12 Oct 2022
الدرس السادس
قال ابن نور الدين محمد بن علي الموزعي (ت: 825هـ): (باب الفاء وما أوله الفاء
أما الفاء فإنها تأتي على ثمانية أوجه:
الأول: تكون عاطفة، كقولك: قام زيد فعمرو، وتفيد ثلاثة أمور: التشريك والترتيب، والتعقيب.
فأما الترتيب فهو على أنواع: معنوي نحو: قام زيد فعمرو، وذكري: وهو عطف مفصل على مجمل نحو قوله تعالى: {فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه}، ونحو قوله تعالى: {فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة}، وقوله تعالى: {ونادى نوحٌ ربه فقال رب إن ابني من أهلي}، الآية، وإخباري نحو: مطرنا بمكان كذا ذكره جماعة، وخالف الأخفش في الترتيب وقال: الفاء تأتي بمعنى الواو؛ لأن «بين» إنما تقع معها الواو ولأنك إذا قلت: المال بين زيد وعمرو فقد احتويا عليه فهذا موضع الواو لأنها للاجتماع، فإن جئت بالفاء وقع التفريق وأنشد قول الشاعر:
بسقط اللوى بين الدخول فحومل
قال: ولولا أن الفاء بمعنى الواو لفسد المعنى؛ لأنه لا يريد أن يصيره بين الدخول أو لا، ثم بين حومل.
وأجيب بأن التقدير بين مواضع الدخول وبين مواضع حومل، ولم يرد بين الدخول وحومل، كما يجوز: جلست بين العلماء والزهاد، وقال بعض البغداديين: الأصل: ما بين، فحذف «ما» دون «بين» كما عكس ذلك من قال:
يا أحسن الناس ما قرنًا إلى قدم
أصله: ما بين، قرن إلى قدم، فحذف «بين» وأقام قرنًا مقامها، وقال: الفاء نائبة عن إلى، قال ابن هشام: ويحتاج على هذا القول إلى أن يقال: وصحت إضافة «بين» إلى الدخول لاشتماله على مواضع أو لأن التقدير: بين مواضع الدخول، وكون الفاء للغاية بمنزلة إلى غريب.
وزعم الأصمعي أن الصواب روايته بالواو؛ لأنه لا يجوز: جلست بين زيد فعمرو، وقال الجرمي: الفاء لا تفيد الترتيب لا في البقاع ولا في الأمطار؛ بدليل قوله:
.... بين الدخول فحومل
وقولهم: مطر بمكان كذا فمكان كذا، وإن كان وقوع المطر فيهما في وقت واحد.
وأجيب بأنه قد وقع ترتيب في الإخبار كما تقدم ذكره.
وأما التعقيب فهو في كل بحسبه فيقال: تزوج فلان فولد له، إذا لم يكن بينهما إلا مدة الحمل، وإن كانت مدة متطاولة، ونحو قوله تعالى: {ألم تر أن الله أنزل من السماء ماءً فتصبح الأرض مخضرة}.
وقيل: إن الفاء تقع بمعنى ثم وإن منه قوله تعالى: {ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظامًا فكسونا العظام لحمًا ثم أنشأناه خلقًا آخر}، وقد تأتي لمجرد الترتيب نحو قوله تعالى: {فالزاجرات زجرًا فالتاليات ذكرًا}.
الوجه الثاني: تكون سببية عاطفة كقوله تعالى: {فوكزه موسى فقضى عليه}، وقوله تعالى: {فتلقى آدم من ربه كلماتٍ فتاب عليه}.
الوجه الثالث: تكون للسبب المحض المجرد عن العطف، وذلك إذا نصبت بها في جواب الأشياء التي هي: الأمر والنهي والنفي والاستفهام والتمني والعرض.
فجواب النفي والنهي كقول الله تعالى: {ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون} «فتطردهم» جواب النفي، و«فتكون» جواب النهي، وكقوله: ما تأتينا فتحدثنا، ولك فيه معنيان:
أحدهما: توجيه النفي إلى الإتيان، أي: ما تأتينا فكيف تحدثنا.
الثاني: وهو تفسير سيبويه رحمه الله تعالى توجبه النفي إلى التحديث أي: ما تأتينا أبدًا إلا وتمسك عن تحديثنا، فيكون منك إتيان كثير ولا يكون منك حديث، هذا إذا نصبت بالفاء.
وأما إذا رفعت «فتحدثنا» فيجوز أن تكون الفاء سببية عاطفة، كأنك قلت: ما تأتينا فما تحدثنا، كقوله تعالى: {ولا يؤذن لهم فيعتذرون}.
ويجوز أن تكون الفاء استثنائية كأنك قلت: ما تأتينا فأنت تحدثنا على كل حال، كقول الشاعر:
أما تسأل الربع القواء فينطق
أي: فهو ينطق على كل حال، وكقوله تعالى: {ودوا لو تدهن فيدهنون} ومثال جواب الأمر قول الشاعر:
يا ناق سيري عنقًا فسيحًا = إلى سليمان فنستريحا
وجواب التمني: {يا ليتني كنت معهم فأفوز}.
وجواب الاستفهام كقوله تعالى: {فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا}.
وجواب العرض كقولك: ألا تنزل عندنا فتصيب خيرًا.
وجواب التحضيض: ألا تعبد إلا الله فتكون من المفلحين.
فإن رفعت الفعل بعد هذه الأشياء الستة فهي «فاء» الاستئناف، وسيأتي قريبًا بيانها إن شاء الله تعالى.
الوجه الرابع: تكون رابطة بين الشرط والجزاء، نحو قوله تعالى: {إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم}، وكذا شبه الشرط نحو قوله تعالى: {والذين كفروا فتعسًا لهم} لأنه جعل الكفر شرطًا فكأنه قال: فمن كفر فتعسًا له ففهم من ذلك أن مراد المتكلم ترتيب الذم على الكفر ولو لم يدخل الفاء احتمل ذلك واحتمل غيره، وهذه الفاء لازمة في الشرط وقد تحذف في الضرورة كقول الشاعر:
من يفعل الحسنات الله يشكرها = والشر بالشر عند الله مثلان
ومنع المبرد ذلك مطلقًا وزعم أن الرواية:
من يفعل الحسنات فالرحمن يشكره
وعن الأخفش جواز وقوعه في النثر الفصيح وأن منه قوله تعالى: {إن ترك خيرًا الوصية للوالدين}، وقال ابن مالك: يجوز في النثر نادرًا وإن منه حديث اللقطة: «فإن جاء صاحبها وإلا فاستمتع بها».
وأما في شبه الشرط: فهي غير لازمة بل يجوز إثباتها وحذفها وقد قرئ بهما قوله تعالى: {وما أصابكم من مصيبةٍ فبما كسبت أيديكم}.
قال الجرمي وغيره من النحويين: «الفاء التي في خبر الذي يشبه الجزاء زائدة، ورُدَّ عليهم: بأنها إنما جيء بها لما فيها من معنى الجزاء، ولهذا لا يجوز: أريد منك فدرهم وما ذاك إلا لخلوه عن معنى الجزاء».
ويظهر أن معنى هذه الفاء كمعنى السببية المحضة.
الوجه الخامس: تكون زائدة للتوكيد، قال الشاعر:
أراني إذا ما بت بت على هوى = فثم إذا أصبحت أصبحت عاديا
وقال آخر:
لا تجزعي إن منفسًا أهلكته = وإذا هلكت فعند ذلك فاجزعي
وقال آخر:
لما اتقى بيد عظيم جرمها = فتركت ضاحي جلدها يتذبذب
وزعم الأخفش أن الفاء تستعمل زائدة في الخبر مطلقًا وحكي: «أبوك فوجد» أي: أبوك وجد، وقيد الفراء وجماعة الجواز بكون الخبر أمرًا أو نهيًا، فالأمر كقول الله تعالى: {قل أفغير الله تأمروني}.
وكقول الشاعر:
وقائلةٍ خولان فانكح فتاتهم
وحمل عليه الزجاج: {هذا فليذوقوه}، والنهي نحو: فلا تضربه ومنه قول حاتم:
وحتى تركت العائدات يعدنه = وقلن فلا تبعد، وقلت له ابعد
ومنع سيبويه زيادتها والتقدير عنده: هذه خولان فانكح، وأما الآية فالخبر «حميم» وما بينهما معترض، أو «هذا» منصوب لمحذوف يفسره «فليذوقوه».
وأما الفاء التي تصحب إذا الفجائية كقولك: خرجت فإذا الأسد، فقال الفارسي والمازني وجماعة: هي زائدة لازمة، وقال قوم: هي عاطفة، وقال بعضهم: هي سببية محضة كفاء الجواب، وحمل على هذا القول ابن هشام قوله تعالى: {إنا أعطيناك الكوثر فصل}.
وقال: إنه واجب متعين؛ إذ لا يعطف الإنشاء على الخبر ولا العكس ولا يحسن إسقاطها فتسهل دعوى زيادتها.
الوجه السادس: تكون بمعنى رب قال امرؤ القيس:
فمثلك حُبلى قد طرقتُ ومرضع = فألهيتها عن ذي تمائم محول
الوجه السابع: قال الفراء وغيره تكون للاستئناف كقول الشاعر:
ألم تسأل الربع القواء فينطق
إذ لا يجوز أن تكون عاطفة لعدم الجزم، ولا سببية لعدم النصب، وكقوله تعالى: {عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون}، وكقوله تعالى: {إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون}، وكقوله تعالى: {كن فيكون} على قراءة الرفع، وكقول الحطيئة:
الشعرُ صعبٌ وطويلٌ سُلُّمُهْ = إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمه
زلت به إلى الحضيض قدمه = يريد أن يعربه فيعجمه
ولا يجوز نصب «فيعجمه» لأنه لا يريد الإعجام، قال ابن هشام: والتحقيق أن الفاء في ذلك كله للعطف وأن المعتمد بالعطف الجملة لا الفعل والمعطوف عليه في الشعر قوله «يريد» قال: وإنما يقدر النحويون «هو» ليبينوا أن الفعل ليس المعتمد بالعطف.
الثامن: تكون بمعنى إلى ذكره الهروي، كقولك: مطرنا بين الكوفة فالقادسية المعنى: إلى القادسية ولا يجوز أن تقولك: داري بين الكوفة فالقادسية كما تقول: المطر، وكذلك محال أن تقول: جلست بين زيد فعمرو، إلا أن يكون مقعده آخذًا للفضاء الذي بينهما وهذا المعنى استغربه ابن هشام، ولكنه ارتضاه وقرره وقد تقدم ذكره). [مصابيح المغاني: 303-314]
قال ابن نور الدين محمد بن علي الموزعي (ت: 825هـ): (فصل: في
حرف جر ومعناه: الظرف، قيل: وإن انتشرت معانيه فهي راجعة إليه، وذكروا له أحد عشر معنى:
الأول: الظرف وهو إمَّا حقيقة أو مجازًا، والحقيقة إمَّا زمانية أو مكانية، وقد اجتمعا في قوله تعالى: {الم غُلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين}، والمجاز نحو قوله تعالى: {ولكم في القصاص حياة}.
الثاني: المصاحبة نحو قوله تعالى: {ادخلوا في أمم}، وقوله تعالى: {وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوءٍ في تسع آيات} أي: مع تسع آيات، وقال الجعدي يصف فرسًا:
ولوحا ذراعين في بركةٍ = إلى جؤجؤ رهل المنكب
وقال آخر:
إذا أم سرياح غدت في ظعائن = جوالس نجدا فاضت العين تدمع
أي: مع ظعائن.
الثالث: التعليل نحو قوله تعالى: {فذلكن الذي لمتنني فيه}، وقوله تعالى: {لمسكم فيما أفضتم فيه}، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن امرأة دخلت النار في هرة حبستها».
الرابع: الاستعلاء، نحو قوله تعالى: {ولأصلبنكم في جذوع النخل}، وقوله تعالى: {أم لهم سلم يستمعون فيه}، قال سويد بن أبي كاهل:
هم صلبوا العبدي في جذع نخلةٍ = فلا عطست شيبان إلا بأجدعا
وقال عنترة:
بطل كأن ثيابه في سرحةٍ = يُحذى نعال السبت ليس بتوأم
أي: على سرحة من طوله أو من شدة عدوه.
الخامس: مرادفة الباء، قال زيد الخيل:
ويركب يوم الروع منا فوارس = بصيرون في طعن الأباهر والكلى
السادس: مرادفة إلى، نحو قوله تعالى: {فردوا أيديهم في أفواههم}، أي: إلى أفواههم.
السابع: مرادفة من، كقول امرئ القيس:
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي = بصبحٍ وما الإصباح فيك بأمثل
أي: منك بأمثل، ومنه قوله تعالى: {وارزقوهم فيها}، أي: منها، وقوله تعالى: {ويوم نبعث في كل أمةٍ شهيدًا}، قيل: معناه: من كل أمةٍ.
الثامن: المقايسة، وهي الداخلة بين مفضول سابق وفاضل لاحق نحو قوله: {فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل}.
التاسع: التعويض، وهي الزائدة عوضًا من «في» أخرى محذوفة كقولك: ضربت فيمن رغبت، أصله: ضربت من رغبت فيه، أجازه ابن مالك.
وحده بالقياس على قوله:
... فانظر بمن تثق
إذا حملناه على ظاهره.
العاشر: البعدية، فتكون بمعنى بعد، قال الله عز وجل: {وفصاله في عامين} أي: بعد عامين.
الحادي عشر: التوكيد بالزيادة، أجازه الفارسي في الضرورة، وأنشد:
أنا أبو سعدٍ إذا الليل دجا = تخالُ في سواده يرندجا
وأجازه بعضهم في قوله تعالى: {قال اربكوا فيها} ). [مصابيح المغاني: 314-319]
قال ابن نور الدين محمد بن علي الموزعي (ت: 825هـ): (باب ما أوله القاف
ومنه قد، وتأتي على وجهين:
أحدهما: تكون اسمًا وهو على ضربين:
الأول: تكون اسم فعل بمعنى «يكفي» فيقال: قد زيدا درهم، وقدني درهم، كما يقال: يكفي زيدًا درهم، ويكفيني درهم.
الضرب الثاني: تكون اسمًا مرادفًا لـ حسب، وفيه لغتان:
أحدهما: أن يستعمل مبنيًا وهو الغالب لشبهه بقد الحرفية الآتية بعد إن شاء الله تعالى، فيقال: قد زيد درهم بالسكون، وقدني درهم، بالنون على غير قياس، لأن نون الوقاية مختصة بالأفعال، ولكنهم جاءوا بها حرصًا على بقاء السكون؛ لأنه الأصل في البناء.
الثانية: أن يستعمل معربًا وهو قليل، يقال: قدُ زيد درهم، بالرفع كما يقال: حسبُه درهم بالرفع، وقدي درهم، بغير نون، كما يقال: حسبي.
قال طرفة يصف سيفه:
أخي ثقةٍ لا ينثني عن ضريبة = إذا قيل مهلًا قال حاجزه قَدِي
وأما قول حميد الأرقط:
قَدْنِي من نصر الخبيبين قَدِي
فتحتمل «قد» الأولى أن تكون مرادفة لحسب على لغة البناء، وأن تكون اسم فعل، وأما الثانية: فتحتمل أن تكون بمعنى حسب على لغة الإعراب وهو واضح، ويحتمل أن تكون بمعنى حسب على لغة البناء وحذفت النون للضرورة كقول الشاعر:
عددت قومي كعديد الطيس = إذ ذهب القوم الكرام ليسي
ويحتمل أن تكون اسم فعل لم يذكر مفعوله والياء للإطلاق والكسر لالتقاء الساكنين.
الوجه الثاني: أن تكون حرفًا وتختص بالدخول على الأفعال، وربما حذف الفعل بعد «قد» إذا دل عليه الكلام كقول النابغة:
أزف الترحل غير أن ركابنا = لما تزل برحالنا وكأن قد
أي: وكأن قد زالت، وله خمسة معان:
الأول: التوقع: فتكون جوابًا لمتوقع، وهي نقيضة «ما» التي للنفي، ولا يبتدأ بها إلا أن يكون جوابًا لمتوقع قبل، وقوله تعالى: {قد أفلح المؤمنون} على هذا المعنى؛ لأن القوم توقعوا علم حالهم عند الله تبارك وتعالى فقيل لهم: قد أفلح المؤمنون.
والتوقع مع المضارع واضح كقولك: قد يقدم الحاج إلى شهر، وأما مع الماضي فأثبته الأكثرون، وقال الخليل يقال: قد فعل، لقوم ينتظرون الخبر فأما إذا أخبروهم وهم لا ينتظرون الخبر لم يأت «بـ» «قد» ومنه قول المؤذن: قد قامت الصلاة؛ لأن الجماعة منتظرون لذلك، ومنه قوله تعالى: {قد سمع الله قول التي تجادلك}؛ لأنها كانت تتوقع إجابة الله سبحانه لدعائها، ومنه بعضهم مع الماضي بأنه قد وقع، والتوقع لا يجامع الوقوع وهذا لا يلزم المثبتين لأنهم لا يقولون بتوقعه حال وقوعه وإنما يقولون إن الإخبار بالماضي كان متوقعًا قبل وقوعه.
الثاني: تقريب الماضي من الحال تقول: قام زيد، فيحتمل الماضي القريب والماضي البعيد، فإذا قلت: قد قام زيد، اختص بالقريب.
الثالث: التقليل لوقوع الفعل كقولك: قد يصدق الكذوب، وقد يجود البخيل، وزعم بعضهم أنها في هذه الأفعال ونحوها للتحقيق كوله تعالى: {قد يعلم ما أنتم عليه} وأن التقليل مستفاد في المثالين من قولك: البخيل يجود والكذوب يصدق لا من «قد» فإنه إذا لم يحمل على أن صدور ذلك منها قليل كان فاسدًا إذ آخر الكلام يناقض أوله:
الرابع: التكثير: قاله سيبويه في قول الهذلي:
قد أترك القرن مصفرًا أنامله = كأن أثوابه مجت بفرصاد
وقال الزمخشري في قوله تعالى: {قد نرى تقلب وجهك في السماء}، أي: ربما نرى ومعناه تكثير الرؤية، واستشهد جماعة على هذا المعنى بقول الشاعر:
قد أشهد الغارة الشعواء تحملني = جرداء معروقة اللحيين سرحوب
الخامس: التحقيق: بمعنى إن ذلك كان وأنشد بعضهم على ذلك قول الهذلي:
قد أترك القرن مصفرًا أنامله
أي: إن ذلك من عادتي في الحرب، وفيه قوله تعالى: {قد أفلح من زكاها}، وقوله تعالى: {ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم}، وقوله تعالى: {قد يعلم ما أنتم عليه} ). [مصابيح المغاني: 320-325]
قال ابن نور الدين محمد بن علي الموزعي (ت: 825هـ): (ومنه «قط» وتستعمل على ثلاثة أوجه:
أحدها: أن تكون ظرفًا لاستغراق ما مضى من الزمان وتختص بالنفي فيقال: ما فعلته قط، والعامة تقول: لا أفعله قط وهي لحن، واشتقاقه من قططته أي قطعته، فمعنى ما فعلته قط: ما فعلته فيما انقطع من عمري؛ لأن الماضي منقطع عن الحال والاستقبال، وأفصح لغات هذه الكلمة: فتح القاف وتشديد الطاء مع الضم، قال الكسائي: كانت قَطُطُ فلما سكن الحرف للإدغام جعل الآخر متحركًا إلى إعرابه، وقد تكسر على التقاء الساكنين وقد تتبع قافه طاءه في الضم، وقد تخفف طاؤه مع ضمها أو إسكانها.
الثاني: أن تكون اسم فعل بمعنى يكفي، فيقال: قطني، بنون الوقاية كما يقال: يكفيني.
الثالث: تكون بمعنى حسب، وهذه مفتوحة القاف ساكنة الطاء، يقال: قَطْني وقَطك وقَطْ زيد، كما يقال: حسبي حسبك وحسب زيد درهم، ويجوز إثبات نون الوقاية حفظًا للبناء على السكون كما يجوز في لدن وقد وعن، قال الراجز:
امتلأ الحوض وقال قَطْني = مهلًا رويدًا قد ملأت بطني). [مصابيح المغاني: 325-326]
قال ابن نور الدين محمد بن علي الموزعي (ت: 825هـ): (باب الكاف وما أوله الكاف
فأما الكاف فإنها على وجهين:
أحدهما: أن تكون اسمًا ولها محل من الإعراب بمعنى مثل، ولا تقع عند سيبويه والمحققين إلا في الضرورة كقول الشاعر:
يضحكن عن كالمبرد المنهم
وكقول الآخر:
على كالخنيف السحق يدعو به الصدى
وقال كثير منهم الأخفش والفارسي: يجوز في الاختيار، فجوزوا في نحو: زيد كالأسد، أن تكون الكاف في موضع رفع والأسد مخفوض بالإضافة.
قال ابن هشام: ووقع مثل هذا في كتاب المعربين كثيرًا، قال الزمخشري في قوله تعالى: {كهيئة الطير فأنفخ فيه} إن الضمير راجع إلى الكاف في كهيئة الطير أي: فأنفخ في ذلك الشيء المماثل فيصير كسائر الطيور، ولو كان كما زعموا لسمع في الكلام مثل: مررت بكالأسد.
الثاني: أن تكون حرف جر ولها ستة معان:
أحدها: التشبيه نحو: زيد كالأسد.
الثاني: التعليل أثبت ذلك قوم ونفاه الأكثرون، وقيد بعضهم جوازه بأن تكون الكاف مكفوفة بـ «ما» كحكاية سيبويه، كما أنه لا يعلم فتجاوز الله عنه، قال ابن هشام: والحق جوازه في المجردة من «ما» نحو: {ويكأنه لا يفلح الكافرون}، أي: أعجب لعدم فلاحهم، وفي المقرونة بـ «ما» الكافة الزائدة كما في المثال، وبـ «ما» المصدرية نحو: {كما أرسلنا فيكم}، الآية، قال الأخفش: أي: لأجل إرسالنا فيكم رسولًا منكم فاذكروني وهو ظاهر في قوله تعالى: {واذكروه كما هداكم}.
الثالث: الاستعلاء، ذكره الأخفش والكوفيون، وذكروا أن بعضهم قيل له: كيف أصبحت؟ فقال: كخيرٍ، أي: على خير، ومنه قوله تعالى: {فاستقم كما أمرت}، معناه على ما أمرت، وقيل المعنى بخير، ورد بأنه لم يثبت مجيء الكاف بمعنى الباء، وقيل: هي للتشبيه على حذف مضاف، أي: كصاحب خير.
الرابع: التوكيد والزيادة، كقوله تعالى: {ليس كمثله شيء} لئلا يلزم المحال.
وقيل: الزائد: «مثل» والتقدير: ليس كهو شيء.
وقيل: لا زائد منهما، فقيل: مثل بمعنى: الذات، وقيل: بمعنى: الصفة، وقيل: الكاف اسم مؤكد بمثل، كما عكس ذلك من قال:
فصيروا مثل كعصفٍ مأكول
الخامس: التعجب، نحو: ما رأيت كاليوم ولا جلد مخبأةٍ.
هكذا ذكره بعضهم وجعل منه قوله تعالى: {ويكأنه لا يفلح الكافرون}.
أي: أعجب لعدم فلاحهم، ولقائل أن يقول: ليس التعجب في هذا المثال مستفاد من الكاف، وإنما استفيد من كلمة «وي» والله أعلم.
السادس: المبادرة، وذلك إذا اتصلت بـ «ما» نحو: سلم كما تدخل وصل كما يدخل الوقت، ذكره السيرافي وابن الخباز، قال ابن هشام: وهو غريب جدًا.
وأما ما أوله الكاف فمنه: كيت، وقد تقدم الكلام عليها عند الكلام على ذيت). [مصابيح المغاني: 327-331]
قال ابن نور الدين محمد بن علي الموزعي (ت: 825هـ): ( (فصل)
كاد: من أفعال المقاربة ومعناه: القرب والدنو كعسى، إلا أن في مقاربة عسى رجاء وطمع، ومقاربة كاد على سبيل الوجود والحصول.
قيل: وإثباته نفي، ونفيه إثبات، تقول: كاد زيد يفعل، فمعناه: أنه لم يفعل، وتقول: لم يكد يفعل، فمعناه: أنه فعله.
قال ابن هشام: وقد اشتهرت هذه العبارة بين المعربين حتى جعله المعري لغزًا فقال:
أنحوي هذا العصر ما هي لفظةٌ = جرت في لساني جُرهم وثمود
إذا استعملت في صورة الجحد أثبتت = وإن أثبتت قامت مقام جحود
قال: والصواب: أن حكمها حكم سائر الأفعال في أن نفيها نفي، وإثباتها إثبات، وبيانه: أن معناها المقاربة، ولا شك أن معنى: كاد يفعل: قارب الفعل، وأن معنى: ما كاد يفعل: ما قارب الفعل، فخبرها منفي دائمًا، أما إذا كانت منفية فواضح، لأنه إذا انتفت مقاربة الفعل انتفى عقلًا حصول ذلك الفعل، ودليله قوله تعالى: {إذا أخرج يده لم يكد يراها}، ولهذا كان أبلغ من أن يقال: لم يرها؛ لأن من لم يرها قد يقارب رؤيتها وأما إذا كانت المقاربة مثبتة، فلأن الإخبار بقرب الشيء يقتضي عرفًا عدم حصوله وإلا لكان الإخبار حينئذٍ بحصوله لا بمقاربة حصوله؛ إذ لا يحسن في العرف أن يقال لمن صلى: قارب الصلاة.
ولا فرق فيما ذكرناه بين كاد ويكاد، فإن أورد على ذلك: {وما كادوا يفعلون} مع أنهم قد فعلوا فالجواب: أنه إخبار عن حالهم في أول الأمر فإنهم كانوا أولا بعداء من ذبحها؛ بدليل ما تلي علينا من تعنتهم وتكرر سؤالهم، ولما كثر استعمال مثل هذا فيمن انتفت عنه مقاربة الفعل أولًا، ثم فعله بعد ذلك توهم من توهم أن هذا الفعل بعينه هو الدال على حصول الفعل، وليس كذلك، وإنما فهم حصول الفعل من الآية من قوله تعالى: {فذبحوها} انتهى كلامه.
والتحقيق عندي في حقيقة كاد، والله أعلم أنها كلمة وضعت لمقاربة الشيء سواء فعل أو لم يفعل، فمجردها ينبئ عن نفي الفعل وضعًا، ومقرونها بالجحد ينبئ عن وقوع الفعل عرفًا لا وضعًا وهو أكثر في الاستعمال، ومنه قوله تعالى: {وما كادوا يفعلون}، وقوله تعالى: {يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار}.
وقول الشاعر:
كادت النفس أن تفيض عليه = مذ ثوى حشو ربطةٍ وبرودِ
وقوله:
قد كان من طول البلى أن يمصحا
وقد تستعمل على أصل الوضع لمعنى المقاربة من غير دلالة على نفي الفعل، ولا على وقوعه، ومنه قوله تعالى: {إن الساعة آتية أكاد أخفيها}، وقوله تعالى: {إذا أخرج يده لم يكد يراها}، وبحث ابن هشام رحمه الله تعالى يحوم على هذا، فاحتفظ بهذا فإنه قصد نفيس به يندفع التصويب على المعربين لأنهم لاحظوا الفرق، لكن تبقى عليهم المؤاخذة في الإطلاق، وبه يبطل تكلف بعضهم في قوله تعالى: {إن الساعة آتية أكاد أخفيها}، فإنه قال: أكاد أخفيها معناه: أريد أخفيها، قال: فكما جاز أن يوضع: أريد موضع أكاد في قوله تعالى: {جدارًا يريد أن ينقض}، فكذلك كاد، وأنشد:
كادت وكدت وتلك خير إرادة = لو عاد من لهو الصبابة ما مضى
والبقاء على الأصل خير من العدول إلى المجاز والله أعلم). [مصابيح المغاني: 331-335]
قال ابن نور الدين محمد بن علي الموزعي (ت: 825هـ): (فصل كيف وكيفما
كيف: اسم مبهم حرك آخره لالتقاء الساكنين، وبني على الفتح لمكان الياء، ويقال فيه: كي بحذف الفاء كما يقال في سوف: سو، قال الشاعر:
كي تجنحون إلى سلمٍ وما ثئرت = قتلاكم ولظى الهيجاء تضطرم
واختلف في اسميتها، فعن سيبويه إنها ظرف، وعن الأخفش والسيرافي إنها غير ظرف.
وقال ابن مالك: لم يقل أحد «كيف» ظرف، إذ ليست زمانًا ولا مكانًا لكنها لما كانت تفسر بقولك: على أي حال، لكونها سؤالًا عن الأحوال العامة سميت ظرفًا لأنها في تأويل الجار والمجرور، واسم الظرف مطلق عليه، انتهى.
وقال ابن هشام: وهو حسن.
وما ذكره ابن مالك واستحسنه ابن هشام هو معنى عبارة الزمخشري في مفصله: حيث قال: كيف جار مجرى الظروف.
وله ستة معان:
الأول: الاستفهام عن الأحوال، كقولك كيف زيد؟ وهو الغالب عليها.
الثاني: الجزاء، فيكون شرطًا كقولك: كيف تصنع أصنعُ تقتضي فعلين متفقي اللفظ والمعنى غير مجزومين عند البصريين ويجوز جزم الفعلين بها عند الكوفيين وقطرب، قالوا: ومن ورودها شرطًا، قوله تعالى: {يصوركم في الأرحام كيف يشاء}، وقوله تعالى: {فيبسطه في السماء كيف يشاء}، وجوابها محذوف لدلالة ما قبلها.
قال ابن هشام: وهذا يشكل على إطلاقهم أن جوابها يجب مماثلته لشرطها، وفصل قوم فقالوا: يجوز الجزم بها إن اقترنت بـ «ما» وإلا فلا يجوز.
الثالث: الإخبار بالحالة المجردة عن الاستفهام كقولك: لأكرمنك كيف كنت: أي: على أي حال كنت، قيل: ومنه قوله تعالى: {فقتل كيف قدر} قالوا: على أي حال قدر، قيل: ويجوز أن يكون فيه معنى التعجب.
الرابع: التعجب، كقوله تعالى: {كيف تكفرون بالله ...} الآية، فإنه خرج مخرج التعجب؛ لأن العلم بهذه الحال يأبى الكفر إذ صدور الفعل مع قوة الصارف عنه مظنة التعجب.
الخامس: التوبيخ، ولم أر من ذكره، ولكنه ظاهر ثم وقفت عليه لبعضهم حال كتابتي لهذا الكتاب، ومثله بقوله تعالى: {وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله}؛ لأن الكفر مع العلم بهذه الحال ينبئ على الانهماك في الغفلة والجهل ثم رأيت بعد ذلك في كتاب الإفصاح أنها ترد لهذين المعنيين جميعًا ومثل بهذه الآية.
السادس: الاستفهام الإنكاري كقول سويد:
كيف يرجون سقاطي بعدما = جلل الرأس مشيبٌ وصلع). [مصابيح المغاني: 336-338]
قال ابن نور الدين محمد بن علي الموزعي (ت: 825هـ): (فصل كل وكلا وكلتا
أما كل: فاسم موضوع للاستغراق والعموم، وهي أم أدوات العموم، ولهذا لا يؤكد بها إلا ما يتبعض فلا يجوز أن تقول: جاءني زيد كله، وإن قلت: اشتريت زيدًا كله، جاز لأنك قد تشتري بعضه دون بعض، ولها معنيان واستعمالان، أما المعنيان:
فأحدهما: وهو الغالب عليها الاستغراق والشمول، فإن دخلت على اسم جنس أو جمع أو اسم جمع شملت جميع أفراده، وإن دخلت على فرد كانت لاستغراق أجزائه، كقولك: كل زيد حسن، وأكلت كل الرغيف، ولأجل ذلك لا يتقيد شمولها وعمومها بشيء، فيستوي إضافتها إلى الجمع والمفرد، والظاهر والمضمر وعدم إضافتها.
المعنى الثاني: الدلالة على الكمال وذلك لما فيها من معنى الاستغراق والشمول لصفات الكمال كقول الشاعر:
وإن الذي حانت بفلج دماؤهم = هم القوم كل القوم يا أم خالد
ثم قال البيانيون: إذا وقعت كل في حيز النفي كان النفي موجهًا إلى نفي شمولها خاصة ودل النفي بمفهومه على ثبوت الحكم لبعض الأفراد كقولك: ما جاء كل القوم، ولم آخذ كل الدراهم، وكقول الشاعر:
ما كل رأي الفتى يدعو إلى رشد
وكقوله:
ما كل ما يتمنى المرء يدركه
وإن وقع النفي في حيزها اقتضى سلب الحكم عن كل فرد من أفرادها، كقوله عليه الصلاة والسلام لما قال له ذو اليدين: «أقصرت الصلاة أم نسيت؟ فقال: كل ذلك لم يكن» وكقول أبي النجم:
قد أصبحت أم الخيار تدعي = علي ذنبًا كله لم أصنع
ولا يرد على القسم الأول قول الله تعالى: {والله لا يحب كل مختالٍ فخورٍ} ولا على القسم الثاني نصبك «كله» في البيت باصنع لكونهما حينئذٍ لا مفهوم لهما؛ لأن المفهوم لا يكون فيه دلالة على معناه إلا عند عدم المعارض له من الأدلة والقرائن السابقة.
وأما الاستعمالان:
فأحدهما: هو أن تستعمل مضافة، فإن أضيفت إلى نكرة فمعناها بحسب ما تضاف إليه، فيجب مراعاة معناها الذي هو مطابقة ما تضاف إليه، فحينئذٍ تطابق الصفة والضمير النكرة التي أضيفت كل إليها في التذكير والتأنيث والتثنية والجمع والإفراد، كقول الصديق رضي الله عنه:
كل امرئ مصبح في أهل = والموت أدنى من شراك نعله
والتأنيث كقول الله تعالى: {كل نفسٍ بما كسبت رهينة} وكقول الشاعر:
وكل مصيبات الزمان وجدتها = سوى فُرقة الأحباب هينةَ الخطب
والتثنية كقول الفرزدق:
وكل رفيقي كل رحلٍ وإن هما = تعاطى القنا قوماهما أخوان
والجمع كقول لبيد:
وكل أناسٍ سوف تدخل بينهم = دويهية تصفر منها الأنامل
هكذا ذكره ابن مالك ورده أبو حيان بقول عنترة:
جادت عليه كل عين ثرةٍ = فتركن كل قرارةٍ كالدرهم
فقال: تركن ولم يقل تركت، فدل على جواز كل رجل قائم وقائمون قال ابن هشام: والذي يظهر خلاف قولهما وهو أن المضافة إلى المفرد إن أريد نسبة الحكم إلى كل واحد وجب الإفراد نحو: كل رجلٍ يشبعه رغيف، أو إلى المجموع وجب الجمع، كبيت عنترة، فإن المراد: أن كل فرد من الأعين جاد وأن مجموع الأعين تركن كل قرارة كالدرهم وعلى هذا تقول: جاد على كل محسن فأغناني أو فأغنوني، بحسب المعنى الذي تريده، انتهى.
وهو نظر حسن، ولكن تأويله لبيت عنترة لا يستقيم إلا على تفسير الجوهري للعين إنها اسم للمطر في أيام لا يقلع فيها، لأن كلامه يدل على أن العين يمكن تعددها حتى صار لها أفراد فرجع الضمير على مجموع أفرادها، وأما من فسر العين بأنه اسم لأول غيث النوء من النجوم التي عليها علامة فلا يستقيم تعداده حتى يصير له أفراد إلا بمضي أعوام، إلا أن تنزل الأجزاء من المطر المذكور منزلة الأفراد، ولتميزها بعضها عن بعض، أو تنزل العين على السحابة المجتمعة الملتفة، ويسميها باسم المطر المذكور تجوزًا للمجاورة، وهذا أحسن ليشمل رواية من روى: كل بكرة حرة، والبكر: السحابة في أول الربيع.
وإن أضيفت إلى معرفة فقالوا: يجوز مراعاة لفظها ومراعاة معناها نحو: كلهم قائم، وكلهم قائمون، وقد اجتمعا في قوله تعالى: {إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبدًا لقد أحصاهم وعدهم عدا وكلهم آتيه يوم القيامة فردًا}، قال ابن هشام: والصواب أن الضمير لا يعود إليها من خبرها إلا مفردًا مذكرًا على حد لفظها نحو قوله تعالى: {وكلهم آتيه يوم القيامة فردًا}، وقوله تعالى: {إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عليه مسئولًا}، وقوله تعالى فيما يحكيه عنه نبيه عليه الصلاة والسلام: «يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته ... » الحديث، وقوله عليه الصلاة والسلام: «كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها»، وقوله: «كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته» وقوله: «وكلنا لك عبد»، وأما قوله تعالى: {لقد أحصاهم} فجملة أجيب بها القسم وليست خبرًا عن كل، وضميرها راجع إلى «من» لا إلى «كل» ومن معناها الجمع.
الاستعمال الثاني: أن تقطع عن الإضافة لفظًا، قال أبو حيان: يجوز مراعاة اللفظ نحو قوله تعالى: {قل كل يعمل على شاكلته}، وقوله: {فكلًّا أخذنا بذنبه}، ومراعاة المعنى نحو قوله تعالى: {وكلٌّ كانوا ظالمين}.
قال ابن هشام: والصواب: أن المقدر يكون مفردًا نكرة فيجب الإفراد كما لو صرح بالمفرد، ويكون جمعًا معروفًا فيجب الجمع، وإن كانت المعرفة لو ذكرت لوجب الإفراد، ولكن فعل ذلك تنبيهًا على حال المحذوف فيها.
فالأول: كقوله تعالى: {كلُّ يعمل على شاكلته}، وقوله تعالى: {كُلُّ آمن بالله}، وقوله تعالى: {كلٌّ قد علم صلاته وتسبيحه}، إذ التقدير: كل واحد.
والثاني: نحو قوله تعالى: {كلٌّ له قانتون}، وقوله تعالى: {كلٌّ في فلك يسبحون}، وقوله تعالى: {وكلٌّ أتوه داخرين}، وقوله تعالى: {وكلٌّ كانوا ظالمين}، أي: كلهم.
وأما كلا، وكلتا، فقال البصريون: كلا في تأكيد الاثنين، وكلتا في تأكيد الاثنتين نظير كل في المجموع، وهما اسمان مفردان في لفظهما غير مثنيين في معناهما، فإذا وليا اسمًا ظاهرًا كانا في الرفع والنصب والخفض على حالة واحدة بالألف، وإذا اتصلا بضمير قلبت الألف ياء في موضع الجر والنصب فتقول: رأيت كليهما، ومررت بكليهما، ومن العرب من يستعمله بالألف مطلقًا كما لو ولي الظاهر.
وقال الفراء: هو مثنى وهو مأخوذ من «كل» فخفف اللام وزيدت الألف للتثنية، وكذلك كلتا للمؤنث، ولا يكونان إلا مضافين ولا يتكلم بواحد منهما، ولو تكلم لقيل: كلٌ، وكلتٌ، وكلتان، وكلان، قال الشاعر:
في كلت رجليها سُلامي واحده = كلتاهما مقرونةٌ بزائدة
أراد في إحدى رجليها وأفرد، وضعفه أهل البصرة بأنه لو كان مثنى لوجب أن تنقلب ألفه في النصب والجر «ياء» مع الاسم الظاهر، ولأن معنى «كلا» مخالف لمعنى «كل» لأن كلا للإحاطة والشمول، وكلا تدل على شيء مخصوص، وأما البيت فضرورة.
وتجب إضافتهما إلى معرفة دالة على اثنين إمَّا حقيقة أو مجازًا، ويجوز مراعاة لفظهما في الإفراد، ومراعاة معناها الذي هو التثنية كما في كل، فتقول: إن زيدًا وعمرًا كلاهما قائم وقائمان، ومراعاة لفظهما أغلب كقول الله سبحانه: {كلتا الجنتين آتت أكلها}، ومراعاة معناهما قليل، وقد اجتمعا في قول الشاعر:
كلاهما حين جد الجري بينهما = قد أقلعا وكلا أنفيهما رابي). [مصابيح المغاني: 339-348]
قال ابن نور الدين محمد بن علي الموزعي (ت: 825هـ): ( (فصل)
كم: بتخفيف الميم اسم مبهم كناية عن عدد مبهم، وهو مبني على السكون، قال الفراء: نرى أن قول العرب: كم مالك، أنها «ما» وصلت من أولها بكاف ثم إن الكلام كثر بـ «كم» حتى حذفت الألف من آخرها، وسكنت ميمها كما قالوا: لم قلت ذاك؟ ومعناه: لم قلت؟، قال الشاعر:
يا أبا الأسود لم أسلمتني = لهمومٍ طارقاتٍ وذكر
وقيل لبعض العرب: مذ كم قعد فلان؟ فقال: كمذ أخذت في حديثك، فزيادة الكاف في «مذ» دليل على أن الكاف في «كم» زائدة.
وعاب الزجاج على الفراء قوله، وقال: لو كانت في الأصل «كما» وأسقطت ألف الاستفهام لتركت فتحتها كما تقول: بم، ولم، وفيم أنت، وعمَّ.
قال ابن فارس: والجواب عما قاله: ما ذكره أبو زكريا الفراء وهو الاستعمال وحجته ما ذكره في «لم».
ولها معنيان:
أحدهما: الخبر على معنى التكثير وتخفض بها كما تخفض برب، فتقول: كم درهمٍ أنفقت، وزعم قوم أن لغة بني تميم جواز نصب تمييزها إذا كان مفردًا وقد روي قول الفرزدق:
كم عمةٍ لك يا جرير وخالة = فدعاء قد حلبت علي عشاري
بخفض عمة ونصبها، إمَّا على هذه اللغة أو على تقديرها استفهامية، ويكون معنى هذا الاستفهام التهكم، أي: أخبرني بعدد عماتك اللاتي كن يخدمنني فقد نسيته، ويروى برفع «عمة» على الابتداء، وسوغ الابتداء بها وصفها بالفدع وتخصيصها بالإسناد إلى المخاطب، وتكون «كم» ظرفًا أو مصدرًا والتمييز محذوف، أي: كم وقتًا أو حلبة، وحلبت خبرًا للعمة والخالة، وخبر الأخرى محذوف وإلا لقيل: قد حلبتا.
الثاني: الاستفهام عن العدد، وينصب ما بعدها على التمييز لمبهمها فتقول: كم درهمًا أنفقت، وجوز الفراء والزجاج وابن السراج وآخرون جواز جر مميزها كالخبرية ومنعه قوم مطلقًا، والصحيح الجواز بشرط جر «كم» والأكثر النصب). [مصابيح المغاني: 348-350]