أم} أراد: أم تبصرون.
ومما يقرب من هذا الباب قوله:
تضيء الظلام بالعشاء كأنها ... منارة ممسى راهبٍ متبتّل
أراد: سرج منارة). [الصاحبي في فقه اللغة: 419-432]