12 Oct 2022
الدرس الثامن
قال ابن نور الدين محمد بن علي الموزعي (ت: 825هـ): (فصل لو ولولا ولوما
أما لو: فإنها حرف لما سيقع لوقوع غيره كما قال سيبويه، كقولك: لو جئتني أكرمتك.
وهي أداة شرط تفيد التعليق في الماضي وتختص به، كذا سماها الزمخشري وغيره حرف شرط، وقال بعض الفضلاء: إنما سميت حرف شرط مجازًا لشبهها بالشرط من جهة أن فيها ربط جملة بجملة كما في الشرط من جهة أن معنى الشرط: ربط توقع أمر مستقبل بأمر متوقع مستقبل، والواقع لا يتوقع ولا يتوقف دخوله في الوجود على دخول أمر آخر؛ لأنه قد دخل في الوجود، وقد اتفقوا على إفادتها الربط والتعليق في الماضي، واختلفوا في إفادتها الامتناع على ثلاثة أقوال:
أحدها: وهو قول الأكثرين أنها تفيد امتناع الشرط وامتناع الجواب جميعًا بطريق الاستلزام كما يمتنع المسبب لامتناع السبب، والمعلول لامتناع العلة.
قال ابن هشام: وهذا باطل بمواضع كثيرة منها قوله تعالى: {ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيءٍ قبلًا ما كانوا ليؤمنوا}.
وقوله تعالى: {ولو أن ما في الأرض من شجرةٍ أقلامٌ والبحر يمده من بعده سبعة أبحرٍ ما نفدت كلمات الله}، وقول عمر رضي الله تعالى عنه: «نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه» وبيانه: أن كل شيء امتنع ثبت نقيضه، فإذا امتنع «ما قام» ثبت «قام» وبالعكس، وعلى هذا فيلزم على هذا القول في الآية الأولى: ثبوت إيمانهم مع عدم نزول الملائكة، وتكليم الموتى، وحشر عليهم كل شيء قبلًا، وفي الثانية: نفاد الكلمات وكون البحر الأعظم بمنزلة الدواة، وكون السبعة الأبحر مملؤة مدادًا، وهي تمد ذلك البحر، ويلزم في الأثر: ثبوت المعصية مع ثبوت الخوف وكل ذلك عكس المراد. انتهى.
وما ذكره من الإبطال باطل فإنه لا يلزم ما ذكره من ثبوت إيمانهم مع عدم نزول الملائكة، ولا يلزم نفاد الكلمات عن نفاد الأبحر، ولا يلزم ثبوت المعصية عند ثبوت الخوف فإن هذا هو مفهوم الموافقة الذي هو بطريق الأولى، لأنه إذا لم يؤمنوا مع نزول الملائكة، وإذا لم تنفد الكلمات مع نفاد الأبحر، وإذا لم يعص مع عدم الخوف، فعدم الإيمان مع عدم نزول الملائكة وتكليم الموتى، وعدم نفاد الكلمات مع عدم نفاد الأبحر لعجز الخلق، وعدم المعصية مع ثبوت الخوف أولى.
وقد اتفق على ذلك أهل العلم والنظر من الأصوليين وغيرهم حتى اختلفوا في هذا المفهوم هل فهم بطريق اللغة أو بطريق القياس؟ ويعزى الأخير إلى الشافعي رضي الله تعالى عنه.
وإنما يلزم ما ذكره لو كان من مفهوم المخالفة، ولو كان كما ذكر لوجب أن يقال في قوله تعالى: {فلا تقل لهما أفٍ ولا تنهرهما} أنه يفهم منه إباحة ضربهما ولا قائل بذلك لأنه مطبوع في غرائز العقلاء: أن من نهث عن تأفيفه فعن ضربه أولى، وأن من لم يعص مع عدم الخوف فعند وجود الخوف أولى، ومن لم يؤمن مع نزول الملائكة وتكليم الموتى فعند عدم ذلك أولى.
القول الثاني: أنها تفيد امتناع الشرط خاصة، ولا دلالة على امتناع الجواب ولا على ثبوته، وإنما يمتنع الجواب مع الشرط من جهة انتفاء المسبب لانتفاء سببه ونسبه ابن هشام إلى المحققين.
القول الثالث: أنها لا تفيد أكثر من الربط بين الشرط والجواب، والتعليق بالماضي كما دلت «إن» على التعليق في المستقبل ولم تدل على امتناع ولا ثبوت اتفاقًا، وهذا قول الشلوبين.
إذا تقرر هذا فقد ظهر لي بحث نفيس وهو أن لـ «لو» حقيقتين، حقيقة وضعية وحقيقة عرفية، فالحقيقة الوضعية هي: الربط بين السبب والمسبب في الماضي فقط، ولا تدل على امتناع من طريق اللفظ، ولو كانت دلالتها لفظية لما حسن الاستدراك بعدها في قولك: لو جاءني زيد لأكرمته لكنه لم يجيء، ولا يمتنع في الكلام: لو جاء زيد لأكرمته وقد جاء فأكرمته، ولكني لم أعلم وقوع مثله في كلامهم.
وأما الحقيقة العرفية فهي: الدلالة على الامتناع، وذلك أن العرب استعملوه في التعليق كالامتناع استعمالًا غالبًا حتى هجروا الجانب المحتمل لخلاف الامتناع، ولهذا كثر الاستدراك بعدها في لسانهم، قال الله تعالى: {ولو شئنا لآتينا كل نفسٍ هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم}، وقوله تعالى: {ولو أراكهم كثيرًا لفشلتم ولتنازعتم في الأمر ولكن الله سلم}، {ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض}، وقال امرؤ القيس:
ولو أنما أسعى لأدنى معيشةٍ = كفاني ولم أطلب قليلٌ من المال
ولكنما أسعى لمجدٍ مؤثلٍ = وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي
لأن الامتناع أخو النفي، وعبارة سيبويه، شاملة للحقيقتين الوضعية والعرفية.
وفي ظني أن الشلوبين نظر إلى الحقيقة الوضعية وأن ذلك مراده، وأما إفادتها الامتناع فمن العرف، ولا نظن به أنه يمنع فهم الامتناع بوجه من الوجوه فإن ذلك جحد للضرورات، ولم أقف على مقالته إلا بواسطة الناقلين كما قدمت.
ومن قال بالدلالة غلب الحقيقة العرفية ولم يلتفت إلى أصل الوضع، لكنه مهجور في لسانهم ثم افترق هؤلاء على مذهبين كما مضى، فقائل بالامتناع في الشرط والجواب معًا، وقائل بالامتناع في الشرط فقط.
وعندي أن حقيقة قولهما راجعة إلى أنها هل تدل على امتناع الجواب مطابقة أو التزامًا؟ فالأكثرون قائلون بالأول، والمحققون بالثاني.
واعلم أن لو إن جاءت رابطة بين ثبوتين صارا نفيين، أو بين نفيين صارا ثبوتين، أو على ثبوت ونفي، فالثابت نفي، والنفي ثبوت والعكس بالعكس.
فمثال الثبوتين: لو جاءني زيد أكرمته، فتدل على نفي المجيء والإكرام.
ومثال النفيين: لو لم يأتني زيد لم أكرمه، فتدل على ثبوت المجيء والإكرام.
ومثال الإثبات والنفي: لو جاءني زيد لم أعتبه، فتدل على نفي المجيء وحصول العتب.
ومثال النفي والإثبات: لو لم يأتني عتبته، فتدل على ثبوت المجيء ونفي العتب.
إذا تقررت هذه القاعدة فقد أشكل عليها عند كثير من الفضلاء الأثر المشهور: نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه؛ لأن لو: دخلت على نفيين، فيجب حينئذٍ أن يكونا ثبوتين، وذلك يقتضي أنه خاف وعصى وذلك ذم، والكلام سيق للمدح وإبعاد طوره عن المعصية وتكلموا عليه نحو آيات ها أنا أذكرها وأبين ما عندي إن شاء الله تعالى.
قال ابن عصفور: لو ها هنا بمعنى «إن» وإن إذا دخلت على نفيين لا يكونان ثبوتين فلا يلزم المحذور المتقدم.
وقال الخسرو شاهي: أصل لو: إنما هو للربط فقط، وانقلاب النفي للثبوت والثبوت للنفي إنما جاء من العرف والحديث جاء بقاعدة اللغة دون العرف.
وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام رحمة الله عليه وعليهم: إن المسبب الواحد إذا كان له سبب واحد، لزم انتفاؤه عند انتفاء سببه وإذا كان له سببان لا يلزم من انتفاء أحد سببيه انتفاؤه لأنه يثبت مع السبب الآخر.
وغالب الناس طاعتهم لله للخوف فإذا لم يخافوا عصوا ولم يطيعوا، فأخبر أن صهيبًا اجتمع في حقه سببان: الخوف والإجلال لله تعالى: فإذا انتفى الخوف لم تصدر منه المعصية لأجل الإجلال، فلو لم يخف الله لم يعصه، وهذا غاية المدحة، كما تقول لو لم يمرض فلان لمات أي بالهرم، فإنه سبب آخر للموت وحيث يلزم من النفي الثبوت إذا كان للفعل سبب واحد وكلام النحاة محمول عليه.
قلت: وأضعف هذه الأجوبة قول ابن عصفور؛ لأن الكلام سيق لمدحه بما هو عليه من الحال الماضية والحاضرة، وأما ما يستقبل من الزمان فلم يمدح بها فلم يعلم منه حقيقة والشرط مختص بالمستقبل.
ثم يليه في الضعف قول الخسرو شاهي وهو تنزيله للكلام الفصيح على وضع مهجور فمثل هذا الأثر قد ورد في الكتاب والسنة كثيرًا كما ستراه إن شاء الله تعالى.
وأجودها قول الشيخ عز الدين بن عبد السلام لكنه علل بالقياس من جهة الأمر المدلول عليه، وهو أيضًا غير عام لقوله تعالى: {ولو أن ما في الأرض من شجرةٍ أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحرٍ ما نفدت كلمات الله}، فإن نفاد كلمات الله سبحانه وعدم نفادها غير معلل بالأسباب.
وقال أبو العباس القرافي: لو تستعمل أيضًا لقطع الربط فتكون جوابًا لسؤال محقق أو متوهم وقع فيه ربط، فتقطعه أنت لاعتقادك بطلان ذلك الربط، كما لو قال القائل: لو لم يكن زيد عالمًا لم يكرم.
فتقول أنت: لو لم يكن زيد عالمًا لأكرم، أي لشجاعته، فتقطع ذلك الربط وليس مقصودك أن تربط بين عدم العلم والإكرام، لأن ذلك ليس بمناسب ولا من أغراض العقلاء ولا يتجه كلام إلا على عدم الربط، كذلك الحديث لما كان الغالب على الناس أن يرتبط عصيانهم بعدم خوفهم، وأن الغالب على الأوهام أن الشجرة كلها إذا صارت أقلامًا والبحر المالح مع غيره يكتب به، يقول الوهم: ما يكتب بهذا شيء إلا نفد، فقطع الله سبحانه هذا الربط وقال: ما نفدت كلمات الله.
قلت: وأجود من هذا أن يقال: إنما تدل لو مع النفيين على الثبوتين إذا كان ذلك من باب مفهوم المخالفة وذلك عند التقابل لأن ما نفي ثبت نقيضه وأما موافقة فلا يثبت وإنما يوافقه في النفي، وكذا يقول في عكسه، والأثر مفهومه موافق من باب الأولى، لأنه إذا لم يعص الله تعالى مع عدم الخوف فمع الخوف أولى، وهذا المفهوم الموافق يدل على أن ثم سببًا آخر يمنع من المعصية فحمل على ما يليق بالمناسبة بينه وبين ترك المعصية وهو الحياء والإجلال والمحبة، فالإمام ابن عبد السلام أجاب بمدلول المفهوم، والإجابة بالمفهوم أولى من الإجابة بمدلوله، وقد ورد مثل هذا الأثر كثيرًا في القرآن والسنة، فمن ذلك قول الله تعالى: {ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيءٍ قُبلًا ما كانوا ليؤمنوا}، وقوله تعالى: {ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحرٍ ما نفدت كلمات الله}، وقوله تعالى: {قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذًا لأمسكتم خشية الإنفاق}، وقوله تعالى: {ولو أسمعهم لتولوا وهو معرضون} فإن التولي عند عدم السماع أولى، وقوله صلى الله عليه وسلم في بنت أم سلمة: لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي، إنها ابنة أخي من الرضاعة، وقول أبي بكر الصديق رضي الله عنه لما طول في صلاة الصبح وقيل له: كادت الشمس تطلع: «لو طلعت ما وجدتنا غافلين» وفي هذا الأثر دليل على أن الإشكال الذي أورده لا يختص بالنفيين، بل يقع مثله في الإثبات والنفي.
ولك أن تجيب عن الأثر من جهة المعنى والقياس بما أجاب به ابن هشام وهو: أنه إذا فقدت المناسبة بين الخوف والمعصية وأنه لا يليق أن تكون سببًا للعصيان، ولو: إنما جاءت للشرط لربط المسببات بأسبابها وعلمنا انتفاء العلية بذلك، لذلك علمنا أن عدم المعصية معلل بأمر آخر وهو الحياء والمهابة والإجلال وهذا راجع إلى جواب ابن عبد السلام لكن هذا أحسن في صيغة القياس.
والجواب الذي ذكرته أحسن وأليق لكونه جوابًا بدال لا بالمدلول عليه والله أعلم.
وترد على خمسة أوجه:
أحدها: الامتناعية، وهي ما تقدم.
الثاني: الشرطية، وهي أن تكون حرف شرط للتعليق بالمستقبل كأختها «إن» ذكره الفراء إلا أنها لا تجزم كقول الشاعر:
لا يُلفك الراجيك إلا مظهرًا = خلق الكرام ولو تكون عديمًا
وكقول الآخر:
ولو أن ليلى الأخيلية سلمت = علي ودوني جندلٌ وصفائح
لسلمت تسليم البشاشة أوزقا = إليها صدى من جانب القبر صائح
ومنه قوله تعالى: {وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين}، وقوله تعالى: {ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون}.
وأنكر ابن الحاجب وبدر الدين بن مالك كونها لتعليق المستقبل ويقدر أنها امتناعية فإذا وليها المستقبل أولاه بالماضي أو بالحال، فيقولون في البيت: المقصود فرض هذه الأمور واقعة والحكم عليها مع العلم بعدم وقوعها.
ورد ابن هشام قولهما وأطال في الرد، وحاصله: أن تقديرهم غير مستمر كما في قول الشاعر:
قومٌ إذا حاربوا شدوا مآزرهم = دون النساء ولو باتت بأطهار
لأن المقصود تحقيق ثبوت الطهر لا امتناعه، ثم خلاصة الأمر: أن الشرط متى كان مستقبلًا محتملًا، وليس المراد فرضه الآن أو فيما مضى فهي بمعنى «إن» ومتى كان ماضيًا أو حالًا أو مستقبلًا ولكن قصد فرضه الآن أو فيما مضى فهي الامتناعية.
الثالث: المصدرية: فتكون حرفًا مصدريًا بمنزلة «أن» إلا أنها لا تنصب، قاله الفراء، وأبو علي، واختاره ابن مالك.
وهذه إذا وليها الماضي بقي على مضيه، أو المضارع تخلص للاستقبال وأكثر وقوعها بعد: ود، ويود نحو: {ودوا لو تدهن فيدهنون}.
وقوله تعالى: {يود أحدهم لو يعمر ألف سنة}، وقد تقع بدونهما، ومنه قول بنت النضر بن الحارث:
ما كان ضرك لو مننت وربما = من الفتى وهو المغيظ المحنق
وقول الأعشى:
وربما فات قومًا جل أمرهم = مع التأني وكان الحزم لو عجلوا
وأكثرهم منعها وجعلها شرطية وقالوا: مفعول «يود» وجواب «لو» محذوفان والتقدير: يود أحدهم التعمير لو يعر ألف سنة لسره ذلك.
ويشهد للمثبتين قراءة بعضهم: {ودوا لو تدهن فيدهنوا} بحذف النون عطفًا على تدهن الذي معناه: أن تدهن.
الرابع: يكون معناها التمني، نحو: لو تأتيني فتحدثني بالرفع والنصب، قال الله تعالى: {ودوا لو تدهن فيدهنون} ففي بعض المصاحف {فيدهنوا} قيل: ومنه قوله تعالى: {فلو أن لنا كرة فنكون}، أي: فليت لنا كرة، ولهذا نصب «فنكون» في جوابها كما نصب في جواب ليت.
واختلف في حقيقتها فقيل: هي لو الشرطية أشربت معنى التمني، وقال ابن مالك: هي المصدرية، فهمه عنه ابن هشام.
وقال قوم: هي قسم برأسها لا تحتاج إلى جواب كجواب الشرط، ولكن قد يؤتى لها بجواب منصوب كجواب ليت.
الخامس: التقليل، ذكره ابن هشام اللخمي وغيره كقوله صلى الله عليه وسلم: «التمس ولو خاتمًا من حديد»، وقيل: ومنه قوله تعالى: {ولو على أنفسكم}.
وأما لولا فتأتي مفردة ومركبة.
فأما المفردة فلها مواضع:
أحدها: تكون خبرًا بمعنى امتناع الشيء أو وقوعه لوجود غيره، كقولك: لولا زيد لأكرمتك، ولولا زيد ما أكرمتك.
وهذه لا يليها إلا الاسم أو ما في تأويله، وأكثر ما يكون ظاهرًا كقوله صلى الله عليه وسلم: «والله لولا الله ما اهتدينا» أو مضمرًا مرفوعًا كقوله تعالى: {لولا أنتم لكنا مؤمنين}، وقد يليها المضمر المجرور قليلًا: لولاك ما صمنا ولا صلينا، وقال يزيد بن الحكم الثقفي:
وكم موطنٍ لولاي طحت كما هوى = بأجرامه من قلة النيق منهوي
ثانيها: تكون للتحضيض، كقول الله تعالى: {فلولا نفر من كل فرقةٍ منهم طائفةٌ ليتفقهوا في الدين}.
ثالثها: تكون للعرض كقوله تعالى: {لولا أخرتني إلى أجلٍ قريبٍ}، وهذان لا يليهما إلا الفعل المضارع.
والفرق بين العرض والتحضيض أن التحضيض طلب بحث وإزعاج، والعرض طلب بلين وتأدب، فالتفقه واجب والسؤال مقرون بالأدب.
رابعها: تكون للتوبيخ والتنديم، كقوله تعالى: {فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانًا آلهة}، ويختص هذا بالفعل الماضي، وإذا وليه اسم قدرت الفعل قبله، كقول الفرزدق:
تعدون عقر النيب أكبر مجدكم = بني ضوطرى لولا الكمي المقنعا
خامسها: ذكره أبو الحسن الهروي، أن تكون نفيًا بمعنى لم، وجعل منه قوله تعالى: {فلولا كانت قريةٌ آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس}، وقوله تعالى: {فلولا كان من القرون من قبلكم}، أي: فلم يكن.
قال ابن هشام: والظاهر أن المعنى على التوبيخ، أي: فهلا كانت قرية واحدة من القرى المهلكة تابت عن الكفر قبل مجيء العذاب فنفعها.
قال: وهو تفسير الأخفش والكسائي والفراء وعلي بن عيسى والنحاس ويؤيده قراءة أُبَيّ وعبد الله (فهلا)، قال: ويلزم من هذا المعنى النفي؛ لأن التوبيخ يقتضي عدم الوقوع.
قلت: وقد ذكر الوجهين: التوبيخ والنفي في الآيتين ابن فارس والله أعلم.
سادسها: الاستفهام، ذكره أبو الحسن الهروي وجعل منه قوله تعالى: {لولا أخرتني إلى أجلٍ قريبٍ}، قال ابن هشام: وأكثرهم لا يذكره والظاهر أنه للعرض.
قلت: لم يرد الهروي إلا العرض، وهذا اصطلاحه في العرض، فقد ذكر مثل هذه العبارة في «ألا» وسماه استفهامًا، فابن هشام لم يعرف اصطلاحه في عبارته، فأبو الحسن لم يرد إلا ما ذكره غيره.
ويظهر لي معنى آخر لم أر أحدًا ذكره وهو ظاهر وهو التعجيز.
كقول الله سبحانه: {فلولا إذا بلغت الحلقوم وأنتم حينئذٍ تنظرون ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون، فلولا إن كنتم غير مدينين ترجعونها}، وقوله تعالى: {لولا أنزل عليه ملك} والجماعة جعلوا هذا وأمثاله تحضيضًا ولا معنى للتحضيض والحث عند التعجيز بالأمر المطلوب، فهو سبحانه لم يرد إلا تعجيزهم لا حثهم عليه، والله أعلم.
وأما المركبة، فإنها تركبت من لو ولا كما تركبت لو ولم، ومثاله قول الشاعر:
ألا زعمت أسماء أن لا أحبها = فقلت بلى لولا ينازعني شُغلي
أي: لو لم ينازعني شغلي لزرتك، وقيل: بل هي امتناعية والفعل بعدها في تأويل المصدر على إضمار «أن» على حد قولهم، تسمع بالمعيدي خير من أن تراه، أي: لأن تسمع.
وأما لوما فهي بمنزلة لولا، تقول: لوما زيد لأكرمتك، وزعم المالقي أنها لم تأت إلا للتحضيض.
وعندي أنها تأتي للتعجيز كما قد تقدم آنفًا، ومنه قوله تعالى: {لوما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين} ). [مصابيح المغاني: 404-422]
قال ابن نور الدين محمد بن علي الموزعي (ت: 825هـ): ( (فصل)
لن: حرف مفرد برأسه عند سيبويه، وقال الفراء: أصل لن: لا، فأبدلت الألف نونًا في لن، ومثله لم أصلها: لا، وأبدلت الألف ميمًا في لم، وضعف بأن المعروف إنما هو إبدال النون ألفًا لا العكس نحو: {لنسفعًا} و{ليكونًا}
وقال الخليل، والكسائي: أصلها: لا أن، فحذفت الهمزة تخفيفًا والألف لالتقاء الساكنين.
وعمل هذا الحرف نصب الفعل المستقبل، وزعم أبو عبيدة: أن من العرب من يجزم بها، كقول الشاعر:
فلن يحل للعينين بعدك منظرُ
وكقوله:
لن يخب اليوم من رجائك من = حرك من دون بابك الحلقه
وكقول النابغة:
فلن أعرض أبيت اللعن بالصفد
ومعناه: نفي الاستقبال، فهي نفي لقولك: سيفعل.
ولا تقتضي تأبيد النفي خلافًا للزمخشري، فإنه ادعى ذلك في الأنموذج وهي دعوى لا دليل عليها، إلا ما يعتقده من نفي الرؤية ليقرر بذلك دليلًا في قوله تعالى لموسى عليه السلام: {لن تراني}، بل الدليل موجود دال على خلافه، فإنها لو كانت للتأبيد لم يقيد منفيها باليوم في قوله تعالى: {فلن أكلم اليوم إنسيًا}، ولم يكن لذكر التأبيد فائدة في قوله تعالى: {ولن يتمنوه أبدًا}، إلا التكرار والأصل عدمه، ولكان ذكر الغاية ممتنعًا وقد جاء ذكر الغاية معها في قوله تعالى: {لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى}.
وزعم في المفصل والكشاف أنها تفيد تأكيد النفي وبه قال ابن الخباز وما ادعاه من التأكيد حسن قريب، وربما أعطاه كلام سيبويه حيث قال: لا نفي لقولك: يفعل ولن نفي لقولك: سيفعل.
فكما أفادت السين التنفيس في الاستقبال، كذلك يفيد نقيضها تأكيدًا في النفي والله تعالى أعلم.
وتأتي بمعنى الدعاء كما أتت «لا» كذلك، وفاقًا لجماعة منهم ابن عصفور وابن هشام في كتابه المغني، وخلافًا لآخرين منهم ابن هشام في كتابه إيضاح المسالك:
ويشهد للمثبتين قول الشاعر:
لن تزالوا كذلكم ثم لا = زلت لكم خالدًا خلود الجبال.
(فصل)
لكنّ ولكن، أما الأولى وهي المشددة النون، وقد تحذف نونها في الضرورة، قال الشاعر النجاشي:
فلست بآتيه ولا أستطيعه = ولاك اسقني إن كان ماؤك ذا فضل
فحرف ينصب الاسم ويرفع الخبر.
واختلف في حقيقتها فقال البصريون: هي كلمة بسيطة غير مركبة، وقال الكوفيون بتركيبها ثم اختلفوا فقال الفراء: أصلها: لكن أن فطرحت الهمزة للتخفيف ونون لكن للساكنين، كقول النجاشي:
ولاك اسقني إن كان ماؤك ذا فضل
وقال بقية الكوفيين: هي مركبة من لا النافية والكاف الزائدة، لا كاف التشبيه وأن الخفيفة أو الثقيلة، وحذفت الهمزة تخفيفًا، قالوا: ومما يدل على أن النون في لكن بمنزلة «أن» خفيفة أو ثقيلة أنك إذا ثقلت النون نصبت بها وإذا خففت رفعت بها.
وأما معناها، ففيه ثلاثة أقوال:
الأول: أنها للتوكيد ويصحبها الاستدراك، وهو قول ابن عصفور.
الثاني: وهو المشهور أنها للاستدراك، وفسر بأن يثبت لما بعدها حكم مخالف لما قبلها كما إذا وقعت بين نقيضين كقولك: ما هذا ساكنًا لكنه متحرك أو بين ضدين، قولك: ما هذا أبيض لكنه أسود، فإن وقعت بين خلافين كقولك: ما زيد قائمًا لكنه شارب، فهل يصح معنى الاستدراك؟ فيه خلاف، ويشهد عندي لصحته قول زهير:
إن ابن ورقاء لا تخشى بوادره = لكن وقائعه في الحرب تنتظر
الثالث: أنها ترد تارة للاستدراك وتارة للتأكيد، قاله جماعة، وفسروا الاستدراك برفع ما توهم ثبوته نحو: ما زيد أسدًا لكنه كريم، لأن الشجاعة والكرم لا يكادان يفترقان، فنفي أحدهما مؤذن بنفي الآخر، ومثلوا التوكيد بنحو: لو جاءني زيد لأكرمته لكنه لم يجيء، فأكدت ما أفادته لو من الامتناع.
والذي أراه أنه ليس لها إلا معنى واحد وهو الاستدراك والتأكيد ولا ينفك أحدهما عن الآخر، فمنهم من غلب الاستدراك فجعله المعنى المقصود والتأكيد كالتبع، ومنهم من غلب التأكيد وجعل الاستدراك يدخل تبعًا، وليس أحد من الفريقين ينفي منها معنى الاستدراك والتأكيد، ألا ترى أن الاستدراك معنى لا يفارقها وإن كانت خفيفة فدل على أن مجيء التشديد لمزيد أمر آخر وهو التأكيد، وأما القول الثالث فهو اصطلاح في العبارة في إثبات المعنى ونفيه والله أعلم.
وأما لكن الساكنة النون فعلى وجهين:
أحدهما: المخففة من الثقيلة، ومعناها باقٍ ولكنها لا تعمل لزوال اختصاصها، وجوز الأخفش ويونس إعمالها.
الثاني: الخفيفة بأصل الوضع، ومعناها أيضًا: الاستدراك.
ولا تخلوا إمَّا أن يليها مفرد أو جملة.
فإن وليها مفرد فهي حرف عطف، ومن شرطها تقدم النفي أو النهي عليها نحو: ما قام زيد لكن عمرو، ولا يقم زيد لكن عمرو، فأما إذا جاءت بعد إثبات فتكون حرف ابتداء فلا يجوز: قام زيد لكن عمرو، حتى تقول: لم يقم.
وإن وليها كلام تام، فهي حرف ابتداء يصحبها الواو كقوله تعالى: {وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين}، وقد تفارقها الواو كقول زهير:
إن ابن ورقاء لا تخشى بوادره = لكن وقائعه في الحرب تنتظر
بخلاف العاطفة فإنها تفارقها الواو، قاله الفارسي وأكثر النحويين، والله أعلم.
فصل لَدُن، ولَدَي، ولَد
فأما لدن ففيها لغات، ومنهم من يقول: لَدَنْ، ومنهم من يقول: لَدُنِ، ومنهم من يقول: لَدْنِ، ومنهم يقول: لَدَنْ.
وهو ظرف غير متمكن بمعنى عند، ولهذا يجوز تعاقبهما، وقد اجتمعا في قوله تعالى: {آتيناه رحمةً من عندنا وعلمناه من لدنا علمًا}، وفيه معنى ابتداء الغاية ولهذا خص بـ «من» من بين سائر الحروف، وهي تخفض ما بعدها، قال الله تعالى: {من لَدُنْ حكيمٍ خبيرٍ}، ونصب بها العرب غدوة خاصة، قال الشاعر:
لَدُنْ غدوةً حتى ألاذ بخفها = بقيةَ منقوص من الظل قالص
وقال ذو الرمة:
لَدُن غدوةً حتى إذا امتدت الضحى = وحث القطين الشحشحان المكلف
وأما لدى، فهو لغة في لَدُنْ، وهي بمعنى عند، قال الله تعالى: {وألفيا سيدها لَدَا الباب}، لكنها لا تختص بابتداء الغاية بخلاف لَدُنْ فإنها مختصة بابتداء الغاية.
وعند أمكن من لدى من وجهين:
أحدهما: أنها قد تكون ظرفًا للأعيان والمعاني، تقول: هذا القول عندي صواب، وعند فلان حكم، ويمتنع ذلك في لدى، ذكر هذا بعضهم.
والثاني: أنك تقول: عندي كذا، وإن كان غائبًا، ولا تقول: لَدَي مال إلا إذا كان حاضرًا، قاله الحريري وأبو هلال العسكري والزمخشري، وزعم بعضهم: أنه لا فرق بين لدي وعند، قال ابن هشام: وقول غير هذا أولى.
وأما: لَدُ، فلغة أيضًا، قال الراجز غيلان بن حريث:
يستوعب البوعين من جريره = من لَدُ لحييه إلى منخوره
بالخاء المعجمة، وعند سيبويه غير معجمة). [مصابيح المغاني: 422-433]
قال ابن نور الدين محمد بن علي الموزعي (ت: 825هـ): (فصل لا، لات
اعلم أن منهم من يبلغ بأقسام «لا» إلى عشرة أوجه وهي ترجع إلى خمسة أوجه:
أحدها: العاطفة، كقولك: قام القوم لا أبوك.
الثانية: النافية، وتستعمل مفردة ومكررة.
فأما المفرد فلا تنفي من الأسماء إلا النكرة، وجوز بعضهم نفي المعرفة بها إذا أعملت إعمال ليس واستشهد بقول النابغة:
وحلَّت سواد القلب لا أنا باغيا = سواها ولا عن حبها متراخيا
وأما الأفعال فلا تنفي منها إلا المستقبل لفظًا أو معنى، كقولك: لا فض الله فاك، ولا شُلَّت يداك؛ لأنه دعاء والدعاء مستقبل في المعنى بخلاف ما النافية فإنها تنفي المستقبل والحال.
ولا تعمل «لا» في الفعل المستقبل شيئًا، قال الله تعالى: {لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله}، برفع «يستأذنك»، فإذا قال القائل: هو يفعل، يعني في المستقبل، قلت: لا يفعل، وإذا قال: هو يفعل في الحال، قلت: ما يفعل، ولا تقل: لا يفعل.
قال ابن هشام: وأما قول أبي خراش الهذلي.
إن تغفر اللهم تغفر جمًا = وأي عبدٍ لك لا ألما
فشاذ، وقال بعضهم: يجوز أن ينفي بها الماضي وتكون بمعنى لم، كقوله تعالى: {فلا صدَّق ولا صلى}، أي: لم يصدق ولم يصل، واستشهد ببيت الهذلي ويقول الشاعر:
وأي خميسٍ لا أفانا نهابه = وأسيافنا يقطرن من كبشه دما
ويقول الشاعر:
وأي أمرٍ سيءٍ لا فعله
ومنه قوله تعالى: {فلا اقتحم العقبة} ولكن الجمهور أجابوا عن الآية بأجوبة، فقال بعضهم: معناه الدعاء، دعا عليه ألا يفعل خيرًا، وقال آخر: هو تحضيض، والأصل: فألا، ثم حذفت الهمزة، وقيل: إنه من قسم لا المكررة الآتية بعد إن شاء الله تعالى، فلا مكررة في المعنى، والمعنى: فلا فك رقبة ولا أطعم مسكينًا؛ لأن ذلك تفسير للعقبة، قاله الزمخشري، وقال الزجاج: إنما جاز ترك تكرارها لأن {ثم كان من الذين آمنوا} عطف عليه وادخل في النفي، فكأنه قيل: فلا اقتحم العقبة ولا آمن، وضعف بأنه لو صح جاز: لا أكل زيد وشرب عمرو.
ويندرج في النافية من أنواعها: العاملة عمل إن، التي أريد بها نفي الجنس على سبيل التنصيص، كقولك: لا صاحب جود ممقوت، ولا رجل في الدار، بالنصب في الأول والفتح في الثاني.
والعاملة عمل ليس، النافية للجنس والنافية للوحدة، كقول الشاعر:
من صدَّ عن نيرانها = فأنا ابن قيس لا براحُ
فإن قلت: فما الفرق بين التي لفني الجنس على سبيل التنصيص وبين التي لنفي الوحدة؟
قلنا: الفرق يظهر في تأكيد النفي فتقول في التي للتنصيص: لا رجل في الدار بل امرأة، ولا يجوز أن تقول: بل رجلان، لأنك نفيت جنس الرجال على سبيل التنصيص فكأنك شملت جميع أفرادهم بالذكر، وتقول في توكيد التي لنفي الوحدة لا رجلٌ في الدار بالرفع: بل رجلان، لأنك لم تنف إلا الرجل وحده دون غيره وهذه هي التي تعمل عمل ليس، لكنها لا تختص بهذا المعنى وإن اختص بها بل تكون لنفي الجنس أيضًا فتقول في تأكيدها إن أريد بها نفي الجنس مطلقًا: لا رجل في الدار بل رجلان، كأنك أردت ظاهر العموم ثم خصصته بعد ذلك.
وغلط بعض من الناس فزعموا أن العاملة عمل ليس لا تكون إلا لنفي الوحدة لا غير، وزعموا أنه يجب حذف خبرها ويرده قول الشاعر:
تعز فلا شيء على الأرض باقيًا = ولا وزر مما قضى الله واقيا
ويندرج أيضًا في النافية: العاطفة، كقولك: جاء زيد لا عمرو، والجوابية، كقولك: لا، في جواب من قال: أجاءك زيد، والأصل: لم يجيء، والتي بمعنى: غير، كقولك: خرجت بلا زاد وغضبت من لا شيء.
وأما المكررة: فتنفي النكرة والمعرفة والفعل الماضي.
فإن نفيت بها النكرة المتصلة بها كـ «لا حول ولا قوة إلا بالله» فلك في استعمالها أربعة أوجه:
إعمالها إعمال إنّ، وإعمالها إعمال ليس وإعمالها في الأول إعمال إنّ وفي الثاني إعمال ليس، وبالعكس.
ولا يجب تكرارها إلا إذا انفصلت عن النكرة كقوله تعالى: {لا فها غولٌ ولا هم عنها ينزفون}، فإنه يجب تكرارها خلافًا للمبرد، وابن كيسان، أو كانت بمعنى «غير» وفيها معنى الوصف فإنه يجب تكرارها، كقوله تعالى: {إنها بقرة لا فارض ولا بكر} وقوله تعالى: {وظل من يحمومٍ لا بارد ولا كريم}، وتقول: زيد لا فارس ولا شجاع، تريد غير فارس وغير شجاع.
ولا يجوز ترك التكرار إلا في الشعر كقول الشاعر:
وأنت امرؤ منا خُلقت لغيرنا = حياتك لا نفع وموتك فاجع
وإن نفيت بها المعرفة وجب إهمالها وتكرارها أيضًا، خلافًا للمبرد وابن كيسان أيضًا، كقوله تعالى: {لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار}.
وإن نفيت بها الفعل الماضي وجب تكرارها أيضًا، كقوله تعالى: {فلا صدَّق ولا صلى}، وكقوله صلى الله عليه وسلم: «فإن المنبت لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى»، وترك تكرارها شاذ كقول الشاعر:
لا هم إن الحارث بن جبله = زنا على أبيه ثم قتله
وكان في جاراته لا عهد له = وأي أمرٍ سيءٍ لا فعله
وكقول الهذلي:
إن تغفر اللهم تغفر جمًا = وأي عبدٍ لك لا ألما
ولا يخرج عليه قوله تعالى: {فلا اقتحم العقبة}، وفيه كلام قد سبق.
الثالثة: المنصصة على النفي، وبعضهم سماها توكيد النفي، كقولك: ما قام زيد ولا عمرو، فإنك إذا قلت: ما قام زيد وعمرو، احتمل نفي القيام عنها مطلقًا واحتمل نفي القيام عنها في حال الاجتماع دون الافتراق، فإذا أتيت بـ «لا» فقد نصيت على النفي مطلقًا؛ لأن من شروط العاطفة تقدم الإيجاب وعدم الاقتران بحرف عطف آخر فالعاطف هنا هو الواو.
الرابعة: الناهية، كقولك: لا تقم، وليس أصلها لا النافية والجزم بعدها بلام أمر مقدرة، خلافًا للسهيلي، ولا لام الأمر زيدت عليها ألف خلافًا لبعضهم.
وتختص بالدخول على الفعل المستقبل سواء كان للغائب أو للحاضر، استعملت في موضوعها الحقيقي وهو الطلب المنفي أم استعملت في غير موضوعها كالدعاء والتهديد وما أشبه ذلك من أنواع النهي.
واختلفوا في «لا» من قوله تعالى: {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة}، فقيل: إنها ناهية والأصل: لا تتعرضوا للفتنة فتصيبكم، ثم عدل عن النهي عن التعرض إلى المنهي عن الإصابة؛ لأن الإصابة مسببة عن التعرض، وأقام المسبب مقام السبب، كقوله تعالى: {فلا ينازعنك في الأمر}، وكقوله تعالى: {وليجدوا فيكم غلظةً}، وعلى هذا فالإصابة خاصة بالمتعرضين، ودخول النون دليل على معنى الطلب، ولكن وقوع الطلب صفة للنكرة ممتنع فوجب إضمار القول، أي: واتقوا فتنة مقولًا فيها كما قيل في قول الشاعر:
جاؤا بمذقٍ هل رأيت الذئب قط
وقيل: إنها نافية، واختلف القائلون بذلك على قولين:
أحدهما: أن الجملة صفة لـ «فتنة» ولا حاجة إلى إضمار قول؛ لأن الجملة خبرية، وعلى هذا فيكون دخول النون شاذًا، والذي جوزه تشبيه لا النافية بلا الناهية.
قال ابن هشام: وعلى هذا تكون الإصابة عامة للظالم وغيره، لا خاصة بالظالمين، كما ذكره الزمخشري، لأنها قد وصفت بأنها لا تصيب الظالمين خاصة، فكيف تكون مع هذا خاصة.
القول الثاني: أن الفعل جواب الأمر، وعلى هذا فيكون التوكيد أيضًا شاذًا خارجًا عن القياس، قال ابن هشام: وممن ذكر هذا الوجه الزمخشري وهو فاسد؛ لأن المعنى حينئذٍ: فإنكم إن تتقوها لا تصيب الظالم خاصة.
وقوله: إن التقدير: إن أصابتكم لا تصيب الظالم خاصة، مردود؛ لأن الشرط إنما يقدر من جنس الأمر لا من جنس الجواب، ألا ترى أنك تقدر في: ائتني أكرمك، إن تأتني أكرمك.
الخامسة: الزائدة للتوكيد، كقوله تعالى: {ما منعك ألا تسجد}، أي: أن تسجد؛ بدليل قوله تعالى في الآية الأخرى: {ما منعك أن تسجد}، وكقوله تعالى: {ولا تستوي الحسنة ولا السيئة}، قال الشاعر:
ويلحينني في اللهو أن لا أحبه = وللهو داعٍ دائبٌ غيرُ غافل
وقال أبو النجم:
وما ألوم البيض ألا تسخرا = وقد رأين الشمط القفندرا
وقال زهير:
ورث المجد لا يغتال همته = عن الرياسة لا عجزٌ ولا سأم
أي: لا يغتالها عجز، وقال العجاج:
في بئر لا حورٍ سرى وما شعر
أي في بئر حور وهلكه، وقال آخر:
بيوم جدودٍ لا فضحتم أباكم = وسالمتم والخيل تدمى نحورها
واختلف في رواية قول الشاعر:
أبى جوده لا البخل واستعجلت به = نعم من فتى لا يمنع الجود قاتله
روي بنصب البخل على أن لا زائدة، قال أبو علي في الحجة: قال أبو الحسن: فسرته العرب: أبى جوده البخل وجعلوا لا حشوا، وذكر يونس أن أبا عمرو ابن العلاء كان يجر البخل ويجعل «لا» مضافة إليه؛ لأن «لا» قد تكون للجود والبخل، ألا ترى أنه لو قيل: امنع الحق كان «لا» جودًا منه، ومنهم من يتأول نصبه على البدل من «لا».
واختلفوا في «لا» من قوله سبحانه: {لا أقسم بيوم القيامة}، وما أشبهه، فقال البصريون والكسائي وعامة المفسرين: إن معناه: أقسم ولا زائدة وأنكر الفراء هذا وقال: لا تكون زائدة في أول الكلام، وقال: إن «لا» هنا: رد لكلام من المشركين متقدم، كأنهم أنكروا البعث فقيل لهم: لا، ليس الأمر كما تقولون، ثم أقسم، وجوز ذلك كون القرآن كله كالسورة الواحدة ولهذا يذكر الشيء في سورة، وجوابه في أخرى، كقوله تعالى: {وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون}، جوابه: {ما أنت بنعمة ربك بمجنون}.
قلت: ولهم أن يقلبوا دليلهم ويقولوا: إنها إنما زيدت في أول الكلام لأن القرآن من فاتحته إلى خاتمته كالسورة الواحدة، فكأنها زيدت في وسط الكلام.
وقال غير هؤلاء: هي نافية، ومنفيها أقسم، على أن يكون معناه الإخبار لا الإنشاء، واختاره الزمخشري قال: والمعنى في ذلك: أنه لا يقسم بالشيء إلا إعظامًا له فكان إقسامه به كلا إقسام؛ لأنه يستحق إعظامًا فوق ذلك؛ بدليل قوله تعالى: {فلا أقسم بمواقع النجوم وإنه لقسمٌ لو تعلمون عظيم}.
(مسألة)
قولهم: خرجت بلا زادٍ، وغضبت من لا شيءٍ، وأخذته بلا ذنبٍ.
فالكوفيون يقولون: لا، اسم كغير حقيقة ومعنى، وهي مجرورة بالباء، وما بعدها مجرور بها، وبعضهم يراها حرفًا ويسميها زائدة، كما سمون كان في نحو: زيد كان فاضل، زائدة، وإن كانت جاءت لمعنى المضي والانقطاع، فعلم بهذا أنهم يريدون بالزائد، ما يقع بين شيئين متطالبين وإن لم يصح أصل المعنى بإسقاطه، أو صح ولكن فات بإسقاطه معنى آخر، وإن الزيادة على ضربين: زيادة معنوية كما تقدم، وزيادة لفظية كهذه؛ لأنه تخطى العامل من لا إلى ما بعدها فعمل فيه الجر والله أعلم.
وأما «لات» فاختلف في حقيقتها على ثلاثة مذاهب، فقال الجمهور: هي: لا، زيدت عليها التاء لتأنيث الكلمة كما زيدت في ثُمّت ورُبَّتَ، ويشهد لهم الوقف عليها بالتاء والهاء، ورسمها مفصولة عن الحين في المصاحف واستعمالها كذلك، قال مازن بن مالك:
حنت لات هنت = وأنى لك مقروعٌ
وقال آخر:
لآت هنا ذكرى جبيرةً أو من = جاء منها بطائف الأهوال
وقال آخر:
لهفي عليك للهفةٍ من خائفٍ = يبقى جوارك حين لات مجير
وزعم أبو عبيد: إن التاء إنما زيدت في حين، واستدل أنه رآها كذلك في الإمام، وهو مصحف عثمان ويشهد له قول أبي وجزة:
العاطفون تحين ما من عاطفٍ = والمطعمون زمان ما من مطعم
وقيل: هي فعل ماض بمعنى : نقص من قوله: {لا يلتكم من أعمالكم شيئًا}، فإنه يقال: لات يليت، كما يقال: ألت يألت، وقد قرئ بهما، ثم استعملت للنفي، قاله أبو ذر الخشني.
وقال قوم: إن أصلها ليس بكسر الياء فقلبت ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها وأبدلت السين تاء، وليس لها إلا معنى واحد وهو النفي.
وذكر بعضهم أنها تأتي بمعنى الحين وأنشد قول الأفوه:
ترك الناس لنا أكتافهم = وتولوا لات لم يغن الفرار
واختلفوا أيضًا في حكمها على أربعة مذاهب:
أحدها: قاله الأخفش، والجمهور أنها تعمل عمل ليس، قال الأخفش: شبهوها بليس وأضمروا فيها الفاعل.
الثاني: عمل إن فتنصب الاسم وترفع الخبر، ويروى هذا عن الأخفش أيضًا وقد قرئ برفع «حين» ونصبه.
الثالث: أنها لا تعمل شيئًا، فإن وليها مرفوع فمبتدأ حذف خبره، أو منصوب فمعمول لفعل محذوف، وهذا يروى أيضًا عن الأخفش، والتقدير عنده في الآية على قراءة النصب: لا أرى حين مناص، وعلى قراءة الرفع: ولا حين مناص كائن لهم.
الرابع: تكون حرفًا جارًا كـ «مذ ومنذ» وقد قرئ {ولات حين مناص} بخفض حين، قاله الفراء وأنشد:
طلبوا صلحنا ولات أوان
وخالفه الجمهور، وأجيب أن ذلك على إضمار من الاستغراقية كقول الشاعر:
ألا رجلٍ جزاه الله خيرًا
على رواية جر الرجل). [مصابيح المغاني: 433-450]