12 Oct 2022
الدرس التاسع
قال ابن نور الدين محمد بن علي الموزعي (ت: 825هـ): (باب ما أوله الميم
(فصل)
مُنْذُ، مبني على الضم، ومُذْ مبني على السكون، ومنذ أصل لـ «مذ» بدليل رجوعهم إلى ضم ذال «مذ» عند ملاقاة الساكنين نحو: مذُ اليوم، ولولا أن الأصل الضم لكسروها كغيرها من الأدوات، ولأن بعضهم يضمها مطلقًا وإن لم تلق ساكنًا فتقول: مُذ زمن طويل، وقال ابن ملكون: هما أصلان، وقال المالقي: إذا كانت «مذ» اسمًا فأصلها منذ وذلك إذا رفعت بعدها الماضي من الزمان كقولك: ما رأيته مذ يومان، والتقدير: بيني وبين رؤيته يومان، فتكون خبرًا للمبتدأ وإلا فهي أصل.
ثم اختلفوا في منذ فقال قوم: هي بسيطة، قال سيبويه: منذ للزمان نظيرة «من» للمكان.
وعن أكثر الكوفيين: أنها مركبة من كلمتين: من وذو الطائية، وقال قوم: أصلها من إذ، جعلتا كلمة واحدة.
ولهما حالتان:
إحداهما: أن يليهما اسم مجرور فقيل: هما اسمان مضافان، والصحيح أنهما حرفا جر بمعنى من، إذا كان الزمان ماضيًا فيكون معناهما التاريخ وبمعنى في، إن كان حاضرًا ومعناهما الظرف، وبمعنى من وإلى جميعًا، إن كان معدودًا فيكون معناهما التوقيت.
فالتاريخ الذي بمعنى من، كقولك: ما رأيته مذ يوم الخميس، أي: أول انقطاع الرؤية يوم الخميس، والظرف، كقولك: ما رأيته مذ عامنا، أي: في عامنا، والتوقيت الذي بمعنى من وإلى، كقولك: ما رأيته مذ سنة، ولا يقع الاسم إلا نكرة، لا تقول: مذ سنة كذا وإنما تقول: مذ سنة.
هذا معناهما، وأما حكمهما فأكثر العرب على وجوب جرهما للحاضر وعلى ترجيح جر منذ للماضي على رفعه، كقول الشاعر:
وربعٍ عفت آثاره منذ أزمان
وعلى ترجيح رفع مذ للماضي على جره، ومن المرجوح قول الشاعر:
أقوين مذ حجج ومذ دهر
الحالة الثانية: أن يليهما اسم مرفوع، نحو: مذ يوم الخميس، ومنذ يومان فإن كان الزمان حاضرًا أو معدودً فمعناهما التوقيت إلى مدة شهرين، وإن كان ماضيًا فمعناهما التاريخ أي: ما رأيته من يوم الخميس.
(فصل)
مع: كلمة تدل على المصاحبة، وهي اسم بدليل التنوين في قولك: معًا، ودخول الجار عليها حكى سيبويه: ذهبت من معه، وقرأ بعضهم: {هذا ذكرٌ من معي} بكسر الميم، وقال محمد بن السري: والذي يدل على أن مع اسم: حركة آخره مع تحرك ما قبله.
واللغة المشهورة فيها فتح العين ويجوز تسكينها وهي لغة تميم وربيعة، فتقول: معَكم ومعْكم، ومعَنا ومعْنا، وقد تستعمل المسكنة حرفًا كقول الشاعر:
فريشي منكم وهواي معكم = وإن كانت زيارتكم لماما
وقال في المحكم: مع: اسم معناه الصحبة، وكذلك مع إسكان العين غير أن المحركة تكون اسمًا وحرفًا، والساكنة لا تكون إلا حرفًا. انتهى.
فإن استعملتها مفردة كانت بمعنى جميعًا عند ابن مالك، قال ابن هشام وهو خلاف قول ثعلب، إذا قلت: جاءا جميعًا، احتمل أن فعلهما في وقت أو وقتين، وإذا قلت: جاءا معًا فالوقت واحد. انتهى.
وإذا اتصلت بالألف واللام، أو ألف الوصل، فبعض تميم وربيعة يفتح العين وبعضهم يسكنها فيقول: جاء مع القوم، وجاء مع ابنك، وبعضهم يقول: مع القوم، ومع ابنك، فمن فتح فبناه على قولك: كنا معًا ونحن معًا، فلما جعلها حرفًا واحدًا وأخرجها عن الاسم حذف الألف وترك العين على فتحها وهذه لغة عامة العرب، وأما من سكن ثم كسر جعلها كسائر الأدوات مثل: هل ويل، كقولك: كم القوم، وبل القوم.
ولهما ثلاثة معان:
أحدها: المصاحبة، وهذا هو المعنى الذي وضعت له كقولك: جئت مع زيد ومررت بقوم معٍ، قال الشاعر:
مكر مفر مقبلٍ مدبرٍ معًا = كجلمود صخرٍ حطه السيل من عل
الثاني: تكون مرادفة لـ «عند» وخرج عليه قراءة بعضهم: {هذا ذكر من معي}، وحكاية سيبويه: ذهبت من معه.
الثالث: تكون مرادفة لـ «بعد» ذكره أبو الحسن الهروي وخرج عليه قوله تعالى: {إن مع العسر يسرا}، وفيه نظر والله أعلم.
(فصل)
مَهْيَمْ: كلمة يستفهم بها – معناها -: ما حالك وما شأنك؟). [مصابيح المغاني: 451-456]
قال ابن نور الدين محمد بن علي الموزعي (ت: 825هـ): (فصل ما، وماذا
أما ما فإنها تأتي اسمًا وتأتي حرفًا، وسترى ذلك مفصلًا إن شاء الله تعالى ولها تسعة معان، وعشرة استعمالات:
الأول: تكون معرفة ناقصة بمعنى الذي، ولا تقع إلا على ما لا يعلم، وأما قوله تعالى: {وما خلق الذكر والأنثى}، وقوله تعالى: {والسماء وما بناها}، فمنهم من أولها بالمصدر، ومنهم من أوقعها على من يعلم، وزعم أنها لغة أهل مكة، وأنهم إذا سمعوا الرعد يقولون: سبحان ما سبحت له، وتلزمها الصلة والعائد ومعناه: الخبر، كقولك: ما أكلت الخبزُ وما شربت الماء، أي: الذي أكلته الخبز والذي شربته الماء، والعائد محذوف، ومنه قوله تعالى: {إنما صنعوا كيد ساحرٍ}، و{إن ما توعدون لآتٍ}، المعنى: إن الذي صنعوه والذي توعدونه، ومنه قوله تعالى: {اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة}، أي: كالذي هو لهم آلهة، ذكره الأخفش في كتاب المسائل.
وأنشد:
وجدنا الحُمر من شر المطايا = كما الحبطات شر بني تميم
قال: معناه كالذي هم الحبطات شربني تميم، هذا على رواية: رفع الحبطات.
الثاني: تكون مع الفعل بتأويل المصدر، كقولك: بلغني ما صنع زيد، أي: بلغني صنيع زيد، ومنه قوله تعالى: {حافظات للغيب بما حفظ الله}، أي: بحفظ الله، وقوله تعالى: {فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا وما كانوا بآياتنا يجحدون}، المعنى: كنسيانهم لقاء يومهم هذا، وكونهم بآياتنا يجحدون، ومنه قول الشاعر:
يا رُب ركب أناخوا بعدما نصبوا = من الكلال فما حلُّوا وما رحلوا
الماآت كلها بتأويل مصدر، ومنه عند الكسائي قوله تعالى: {قال يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي}، فقال الكسائي: بمغفرة ربي، وقال أهل التفسير أو بعضهم: بأي شيء غفر لي ربي؟ فيجعلون «ما» استفهامًا.
واحتج بأنها لو كانت استفهامًا لحذفت الألف لاتصالها بحرف الجر كما قال تعالى: {عم يتساءلون}، {فبم تبشرون}، {لم تؤذونني}، وما أشبه ذلك.
واحتج للمفسرين بأن إثبات الألف لغة، قال حسان:
على ما قام يشتمنا لئيم = كخنزير تمرغ في رماد
معناه: على أي شيء؟ وقال آخر:
إن قتلنا بقتلانا سراتكم = أهل اللواء ففيما يكثر القيل
ورد بأن ذلك لا يجوز إلا في الشعر، فلا يجوز تنزيل القرآن عليه، والمعنى الفارق بين المصدرية والموصولة، أن المصدرية لا تحتاج إلى عائد بخلاف الموصولة، فمتى افتقرت إلى العائد فهي موصولة وإلا فهي مصدرية.
الثالث: تكون استفهامًا عن الأجناس مطلقًا، كقولك: ما اسمك؟ وما عندك؟ ومعنى «ما» ها هنا أي شيء؟ ومنه قول الله سبحانه: {ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم}، وقوله تعالى: {وما تلك بيمينك يا موسى}، وقد يصحبه التفخيم بحسب اقتضاء المقام ذلك، كقوله عز وجل: {الحاقة ما الحاقة}، وقد يصحبه التحقير كقولك: ما هذا؟
الرابع: تكون شرطًا وجزاء، كقولك: ما تصنع أصنع، وتنقسم إلى زمانية، كقوله تعالى: {فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم}، وإلى غير زمانية ومنه قوله تعالى: {وما تفعلوا من خير يعلمه الله}، وقوله تعالى: {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها}.
الخامس: تكون نكرة ناقصة بمعنى شيء، ويلزمها النعت كقولك: رأيت ما معجبًا لك، قال الشاعر:
لما نافعٍ يسعى اللبيب فلا تكن = لشيء بعيدٍ نفعه الدهر ساعيًا
وقال آخر:
رُب ما تكره النفوس من الأمـــ = ـــر له فرجة كحل العقال
أي: رب شيء نافع، ورب شيء تكرهه النفوس، ومنه قوله تعالى: {نعما يعظكم به}، وقوله تعالى: {إن تبدوا ا لصدقات فنعما هي}، أي: نعم شيئًا يعظكم به، ونعم شيئًا هي، هذا تقدير الأكثرين، وقدرها سيبويه: معرفة تامة، أي: فنعم الشيء هي.
الاستعمال السادس: تكون نكرة تامة، ولها معنيان:
أحدهما: وهو المعنى الرابع، التعجب، كقولك: ما أحسن زيدًا، وما أكرم عمرًا، المعنى: شيء حسن زيدًا، ومنه قوله تعالى: {قُتل الإنسان ما أكفره}.
ثانيهما: وهو خامس المعاني، المبالغة كقولك: إن زيدًا مما أن يكتب، أي: إنه مخلوق من أمر، ذلك الأمر هو الكتابة، بمنزلة قوله تعالى: {خلق الإنسان من عجل}، جعل لكثرة عجلته كأنه خلق منها، فـ «ما» بمعنى شيء، وأن صلتها في موضع خفض بدلًا منها.
وزعم السيرافي وابن خروف وتبعهما ابن مالك ونقله عن سيبويه: أنها معرفة تامة بمعنى الشيء أو الأمر، وأن وصلتها مبتدأ وما بعدها خبر، والجملة خبر لأن، قال ابن هشام: ولا يتحصل من الكلام معنى طائل على هذا التقدير.
المعنى السادس: تكون بمعنى الحين، كقولك: انتظرني ما جلس القاضي أي حين جلوس القاضي، قال أبو الحسن الهروي: ومنه قوله تعالى: {كلما خبت زدناهم سعيرًا}، وقوله تعالى: {كلما نضجت جلودهم}.
وقوله تعالى: {كُلما أضاء لهم مشوا فيه}، قال الشاعر:
منا الذي هو ما إن طر شاربه = والعانسون ومنا المرد والشيب
بقال ابن السكيت: يريد حين طر شاربه، وقال آخر:
ورج الفتى للخير ما إن رأيته = على السن خيرًا لا يزال يزيد
وجعلها بعضهم في ذلك مصدرية، وقسم المصدرية إلى زمانية وغير زمانية، وهي في جميع ما مضى اسم كما تقدم إلا المصدرية ففي اسميتها خلاف.
أما النافية فحرف اتفاقًا وهي السابع معنى واستعمالًا، كقولك: ما خرج زيد، فإن دخلت على الجملة الاسمية فأهل الحجاز يرفعون بها الاسم وينصبون بها الخبر كليس بشروط معتبرة عند النحاة، وأهملها التميميون.
ونسب ابن هشام إعمالها إلى الحجازيين والنجديين والتهاميين، ورأيت في صحاح الجوهري: أن أهل نجد يهملونها كبني تميم، وإن نفيت بها الفعل المضارع كان نفيًا للحال عند الجمهور، ورد عليهم ابن مالك بنحو: {قل ما يكون لي أن أبدله}، وأجيب بأنه مشروط بتجرده م القرائن الصارفة له إلى الاستقبال.
الاستعمال الثامن: تكون كافة للعامل عن عمله، سواء كان عامل رفع أو نصب أو جر، ومعناها التوكيد، فالكافة تكف العامل عن عمله وتزيل اختصاصه الذي كان عليه قبل دخولها، فإن وأخواتها وحروف الجر لا تدخل إلا على الاسم، فإذ دخلت عليها دخلت على الفعل أيضًا وبطل اختصاصها، ولهذا سميت: الكافة، وسميت المهيئة.
فمثال الداخلة على عامل النصب الداخلة على إن وأخواتها، كقوله تعالى: {إنما الله إله واحد}، وقوله تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماء}، وقوله: {كأنما يساقون إلى الموت}، قال الفرزدق:
أعد نظرًا يا عبد قيسٍ لعلما = أضاءت لك النار الحمار المقيدا
وهي تفيد التأكيد لمعنى الحرف الذي دخلت عليه، حتى زعم بعض الأصوليين أنها لا تفيد الحصر، وإنما تفيد تأكيد الإثبات، واختاره أبو حيان واشتد بكثرة على من يخالفه، وجمهور الأصوليين وغيرهم على أنها تفيد الحصر، وهو رأي أبي إسحاق الشيرازي والغزالي والكيا الهراسي، والإمام الرازي، واختاره تقي الدين السبكي، وقال: إن المخالف فيه مستمر على لجاج ظاهر، ونُقل عن القاضي أبي بكر، وقال عبد الوهاب السبكي: والذي رأيته في التقريب للقاضي أبي بكر أنها عنده محتملة لتأكيد الإثبات، ومحتملة للحصر، وزعم أن العرب استعملتها لكل من الأمرين.
واحتج المثبتون للحصر بتبادره إلى الفهم كقوله تعالى: {إنما إلهكم الله}، وكقوله تعالى: {فإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين}.
والمعنى: ما إلهكم إلا الله، وإن تولوا فما عليك إلا البلاغ، ولو لم يكن المعنى كذلك لكان المعنى: الله إلهكم، وهو لم ينازعوا في ذلك، والكلام سيق لنفي الإهية غيره ولكان المعنى: وإن تولوا فعليك البلاغ، وهو عليه البلاغ تولوا أو لم يتولوا، وإنما المرتب على توليهم نفي غير البلاغ تسلية له وإعلامًا أن توليهم لا يضره.
واحتج الآخرون بأن قولهم: إنما زيد قائم ... والزائد كالمعدوم وليس كما ادعوا، فليس كل زائد كالعدم، بل أقل مراتب الزائد إفادة التأكيد ورب زائد لا يجوز تركه كما تقدم في كتابي هذا، وما اتفق عليه الفريقان من زيادة كلمة «ما» هو الصواب.
وزعم جمع من الأصوليين والبيانيين أنها نافية وأن ذلك: سبب إفادتها للحصر قالوا: لأن إن للإثبات وما للنفي فلا يجوز أن يتوجها معًا إلى شيء واحد؛ لأنه تناقض ولا يقال: إن تقتضي ثبوت غير المذكور، وما تنفي المذكور لأنه خلاف الواقع والاتفاق، فتعين أنّ إنّ لإثبات المذكور وما لنفي غير المذكور.
قال ابن هشام: وهذا مبني على مقدمتين باطلتين بإجماع النحويين إذ ليست «إن» للإثبات وإنما هي لتوكيد الكلام إثباتًا كان مثل: إن زيدًا قائم أو نفيًا مثل: إن زيدًا ليس بقائم، وليس «ما» للنفي، بل هي بمنزلتها في أخواتها: ليتما ولعلكما لكنما وكأنما، وبعضهم نسب القول بأنها نافية إلى الفارسي في كتاب الشيرازيات ولم يقل ذلك الفارسي في الشيرازيات ولا في غيرها ولا قاله نحوي غيره، وإنما قال في الشيرازيات: إن العرب عاملوا «إنما» معاملة النفي وإلا في فصل الضمير كقول الفرزدق.
... ... ... وإنما = يُدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي
فهذا كقول الآخر:
قد علمت سلمى وجاراتها = ما قطر الفارس إلا أنا
وأما الكافة لعمل الرفع لا تتصل إلا بثلاثة أفعال: قل وكثر وطال، قال المرار بن منقذ الأسدي:
صددت فأطولت الصدود وقلما = وصالٌ على طول الصدود يدوم
اختلف النحاة فيه فقال سيبويه: هي ضرورة، وقيل وجه الضرورة: أن حقها أن يليها الفعل صريحًا والشاعر أولاها فعلًا مقدرًا مفسرًا بالمذكور، وقيل: وجهها: أنه قدم الفاعل، وقال ابن السيد: والبصريون لا يجوزون تقديمه في شعره ولا نثر وقيل وجهها: أنه أناب الجملة الاسمية عن الفعلية، كقوله:
فهلا نفس ليلى شفيعها
وقال المبرد: صلة ملغاة والاسم بعدها مرتفع بـ «قل» كأنه قال: وقل وصال يدوم على طول الصدود.
وقال بعضهم: «ما» في قلما ظرف بمعنى الحين والوقت، كأنه قال: وقل وقت يدوم فيه وصال على طول الصدود.
وقال بعضهم: إن «ما» في هذه الأفعال مصدرية لا كافة.
ومثال دخولها على حرف الجر وإبطال اختصاصها قول الشاعر:
رُبما أوفيت في علمٍ = ترفعن ثوبي شمالات
وقول الشاعر في دخولها على المعرفة:
ربما الجامل المؤبل فيهم = وعناجيج بينهن المهار
وقال الشاعر في كفها لـ «من»:
وإنما لمما نضرب الكبش ضربة = على رأسه تُلقي اللسان من الفم
قال ابن هشام: والظاهر أن ما مصدرية.
وقال الشاعر في كفها للظرف يخاطب نفسه:
أعلاقةً أم الوليد بعدما = أفنان رأسك كالثغام المخلس
وقيل: ما مصدرية، قال ابن هشام: وهو الحق لأن فيه إبقاء بعد على أصلها من الإضافة، ولأنها لو لم تكن مضافة لنونت.
الاستعمال التاسع: أن تكون صلة، كقولك: متى ما تأتني آتك، ومعناها: التأكيد أيضًا، وبعضهم جعلها نوعًا للزائدة لا قسمًا، وأبى بعض النحويين تسمية هذه صلة، لئلا يظن ظان أنها دخلت لغير معنى البتة.
والفرق بين الصلة والكافة: أن الكافة لا يجوز الغاؤها؛ لأن الغاؤها يخل بالمعنى، وإذا كانت «ما» صلة جاز الغاؤها فإنه لا يخل بالمعنى ولهذا يبقى العامل على عمله، ومنه قول الله سبحانه: {فبما رحمةٍ من الله لنت لهم}، وقوله تعالى: {فبما نقضهم ميثاقهم}، وقوله تعالى: {جندُ ما هنالك}، وقوله تعالى: {قليلًا ما تؤمنون}، قال عنترة:
يا شاة ما قنص لمن حلت له = حرمت علي وليتها لم تحرم
ومثله قول الآخر:
كما الحبطات شر بني تميم
على رواية الخفض.
وقال الأعشى:
إمَّا ترينا حفاةً لا نعال لنا = إنا كذلك ما نحفى وننتعل
وقال أمية بن أبي الصلت:
سلعُ ما ومثله عشر ما = عائل ما وعالت البيقورا
الماءات كلها زوائد، قال ابن قتيبة في كتاب معاني الشعر: أن الأصمعي ذكر عن عيسى بن عمر أنه قال: ما أدري ما معنى هذا البيت ولا رأيت أحدًا يحسنه، وقال غيره: كانوا في سنة الجدب يجمعون ما يقدرون عليه من البقر ثم يعقدون في أذنابها وبين عراقيبها السلع والعشر، ثم يعلون بها في جبل وعر ويشعلون فيها النار ويضجعون بالدعاء والتضرع وكانوا يرون ذلك من أسباب السقيا، والبيقور: البقر بلغة أهل اليمن، ويشد هذا القول ويقويه قول الشاعر:
أجاعلُ أنت بيقورًا مسلعةً = ذريعةً لك بين الله والمطر
وزاد بعضهم وجهًا آخر وهو أن تكون مسلطة للعامل على الجزاء، كقولك: إذ ما تخرج أخرج، وكيفما تصنع أصنع، قال: وليست «ما» زائدة فيها كزيادتها في سائر حروف الجر، والله أعلم.
وأما عمل ما غير النافية، فإن كانت للجزاء جزمت الفعلين، وإن كانت استفهامًا رفعت الأول وجزمت الثاني؛ لأنه جواب الاستفهام بغير فاء، وإن كانت موصولة رفعت الفعلين جميعًا، وهكذا تفعل في: متى ومن. والله أعلم.
الاستعمال العاشر: وهو تاسع المعاني: أن تكون للتعويض عن المحذوف، ومعناها التعليل، كقولك: أمَّا أنت منطلقًا انطلقت، والأصل: انطلقت؛ لأن كنت منطلقًا فقدم المفعول له للاختصاص وحذف الجار و«كان» للاختصار وجيء بما للتعويض وأدغمت النون في الميم قال الشاعر:
أبا خراشة أما أنت ذا نفرٍ = فإن قومي لم تأكلهم الضبع
وأما «ماذا» فقال ابن هشام: تأتي على ستة أوجه وقد أحسن الشرح فيها وسأحكي كلامه إن شاء الله تعالى.
الأول: تكون «ما» استفهامًا و«ذا» إشارة كقولك: ماذا التواني؟
الثاني: تكون ما استفهامًا و«ذا» موصولة كقول لبيد:
ألا تسألان المرء ماذا يحاول = أنحب فيقضى أم ضلالٌ وباطل
وهو أرجح الوجهين في قوله تعالى: {ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو} على قراءة الرفع، أي: الذي ينفقونه العفو؛ إذ الأصل: أن تجاب الجملة الاسمية بالاسمية والفعلية بمثلها.
الثالث: أن تكون مركبتين، والمراد بجملتها الاستفهام كقولك: لماذا جئت، وكقول الشاعر:
يا خزر تغلب ماذا بال نسوتكم
وهذا أرجح الوجهين في قراءة من نصب العفو، أي: ينفقون العفو.
الرابع: أن يكون المراد بجملتها اسم جنس بمعنى شيء، أو موصولًا بمعنى الذي على اختلاف تخريجهم، كقول الشاعر:
دعي ماذا علمت سأتقيه = ولكن بالمغيب نبئيني
فقال السيرافي وابن خروف: موصول بمعنى الذي، وقال الفارسي: نكرة بمعنى شيء قال: لأن التركيب ثبت في الأجناس دون الموصولات.
الخامس: أن تكون ما زائدة وذا للإشارة كقول الباهلي:
أنورًا سرع ماذا يا فروق = وحبلُ الوصل منتكثُ حذيقُ
أراد: سُرْعَ فخفف، قال الفارسي: يجوز أن يكون «ذا» فاعل سرع وما زائدة، ويجوز أن تكون «ماذا» كله اسمًا كما في قوله:
دعي ماذا علمت ....
السادس: أن تكون ما استفهامًا و«ذا» زائدة، جوزه جماعة منهم ابن مالك نحو: ماذا صنعت؟ قال ابن هشام: وعلى هذا التقدير فينبغي وجوب حذف الألف في نحو: لم ذا جئت؟ والتحقيق أن الأسماء لا تزاد. انتهى). [مصابيح المغاني: 472-491]
قال ابن نور الدين محمد بن علي الموزعي (ت: 825هـ): ( (فصل)
متى: اسم مبهم غير متمكن وترد على أربعة أوجه:
أحدها: الاستفهام، كقوله تعالى: {متى نصر الله}.
الثاني: الشرط، كقولهم: متى تقم أقم.
الثالث: مرادفة من، قال الأصمعي: متى في لغة هذيل قد تكون بمعنى من وأنشد لأبي ذؤيب:
شربن بماء البحر ثم ترفعت = متى لججٍ خُضرٍ لهن نئيجُ
الرابع: تكون بمعنى الوسط، سمع أبو زيد بعضهم أحسبه يعني بعض بني هذيل، يقول: وضعته متى كُمي، أي وسط كمي.
قال أبو الحسن الهروي: وحكي الكسائي عن العرب: أخرجه من متى كمه، أي من وسط كمه، قال الهروي: وهي لغة هذيل، وأنشد بيت أبي ذؤيب.
باب النون وما أوله النون
تقع نون التوكيد في الأفعال المستقبلة وتنقسم إلى قسمين: خفيفة وثقيلة وقد اجتمعا في قوله تعالى: {ليسجنن وليكونًا من الصاغرين}، قال الخليل: والتوكيد بالثقيلة أبلغ.
فصل نَعم ونِعم بفتح النون وبكسرها
أما الأولى فهي بفتح العين، وكنانة تكسرها، وبها قرأ الكسائي، وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وحكي النضر بن شميل: أن ناسا من العرب تبدلها حاء، ويقال: إن بها قرأ ابن مسعود رضي الله تعالى عنه وبعضهم بكسر النون اتباعًا لكسر العين.
وهي حرف وليس باسم، قال سيبويه: ليس بلى ونعم اسمين، وهي حرف جواب معناه التصديق في الخبر والوعد بالمطلوب والإعلام بالمسئول.
فالأول: كقام زيد، أو ما قام زيد، فتقول: نعم.
والثاني: وقوعها بعد افعل أو لا تفعل وما في معناهما، نحو: هلا تفعل، وبعد الاستفهام في نحو: هل تعطيني؟
والثالث: بعد هل في نحو: جاءك زيد ونحو: {فهل وجدتم ما وعد ربكم حقًا}، وقوله تعالى: {أئن لنا لأجرًا}.
واعلم أن حروف الجواب ثلاثة:
«بلى» وهو حرف إيجاب يوجب النفي، فلا يجاب به إلا بعد النفي، فهي لنفي النفي كما تقدم في بابه.
و «لا» حرف نفي، لنفي الإيجاب، و«نعم» صالح للأمرين:
فإذا قيل: قام زيد، فتصديقه: نعم، وتكذيبه: لا، ويمتنع «بلى» لعدم النفي.
وإذا قيل: ما قام زيد، فتصديقه: نعم، وتكذيبه: بلى، ومنه قوله تعالى: {زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي}، ويمتنع دخول «لا» لعدم الإثبات.
وإذا قيل: أقام زيد؟ فهو مثل: قام زيد، وإذا قيل: ألم يقم زيد؟ فهو مثل: لم يقم زيد، تقول في إثبات القيام: بلى، ويمتنع دخول «لا»، وإن نفيت قلت: نعم، قال الله تعالى: {ألم يأتكم نذير قالوا بلى}، {أو لم تؤمن قال بلى}، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: «أنه لو قيل: نعم في جواب {ألست بربكم} كان كفرًا».
وإذا تقرر هذا فقد قال سيبويه في باب التعجب في حكاية مناظرة جرت بينه وبين النحويين فيقال له: ألست تقول كذا؟ فإنه لا يجد بدًا من أن يقول: نعم، فيقال له: أفلست تفعل كذا؟ فإنه قائل نعم، فزعم ابن الطراوة أن ذلك لحن لما تقرر من القاعدة.
وقال جماعة من المتقدمين والمتأخرين منهم الشلوبين: إذا كان قبل النفي استفهام، فإن كان على حقيقة النفي فجوابه كجواب النفي المجرد، وإن كان المراد به الإيجاب فجوابه كجواب النفي مراعاة للفظه، ويجوز عند أمن اللبس أن يجاب بما يجاب به الإيجاب مراعاة لمعناه، وعلى ذلك قول الأنصار رضي الله تعالى عنهم للنبي صلى الله عليه وسلم وقد قال: «ألستم ترون لهم ذلك نعم»، وقول جحدر:
أليس الليل يجمع أم عمروٍ = وإيانا فذاك بنا تداني
نعم وأرى الهلال كما تراه = ويعلوها النهار كما علاني
وعلى ذلك جرى كلام سيبويه، فالمخطئ مخطئ، وقال ابن عصفور: أجرت العرب التقرير في الجواب مجرى النفي وإن كان إيجابًا في المعنى، فإذا قيل: ألم أعطك درهمًا؟ قيل في تصديقه نعم، وفي تكذيبه: بلى، وذلك لأن المقرر قد يوافقك على ما تدعيه وقد يخالفك، فإذا قيل: نعم لم يعلم هل أراد: نعم لم تعطني، على اللفظ أو نعم أعطيتني على المعنى؟ فذلك أجابوه على اللفظ ولم يلتفتوا إلى المعنى، هكذا وجدت «اللفظ» في الأصل المعلق منه وهو كتاب ابن هشام ولعله انعكس على الناسخ، والصواب: فلذلك أجابوه على المعنى ولم يلتفتوا إلى اللفظ.
وأما نعم في بيت جحدر، فجواب لغير مذكور، وهو ما قدره اعتقاده من أن الليل يجمعه وأم عمرو، وجاز ذلك لأمن اللبس لعلمه أن كل أحد يعلم أن الليل يجمعه، وأم عمرو، أو هو جواب لقوله: وأرى الهلال كما تراه، وقدمه عليه، قال ابن هشام: أو لقوله: فذاك بنا تداني، قال: وهو أحسن وأما قول الأنصار، فجاز لزوال اللبس؛ لأنه قد علم أنهم يريدون: نعم، فعرف لهم ذلك، وعلى هذا يحمل استعمال سيبويه لها بعد التقرير، انتهى. ثم قال ابن هشام رحمه الله: ويتحرر على هذا أنه لو أجيب: {ألست بربكم} بنعم، لم يكتف به في الإقرار؛ لأن الله سبحانه أوجب في الإقرار بما يتعلق بالربوبية العبارة التي لا تحتمل غير المعنى المراد من المقر ولهذا لا يدخل في الإسلام بقوله: لا إله إلا الله، برفع «إله» لاحتماله لنفي الوحدة، ولعل ابن عباس رضي الله تعالى عنه: إنما قال: «إنهم لو قالوا: نعم» لم يكن إقرارًا كافيًا، وجوز الشلوبين: أن يكون مراده: أنهم لو قالوا: نعم جوابًا للملفوظ به على ما هو الأفصح لكان كفرًا، إذ الأصل تطابق الجواب والسؤال لفظًا، قال: وفيه نظر؛ لأن التكفير لا يكون بالاحتمال.
وما قاله ابن هشام حسن ظاهر، ولكن قوله: لا يدخل في دين الإسلام بقوله لا إله إلا الله، بالرفع لاحتماله لنفي الوحدة فيه نظر، بل المعروف المشهور: إن كان يزعم أن الوثن غير شريك لله تعالى كان مؤمنًا، وإن كان يرى أن الله تعالى هو الخالق ويعظم الوثن لزعمه أنه يقربه إلى الله تعالى لم يكن مؤمنًا حتى يبرأ من عبادة الوثن، ولم يفصل بما ذكرته والله أعلم.
وأما «نِعْم» بكسر النون، ففعل ماض جامد لا يتصرف، ومعناه المدح بالمحاسن كلها، ونقيضه: بئس، وتختص بما عرف بالألف واللام أو بما أضيف إليه، فلا يتصل به علم ولا ضمير، فتقول: نِعْم الرجلُ زيد، وبرفع الاسم الممدوح إمَّا على الخبر لـمبتدأ تقديره: هو، أو برفعه على الابتداء وما قبله خبر عنه.
وفيه أربع لغات: نَعِم بفتح أوله وكسر ثانيه، ثم تقول: نِعِم فتتبع الكسرة الكسرة، ثم تطرح الكسرة الثانية فتقول: نِعْم، بكسر النون وسكون العين، ولك أن تطرح الكسرة من الثاني وتترك الأول مفتوحًا.
فإن أدخلت على نِعم «ما» قلت: {نِعِمَّا يعظكم به} تجمع بين ساكنين وإن شئت حركت العين بالكسر، وإن شئت فتحت النون مع كسر العين وتقول: غسلت غسلًا نِعما، ويكتفي عن صلته، أي: نعم ما غسلته). [مصابيح المغاني: 491-497]
قال ابن نور الدين محمد بن علي الموزعي (ت: 825هـ): (فصل من بالكسر، ومن، ومن ذا بالفتح
أما مِن بالكسر فهي من حروف الجر وتأتي على ستة عشر وجهًا:
الأول: ابتداء الغاية، وهو الغالب عليها، حتى زعم جماعة أن سائر معانيها راجعة إليه، وتقع لذلك في غير الزمان اتفاقًا كقوله تعالى: {من المسجد الحرام}، وقال الكوفيون والأخفش والمبرد وابن درستويه: تقع في الزمان أيضًا؛ بدليل قوله تعالى: {من أول يومٍ}، وقول النابغة يصف السيوف:
تُخيرن من أزمان يوم حليمة = إلى اليوم قد جرين كل التجارب
ومنه الحديث: «فمطرنا من الجمعة إلى الجمعة»، وصححه ابن مالك لكثرة شواهده في القرآن واللسان، كقوله تعالى: {ومن الليل فتهجد به}، وقوله تعالى: {لله الأمر من قبل ومن بعد}، وأما تأويل البصريين فتسعف، وذكر ابن أبي الربيع أن محل الخلاف بين الفريقين في أن «من» هل يجوز أن تقع موقع «منذ»؟ فإنها لابتداء الغاية بلا خلاف، فالبصريون يمنعون ذلك والكوفيون يجوزونه.
الثاني: التبعيض، كقوله تعالى: {منهم من كلم الله}، وعلامتها إمكان سد البعض مسدها، قال بعضهم: فقولك: ويحه من رجل، للتبعيض لأنك إنما أردت أن تجعله من بعض الرجال، وقولك: هو أفضل من زيد، إنما أردت أن تفضله على زيد وحده ولم تعم، فجعلت ابتداء فضله من زيد ولم يعلم موضع الانتهاء، فإن قلت: ما أحسنه من رجل، فيحتمل أن يكون لابتداء الغاية، كأنك بينت ابتداء فضله في الحسن ولم تذكر انتهاءه، ويحتمل أن تكون للتبعيض، كأنك قلت: ما أحسنه من الرجال إذا ميزوا رجلًا رجلًا.
الثالث: بيان الجنس، كقوله تعالى: {يحلون فيها من أساور من ذهب ويلبسون ثيابًا خضرًا من سندس واستبرق}، وقوله تعالى: {فاجتنبوا الرجس من الأوثان}، وأنكر هذا المعنى قوم، وقالوا: هي للتبعيض وهو خطأ وفي كتاب المصاحف لابن الأنباري: أن بعض الزنادقة تمسك بقوله تعالى: {وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرةً وأجرًا عظيمًا}، في الطعن على بعض الصحابة.
الرابع: التعليل، كقوله تعالى: {مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارًا}.
وقول الفرزدق:
يُغضي حياءً ويغضى من مهابته = فما يُكلَّمُ إلا حين يبتسم
الخامس: البدل، كقوله تعالى: {أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة}، وقوله تعالى: {لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون}، لأن الملائكة لا تكون من الإنس، قال ابن هشام: وجعل منه ابن مالك قول الشاعر:
ولم تذق من البقول الفستقا
أي: بدل البقول، ثم اعترضه وقال: قال الجوهري: إن الرواية: النقول بالنون، فتكون من للتبعيض.
قلت: وهذا منه غلط فإن الجوهري لم يقل ذلك، وإنما قال: ظن هذا الأعرابي أن الفستق من البقول، وهذا يروى بالباء وأنا أظنه بالنون؛ لأن الفستق من النقل وليس من البقل، انتهى كلامه، هذا تصريح من الجوهري بأن الرواية بالباء وإنما رواية النون ظن منه.
السادس: مرادفة عن، كقوله تعالى: {فويلٌ للقاسية قلوبهم من ذكر الله}، أي: عن ذكر الله وقوله تعالى: {قد كنا في غفلةٍ من هذا}.
السابع: مرادفة الباء، كقوله تعالى: {ينظرون من طرفٍ خفي}، قاله يونس، قيل: ومنه وقوله تعالى: {يحفظونه من أمر الله}.
الثامن: مرادفة في كقوله تعالى: {أروني ماذا خلقوا من الأرض}، وقوله تعالى: {إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة}.
التاسع: مرادفة عند، كقوله تعالى: {لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئًا}، أي: عند الله، قاله أبو عبيدة.
العاشر: مرادفة ربما، وذلك إذا اتصلت بـ «ما» كقول الشاعر:
وإنا لمما نضرب الكبش ضربةً = على راسه تُلقى اللسان من الفم
قاله السيرافي وابن خروف وابن طاهر والأعلم، قال ابن هشام: إن من في ذلك ابتدائية وما مصدرية والمعنى: أنهم خلقوا من الضرب، مثل قوله تعالى: {خُلق الإنسان من عَجلٍ}، وقول الشاعر:
وضنت علينا والضنين من البُخلِ
الحادي عشر: مرادفة على {ونصرناه من القوم}، وقيل: على التضمين، أي: معناه منهم بالنصر.
الثاني عشر:
الفصل والتمييز، وهي الداخلة على ثاني الضدين، كقوله تعالى: {والله يعلم المفسد من المصلح}، وقوله تعالى: {حتى يميز الخبيث من الطيب}.
الثالث عشر:
الغاية، قال سيبويه: تقول: رأيته من ذلك الموضع، فجعلته غاية لرؤيتك أي: محلًا للابتداء والانتهاء، وكذا أخذته من زيد.
الرابع عشر:
التنصيص على العموم بزيادتها، وإنما سميت منصصة لأنك إذا قلت قبل زيادتها: ما جاءني رجل، احتمل أن تكون نافيًا لرجلٍ واحد، وقد جاء أكثر منه، واحتمل أن تكون نافيًا لجميع الجنس، فإذا زدت «من» أخرجته من حيز الاحتمال إلى حيز التنصيص في استغراق عموم النفي، ومنه قوله تعالى: {ما اتخذ الله من ولدٍ}، {ما لكم من إلهٍ غيره}، قال الشاعر:
فما حملتْ من ناقةٍ فوقَ ظهرها = أبرّ وأوفى ذمةً من محمدٍ
الخامس عشر: توكيد العموم بزيادتها، وهي الزائدة في نحو: ما جاءني من أحدٍ، وما بها من ديار ولا دوري، ولا فيها من طوري ولا نافخ نار، وما أشبه ذلك مما لا يستعمل إلا في عموم النفي فإنها ألفاظ عامة في النفي وهي نص في عموم النفي، ومن إذا زيدت معها أفادت التوكيد للنفي.
ولا تزاد عند سيبويه إلا في النفي، أو ما هو في معنى النفي مثل النهي والاستفهام نحو قوله تعالى: {وما تسقط من ورقةٍ إلا يعلمها}، {ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور}، وتقول: لا يقم من أحدٍ، وزاد الفارسي الشرط كقول الشاعر:
ومهما تكن عند امرئ من خليقةٍ = وإن خالها تخفى على الناس تُعلم
وجوز الأخفش وأبو عبيدة زيادتها في الإيجاب، كقوله تعالى: {وترى الملائكة حافين من حول العرش}، وقوله تعالى: {يغفر لكم من ذنوبكم}، وقوله تعالى: {ولقد جاءك من نبأ المرسلين}، وقوله تعالى: {يُحلون فيها من أساور}.
السادس عشر:
القسم، كقولك: من ربي ما فعلت، وضعت موضع الباء، وتضم الميم من «من» فيقال: مُن ربي إنك لأشر، قال سيبويه: ولا تدخل الضمة في «من» إلا ها هنا، كما لا تدخل الفتحة في «لدن» إلا مع غدوة، ولا تدخل إلا على «ربي» كما لا تدخل التاء إلا على اسم الله والكعبة، وسمع الأخفش: مُن الله ربي.
وأما قولهم: مُ الله، قيل: أصله من قولهم: مِنُ ربي إنك لأشر، فحذفت النون لكثرة الاستعمال عند التقاء الساكنين ولم تحرك نونها، كقول الشاعر:
أبلغ أبا دختنوس مالكةً = غير الذي قد يقال مالكذبِ
وكقوله:
لقد ظفر الزوار أقفية العدا = بما جاوز الآمال ما لأسر والقتل
ورأي بعضهم أن تكون الميم بدلًا من الواو لقرب المخرج.
وأما من يفتح الميم، فإنه اسم لمن يصلح أو يخاطب، وهو مبهم غير متمكن وهو مفرد اللفظ ويقع على الجماعة، وله خمسة أوجه:
أحدها: الشرط، كقوله تعالى: {من يعمل سوءً يجز به}.
الثاني: الاستفهام عن الأجناس الصالحة للخطاب، كقوله تعالى: {فمن ربكما يا موسى}، وقوله: {من بعثنا من مرقدنا}، وقد يشرب معنى النفي كقولك: من يفعل هذا إلا زيد، ومنه قوله تعالى: {ومن يغفر الذنوب إلا الله}، وقد يشرب معنى التحقير كقولك: من هذا؟، وقد يشرب معنى التهويل كقراءة ابن عباس رضي الله عنهما: {ولقد نجينا بني إسرائيل من العذاب المهين من فرعون}، بفتح الميم على لفظ الاستفهام، وذلك أنه سبحانه لما وصف العذاب بأنه مهين لشدته وفظاعته، وصف المعذب بأنه مفرط في عتوه وتجبره وإسرافه تهويلًا لعذابه وشأنه.
وتحكى بها الأعلام والنكرات في لغة أهل الحجاز إذا وقفت عليها ولم تتصل بحرف عطف إلا أنك إذا استفهمت بها عن نكرة قابلت الحركة في لفظ الذاكر بما يجانسها من حروف المد، فإذا قال: رأيت رجلًا، قلت: مَنَا؟ بالألف، وإن قال: جاءني رجلٌ قلت: مَنُو؟ وإن قال: مررت برجلٍ: قلت: مَنِي؟ وإن قال: رجلان، قلت: منان، وإن قال: رجلين، قلت: مَنَيْنْ؟ وكذلك تقول في الجمع: مَنِينْ وَمَنُونْ؟ وتقول في المؤنث: مَنَهْ وَمنْتَانْ ومَنَاتْ.
ومنهم من لا يزيد إذا وقف على الأحرف الثلاثة سواء وَحدَّ أم ثَنَّى أم جمع أم أنَّثَ أم ذكَّر.
وإن استفهمت عن معرف بالألف واللام فقال: رأيت الرجل قلت: من الرجلُ ومن الرجلان، ومن الرجالُ؟ بالرفع لا غير، وكذا إذا اتصل «من» بحرف عطف قلت: فمن زيدُ ومن الزيدان ومن الزيدون؟ وكذا إذا وصلت الكلام ولم تقف قلت: من زيدُ يا هذا وقد جاءت الحكاية في الوصل في الشعر.
قال شمر بن الحارث الضبي:
أتوا ناري فقلتُ منونَ أنتم = فقالوا الجن: قلت عموا ظلاما
وبنو تميم لا يرون الحكاية ويرفعون بعد من مطلقًا، اسمًا كان أو كنية أو غير ذلك.
الثالث: تكون موصولة، ومعناها الخبر، ومنه قوله تعالى: {ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض}.
الرابع: تكون نكرة موصوفة، وتلزمها الصفة كقولك: رأيت من ظريفًا، ولهذا دخلت عليها رب، قال الشاعر:
رُب من أنضجت غيظًا قلبه = قد تمنى لي موتًا لم يُطع
وقال آخر:
يا رُب من يبغض أذوادنا = رُحن على بغضائه واغتدين
وقال الفرزدق:
إني وإياك إذ حلت بأرحلنا = كمن بواديه بعد المحل ممطور
أي: كشخص ممطور بواديه، ومن ذلك قول حسان أو كعب بن مالك:
فكفى بنا فضلًا على من غيرنا = حُب النبي محمدٍ إيانا
روي بخفض غير على النعت، وروي بالرفع والتقدير: على من هو غيرنا، فيحتمل أنها على حالها موصوفة، ويحتمل أنها موصولة بمعنى الذي ومنه قوله تعالى: {ومن الناس من يقول آمنا بالله} في قول جماعة، وقال آخرون: هي موصولة، وقال الزمخشري: إن قدرت أل في الناس للعهد فموصولة مثل قوله تعالى: {ومنهم الذين يؤذون النبي}، وإلا فموصوفة مثل قوله تعالى: {من المؤمنين رجالٌ}.
الخامس: زيادتها على القول بزيادة الأسماء، كما في مذهب الكوفيين، زعمه الكسائي، وأنشد عليه:
فكفى بنا فضلًا على من غيرنا = حُب النبي محمدٍ إيانا
على رواية الخفض، وقول عنترة:
يا شاة من قنص لمن حلت له
فيمن رواه بـ «من» دون «ما» وهو خلاف المشهور، وقول الآخر:
آل الزبير سنام المجد قد علمت = ذاك القبائل والأثرون من عددا
وأجاب مخالفوه على ذلك بأجوبة، فلا أطول بذكرها.
وأما من ذا، فإنه مثل ماذا في أكثر معانيها وسيأتي بيانه قريبًا إن شاء الله تعالى.
فصل مه، ومهما
أما «مَهْ» : فاسم فعل بمعنى اكفف، ومعناه: الزجر والإسكات والأمر بالتوقف على ما يريد المريد، كأن قائلًا يريد الكلام بشيء أو فاعلًا يريد فعلًا، فيقال له: مه، أي: كُف ولا تفعل.
وأما مَهْمَا فاسم شرط مبهم يدل على توكيد الاستغراق، وتجزم فعلين مضارعين على معنى الجزاء.
وهي كلمة بسيطة، وزعم الخليل أن أصلها ما الشرطية ضمت إليها «ما» الزائدة وأبدلوا الألف هاء، وقال سيبويه: يجوز أن يكون كإذ ضم إليها ما الزائدة.
وقال بعضهم: مركبة من مَهْ ومَا الشرطية.
وتدل على ثلاثة معان:
أحدهما: تدل على معنى مبهم لا يعقل منه غير الزمان مع تضمن معنى الشرط، ومنه قوله تعالى: {وقالوا مهما تأتنا به من آيةٍ لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين}.
فالضمير يعود عليها، ودلالة الضمير مبهمة، فسرت بقوله تعالى: {من آية}
الثاني: تدل على الزمان والشرط جميعًا، فتكون ظرفًا لفعل الشرط، ذكره ابن مالك، وزعم أن النحويين أهملوه، وأنشد لحاتم:
وإنك مهما تعط بطنك سؤله = وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا
قال ابن هشام: ولا دليل في ذلك لجواز كونها للمصدر بمعنى: أي إعطاءٍ كثيرًا أو قليلًا، وهذه المقالة سبق إليها ابن مالك غيره، وشدد الزمخشري الإنكار على من قال بهذا فقال: هذه الكلمة في عداد الكلمات التي يحرفها من لا بد له في علم العربية فيضعها في غير موضعها ويظنها بمعنى متى ما، ويقول: مهما جئتني أعطيتك، وهذا من وضعه وليس من كلام واضع العربية، ثم يذهب فيفسر بها الآية فيلحد في آيات الله، قال ابن هشام: والقول بذلك في الآية ممتنع، ولو صح ثبوت هذا المعنى في غيرها لتفسيرها بقوله تعالى: {من آية}.
الثالث: الاستفهام، ذكره جماعة منهم ابن مالك، واستدلوا بقوله:
مهما لي الليلة مهما ليه = أودي بنعلي وسرباليه
قال ابن هشام: ولا دليل في البيت لاحتمال أن التقدير: مه ، اسم فعل بمعنى اكفف، ثم استأنف استفهامًا، والله أعلم). [مصابيح المغاني: 456-472]