الدروس
course cover
الدرس العاشر
12 Oct 2022
12 Oct 2022

1095

0

0

course cover
الصاحبي في فقه اللغة

القسم الثاني

الدرس العاشر
12 Oct 2022
12 Oct 2022

12 Oct 2022

1095

0

0


0

0

0

0

0

الدرس العاشر


قال أحمد بن فارس بن زكرياء الرازي (ت: 395هـ): (باب الإعارة

العرب تعير الشيء ما ليس له. فيقولون: "مرّ بين سمع الأرض وبصرها".

ويقول قائلهم:

كذلك فعله والناس طرّاً ... بكفّ الدهر تقتلهم ضروباً

فجعل للدهر كفّاً.

ويقولون:

ثأرت المسمعين وقلت بوءا ... بقتل أخي فزارة والخيار

قال الأصمعي: لم يكن واحد منهما مسمعاً وإنما كانا عامراً وعبد الملك ابني مالك بن مسمع فأعارهما اسم جدّهما.

ومثله: الشّعثمان لم يكن اسم أحدهما شعثما وإنما أعير اسم أبيهما "شعثم", ومثله المهالبة و"الأشعرون".


باب أفعل في الأوصاف لا يراد به التفضيل

يقولون: "جرى له طائرٌ أشأم".

ويقول شاعرهم:

هي الهمّ لو أن النون أصقبت بها ... ولكنّ كرّاً في ركوبة أعسر

وقال الفرزدق:

إن الذي سمك السماء بني لنا ... عزّاً دعائمه أعزّ وأطول

وقال أبو ذؤيب:

ما لي أحنّ إذا جمالك قرّبت ... وأصدّ عنك وأنت مني أقرب

وقال:

بثينة من آل النساء وإنما ... يكنّ لأدنى لا وصال لغائب

ويقولون: أن من هذا الباب قوله جلّ ثناؤه: {وهو أهون عليه}.


باب نفي الشيء جملة من أجل عدم كمال صفته

قال الله جلّ وعزّ في صفة أهل النار: {لا يموت فيها ولا يحيا} فنفى عنه الموت لأنه ليس بموت مريح ونفى عنه الحياة لأنها ليست بحياة طيبة ولا نافعة.

وهذا في كلام العرب كثير، قال أبو النّجم:

يلقين بالخبار والأجارع ... كلّ جهيضٍ لين الأكارع

ليس بمحفوظ ولا بضائع

فقال: ليس بمحفوظ؛ لأنه ألقى في صحراء. ولا بضائع؛ لأنه موجود في ذلك المكان وإن لم يوجد فيه.

ومنه قوله:

بلهاء لم تحفظ ولم تضيع

وقال:

وقد أجوب البلد البراحا ... المرمريس القفرة الصحصاحا

بالقوم لا مرضى ولا صحاحا

ومن هذا الباب أو قريبٌ منه قوله جلّ ثناؤه: {لهم قلوبٌ لا يفقهون بها ولهم أعينٌ لا يبصرون}.

ومنه قوله: {ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاقٍ} -فأثبت علماً- ثم قال: {ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون} لما كان علماً لم يعملوا به كانوا كأنهم لا يعلمون.

ومن الباب قول مسكين:

أعمى إذا ما جارتي خرجت ... حتى يواري جارتي السّتر

وأصمّ عما كان بينهما ... سمعي وما بالسمع من وقر

جعل نفسه أعمى أصمّ لمّا لم ينظر ولم يسمع.

وقال آخر:

وكلامٌ بسيّئ قد وقرت ... أذني عنه وما بي من صمم

وقريب من هذا الباب قوله جلّ وعزّ: {وترى النّاس سكارى وما هم بسكارى} أي ما هم بسكارى مشروبٍ ولكن سكارى فزع وولهٍ.

ومن الباب قوله جلّ ثناؤه: {لا ينطقون، ولا يؤذن لهم فيعتذرون} وهم قد نطقوا بقولهم: {يا ليتنا نردّ} لكنهم نطقوا بما لم ينفع فكأنهم لم ينطقوا.


باب الشرط

الشرط على ضربين:

شرطٌ واجبٌ إعماله كقول القائل: "إن خرج زيدٌ خرجت".

وفي كتاب الله جلّ ثناؤه: {فإن طبن لكم عن شيءٍ منه نفسًا فكلوه هنيئًا مريئًا}.

والشرط الآخر مذكور إلا أنه غير معزوم عليه ولا محتوم، مثل قوله: {فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنّا أن يقيما حدود اللّه} فقوله: {إن ظنّا} شرط لإطلاق المراجعة. فلو كان محتوماً مفروضاً لما جاز لهما أن يتراجعا إلاّ بعد الظنّ أن يقيما حدود الله. فالشرط ها هنا كالمجاز غير المعزوم عليه.

ومثله قوله جلّ ثناؤه: {فذكّر إن نفعت الذّكرى} لأن الأمر بالتذكير واقع في كلّ وقت. وللتذكير واجب نفع أو لم ينفع، فقد يكون بعض الشروط مجازاً.


باب الكناية

الكناية لها بابان:

أحدهما أن يكنى عن الشيء فيذكر بغير اسمه تحسيناً للفظ أو إكراماً للمذكور، وذلك كقوله جلّ ثناؤه: {وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا} قالوا: إن الجلود في هذا الموضع كناية عن آراب الإنسان.

وكذلك قوله جلّ ثناؤه: {ولكن لا تواعدوهنّ سرًّا} إنه النكاح. كذلك: {أو جاء أحدٌ منكم من الغائط} والغائط: مطمئن من الأرض. كل هذا تحسين اللفظ.

والله جلّ ثناؤه كريم يكني كما قال في قصة عيسى وأمه عليهما السلام: {ما المسيح ابن مريم إلاّ رسولٌ قد خلت من قبله الرّسل وأمّه صدّيقةٌ كانا يأكلان الطّعام} كنايةٌ عما لا بدّ لآكل الطعام منه.

والكناية التي للتبجيل قولهم: "أبو فلان" صيانة لاسمه عن الابتذال.

والكنى مما كان للعرب خصوصاً. ثم تشبّه غيرهم بهم في ذلك.


الباب الثاني من الكناية

الاسم يكون ظاهراً مثل: "زيد. وعمرو". ويكون مكنّياً وبعض النحويين يسميه مضمراً، وذلك مثل "هو، وهي، وهما، وهنّ".

وزعم بعض أهل العربية أن أول أحوال الاسم الكناية، ثم يكون ظاهراً. قال: وذلك أن أوّل حال المتكلم أن يخبر عن نفسه ومخاطبه فيقول: "أنا. وأنت" وهذان لا ظاهر لهما. وسائر الأسماء تظهر مرة ويكنى عنها مرة.

والكناية متصلة منفصلة ومستجنّة.

فالمتصلة التاء في "حملت. وقمت".

والمنفصلة قولنا: "إياه أردت".

والمستجنّة قولنا: "قام زيدٌ" فإذا كنينا عنه قلنا "قام" فتستّر الاسم في الفعل.

وربما كني عن الشيء لم يجر له ذكر، في مثل قوله جلّ ثناؤه: {يؤفك عنه} أي يؤفك عن الدين أو عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-.

قال أهل العلم: وإنما جاز هذا لأنه قد جرى الذّكر في القرآن.

قال حاتم:

أماويّ ما يغني الثّراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر

فكنى عن النفس فقال "حشرجت".

ويقولون:

إذا اغبرّ أفقٌ وهبّت شمالاً

أضمر الريح ولم يجر لها ذكر.

ويكنى عن الشيئين والثالثة بكناية الواحد. فيقولون: "هو أنتن الناس وأخبثه" وهذا لا يكون إلا فيما يقال هو أفعل، قال الشاعر:

شرّ يوميها وأشقاه لها ... ركبت عنزٌ بحملٍ جملا

ولم يقل: "أشقاهما".

وتكون الكناية متصلة باسم وهي لغيره، كقوله جلّ ثناؤه: {ولقد خلقنا الإنسان من سلالةٍ من طينٍ} -فهذا آدم عليه السلام- ثم قال: {جعلناه نطفةً} فهذا لولده لأن آدم لم يخلق من نطفة.

ومن هذا الباب قوله جلّ ثناؤه: {لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم} قيل: إنها نزلت في ابن حذافة حين قال للنبي -صلى الله عليه وسلم: من أبي? فقال: "حذافة". وكان يسبّ به فساءه ذلك، فنزلت: {لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم}.

وقيل: نزلت في الحج حين قال القائل: أفي كلّ عام مرةً?

ثم قال: {وإن تسألوا عنها} يريد أن تسألوا عن أشياء أخر من أمر دينكم ودنياكم بكم إلى علمها حاجة تبد لكم ثم قال: {قد سألها} فهذه الهاء من غير الكنايتين لأن معناها: قد طلبها، والسؤال ها هنا طلب، وذلك كقول عيسى عليه السلام حين سألوه المائدة، وكقول موسى عليه السلام حين قالوا: {أرنا اللّه جهرةً} فالسؤال ها هنا طلب والكناية مبتدأةٌ.

وربما كني عن الجماعة كناية والحد كقوله جلّ ثناؤه: {قل أرأيتم إن أخذ اللّه سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إلهٌ غير اللّه يأتيكم به}, أراد والله أعلم بهذا الذي تقدّم ذكره).  [الصاحبي في فقه اللغة: 433-443]

هيئة الإشراف

#2

12 Oct 2022

قال أحمد بن فارس بن زكرياء الرازي (ت: 395هـ): (

باب الشيء يأتي مرة بلفظ المفعول ومرة بلفظ الفاعل والمعنى واحد

تقول العرب: "هو مدجّج، ومدجّج". و"عبد مكاتب، ومكاتب" و"شأو مغرب، ومغرب" و"سجن مخيس، ومخيس" و"مكان عامر. ومعمور".

و"منزل آهل. ومأهول". و"نفست المرأة ونفست". و"لا ينبغي لك, ولا ينبغي لك". و"عنيت به, وعنيت". قال:

عانٍ بأخراها طويل الشغل

و"رهصت الدابة، ورهصت". و"سعدوا، وسعدوا". و"زهي علينا، وزهى".


باب الزيادة في حروف الفعل للمبالغة

وقد مضى في الأسماء مثله

العرب تزيد في حروف الفعل مبالغة، فيقولون: "حلا الشيء" فإذا انتهى قالوا: "احلّولى". ويقولون: "اقلولى على فراشه".

وينشدون:

واقلولين فوق المضاجع

وقرأ بعض القراء: (إلا إنهم تثنوني صدورهم) على هذا الذي قلناه من المبالغة.


باب الخصائص

للعرب كلام بألفاظ تختص به معانٍ لا يجوز نقلها إلى غيرها، يكون في الخير والشرّ والحسن والقبح وغيره, وفي الليل والنهار, وغير ذلك.

من ذلك قولهم: "مكانك" قال أهل العلم: هي كلمة وضعت على الوعيد، قال الله جل ثناؤه: {مكانكم أنتم وشركاؤكم} كأنّه قيل لهم: انتظروا مكانكم حتى يفصل بينكم.

ومن ذلك قول النبي -صلى الله عليه وسلم: "ما حملكم على أن تتابعوا في الكذب كما يتتابع الفراش في النار" , قال أبو عبيدة: هو التهافت، ولم نسمعه إلا في الشرّ.

ومن ذلك "أولى له" وقد فسّرناه.

ومن ذلك: "ظلّ فلان يفعل كذا" إذا فعله نهارًا. و"بات يفعل كذا" إذا فعله ليلاً.

ومن ذلك ما أخبرني به أبو الحسن علي بن إبراهيم قال: سمعت أبا العباس المبرّد يقول: "التّأويب" سير النهار لا تعريج فيه و"الإسآد" سير الليل لا تعريس فيه.

ومن الباب "جعلوا أحاديث" أي: مثل بهم، ولا يقال في الخير.

ومنه: {لا عدوان إلّا على الظّالمين}.

ومن الخصائص في الأفعال قولهم: "ظننتني. وحسبتني. وخلتني" لا يقال إلا فيما فيه أدنى شك، ولا يقال: "ضربتني".

ولا يكون "التّأبين" إلا مدح الرجل ميتاً. ويقال: "غضبت به" إذا كان ميتًا. و"المساعاة" الزّنا بالإماء خاصة. و"الراكب" راكب البعير خاصة. و"ألج الجمل" و"خلأت الناقة" و"حرن الفرس" و"نفشت الغنم" ليلا و"هملت" نهارًا.

قال الخليل: "اليعملة" من الإبل اسم اشتق من "العمل" ولا يقال إلا للإناث.

قال: و"النعت" وصف الشيء بما فيه من حسن إلاّ أن يتكلّف متكلف فيقول: "هذا نعت سوءٍ" فأما العرب العاربة فإنها تقول: للشيء المستكمل "نعت" يريدون به التتمة.

قال أبو حاتم: "ليلةٌ ذات أزيز" أي قرّ شديد. ولا يقال يومٌ ذو أزيز.

قال ابن دريد: "أشّ القوم وتأششوا" إذا قام بعضهم إلى بعض للشر لا للخير.

ومن ذلك: "جززت الشاة" و"حلقت العنز" لا يكون الحلق في الضّأن ولا الجّزّ في المعزى.

و"خفضت الجارية" ولا يقال في الغلام.

و"حقب البعير" إذا لم يستقم بوله لقصد، ولا يحقب إلا الجمل.

قال أبو زيد: "أبلمت البكرة" إذا ورم حياؤها لا يكون إلا للبكرة.

و"عدنت الإبل في الحمض" لا تعدن إلا فيه.

ويقال: "غطّ البعير" هدر ولا يقال في الناقة.

ويقال: "ما أطيب قداوة هذا الطعام"، أي: ريحه ولا يقال ذلك إلا في الطبيخ والشّواء.

و"لقعه ببعرة" ولا يقال بغيرها.

و"فعلت ذاك قبل عيرٍ وما جرى" لا يتكلّم به إلا في الواجب، لا يقال: سأفعله قبل عير وما جرى.

ومن الباب ما لا يقال إلا في النفي كقولهم: "ما بها أرمٌ" أي ما بها أحد. وهذا كثير فيه أبواب قد صنّفها العلماء.


باب نظم للعرب لا يقوله غيرهم

يقولون: "عاد فلانٌ شيخاً" وهو لم يكن شيخاً قط.

و"عاد الماء آجناً" وهو لم يكن آجناً فيعود.

ويقول الهذّلي:

قد عاد رهباً رذّياً طائشّ القدم

وقال:

قطعت الدهر في الشّهوات حتّى ... أعادتني عسيفاً عبد عبد

ومن هذا في كتاب الله جل ثناؤه: {يخرجونهم من النّور إلى الظّلمات} وهم لم يكونوا في نور قط.

ومثله: {يردّ إلى أرذل العمر} وهو لم يكن في ذلك قط.

وقال الله جلّ ثناؤه: {حتّى عاد كالعرجون القديم} فقال: {عاد} ولم يكن عرجوناً قبل.


باب إخراجهم الشيء المحمود بلفظ يوهم غير ذلك

يقولون: "فلانٌ كريم غير أنه شريف" و"كريم غير أن له حسباً" وهو شيء تنفرد فيه العرب.

قال:

ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب

وقال:

فتىً كملت أخلاقه غير أنه ... جوادٌ فما يبقي من المال باقيا

وهو كثير.


باب الإفراط

العرب تفرط في صفة الشيء مجاوزةً للقدر اقتداراً على الكلام كقوله:

بخيلٍ تضلّ البلق في حجراته ... ترى الأكم فيه سجّداً للحوافر

ويقولون:

لما أتى خبر الزّبير تواضعت ... سور المدينة والجبال الخشع

و:

بكى حارث الجولان من هلك ربه

و:

لو انّك تلقي حنظلاً فوق بيضنا ... تحدرج ... ... ...

ويقولون:

ضربته في الملتقى ضربةً ... فزال عن منكبه الكاهل

فصار ما بينهما رهوةً ... يمشي بها الرّامح والنّابل.


باب نفي ضمنه إثبات

تقول العرب: "ليس بحلو ولا حامضٍ" يريدون أنه قد جمع من ذا وذا.

وفي كتاب الله جلّ ثناؤه: {لا شرقيّةٍ ولا غربيّةٍ} قال أبو عبيدة: لا شرقيّة تضحى للشرق ولا غربية لا تضحى للشرق لكنها شرقية غربيّة يصيبها ذا وذا: الشرق والغرب).  [الصاحبي في فقه اللغة: 444-455]

هيئة الإشراف

#3

12 Oct 2022

قال أحمد بن فارس بن زكرياء الرازي (ت: 395هـ): (

باب الاشتراك

معنى الاشتراك: أن تكون اللفظة محتملة لمعنين أو أكثر، كقوله جلّ ثناؤه: {فاقذفيه في اليمّ فليلقه اليمّ بالسّاحل} فقوله: {فليلقه} مشترك بين الخبر وبين الأمر، كأنّه قال: فاقذفيه في اليم يلقه اليم. ومحتمل أن يكون اليمّ أمر بإلقائه.

ومنه قولهم: "أرأيت" فهو مرّةً للاستفتاء والسؤال كقولك: "أرأيت إن صلى الإمام قاعداً كيف يصلّي من خلفه?".

ويكون مرّةً للتنبيه ولا يقتضي مفعولاً، قال الله جلّ ثناؤه: {أرأيت إن كذّب وتولّى، ألم يعلم بأنّ اللّه يرى}.

ومن الباب قوله: {ذرني ومن خلقت وحيدًا} فهذا مشترك محتمل أن يكون لله جلّ ثناؤه لأنه انفرد بخلقه، ومحتمل أن يكون: خلقته وحيداً فريداً من ماله وولده.


باب ما يسميه بعض المحدّثين: الاستطراد

وذلك أن يشبّه شيء ثمّ يمرّ المتكلم في وصف المشبّه، كقول الشاعر حين شبّه ناقته فقال:

كأنّي ورحلي إذا رعتها ... على جمزى جازئٍ بالرّمال

فشبّه ناقته بثور ومضى في وصف الثّور، ثمّ نقل الشبه إلى الحمار فقال:

أو أصحمٍ حامٍ جراميزه ... خزابية حيدى بالدّحال

ومر في صفة العير إلى آخر كلمته.

وقد قيل: في كتاب الله جلّ ثناؤه من هذا النظم قوله: {إنّ الّذين كفروا بالذّكر لمّا جاءهم} ولم يجر للذّكر خبر، ثمّ قال: {وإنّه لكتابٌ عزيزٌ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيلٌ من حكيمٍ حميدٍ} وجواب: {أنّ الّذين كفروا} قوله جلّ ثناؤه: {أولئك ينادون من مكانٍ بعيدٍ}.


باب الإتباع

للعرب الإتباع وهو أن تتبع الكلمة الكلمة على وزنها أو رويّا إشباعاً وتأكيداً.

وروي أن بعض العرب سئل عن ذلك فقال: هو شيءٌ نتدبر به كلامنا.

وذلك قولهم: "ساغبٌ لاغب", و"هو خبٌّ ضبّ", و"خرابٌ يباب".

وقد شاركت العجم العرب في هذا الباب.


باب الأوصاف الّتي لم يسمع لها بأفعال والأفعال الّتي لم يوصف بها

قال الخليل: "ظبيٌ عنبانٌ" أي نشيط، قال: ولم نسمع للعنبان فعلاً، قال:

"يشدّ شد العنبان البارح"

قال: و"الخضيعة" صوت يخرج من قنب الدّابّة ولا فعل لها.

ويقولون في التحقير: "هو دونٌ" ولا فعل له.

قال أبو زيد: يقال للجبان: "إنه لمفؤود" ولا فعل له.

قال: و"الخبطة" مثل الرّفض من اللبن والماء ولا فعل لها.

وقال: "أمجدت الإبل إمجاداً" إذا أنت أشبعتها ولا فعل لها في هذا.

و"المزيّة" الفضل ولا فعل لها.

قال أبو زيد: يقال: "ما ساءه وناءه" تأكيدٌ للأول ولم يعرفوا من "ناءه" فعلاً، لا يقولون: "ينوؤه" كما يقال: "يسوؤه".

ومن الأفعال الّتي لم يوصف بها قولنا: "ذرأ الله الخلق" قال الله عزّ وجلّ: {يذرؤكم فيه} ولم يسمع في صفاته جل ثناؤه: "الذارئ".


باب النحت

العرب تنحت من كلمتين كلمةً واحدة، وهو جنس من الاختصار، وذلك:

"رجل عبشميّ" منسوب إلى اسمين، وأنشد الخليل:

أقول لها ودمع العين جارٍ ... ألم تحزنك حيعلة المنادي

من قوله: "حيّ علي".

وهذا مذهبنا في أنّ الأشياء الزائدة على ثلاثة أحرف فأكثرها منحوت، مثل قول العرب للرجل الشديد "ضبطرٌ" من ضبط وضبر.

ومن قولهم: صهصلق: إنه من صهل وصلق.

وفي "الصّلّدم" إنه من "الصّلد" و"الصّدم".

وقد ذكرنا ذلك بوجوهه في كتاب "مقاييس اللغة".


باب الإشباع والتأكيد

تقول العرب: "عشرةٌ وعشرة فتلك عشرون" وذلك زيادة في التأكيد ومنه قوله جلّ ثناؤه: {فصيام ثلاثة أيّامٍ في الحجّ وسبعةٍ إذا رجعتم تلك عشرةٌ كاملةٌ}, وإنما قال هذا لنفي الاحتمال ان يكون أحدهما واجباً إما ثلاثة وإما سبعة فأكّد وأزيل التوهّم بأن جمع بينهما.

ومن هذا الباب قوله جلّ ثناؤه: {ولا طائرٍ يطير بجناحيه} إنما ذكر الجناحين لأن العرب قد تسمّي الإسراع طيراناً، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "كلّما سمع هيعة طار إليها".

وكذلك قوله: {يقولون بألسنتهم} فذلك الألسنة لأن الناس يقولون: "قال في نفسه كذا" قال الله جلّ ثناؤه: {ويقولون في أنفسهم لولا يعذّبنا اللّه بما نقول} فاعلم أن ذلك باللسان دون كلام النفس.


باب الفصل بين الفعل والنعت

النعت يؤخذ عن الفعل نحو: "قام فهو قائم" وهذا الّذي يسمّيه بعض النحويين "الدائم" وبعض يسميه: "اسم الفاعل".

وتكون له رتبة زائدة على الفاعل. قال الله جلّ ثناؤه: {ولا تجعل يدك مغلولةً إلى عنقك} ولم يقل: لا تغلّ يدك، وذلك أن النعت ألزم، ألا ترى أنا نقول: {وعصى آدم ربّه فغوى} ولا نقول: آدم عاصٍ غاوٍ، لأن النعوت لازمة وآدم وإن كان عصى في شيء فإنه لك يكن شأنه العصيان فيسمى به، فقوله جلّ ثناؤه: {لا تجعل يدك مغلولةً} أي لا تكوننّ عادتك المنع فتكون يدك مغلولةً.

ومنه قوله جلّ ثناؤه: {وقال الرّسول يا ربّ إنّ قومي اتّخذوا هذا القرآن مهجورًا} ولم يقل هجروا لأن شأن القوم كان هجران القرآن وشأن القرآن عندهم أن يهجر أبداً فلذلك قال والله أعلم: {اتّخذوا هذا القرآن مهجورًا}.

وهذا قياس الباب كله).  [الصاحبي في فقه اللغة: 456-464]

هيئة الإشراف

#4

12 Oct 2022

قال أحمد بن فارس بن زكرياء الرازي (ت: 395هـ): (باب الشعر

الشّعر كلام موزونٌ مقفّى دالٌّ على معنىً. ويكون أكثر من بيت.

وإنما قلنا هذا لأنّ جائزاً اتّفاق سطرٍ واحد بوزن يشبه وزن الشّعر عن غير قصد، فقد قيل: إن بعض الناس كتب في عنوان كتاب "للأمير المسيّب بن زهير من عقال بن شبّة بن عقال" فاستوى هذا في الوزن الّذي يسمّى "الخفيف". ولعلّ الكاتب لم يقصد به شعراً.

وقد ذكر ناس في هذا كلمات من كتاب الله جلّ ثناؤه كرهنا ذكرها.

وقد نزّه الله جلّ ثناؤه كتابه عن شبه الشّعر كما نزّه نبيّه -صلى الله عليه وسلم- عن قوله.

فإن قال قائل: فما الحكمة في تنزيه الله جل ثناؤه نبيه عن الشعر?

قيل له: أوّل ما في ذلك حكم الله جلّ ثناؤه بأنّ: {الشّعراء يتّبعهم الغاوون، ألم تر أنّهم في كلّ وادٍ يهيمون، وأنّهم يقولون ما لا يفعلون} ثمّ قال: {إلّا الّذين آمنوا وعملوا الصّالحات} ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإن كان أفضل المؤمنين إيماناً وأكثر الصالحين عملاً للصالحات فلم يكن ينبغي له الشعر بحال، لأن للشعر شرائط لا يسمى الإنسان بغيرها شاعراً، وذلك أن إنساناً لو عمل كلاماً مستقيماً موزوناً يتحرّى فيه الصدق من غير أن يفرط أو يتعدّى أو يمين أو يأتي فيه بأشياء لا يمكن كونها بتّةً لما سمّاه الناس شاعراً ولكان ما يقوله مخسولاً ساقطاً.

وقد قال بعض العقلاء وسئل عن الشعر فقال: "إن هزل أضحك، وإن جدّ كذب" فالشاعر بين كذب وإضحاك، فإذا كان كذا فقد نزّه الله جلّ ثناؤه نبيّه -صلى الله عليه وسلم- عن هاتين الخصلتين وعن كل أمر دنيء.

وبعد فإنّا لا نكاد نرى شاعراً إلاّ مادحاً ضارعاً أو هاجياً ذا قذع، وهذه أوصاف لا تصلح لنبي.

فإن قال: فقد يكون من الشّعر الحكم كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إن من البيان لسحراً، وإن من الشّعر لحكمة" أو قال: "حكماً" قيل له: إنما نزّه الله جل ثناؤه نبيه عن قيل الشعر لما ذكرناه.

فأمّا الحكمة فقد آتاه الله جلّ ثناؤه من ذلك القسم الأجزل والنّصيب الأوفى الأزكى: قال الله جلّ ثناؤه في صفة نبيّه محمد -صلى الله عليه وآله وسلم: {ويزكّيهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة} وقال: {واذكرن ما يتلى في بيوتكنّ من آيات اللّه والحكمة} فآيات الله القرآن، والحكمة سنّته -صلى الله عليه وسلم.

ومعنىً آخر في تنزيه الله جلّ ثناؤه نبيّه -صلى الله عليه وسلم- عن قيل الشعر أن أهل العروض مجمعون على أنه لا فرق بين صناعة العروض وصناعة الإيقاع. إلاّ أن صناعة الإيقاع تقسم الزمان بالنّغم، وصناعة العروض تقسم الزمان بالحروف المسموعة. فلما كان الشعر ذا ميزان يناسب الإيقاع، والإيقاع ضربٌ من الملاهي لم يصلح ذلك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم. وقد قال -صلى الله عليه وسلم: "ما أنا من ددٍ ولا ددٌ مني".

والشّعر ديوان العرب، وبه حفظت الأنساب، وعرفت المآثر، ومنه تعلّمت اللغة. وهو حجّةٌ فيما أشكل من غريب كتاب الله جلّ ثناؤه وغريب حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وحديث صحابته والتابعين رحمهم الله تعالى.

وقد يكون شاعرٌ أشعر، وشعرٌ أحلى أو أظرف وأفوه. فأمّا أن يتفاوت الأشعار القديمة حتّى يتباعد ما بينها في الجودة فلا. وبكل يحتجّ وإلى كلٍّ يحتاج. فأما الاختيار الّذي يراه الناس للناس فشهوات، كلٌّ مستحسنٌ شيئاً.

والشعراء أمراء الكلام، يقصرون الممدود، ولا يمدّون المقصور، ويقدّمون ويؤخرون، ويؤمنون ويشيرون، ويختلسون ويعيرون ويستعيرون.

فأما لحنٌ في إعراب أو إزالة كلمة عن نهج صواب فليس لهم ذلك.

ولا معنى لقول من يقول: إن للشاعر عند الضرورة أن يأتي في شعره بما لا يجوز.

ولا معنى لقول من قال:

ألم يأتيك والأنباء تنمي

وهذا وإن صحّ وما أشبهه من قوله:

لما جفا إخوانه مصعباً

وقوله:

قفا عند ممّا تعرفان ربوع

فكلّه غلط وخطأ، وما جعل الله الشعراء معصومين يوقّون الخطأ والغلط، فما صحّ من شعرهم فمقبول، وما أبته العربية وأصولها فمردود.

بلى للشاعر إذا لم يطّرد له الّذي يريده في وزن شعره أن يأتي بما يقوم مقامه بسطاً واختصاراً وإبدالاً بعد أن لا يكون فيما يأتيه مخطئاً أو لاحناً، فله أن يقول:

كالنّحل في ماء رضاب العذب

وهو يريد العسل، وله أن يقول:

مثل الفنيق هنأته بعصيم

و"العصيم" أثر الهناء. وإنما أراد هنأته بهناء.

وله أن يبسط فيقول كما قال الأعشى:

إن تركبوا فركوب الخيل عادتنا ... أو تنزلون فإنّا معشرٌ نزل

معناه: إن تركبوا ركبنا وإن تنزلوا نزلنا، لكن لم يستقم له إلاّ بالبسط.

وكذلك قوله:

وإن تسكني نجدا فيا حبّذا نجد

أراد: أن تسكني نجداً سكناه, فبسط لما أراد إقامة الشّعر، أنشدنيها أبي فارس بن زكريّاء قال أنشدني أبو عبد الله محمد بن سعدان النحوي الهمذاني, قال أنشدني أبو نصر صاحب الأصمعي:

قضيت الغواني غير أنّ مودّةً ... لذلفاء ما قضيت أخرها بعد

فيا ربوة الرّبعين حيّيت ربوةً ... على النأي مني واستهلّ بك الرّغد

فإن تدعي نجداً ندعه ومن به ... وإن تسكني نجداً فيا حبّذا نجد

وما سوى هذا مما ذكرت الرّواة أن الشّعراء غلطوا فيه.

فقد ذكرناه في "كتاب خضارة" وهو "كتاب نعت الشّعر".

وهذا تمام الكتاب "الصاحبي" أتم الله على "الصاحب" الجليل النّعم، وأسبغ له المواهب، وسنّى له المزيد من فضله، إنه وليّ ذلك والقادر عليه.

وصلى الله تعالى على نبيه محمد وآله أجمعين.

وحسبنا الله ونعم الوكيل).  [الصاحبي في فقه اللغة: 465-472]