18 Mar 2024
الدرس الحادي عشر: أصول تدبر القرآن
عناصر الدرس:
- تمهيد
- بيان أنواع فهم القرآن.
- بيان الأدوات العلمية لاستخراج المعاني والفوائد القرآنية.
- التعريف بدلالات مقاصد الآية
- دلالات المنطوق
- دلالات المفهوم
- النص والظاهر والمؤوّل
- المجمل والمبين
- المحكم والمتشابه
- المطلق والمقيد
- العام والخاص
- فقه أمثال القرآن
- فقه المقاصد القرآنية
- تناسب الآيات والسور
- استخراج الفوائد السلوكية
- آداب التدبر
تمهيد
من معالم التفسير المهمة أصول تدبر القرآن، وهي الأصول التي يدرس بها الطالب ما يعينه على تدبر القرآن، ويضبط له الاجتهاد في استخراج المعاني والأوجه في التفسير، والفوائد واللطائف.
وتدبر القرآن من العلوم الشريفة المباركة التي تعين على التبصر ببصائر القرآن، واستجلاء هداياته، وعقل أمثاله، والاتعاظ بمواعظه.
وقد بيّن الله تعالى أن من مقاصد إنزال القرآن تدبر آياته؛ كما قال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)}
وقد حضّ الله تعالى على تدبر كتابه وبيّن أنه سبيل إلى تبيّن صدق أخباره وعدل أحكامه وائتلافه وعدم اختلافه، وأنه لا يعرض عن تدبره إلا من عوقب بقسوة قلبه والختم عليه.
فقال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)}
وقال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)}
وذمّ الله تعالى المعرضين عن تدبّر كتابه؛ فقال تعالى: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68)}
والتدبر الحسن للقرآن يفتح للمتدبر أبواباً عظيمة النفع من العلم والحكم، ويثمر التذكّر والتبصر و"فهم القرآن" وهي منّة عظيمة، وطِلبة كريمة، من أوتيها فقد أوتي خيراً عظيماً، وفضلاً مبيناً.
فالقرآن فيه تفصيل كل شيء؛ ومن أراد العلم من أحسن أبوابه وأوثقها فعليه بتدبر القرآن كما قال ابن القيم رحمه الله:
فتدبّر القرآن إن رُمْتَ الهدى فالعلمُ تحت تدبر القرآن
ولتدبر القرآن غايتان:
إحداهما: غاية علمية، وهي فهم القرآن والتبصر بما فيه من البيّنات.
والأخرى: غاية عملية، وهي اتباع ما فيه من الهدى.
ويتفاضل المتدبرون في تحقيق هاتين الغايتين تفاضلاً كبيراً يرجع إلى جملة من الأسباب:
- فمنها ما يتعلّق بأعمال القلوب وزكاة النفوس.
- ومنها ما يتعلّق بالذكاء وحسن الإدراك لمعاني الألفاظ وأنواع دلالاتها.
- ومنها ما يتعلّق بالتوفيق والخذلان.
وقد يسّر الله القرآن وبيّنه، ومن ذلك تيسير فهمه؛ وتيسير العمل به واتباع هداه؛ ومن أخطأ في فهم القرآن فإنما خطؤه من نفسه.
- قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (ليس في القرآن لفظ إلا مقرون بما يبين به المراد، ومن غلط في فهم القرآن؛ فمن قصوره أو تقصيره)ا.هـ.
فالقصور: هو ضعف مرتبة الإنسان في العلم.
والتقصير: التفريط في تدبّر القرآن وتفهّمه.
ولذلك كانت حاجة طلاب العلم إلى ما يبين لهم أصول التدبر ماسّة؛ ليتعرفوا ما يعينهم على إحسان التدبر من المعارف والأدوات العلمية التي يستعملها العلماء لاستخراج الفوائد والأحكام، وليتجنبوا الزلل في الاستنتاج والاستدلال.
1: بيان أنواع فهم القرآن
فهم القرآن على ثلاثة أنواع:
النوع الأول: الفهم الذي تقوم به الحجّة على المكلّفين
وهو مقتضى البلاغ المبين الذي أوجبه الله على رسوله صلى الله عليه وسلم، وشهد له به، وذلك أنّ البلاغ المبين يقتضي أداء اللفظ على وجه يُعرف به معناه، ويٌفهم به مراد قائله؛ فيدلّه على الهدى ويرشده إليه.
وعامّة ما دعا الله تعالى إليه في القرآن، وما أمر به، وما نهى عنه هو من قبيل المحكم البيّن الذي يكفي في فهمه لتقوم به الحجّة على المكلَّف أن يبلّغ إليه بلاغاً مبيناً.
وهذا النوع من فهم القرآن لا يقتضي مدح صاحبه حتى يعمل بموجبه، ثمّ منهم من يحرم هذا الفهم أو ينساه بسبب إعراضه عن تدبّر القرآن ونفوره منه، وبسبب ما عوقب به من قسوة القلب التي قد تصل إلى الطبع والختم.
والنوع الثاني: الفهم الخاصّ
وهو الفهم الذي اختصّ الله به أهل الخشية والإنابة من عباده؛ فإنّهم لمّا أقبلوا على الله بقلوب منيبة تعظمه وتخشاه، وتفرح بهداه، وتشكره على ما أولاه؛ أقبل الله عليهم بخطابه الخاص؛ فجعل لهم في القرآن خطاباً خاصّاً؛ فالناس يقرأون القرآن، وهؤلاء يقرأونه، ولكن شتان بين القراءتين!
قال الله تعالى: {فذكر إن نفعت الذكرى .سيذكر من يخشى}
وقال تعالى: {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ}
وقال تعالى: {إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب}.
وقال تعالى: {إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة}.
بل جعل الله لإنزال القرآن مقصداً عاماً وهو بيان الهدى للناس، وإقامة الحجّة عليهم؛ وجعل له قصداً خاصا وهو خطاب أهل خشيته والإنابة إليه، وتذكيرهم وتبصيرهم به، كما قال الله تعالى: {طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3)}.
والفهم أخصّ من مجرّد العلم؛ فإنّه توفيق خاصّ لمعرفة المراد معرفة بيّنة، قال الله تعالى: {ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما}.
وأطهر المؤمنين قلوباً هم أهل الخشية والإنابة، وهم أهل هداية الله تعالى وتوفيقه، كما قال الله تعالى: {الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب}،وقال: {قل إن الله يضلّ من يشاء ويهدي إليه من أناب}.
والنوع الثالث: الفهم الذي يحصل بالتعلّم والتمرن واستعمال الأدوات العلمية
وهو من شأن المتعلّمين والمتفقهين في القرآن، ومن اجتهد فيه بنيّة حسنة رجي له أن يوفّقه الله تعالى لفهم القرآن، فيفهم من الآية الواحدة فوائد وأحكاماً كثيرةً يغفل عنها كثيرٌ ممن لا يقرأ القرآن بتدبّر، ولا يحسن استعمال تلك الأدوات العلمية.
والتفهّم في القرآن يورث من أنواع الفهم بحسب مقاصد صاحبه وما يحسنه من الأدوات؛ فمن تفهّم فيه لطلب الهدى وجد فيه ما يهديه، ومن تفهّم فيه ليتعرّف أحكامه وتشريعاته استنبط منه أحكاماً كثيرة، ومن تفهّم فيه ليتعرف لطائفه وبدائعه وجد فيه من ذلك شيئاً كثيراً.
لكن ينبغي التنبه إلى أنّ هذا النوع هو من صنف الفهم النظري؛ الذي لا ينفع صاحبه إلا أن يصحّ فيه مقصده، ويُتبعه حسنَ العمل.
2: بيان أنواع الأدوات العلمية لاستخراج المسائل القرآنية
الأدوات العلمية التي يستعملها العلماء في استخراج المسائل القرآنية ترجع إلى جملة من المعارف والمهارات التي ينبغي لطالب العلم أن يحرص على تعلّمها وإتقانها.
فمن المعارف: معرفة تفسير الآية وأقوال العلماء فيها، ومعرفة ما يتعلّق الآية من أنواع علوم القرآن، وحسن التأصيل في موضوع الآية، وفقه أمثال القرآن وأصول استخراج مقاصده، وردّ المتشابه إلى المحكم، ومعرفة أحكام المجمل والمبين، والنص والظاهر، والعام والخاص، والمطلق والمقيد.
ومن المهارات: الاجتهاد في إدراك مقاصد الآيات، وتوافقه مع المقاصد القرآنية العامة، واستخراج معاني المفردات والتراكيب والأساليب، وهو لبّ التفسير البياني، واستخراج دلالات المنطوق والمفهوم.
وهذه الدلائل يستخرج بها حذاق المفسّرين مسائل كثيرة، ولذلك يحتاج المفسّر فيها إلى التمهّر في استعمال الأدوات اللغوية والبلاغية والأصولية.
ويلتحق بذلك مما يعين على التدبر: التفكر في لوازم معنى الآية؛ وآثار تلك المعاني في الخلق والأمر، وآثار معرفته بتفسير الآية، وما تفيده تلك المعرفة في أبواب العلم، ويتأمّل صلة ما استخرجه بالمقاصد الكلية للشريعة.
فتبيّن بذلك أنّ أعمال المتفهّم للقرآن في الآية الواحدة كثيرة، ولذلك قد يستنبط بعض أهل العلم من الآية الواحدة أحكاماً وفوائد كثيرة جداً.
3: التعريف بدلالات مقاصد الآيات
إدراك مقاصد الآيات من أخصّ أبواب فهم القرآن، وهو مدخل مهمّ لاستخراج الأحكام والفوائد القرآنية، وتوجيه أقوال المفسرين، وبيان علل بعض الأقوال الخاطئة والمرجوحة في التفسير، وقد كان بعض حذاق المفسرين ينبّهون على خطأ بعض الأقوال بمخالفتها لمقصد الآية، كما نبّه ابن القيم وابن كثير على خطأ من قال في تفسير قول الله تعالى: {يا أيها الإنسان ما غرّك بربّك الكريم} قال: غرّه كرمه، وبيّن مخالفة هذا القول لمقصد الآية.
ومقاصد الآيات على نوعين:
النوع الأول: مقاصد ظاهرة؛ تُعرف بدلالة منطوق الآية أو مفهومها، أو معرفة سبب نزولها، كما في قول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} مقصودها ظاهر وهو ما دلّ عليه منطوقها من أمر المؤمنين بالتقوى وأن يكونوا مع أهل الصدق في أقوالهم وأعمالهم وأحوالهم.
وما دلّ عليه مفهومها من النهي عن الفسوق والكذب وأن يحذروا أن يكونوا مع الكاذبين في أقوالهم أو أعمالهم أو أحوالهم.
والنوع الثاني: مقاصد تُستخرج بالاستنباط من تدبّر ما وراء دلالة منطوق الآية ومفهومها، كما استنبط ابن عباس مقصد نزول سورة النصر بأنّه إعلام رسول الله صلى الله عليه وسلم بقرب أجله.
وكما دلّت سورة الفيل على التنبيه على أنّ الذي حفظ البيت وردّ كيد من أراد به سُوءاً لن يخذلَ رسوله الذي أرسله، وأنه سيحفظه ويردّ عنه كيد من أراد به سوءاً.
وهذا النوع من المقاصد يتفاضل العلماء في إدراكه تفاضلاً كبيراً، ومما يُستعان به على معرفة المقاصد تدبر لوازم دلالتي المنطوق والمفهوم، والتفقّه في معاني أساليب القرآن وتراكيب ألفاظه، والنظر في السياق، وتدبّر المعنى الإجمالي للآية، والتفكّر في تناسب الآية مع المقاصد العامّة للقرآن الكريم.
4: دلالات المنطوق
دلالة منطوق الآية هي الأصل في تفسيرها، وهي من أظهر الدلائل وأقربها مأخذاً، وتدبّر منطوق الآية يعين المفسّر على استخراج الفوائد منها استخراجاً حسناً ثم ينتقل لما بعدها من الدلالات.
والمنطوق ينقسم إلى قسمين: نصّ وظاهر
فالنصّ: هو ما يدلّ على معناه دلالة بيّنة لا تحتمل غيره.
ومثاله: دلالة قول الله تعالى: {كتب عليكم الصيام} على وجوب الصيام.
والظاهر: ما دلّ على معنى أرجح من غيره؛ فقد يدلّ منطوق اللفظ على أكثر من معنى، ويكون في أحدها أرجح من غيره.
ومثاله: دلالة قول الله تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} على أنّ مرجع الضمير إلى القرآن، وهو قول الجمهور، وذهب بعض المفسرين إلى أنه راجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو خلاف ظاهر الآية.
وللمنطوق ثلاثة أنواع من الدلالات: المطابقة والتضمّن والالتزام.
أ: فأما دلالة المطابقة: فهي دلالة اللفظ على تمام المعنى الذي وضع له، وهي أظهر الدلائل.
ومن أمثلة ذلك:
- دلالة قول الله تعالى: {الله لا إله إلا هو} هي نفي وجود إله على الحقيقة غير الله جلّ وعلا.
- ودلالة قول الله تعالى: {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً} على تحريم جميع أنواع الشرك هي دلالة مطابقة لأن جميع أنواع الشرك بالله واقعة في موقع النهي.
ب: وأما دلالة التضمّن فهي دلالة اللفظ على جزء معناه.
مثال ذلك: دلالة قول الله تعالى: {ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن} على تحريم الزنا، لأنه من الفواحش، وليس هو جميع الفواحش.
فالآية دالّة على تحريم الزنا بدلالة التضمّن.
ودلالة قول الله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} على الأمر بستر العورة.
ج: وأما دلالة الالتزام فهو دلالة اللفظ على لازم معناه، وهذا اللازم خارج عن الدلالة المباشرة للفظ لكنّه لازم لها.
ودلالة الالتزام دلالة عقلية، لأن المخاطَب يستدلّ بثبوت معنى اللفظ على ثبوت لوازمه، وهذا عمل ذهني يُدرك بالعقل.
ولازم الحقّ حقّ؛ فإذا صحّ تفسير معنى الآية فما يلزم من معناها فهو صحيح أيضاً.
ومن أمثلتها: دلالة قول الله تعالى: {أحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} على جواز أن يصبح الصائم جنباً؛ وذلك لدلالة منطوق الآية على إباحة إتيان الأهل إلى آخر وقت من الليل بما لا يتّسع معه وقت للغسل؛ فيلزم من ذلك جواز أن يطلع الفجر والمرء جنباً لم يغتسل بعد.
- ودلالة قول الله تعالى: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} على أنّ الإيمان ينقص؛ لأن ما يزيد بأسباب فيلزم من زيادته بها أنه ينقص بضعفها أو انتفائها.
ودلالة المطابقة والتضمن دلالتان صريحتان، ودلالة الالتزام غير صريحة لأنها تدلّ على معنى آخر غير المعنى المتبادر من اللفظ.
ودلالة الالتزام على درجات بحسب قوة اللزوم، منها:
1: دلالة الاقتضاء، وهي دلالة اللفظ على معنى لازمٍ لمعناه الأصلي لزوماً تتوقف عليه صحّة المعنى الأصلي كدلالة الفعل على وجود فاعل.
ودلالة الاقتضاء تُبحث في الدلائل اللفظية كما في هذا المبحث، وتُبحث فيما هو أعمّ من ذلك، ويُقسّم الاقتضاء إلى اقتضاء ضروري، واقتضاء نظري.
فالاقتضاء الضروري كدلالة المخلوق على الخالق، ودلالة الأثر المترتب على السبب ترتّباً ضرورياً، كدلالة الإبصار على النظر.
والاقتضاء النظري هو ما يقتضي الوجوب وتلزم به الحجة وإن كان قد لا يكون في الواقع، كاقتضاء العلم للعمل.
ومن أمثلة دلالة الاقتضاء: اقتضاء الأمر بالتوحيد النهيَ عن الشرك.
2: دلالة الإيماء، وهي أن يدلّ اللفظ على معنى لازم يفهمه المخاطب من غير تصريح، وهو على نوعين: إيماء جليّ، وإيماء خفيّ.
- فالإيماء الجلي مثل دلالة قول الله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54)} على أنّ التقوى سبب لدخول الجنة.
- والإيماء الخفيّ – والخفاء فيه نسبي – مثل دلالة سورة النصر على قرب أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ودلالة الإيماء من العلماء من يسمّيها دلالة التنبيه، ومنهم من يسمّيها فحوى الخطاب.
3: دلالة الإشارة، وهي أن يدلّ معنى اللفظ على معنى آخر صحيح قد يكون مراداً للمتكلّم، وإن كان المتبادر إلى الذهن أن الكلام لم يُسق لأجله ابتداء، ومن أمثلته: دلالة قول الله تعالى: {وآتوا النساء صدقاتهنّ نحلة} على تحريم نكاح الشغار، ودلالة قول الله تعالى: { وحمله وفصاله ثلاثون شهرا} مع قوله تعالى: { وفصاله في عامين} على أنّ أقلّ الحمل ستة أشهر.
ومن ذلك قول البخاري رحمه الله في صحيحه: ({لا يمسه}: لا يجد طعمه ونفعه إلا من آمن بالقرآن).
- قال ابن القيّم رحمه الله: (دلَّت الآية بإشارتها وإيمائها على أنه لا يدرك معانيه ولا يفهمه إلا القلوب الطاهرة، وحرام على القلب المتلوث بنجاسة البدع والمخالفات أن ينال معانيه وأن يفهمه كما ينبغي)ا.هـ.
دلالة الإيماء استفادها من عموم وصف الطهارة، ودلالة الإشارة من التناسب بين المسّ الحسّي والمسّ المعنوي.
ومما ينبغي التنبّه له أنّ دلالة الإشارة غير ما يعرف عن الصوفية مما يُسمّى بالتفسير الإشاري.
وتأمُّل دلالات منطوق الآية يعين على التوصّل إلى مقصدها:
مثال ذلك: قول الله تعالى: {وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم}
دلّت هذه الآية بمنطوقها على أن كل نعمة فخزائنها عند الله، هو المتصرّف فيها جلّ وعلا، ينزّل منها ما يشاء.
ودلّت بلازم المنطوق على سعة ملك الله عزّ وجلّ وعلى حكمته وتقديره وعلمه.
فتبيّن بذلك أنّ مقصد الآية الحثّ على سؤال الله تعالى مما في خزائنه، والرضا بما يقسمه، وقطع التعلّق بغير الله تعالى.
5: دلالات المفهوم
دلالة المفهوم هي أن يدلّ النصّ على معنى غير مصرّح به في محلّ السكوت يفهمه المخاطب بمقتضى اللسان العربي، وهو على قسمين: مفهوم موافقة، ومفهوم مخالفة.
القسم الأول: مفهوم الموافقة
فأمّا مفهوم الموافقة فهو دلالة اللفظ على إعطاء المسكوت عنه حكماً يوافق حكم المنطوق به، ويسمّى فحوى الخطاب، وتنبيه الخطاب، والمسكوت عنه إما أن يكون أولى من المنطوق به في ذلك الحكم أو مثله أو دونه لكن يشابهه ويوافق حكمه، ويتحصّل من هذه الأنواع الثلاثة ثلاث دلالات هي:
1: دلالة الأولى، وهي أن يكون غير المنطوق به أولى بالحكم من المنطوق به، كدلالة قول الله تعالى: {فلا تقلّ لهما أفّ} على تحريم ما هو أشدّ من ذلك كالسبّ والضرب.
2: ودلالة المثل وتُسمّى عدم الفارق، وهي أن يستوي المنطوق به والمسكوت عنه في الحكم لعدم الفرق بينهما، ومن أمثلتها دلالة قول الله تعالى: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة} على جلد من قذف رجلاً محصناً؛ لعدم الفارق بين الرجل والمرأة في ذلك.
لكن ينبغي التنبّه إلى أنّ نفي الفارق منه ما هو يقيني ظاهر، ومنه ما هو ظنّي محلّ اجتهاد، ولذلك يقع بين العلماء اختلاف في بعض المسائل بسبب ذلك.
3: ودلالة الشَّبَه، وهي أن يأخذ المشبَّه بعضَ حكمِ المشبّه به بجامع الاشتراك والمشابهة في علّة الحكم وإن لم يكونا متساويين في ذلك، كالاستدلال بقول الله تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} على تحريم القعود في المجالس التي فيها منكرات دون الكفر بدلالة الشَّبَه.
ومن هذا النوع الاستدلال ببعض الآيات التي نزلت في شأن الكفار في الإنكار على شابههم في فعلهم من المسلمين وإن لم تكن تلك المشابهة موصلةً إلى حدّ الكفر؛ كاستدلال عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقول الله تعالى: {أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها} في الإنكار على من توسّع في المباحات من المسلمين.
وقد وعظ أبو الوفاء ابن عقيل مرة فقال: (يا من وجد في قلبه قسوة انظر لعلك نقضت عهداً بينك وبين الله فإن الله يقول: {فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية}). وهذه الآية نزلت في كفرة أهل الكتاب.
القسم الثاني: مفهوم المخالفة
وأما مفهوم المخالفة فهو دلالة اللفظ على إعطاء المسكوت عنه حكماً يخالف حكم المنطوق به؛ ويسمّى دليل الخطاب ولحن الخطاب، وهو على أنواع يتعسّر حصرها، وقد اختلف الأصوليون في تعدادها حتى أوصلها بعضهم إلى عشرة، وهي: مفهوم الغاية، والشرط، والصفة، العلة، والاستثناء، والحصر، والزمان، والمكان، والعدد، واللقب.
وقد جمعها الفقيه المالكي ابن غازي المكناسي(ت:919هـ) رحمه الله في بيت واحد فقال:
صِفْ واشترِطْ عَلّلْ وَلَقِّبْ ثُنيا ... وعُدَّ ظرفين وحصراً إغْيا
الظرفان هما الزمان والمكان، وزاد آخرون على هذه العشرة مفهوم الحال، ومفهوم التقسيم، وزيد غيرهما مما فيه نظر، وهي أنواع غير حاصرةٍ لمفاهيم المخالفة.
وشرْح هذه الأنواع وذكر أمثلتها وما يتصّل بها من ضوابط وتنبيهات يعين طالب العلم على معرفة قاعدة هذا الباب وتمييزِ ما يصحّ فيه إعمال مفهوم المخالفة مما لا يصحّ.
ومتى حصلت له هذه المعرفة لم يضرّه ما فات ذكره من الأنواع الأخرى لأنّها جارية مجرى النظائر المتشابهة.
ومفهوم المخالفة لا يُعمل إلا حينما يظهر من دلالة المنطوق ما يدلّ على إرادة مفهوم المخالفة بتقييد ما علّق عليه الحكم بقيد يُخرج ما عداه من ذلك الحكم، ولذلك فإنّ الصور التي لا يُعتبر فيها مفهوم المخالفة كثيرة، يجمعها الجامع المتقدّم ذكره.
ولإعمال مفهوم المخالفة شروط ينبغي أن يتبيّنها طالب العلم؛ منها:
1. ألا يعارض المنطوق.
2. وألا يكون النصّ قد خرج مخرج الغالب.
3. وألا يكون في جواب سؤال.
4. وألا يكون في معرض امتنان وتكريم.
5. وألا يكون في معرض تبكيت وتشنيع.
6. وألا يكون مخرَّجاً على سبب أو حالة مخصوصة.
7. وألا يعارض المفهومُ نصاً خاصاً في المسألة؛ لأن النصّ الخاصّ مقدّم على المفهوم.
ومن أمثلة مفهوم المخالفة:
1: دلالة قول الله تعالى: {ثمّ أتمّوا الصيام إلى الليل}؛ على جواز الأكل بالليل، وهذا مفهوم الغاية.
2: ودلالة قول الله تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} على أنّ اليتيم الذي لم يؤنس منه الرشد لا يُدفع إليه ماله، بل يبقى في تصرّف وليّه يصرفه فيما هو أصلح لليتيم، وهذا مفهوم الشرط.
3: ودلالة قول الله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} دلالة على أنّ الذمة لا تبرأ بغير التتابع، وهذا مفهوم الصفة، ويشترط في إعمال مفهوم الصفة أن تكون الصفة مقيّدة غير كاشفة.
4. ودلالة قول الله تعالى: {ولا تباشروهنّ وأنتم عاكفون في المساجد} على جواز المباشرة في غير حال الاعتكاف، وهذا مفهوم الحال، ويُشترط لإعماله أن يكون قد سيق لغرض التقييد.
5. ودلالة قول الله تعالى: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144)} على أنّ ترك التسبيح من أسباب طول البلاء، وهذا مفهوم العلة.
والمجتهد في فهم القرآن لا يستغني عن النظر في الأحاديث والآثار وأقوال العلماء فيما يتّصل بالمسألة التي يدرسها لئلا يخرج بفهم يخالف نصاً خاصّاً أو إجماعاً أو قولاً راجحاً من أقوال أهل العلم.
6: النصّ والظاهر والمؤوّل
مراتب الدلالات اللفظية
مما ينبغي لمن يتدبّر القرآن معرفته مراتب الدلالات اللفظية، والتمييز بينها، ومعرفة أحكامها، وهي على أربع مراتب: النصّ، والظاهر، والمؤوّل، والمجمل.
فالنص: هو ما تعيّن المراد به بما لا يحتمل غيره، وهو أعلى مراتب الدلالات اللفظية.
ومثاله: قول الله تعالى: {وليطوفوا بالبيت العتيق} فهو نصّ على محلّ الطواف؛ فلا يجوز الطواف بغيره.
والظاهر: هو ما يدلّ على مرادٍ دلالةً أظهر من غيره، مع قيام الاحتمال لكون المراد غيره.
والمؤوَّل: هو ما يدلّ على خلاف الظاهر المتبادر إلى ذهن الناظر من السياق أو من اللفظ بالدلالة الوضعية لقرينة معتبرة صارفة.
والمجمل: هو ما يدلّ على مراد غير معيّن، يفتقر تعيينه إلى دليل آخر.
دلالة النص
فدلالة النصّ أعلى مراتب الدلالات، وإذا تحققت أغنت عن الاجتهاد؛ فلا اجتهاد مع دلالة النص، بل كلّ اجتهاد يخالف ما نصّ عليه دليل غير منسوخ من الكتاب أو السنة فهو باطل مردود، والنصّ قضاء شرعي لا تحلّ مخالفته، ولا التردد في قبوله، لقول الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا}.
وقد تكون دلالة النص مفردة من دليل واحد، وقد تكون مركبة من دليلين تتحقق بهما دلالةٌ نصيةٌ على حكمٍ من الأحكام.
وهي حجة قاطعة للنزاع ما لم يدخلها ما يؤثر على حجيتها من اختلاف في الثبوت أو النسخ؛ فينظر في هذا الاختلاف ويحكم بما يترجّح؛ فمداخل الاختلاف فيما يستدلّ له بدلالة النصّ أربعة:
الأول: الاختلاف في ثبوت بعض القراءات وبعض الأحاديث
والثاني: اختلاف ألفاظ الروايات في الأحاديث
والثالث: الاختلاف في النسخ
والرابع: التخصيص والتقييد والمعارضة.
دلالة الظاهر
الظاهر هو ما دلّ عليه الدليل باحتمال راجح مع قيام احتمال مرجوح، والظاهر حجة ملزمة، فلا يُعدل عنه إلا بدليل صحيح يدلّ على خلافه.
- قال محمد بن إدريس الشافعي: (ولا يجوز أن يقال بغير ظاهر الآية إلا بخبر لازم).
ومن أمثلة دلالة الظاهر:
1: مرجع الضمير في قوله تعالى: {إنه على رجعه لقادر} فالظاهر أنه مرجع الضمير إلى الإنسان المذكور في قوله تعالى: {فلينظر الإنسان مم خُلق}، وأن المراد برَجْعه هو بعثه بعد موته كما قال تعالى: {إنّ إلى ربّك الرجعى}.
وروي عن مجاهد وعكرمة أن مرجع الضمير إلى الماء المذكور في قوله تعالى: {ماء دافق}، وأن المراد عود الماء في الإحليل أو الصلب.
فالظاهر أرجح لموافقته نصّ آية العلق، ولأنه أقرب إلى مقصد السورة من تقرير البعث والنشور الذي هو محلّ الخصومة بين النبي صلى الله عليه وسلم والمشركين.
2: ودلالة ظاهر قول الله تعالى: {وأتموا الحجّ والعمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} على أنّ المحصر بعدوّ لا يجب عليه القضاء، وهو قول مالك والشافعي، ورواية عن أحمد.
وقد يقع الاختلاف في دلالة الظاهر فيذهب بعض العلماء إلى حكم من الأحكام أخذاً بما يظهر لهم من دلالة الآية، وقد يكون الظاهر لغيرهم غيره، ومثال ذلك: اختلاف العلماء في دلالة ظاهر قول الله تعالى: {وامسحوا برؤوسكم}
- فذهب مالك وأحمد وأبو عبيد والبخاري إلى وجوب مسح الرأس كله أخذاً بظاهر الآية، وأنّ قوله تعالى: {وامسحوا برؤوسكم} ظاهر في تعميم الرؤوس بالمسح، ويؤيد ذلك بيان النبي صلى الله عليه وسلم بفعله.
- وذهب الشافعي إلى أنّ من مسح من رأسه شيئاً؛ فقد مسح برأسه، وأنّ هذا أظهر معاني الآية.
والتحقيق أنّ المسح بالرأس يتفاضل فأدناه مسح شيء منه، وأتمّه مسحه كلّه، وكلّ ذلك مما يقع عليه وصف المسح بالرأس في لسان العرب.
فالأكمل في مسح الرأس أن يعمّه بالمسح بيديه يقبل بهما ويدبر على ما جاء في حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه، وصحّ عن بعض الصحابة أنّهم مسحوا بعض رؤوسهم.
- قال النووي: (الواجب منه أن يمسح منه ما يقع عليه اسم المسح وإن قلَّ، والمستحبّ أن يمسح جميع الرأس).
دخول الخطأ والتوهم في القول بدلالة الظاهر
ومما ينبغي التنبّه له أنّه ليس كلّ ما يُدّعى أنه ظاهر الآية يكون كذلك، ودخول الخطأ والتوهم في فهم الظاهر وارد، وقد يتبادر إلى بعض الأذهان من الظاهر ما هو بعيد عنه جداً في حقيقة الأمر، ولكل ذلك أمثلة كثيرة جداً، وهي على نوعين:
النوع الأول: أخطاء تعرض لبعض أهل العلم؛ فيتوهّمون دلالة الظاهر على معنى لا تدلّ عليه اللغة ولا السياق لسببٍ أدّى بهم إلى ذلك التوهّم؛ كما توهم عروة بن الزبير رحمه الله دلالة ظاهر قول الله تعالى: {فلا جناح عليه أن يطوف بهما} على عدم وجوب السعي بين الصفا والمروة في الحج والعمرة؛ فأجابته عائشة بما أزال عنه الإشكال.
والنوع الثاني: بدعٌ وأصول خاطئة أدّت ببعضهم إلى أن يفهموا من ظواهر النصوص ما لا تدلّ عليه ألبتة، كما وقع في ذلك كثير من أهل الأهواء ومن تأثر ببعض أصولهم؛ فتوهموا دلالة ظواهر نصوص الصفات على تشبيه الله تعالى بخلقه، فتكلفوا تأويلها عن ظاهرها إلى معانٍ توافق أصولهم التي أصلوها وأخطأوا في ذلك.
- قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (والنفاة متفقون على أن ظواهر النصوص تجسيم عندهم).
المؤول
المؤوَّل مفعَّل من الأَوْل، وهو الرجوع إلى المستقرّ، يقال: آل يؤول أوْلاً إذا رجع وعاد إلى مستقرّه، والتأويل تفعيل منه، وهو تعريف حقيقة ما يؤول إليه الشيء، ومنه قول الله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ}
وقد فسّر التأويل في هذه الآية بالجزاء والعاقبة لأنها هي حقيقة ما يؤول إليه ما أُخبروا به من قبل.
وقال الخضر فيما حكى الله عنه: {سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78)}، أي: بحقيقة ما يؤول إليه معنى ما أشكل عليك فلم تستطع عليه صبراً.
ومن هذا المعنى أُخذ تأويل النصوص، وهو بيان حقيقة المعنى الذي تؤول إليه؛ فقد يكون الظاهر الذي يتبادر إلى بعض الأذهان ليس هو حقيقة ما يؤول إليه معنى النص لتوهّم عارض؛ فيحتاج إلى التأويل لبيانه.
وكذلك قد يشكل النصّ على بعض من يبلغه فيحتاج إلى تأويله أي بيان المعنى الصحيح الذي يؤول إليه النص، ويدفع عنه التوهم الذي توهّمه.
وقد جعل كثير من الأصوليين التأويل في مقابل الظاهر، وجعلوا دلالته مقصورة على المعنى المرجوح، وهذا الإطلاق لم يكن معروفاً عن السلف، بل كان سبباً في إشكالات علمية.
وذلك أنّ دلالة النصّ على معناه لا يمكن أن تكون إلا بدلالة غالبة إما نصّية وإما ظاهرة، والتأويل الصحيح هو بيان كون هذا المعنى نصاً أو ظاهراً.
وإذا احتمل النص معنيين أحدهما ظاهر والآخر غير ظاهر؛ فالمعنى الصحيح هو الظاهر في حقيقة الأمر، لكن فيما يراه بعض الناظرين قد يختلف الأمر؛ فيكون ما يظهر له هو إنما هو المعنى المرجوح، ويشكل عليه المعنى الظاهر في حقيقة الأمر.
فتقسيم الناظر للمعنيين إلى راجح ومرجوح إنما هو باعتبار ما تحصّل له من النظر في معنى النص لا باعتبار حقيقة الأمر، ولذلك يقع الاختلاف والتنازع في دلالة الظاهر.
وكثيراً ما يكون الظاهر لشخصٍ ما غير الظاهر لغيره؛ وإذا كان المعنى الصحيح هو ما يراه بعضهم غير ظاهر؛ فإنَّ عدم ظهوره إنما هو لتقصير الناظر أو قصوره، فإذا أُوّل له النصّ وتبيّن معناه عرف أنه هو الظاهر.
الفرق بين التأويل والتفسير
وبين التفسير والتأويل تقارب وتناسب، وقد يجتمعان، ويفرّق بينهما بأنّ التفسير يُعنى فيه بالكشف عن معنى اللفظ بذكر ما يوضّحه ويبيّنه.
والتأويل أقرب إلى بيان ما يؤول إليه المعنى، ولا سيما المعنى البعيد الذي لا يُدرك إلا بالنظر والتدبر.
- قال الراغب الأصفهاني في تفسيره: (أكثر ما يستعمل التفسير في الألفاظ، والتأويل: في المعاني).
أقسام التأويل
والتأويل على أربعة أقسام: صحيح، ومحتمَل، وفاسد، وباطل.
فالتأويل الصحيح هو الذي يبين معنى النصّ بياناً جلياً يتّضح به المراد، ويزول به الإشكال إن وجد.
والتأويل المحتمَل: هو الذي يكون له حظّ من النظر، ومساغ في الاجتهاد، لكن لا تتحقق الطمأنينة لصحته؛ ولا يكاد يسلم من معارضة إما بإيراد يقاومه أو وجه آخر يزاحمه.
والتأويل الفاسد: هو الذي يتبيّن خطؤه في صنعة الاستدلال أو في مخالفة مؤداه لدليل صحيح من نصّ أو إجماع أو حجة مقبولة.
والتأويل الباطل: هو الذي لا دليل عليه إلا التحكم واتباع الهوى؛ ولا يحكى إلا على التحذير والتعجب، كتأويلات الباطنية وغلاة الشيعة، ومن ذلك قول بعضهم: {مرج البحرين} عليّ وفاطمة {يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان} الحسن والحسين، {وكل شيء أحصيناه في إمام مبين} علي بن أبي طالب.
وقول بعض الصوفية: {اذهب إلى فرعون إنه طغى} هو القلب {إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة} هي النفس.
ومن الأصوليين من يسمي التأويل الباطل لعباً.
ولكل هذه الأقسام أمثلة كثيرة في كتب التفسير وشروح الأحاديث وكلام الفقهاء.
وقد وقع كثير من أهل الأهواء في فتنة التأويل وصرف ألفاظ النصوص عن ظاهرها حيث توهموا دلالتها على ما يستنكرونه، ولذلك حالان:
أحدها: أن يكون الظاهر صحيحاً، واستنكارهم له إنما هو لسوء فهمهم وتوهّمهم لوازم لا تصح.
والآخر: أن يكون ما توهّموه ظاهراً مستنكراً كما قالوا، لكنه ليس بظاهر النصّ في الحقيقة، وظاهر النصّ لا نكارة فيه.
7: المجمل والمبين
ومن أصول فهم القرآن وتدبّره معرفة المجمل والمبيّن، وأنواع الإجمال والبيان، والحكمة من ورود الإجمال في القرآن، والسبيل إلى معرفة بيان المجمل، وما يتصل بهذه المباحث.
والقرآن كلّه مبيّن باعتبار، وبعضه مجمل وبعضه مبيّن باعتبار آخر:
- فمن الاعتبار الأول ما دلّ عليه قول الله تعالى: {حم . والكتاب المبين}، وقوله تعالى: {تلك آيات الكتاب المبين}، ووصف القرآن بأنّه مُبِين يدلّ بالتضمن على أنه مبيَّن.
- ومن الاعتبار الثاني ما وقع في كثير من الآيات من الإجمال الذي لا يتبيّن به المراد إلا بدليل منفصل أو قرينة موضّحة.
وهذا لا يُخرج القرآن عن وصفه بأنه مبيّن بالاعتبار الأوّل؛ لأنّ الآيات التي فيها إجمال قد جاء في القرآن والسنة ما يبيّنها فعاد وصف القرآن بأنه مبيَّن وصفاً محقَّقاً.
وقد دلّ على ذلك قول الله تعالى: {ثم إنّ علينا بيانه} فلم يستثن منه شيئاً لم يبيّن؛ فالقرآن كلّه قد بيّنه الله تعالى لنبيّه صلى الله عليه وسلم، وبيّنه النبي صلى الله عليه وسلم لأمّته؛ فمستقلّ من معرفة هذا البيان ومستكثر، قال الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)} و"ما" الموصولة تفيد العموم.
وهذا لا يشكل عليه وجود آيات فيها بعض ما استأثر الله بعلمه من حقائق التأويل في المغيبات وغيرها لأنَّ العمل المترتب عليها هو التصديق والتسليم والأثر السلوكي، وهذا متحقّق وإن لم يُعرف تفصيل ما استأثر الله بعلمه من تلك الحقائق.
تعريف المجمل والمبيّن
المجمل هو النصّ الذي لا يتعيّن المراد به بما يمكن امتثاله على التفصيل حتى يرد ما يبيّنه،
ومن أمثلته قول الله تعالى: {وأقيموا الصلاة}، فهو أمر مجمل بإقامة الصلاة، ولا يمكن أن تقام الصلاة على التفصيل إلا بنصوص تبيّن ذلك، وقد ورد في السنة بيان كافٍ لما تتحقق به إقامة الصلاة، ففي صحيح البخاري من حديث أيوب، عن أبي قلابة، عن مالك بن الحويرث رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « صلّوا كما رأيتموني أصلي ».
وقد حفظ الصحابة صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم وضبطوها ضبطاً متقناً، وأدَّوا بيان تلك الصفة لمن بعدهم حتى تواترت في الأمة وصفاً وفعلاً.
وقد تكون الآية مجملةً من وجه بيّنةً من وجه آخر، ومثاله قول الله تعالى: {وآتوا حقَّه يوم حصاده} فهو مجمل في مقدار الحقّ، بيّن في وقته.
وأساليب الإجمال والتبيين لا تُحصر، فكلّ ما لم يتعيّن المراد به فهو مجمَل، وكلّ ما أفاد تعيين المراد فهو مبيّن بكسر الياء.
البيان المتصل والبيان المنفصل
وبيان المجمل منه ما يكون متصلاً به أي في موضعه، ومنه ما يكون منفصلاً عنه في موضع آخر.
فالمتصل مثاله قول الله تعالى: {القارعة . ما القارعة . وما أدراك ما القارعة . يوم يكون الناس كالفراش المبثوث ... } الآيات؛ فأبهمها ثم بيّنها في السورة نفسها.
والمنفصل مثاله: قول الله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} فأجمل المراد بالذين أنعم الله عليهم، وبيّنه في قوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا}.
هل بقي في القرآن نصّ مجمل لم يُبيّن؟
تلخيص الجواب على هذه المسألة أنّ الإجمال يقع في الأخبار وفي الأحكام
- فأما الإجمال في الأحكام فلم يبق حكم نُكلّف به إلا وقد بيّن لنا.
- وأما الإجمال في الأخبار فمنه ما بيّن وفُصّل، ومنه ما أُجمل وبقي على إجماله، كما قال الله تعالى: { وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} ، وقوله تعالى: { أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ}
السبيل إلى بيان المجمل في القرآن
الإجمال يتفاوت، فقد يقع الإجمال لأناس دون آخرين؛ بسبب تفاوتهم في الفهم وإدراك المعنى، وكذلك بيان الإجمال يقع فيه تفاضل كبير؛ فمنه ما يكون بيانه ظاهراً منصوصاً عليه في موضع أو مواضع معروفة من القرآن الكريم أو يكون بيانه معلوماً مشتهراً في السنة النبوية؛ فهذا مما لا يكاد يخفى سبيلُ علمه؛ كبيان المراد بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والحج وغيرها.
فمن البيان ما يقع الاتفاق عليه لظهوره، ومنه ما يختلف فيه، ويقع من أهل العلم اجتهاد يحتمل الإصابة والخطأ؛ ومن أقرب مظانّ بيان المجمل الكتب المؤلفة في تفسير القرآن بالقرآن؛ فإنَّ أصحابها عنوا عناية بالغة ببيان المجمل.
ومن النافع لطالب العلم أن يتعرف طرق العلماء في طلب بيان المجمل؛ وأن يتفهّم أمثلة لذلك؛ حتى إذا عرض له موضع فيه إجمال عرف السبيل إلى بيانه.
1: فمن المجمل ما يتبيّن بمعرفة القراءات والأحرف الواردة في الآية
2: ومنه ما يتبيّن بمعرفة سبب النزول أو حاله.
3: ومنه ما يتبيّن بدلالة السياق.
4: ومنه ما يتبيّن بدلالة السنة، وهذا أمر يقع فيه تفاضل كثير؛ لتفاوت الناس في المعرفة بالسنة.
5: ومنه ما يعرف باستقراء مفردات القرآن وأساليبه وتراكيبه، والاستقراء من الحجج المعتبرة.
6: ومنه ما يعرف بدلالة مقاصد القرآن.
7: ومنه ما يعرف بدلالة تناسب الآيات والسور.
8: ومنه ما يعرف بالدلالات اللغوية، وهي على أنواع كثيرة سبق بيانها في طرق التفسير، وفي أصول التفسير البياني.
الواجب عند الإجمال
والواجب في المجمل أمران:
أحدهما: الإيمان به والسمع والطاعة، وهذا جانب اعتقادي وسلوكي لا يتخلف بعدم معرفة بيان المجمل.
ثمّ إنّ الإجمال على درجات، ويتفاوت الناس في إدراك بيانه، فما أمكن معرفة بيانه منه لا يسقط بما لم تمكن معرفته، فتجب الطاعة والامتثال على قدر البيان.
والآخر: طلب بيان المجمل وتفسيره حتى تبرأ الذمة ويتأدّى الواجب.
وتحقيق هذين الأمرين يكون العبد مؤمناً متقياً.
ومما يجب التنبه له قول بعض الأصوليين إنَّ المجمل يجبُ التوقف فيه حتى يرد ما يبينه بياناً قاطعاً؛ فهذا فيه إغفال لدرجات الإجمال، وإخلال بواجب العبودية لله تعالى من الجانب الاعتقادي والسلوكي، ومن الجانب الفقهي العملي.
وقد وقع تجاوز كثير من أهل الأهواء في دعوى الإجمال ليحيلوا في البيان على تأويلاتهم التي فيها صرف للنصّ عن معناه الظاهر إلى ما يوافق أهواءهم.
الفرق بين المجمَل والمطلق
ومما ينبغي التنبّه له الفرق بين المجمل والمطلق، والحذر من طريقة اليهود ومن خالف قولُه عملَه من إلحاق المطلق بالمجمل ليتوصّل بذلك إلى ترك العمل والتهاون فيه، وقد ذمّ الله بني إسرائيل على ذلك، وحذر من مشابهتهم؛ فإنهما لما أمروا بذبح بقرة جعلوا الأمر المطلق مجملاً يتوقف امتثاله على البيان، وتشددوا في طلب البيان فشدد الله عليهم.
نقد عبارة "تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز"
اشتهرت عبارة "تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز" عند الأصوليين والفقهاء، ويكثر الاحتجاج بها في كتب متأخري الفقهاء؛
وهذه العبارة لا أعلم لها ذكراً لدى علماء القرون الفاضلة، وأوّل ما عرفت من قِبَل المتكلمين، ثم درجت إلى أهل السنة فاستعملها جماعة منهم على معنى صحيح فيه تخصيصٌ لألفاظ هذه العبارة؛ ومن زعم أنّ أوّل من قالها الإمام مالك فقد أخطأ عليه، فليس عنه نصّ في ذلك، ومن ادّعى الإجماع على لفظها فقد أخطأ.
وأصل صياغة المسألة صياغة اعتزالية لأنهم يقولون بوجوب فعل الأصلح على الله تعالى، ثم يختلفون في تفسير الأصلح، ويطلقها الأشاعرة على مرادهم من التحسين والتقبيح العقليين،
لكن أهل السنة الذين يستعملون هذه العبارة يريدون بالجواز الجواز العقلي والوقوع الفعلي، وهو مراد صحيح غير مراد أهل الأهواء، وقد يشتبه الأمر على من لم يعلم ذلك.
8: المحكم والمتشابه
التعريف بمبحث المحكم والمتشابه
من الأصول المهمة لتدبر القرآن حمل المتشابه على المحكم، وذلك أنّ المتدبّر قد تُشكل عليه معاني بعض الآيات؛ فإذا حمل ما تشابهتْ عليه معانيه، وأشكل عليه فهمه على المحكم من الآياتِ وجدَ القرآن يصدّق بعضه بعضاً، وتأتلف معانيه ولا تختلف.
ومن شأنِ أهل الزيغ والضلال أنّهم يتبعون المتشابه، ويعرضون عن المحكم؛ ويحملون المتشابه على ما يوافق أهواءَهم ليبتغوا بذلك تحقيق ما فَتنوا به أنفسهم، وأرادوا أن يفتنوا به غيرهم، وليوهموا أتباعهم أنّهم استندوا في بِدَعهم وضلالاتهم على أدلّة من القرآن الكريم.
- قال عبد الله بن أبي مليكة: حدثني القاسم بن محمد، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7)}.
قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمّى الله فاحذروهم ». رواه أحمد، والبخاري، ومسلم، وغيرهم.
وحمْلُ المتشابه على المحكم عِصمةٌ من الضلالة بإذن الله؛ فإذا اشتبه على الناظر معنى آية فوجدها تحتمل معنيين أو أكثر، ووجد بعض تلك المعاني تُعارض آيات محكمات عرف أن كلَّ معنى يعارض تلك الآيات المحكمات فهو باطلٌ متوهَّمٌ لا يمكن أن تدلَّ الآية عليه، وأنّ القرآن لا اختلاف فيه، ولا يعارض بعضه بعضاً، وأنّ من عرض له هذا المعنى إنما عرض له لقصوره أو تقصيره في تعرّف المعنى الصحيح.
فقول الله تعالى: {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هنّ أمّ الكتاب}
أي: أصله وما ترجع إليه معانيه، ويُردّ إليه ما تشابه منه.
وقوله: {هنّ أمّ الكتاب} ولم يقل أمّهات الكتاب كما جمعهنَّ في ضمير {هنّ} لبيان أنّ مجموع الآيات المحكمات هو أصل الكتاب ومعظمه؛ فهو محكم بيّن لا يكاد يشتبه على أحد.
{وأخر متشابهات} أي: تتشابه معانيها، فيصدّق بعضها بعضاً، وتوافق المحكمات ولا تخالفها؛ لكنها حمّالة أوجه تشتبه على بعض الناس دون بعض؛ وتشكل عليهم، وقد جعلها الله فتنةً لهم؛ فمن وُفّق لاتباع هدى الله عرف أن ما تشابه عليه لا يخالف المحكم، وآمن بها كلّها؛ وذلك أرجى أن يتبيّن له معنى ما اشتبه عليه، ويستقيم له فهمه.
والذي يترجح في معنى المتشابهات في قوله تعالى: {وأخر متشابهات} وجهان صحيحان لا تعارض بينهما:
أحدهما: التشابه المطلق، والمراد به ما لا يعلم تأويله إلا الله من حقائق الغيبيات؛ مثل كيفية ما أخبر الله به عن نفسه من الصفات الذاتية والفعلية، ومتى تقوم الساعة، وتفصيل ما يكون في اليوم الآخر.
وعلى هذا الوجه يوقف على قوله تعالى: {وما يعلم تأويله إلا الله}، وتكون الواو في قوله تعالى: {والراسخون في العلم يقولون آمنا به} استئنافية، ويؤيد هذا المعنى قراءة صحيحة عن ابن عباس.
- قال معمر، عن عبد الله بن طاووس، عن أبيه قال: « كان ابن عباس يقرأها: [وما يعلم تأويله إلا الله ويقول الراسخون في العلم آمنا به] ». رواه عبد الرزاق، وابن جرير.
والواجب في هذا النوع من المتشابهات الكفّ عن ابتغاء تأويلها وتكلّف تفصيلها والقول فيها بغير علم، ومن حاول تكلّف معرفته وجده مشتبهاً عليه لا يصل فيه إلى علمٍ محكم، وهو مما لا يتعلق به عملٌ ولا علم يُحتاج إلى معرفته.
والوجه الآخر: التشابه النسبي، والمراد به ما احتمل وجوها من المعاني تشتبه على الناظر، ولا يتبيّن المراد بها لكثير من الناس؛ أما الراسخون في العلم فإنهم يردّون المتشابه إلى المحكم فيتبيّن المراد لمن وفّق منهم للصواب في الاجتهاد.
وعلى هذا الوجه تكون الواو في قوله تعالى: {والراسخون في العلم يقولون آمنا به} عاطفة؛ لأنهم يعلمون تأويله بما أرشدهم الله إليه من ردّ المحكم إلى المتشابه، وإن وقع بينهم تفاضل في ذلك العلم.
- قال عيسى بن ميمون، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس أنه قال: « أنا ممن يعلم تأويله ». رواه ابن جرير، وابن المنذر.
- وقال عيسى بن ميمون، وشبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: « {والراسخون في العلم} يعلمون تأويله، ويقولون: آمنا به ».
فالتشابه في القرآن منه ما هو ناشئ عن قصور المكلّف أو تقصيره في طلب الهدى ومعرفة المعنى الصحيح، وبذلك كان في حقّه متشابها، وإن كان محكماً عند آخرين.
ومنه ما كان مما استأثر الله تعالى بعلمه، وهو التشابه المطلق.
وقوله تعالى في الآيات المحكمات {هنّ أمّ الكتاب} دليل على أنّ أكثر الآيات محكمات، وأنّ المتشابه قليل في جنب المحكم.
وردّ المحكم إلى المتشابه داخل في معنى الإنابة إلى الله تعالى، والمنيب موعود بالهداية كما في قول الله تعالى: {قل إنّ الله يضلّ من يشاء ويهدي إليه من أناب}، وقوله تعالى: {الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب}.
وفي حديث أبي حازم الأعرج، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « إنَّ القرآن لم ينزل يكذب بعضه بعضاً، بل يصدق بعضه بعضاً، فما عرفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم منه فردّوه إلى عالمه ». رواه أحمد.
فمن ردّ المتشابه إلى المحكم، وأبصر المعنى الصحيح زال عنه وصف التشابه، وعاد ما كان مشتبهاً عليه محكماً.
أسباب التشابه
ووقوع التشابه النسبي له أسباب سلوكية وأسباب معرفية:
- فأمّا الأسباب السلوكية فترجع إلى فساد القصد والإرادة، أو فساد التصوّر بأنّ يرى الحقّ باطلاً، والباطل حقاً، ويقع ذلك بسبب اعتقادِ اعتقادات باطلة، أو تكذيب ببعض الحق، أو كبر عن الانقياد للحق.
والسبب الجامع لكل ذلك هو الإعراض عن ذكر الله تعالى والامتناع عن الإنابة إليه، والإمعان في اتباع الهوى، وقد قال الله تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37)}.
وأما الأسباب المعرفية فترجع إلى القصور عن إدراك المعنى المراد وفهم الخطاب على وجهه، أو التقصير في طلبه من وجهه الصحيح، وترك سؤال الراسخين في العلم.
ويتركب من هذه الأنواع أسباب تفصيلية هي من أكثر ما يوقع أهل الزيغ في التشابه، ومنها:
1: الإعراض عن السنة وبيانها للقرآن.
2: والإعراض عن سبيل المؤمنين
3: وضعف المعرفة باللسان العربي مفرداته وأساليبه ودلالاته
4: والأخذ بإطلاق غير مراد دون مراعاة ما قيّده.
5: والأخذ بعموم غير مراد دون تمييز لما يخصصه
6: والأخذ بمجمل دون إدراك ما يبينه.
7: والأخذ بالمنسوخ والغفلة عن الناسخ.
8: وفهم الآية بمعزلٍ عن سبب نزولها، وسياقها، ومقصدها.
9: وإعمال المفهوم في غير محلّه
10: والتزام ما لا يلزم
ومما ينبغي التنبه له أنّ كلّ طائفة من أهل الأهواء يجعلون ما يذهبون إليه محكماً، وما يخالف مذهبهم من الآيات متشابهاً يبتغون تأويله، فيفهمون من بعض الآيات معنى باطلاً يوافق أهواءهم، ويجعلونه أصلاً يردّون به الآيات المحكمات التي فيها بيان ما يبطل مذهبهم، ويتأولونها على غير تأويلها الصحيح.
الحكمة من وجود المتشابه
ولوجود التشابه في القرآن الكريم حِكَم بديعة، وثمرات جليلة؛ ففيه ابتلاء، وتبصير للعبد بجهله، وتترتب عليه أنواع العبودية فيها طهارة للقلب وزكاة للنفس؛ بشهود الافتقار إلى تعليم الله، والاعتراف بالجهل وضعف العلم؛ وطلب العلم من وجهه الصحيح غير مستنكف ولا متكلف؛ فيزداد المؤمن بذلك إيماناً وعلماً وتسليماً، ويظهر التفاضل في العلم والمعرفة وصلاح القلوب، ويتبيّن فضل الراسخين في العلم على غيرهم، ويتبين حال الذين في قلوبهم زيغ؛ فيحذرهم المؤمنون، ويبيّن أهل العلم بطلان ما يثيرون من الشبهات والفتن؛ فيقوم بذلك سوق من الدعوة إلى الله تعالى والجهاد في سبيله ونصرة كتابه ودينه، كما قال الله تعالى: {ولو شاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض}.
إطلاقات الإحكام والتشابه في النصوص
وقد ورد وصف الكتاب العزيز بأنه:
- كله محكم كما في قوله الله تعالى: {كتاب أحكمت آياته} ، وقول تعالى: {تلك آيات الكتاب الحكيم}
- وأنه كله متشابه كما في قوله تعالى: {الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابه}.
- وأن بعضه محكم وبعضه متشابه كما في قوله تعالى: {منه آيات محكمات هن أم الكتاب وآخر متشابهات}.
والجمع بين هذه الآيات ينبني على معرفة إطلاقات الإحكام والتشابه في النصوص:
فالإحكام: يطلق في مقابل المتشابه، ويطلق في مقابل المنسوخ، ويطلق مفرداً.
- فإذا أفرد كان معناه الإتقان والإحسان كما قال تعالى: {كتاب أحكمت آياته} أي أُتقنت آياته وبلغت غاية الحسن والتمام، فلا يأتيها الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهذا الوصف يعمّ جميع آي القرآن الكريم.
- وإذا أطلق في مقابل المنسوخ دلَّ على أن حكمه ثابتٌ لم ينسخ، وهذا الإطلاق يَرِد كثيراً في كلام السلف، يقولون: هذه الآيات محكمة، يريدون أنها غير منسوخة.
- وإذا أطلق التشابه كما في قوله تعالى: {كتاباً متشابهاً} فالمراد أنه يشبه بعضه بعضاً في الحسن والفضل؛ ويصدّق بعضه بعضاً، فلا اختلاف فيه ولا تناقض.
- وإذا أطلق المُحكم في مقابل المتشابه، كان المحكم هو البيّن الذي لا تتشابه وجوه معانيه على سامعه ولا يشكل عليه فهمه، والمتشابه هو الذي أشكل عليه، وتشابهت عليه وجوه معانيه؛ فلم يتبيّن له أيّها المراد.
تلخيص الواجب عند التشابه
التشابه على نوعين:
أحدهما: توهّم الاختلاف والتعارض بين آيات القرآن، أو معارضة ما فهم منها لما حصلت معرفته بدليل قطعي.
والآخر: أن تحتمل الآية وجوهاً من المعاني تشتبه على الناظر فلا يعرف أيّها المراد.
ومن عرض له ما يشتبه عليه من آيات القرآن وجب عليه:
1: أن يؤمن بها، ويقرّ بأنها حق من الله تعالى.
2: وأن يتّهم فهمَه إن فهم منها ما يعارض المحكم من الآيات أو توهّم منها معنى باطلاً.
3: وأن ويردّ المتشابه إلى المحكم، وله بعد ذلك حالان:
- إما أن يتبيّن له المعنى فيكون ممن اجتهد فأصاب.
- وإما أن يُشكل عليه الجمع بين المتشابه والمحكم، ويكون هذا مبلغه من العلم؛ فيقف عند حدود ما يعلم، ويَكِلُ علمَ ما أشكل عليه إلى الله تعالى، ويسأل أهل العلم الراسخين فيه؛ فإنّه قَمنٌ أن يجد منهم من يعلم ذلك، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: « شفاء العِيّ السؤال ». صحّ ذلك من حديث من حديث ابن عباس، وجابر، وعليّ بن أبي طالب، وزيد بن أنيس.
وفي مستدرك الحاكم من حديث عبد الله بن رجاء الغداني قال: أنبأنا عمران القطان، عن عبيد الله بن معقل بن يسار المزني، عن أبيه رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « اعملوا بكتاب الله ولا تكذبوا بشيء منه، فما اشتبه عليكم منه، فاسألوا عنه أهل العلم يخبروكم ».
وقد دلَّ قول الله تعالى: {والراسخون في العلم يقولون آمنا به كلّ من عند ربنا} على فائدتين مهمّتين في هذا الباب:
الأولى: أنّ علة عدم اختلاف الآيات أنها كلَّها من عند الله؛ فيمتنع أن يكون فيها اختلاف وتناقض، وذلك لكمال علم الله تعالى وقدرته وبيانه؛ وكلّ ما أوهم الاختلاف فسببه قصور الناظر أو تقصيره.
والثانية: التنويه بطريقة الراسخين في العلم إرشاداً لسلوك سبيلهم، وأنّ من سلك سبيلهم كان أرجى أن يُكشف عنه ما اشتبه عليه، وأن يزداد إيماناً وتسليماً.
9: العام والخاص
من الأبواب المهمة في تدبّر القرآن باب العام والخاص وما يتصل به من مباحث تعين المتدبّر على فهم القرآن، فيميّز ما يدلّ على العموم مما لا يدلّ عليه، وما يحتمل تعدد الأوجه التفسيرية من ذلك مما لا يحتمل، ويعرف أقسام العموم وصيغه، وأساليب التخصيص وأنواعه، إلى غير ذلك من المباحث المهمة.
بيان معنى العام والخاص
العامّ: ما دلَّ على جميع أفراده من غير حصرٍ ولا عطف.
فقيد نفي الحصر يخرج العدد نحو مئة وعشرة؛ والعطف يخرج ما يحصل به التنصيص على جميع أفراد العام بالعطف كما لو كنتَ في بلدة فيها ثلاثة مساجد؛ فقلتَ: صليت في المسجد الأول والثاني والثالث؛ فهذا التنصيص ليس من صيغ العموم، بخلاف ما لو قلت: صليت في مساجد البلدة؛ فهذه الصيغة تفيد العموم الدالّ على أنَّك صليت في جميع مساجد البلدة.
والخاص: هو ما ميز من العامّ بحكم يخالفه.
والتخصيص: تمييز فرد أو جملة محصورة من العامّ بحكم يخالفه.
أقسام العامّ
للعامّ تقسيمات باعتبارات متعددة:
1: فيقسّم باعتبار قوة العموم فيه إلى عام مطلق، وعامّ نسبي:
- فالعامّ المطلق هو الذي يعمّ جميع أفراده من غير تخصيص لفظي ولا معنوي؛ فهو عامّ مطلق على عمومه كما في قول الله تعالى: {كلّ من عليها فان} فهذا مستغرق في العموم.
- والعامّ النسبي هو الذي يعمّ أفراده مع تخصيص معنوي؛ ومن أمثلته: قول الله تعالى: {تدمّر كلّ شيء بأمر ربّها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم} فهذا عام نسبي لأنه متعلق بأرضهم ومنازلهم، وليس متعلقاً بكلّ شيء في الأرض والكون.
2: ويقسّم باعتبار إرادة العموم به إلى عامّ مراد به العموم، وعامّ مراد به الخصوص.
- فالعام الذي يراد به العموم هو الأصل فيما ورد بصيغة العموم.
- والعامّ الذي يراد به الخصوص، هو ما ورد بصيغة العموم والمراد به بعض أفراد العام، ومن ذلك قول الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} فإنَّ الذي قال ذلك طائفة منهم.
3: ويقسّم باعتبار ورود التخصيص عليه إلى عامّ مخصوص، وعامّ باق على عمومه.
- فالعام المخصوص هو الذي ورد عليه ما يخصصه، ومثاله قول الله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} هذا عام في جميع المطلقات، ثمَّ خصَّ الله الحوامل بحكم مختلف فقال: {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن}.
صيغ العموم
للعموم صيغ مشتهرة ومنها:
1: كلّ وجميع، ما لم يُسبقا بنفي
ويلحق بهما ما جرى مجراهما من ألفاظ توكيد الشمول نحو أجمعين، وعامّة، وكافّة، كما في قول الله تعالى: {فسجد الملائكة كلّهم أجمعون} ،
وإذا دخلت "إن" الاستغراقية على كلّ أفادت النصّ على العموم الاستغراقي كما في قول الله تعالى: {إن كلّ من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا}
2: ما دلّ على تعريف الجنس
وله أصناف منها:
- تعريف اسم الجنس كما في قول الله تعالى: {إن الإنسان لفي خسرٍ إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر} فلفظ الإنسان هنا يعمّ كلَّ إنسان، ثم جرى التخصيص بالاستثناء بعد ذلك.
- وتعريف الجمع، كما في قول الله تعالى: {إن الأبرار لفي نعيم}.
- وتعريف اسم الجمع، وهو ما لا واحد له من لفظه، كتعريف الأنام في قوله تعالى: {والأرض وضعها للأنام}
- وتعريف اسم الجنس الجمعي، وهو ما يفرّق بينه وبين واحده بالتاء أو الياء، ومنه قول الله تعالى: {والنجم والشجر يسجدان} ، وقوله تعالى: {غلبت الروم}
فما أفاد تعريف الجنس من هذه الأصناف فهو من صيغ العموم، وأما ما كان التعريف فيه لغير غرض تعريف الجنس فلا يدل على العموم، ومن ذلك التعريف الذي يراد به العهد كما في قول الله تعالى: {نزّل عليك الكتاب} ، والمراد به القرآن، وليس اسم جنس لجميع الكتب، وقوله تعالى: {فعصى فرعون الرسول} وهو الرسول المعهود في الآية التي قبلها، وقوله تعالى: {قالت الأعراب آمنا} فهذا قول محكي عن أعرابٍ معهودين، وليس كلّ الأعراب.
وقد يحتمل التعريف في بعض المواضع أن يراد به الجنس، وأن يراد به العهد، فيكون في الآية وجهان في التفسير فإذا صحّ الوجهان فيُحمل المعنى عليهما كما يحمل على القراءتين الصحيحتين، ومن ذلك قول الله تعالى: {إنا أعطيناك الكوثر}
وليُعلم أنه ليس كلّ تعريف بالألف واللام يراد به تعريف الجنس؛ فقد يقع التعريف للعهد، ولمعنى الأولوية، ولمعنى التمام؛ وغير ذلك.
3: أسماء الشرط والاستفهام
مثل: "مَن"، و"ما"، وأيّ، وأين، ومتى، وحيث، وأنى، قال الله تعالى: {وما تفعلوا من خيرٍ يعلمه الله}، وقال تعالى: {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره}.
4: الأسماء الموصولة
مثل: "من"، و"ما" الموصوليتان، و"الذي"، و"التي"، و"والذين"، "واللاتي" ونحوها، بشرط إرادة الجنس بها كما في قول الله تعالى: {إن الذين آمنوا وعلموا الصالحات لهم جنات النعيم}.
وإذا أريد به تعريف العهد فلا يدل على العموم، ومنه قوله تعالى: {وقال الذي آمن يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد}.
5: النكرة في سياق النفي أو النهي بشرط ألا يكون المراد بها سلب العموم، وفي سياق الاستفهام.
6: المعرف بالإضافة مفرداً كان أو جمعاً، بشرط ألا يكون التعريف لمعهود، فمثال المفرد قول الله تعالى: {وإن تعدّوا نعمة الله لا تحصوها} ، ومثال الجمع قول الله تعالى: {فآمنوا بالله ورسله}.
فآما إذا كان التعريف لمعهود فإنه يفسّر به؛ كما في قول الله تعالى: {وإن كنتنّ تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعدّ للمحسنات منكن أجراً عظيما}.
7: اسم "لا" النافية للجنس، فهو مثل النكرة في سياق النفي من حيث دلالته على العموم، ومن أمثلته كلمة التوحيد: لا إله إلا الله.
وصيغ العموم أكثر من ذلك، وقد اختلف في بعضها، وأفرد فيها مؤلفات منها كتاب "تلقيح الفهوم في تنقيح صيغ العموم" للحافظ العلائي.
التخصيص
والتخصيص هو إخراج بعض أفراد العام عن حكمه بحكم خاص.
والمخصِص منه متصل ومنفصل.
- فالمخصِّص المتصل هو الذي يتبع جملة العموم ولا يستقلّ بنفسه؛ كالاستثناء، والشرط، والصفة المقيدة.
- والمخصص المنفصل هو الذي يرد في نصّ آخر غير موضع العام، وقد تقدّم مثاله في العام المخصوص.
وذهب بعض الأصوليين إلى أنّ المخصص المنفصل هو المستقلّ بذاته كالعقل والحسّ.
مباحث العام والخاص
وفي العام والخاص مباحث مهمة منها:
1: أنّ خطابَ النبي صلى الله عليه وسلم خطاب لأمته إلا إذا دلَّ دليل على اختصاصه به.
2: وأنّ العبرة بعموم اللفظ أو بخصوص السبب وهي قاعدة تفسيرية معروفة، وفيها تفصيل.
3: دخول النساء في خطاب الرجال إلا إذا اقترن به ما يدلّ على اختصاص الرجال به.
10: المطلق والمقيّد
معنى المطلق والمقيّد
المطلق هو النصّ الذي يتناول فرداً شائعاً في جنسه من غير قيد.
ومثاله: قول الله تعالى: {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين} فالمسكين واحد غير معيّن في جنسه؛ فدلّ ظاهر الآية على أنه يجزئ إطعام مسكين واحد من غير تعيين ولا تقييد للمسكين بصفة.
والمقيَّد هو النصّ الذي ورد على إطلاقه ما يعيّن المراد أو يحدد صفته أو شرطه أو غيرهما من غير تعيين.
والفرق بين المطلق والعام أنّ المطلق عمومه بدليّ؛ والعام عمومه شمولي.
فإذا قيل لك: أطعم مسكيناً كفاك أن تُطعم مسكيناً واحداً.
وإذا افترضنا أن مساكين بلدة من البلدان سبعين مسكيناً؛ فإنَّ الأمر يتعلّق بكلّ واحد منهم على طريق البدل، فإذا أطعم المسكين الأول كفاه ذلك، فإن لم يتيسّر له أطعم مسكيناً غيره فيكون الآخر بدلاً عن الأول.
لكن إذا قيل لك: أطعم مساكين البلدة فهذه صيغة عموم تفيد أنّ الأمر يشمل السبعين مسكيناً كلهم.
والإطلاق يقع في الأخبار والأحكام
فأما الإطلاق في الأخبار؛ فمنه قول الله تعالى: {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة}، وقوله تعالى: {إن الله مبتليكم بنهر}.
وأما الإطلاق في الأحكام فهو المقصود هنا، ومن أمثلته قول الله تعالى: {اهبطوا مصراً} ، وقوله تعالى: {إنَّ الله يأمركم أن تذبحوا بقرة}، وقوله تعالى: {فتيمموا صعيداً طيباً}.
صيغ الإطلاق والتقييد
ليس للإطلاق صيغ محصورة؛ فكلّ ما يُفهم منه بلسان العرب الإطلاق من غير تقييد فهو مطلق، والمقيّد إذا لم يحصل به التعيين فهو مطلق فيما سوى القيود التي قيّد بها.
ومما اشتهر من صيغ الإطلاق:
1: الأمر المطلق، وهو ما خلا من القرائن المقيّدة، وهو مفيد للإطلاق، ثمّ قد يدخل عليه ما يقيّده فيكون على أحوال:
- فمنه ما يكفي في امتثاله أن يؤدّى مرة واحدة؛ كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: « أيها الناس! إنَّ الله عزَّ وجلَّ قد فرض عليكم الحج فحجوا ». رواه أحمد ومسلم من حديث يزيد بن هارون قال: أخبرنا الربيع بن مسلم القرشي، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
- ومنه ما يكون الأمر به للإباحة كما في قول الله تعالى: {وإذا حللتم فاصطادوا}.
- ومنه ما يتكرر الأمر به بتكرر شرطه أو سببه؛ كما في قول الله تعالى: {وإن كنتم جنباً فاطّهروا}، وقوله تعالى: {وإن جنحوا للسَّلم فاجنح لها}، وقوله تعالى: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا}
- ومنه ما تلزم منه المداومة، كما في قول الله تعالى: {آمنوا بالله ورسوله} وقوله تعالى: {واتقوا الله}
فالأمر بالإيمان بالله ورسوله وبتقوى الله يقتضيان المداومة، لأن ترك الإيمان بالله ولو لوقت قصير يقتضي الكفر؛ وكذلك ترك التقوى ولو لوقت قصير يقتضي الوقوع في المعصية، فاقتضى هذان الأمران المداومة.
وضابط الأمر الذي يقتضي المداومة أن يعدّ تركه مرة واحدة عصياناً ومخالفة؛ فكلّ ما كان تركه مرة عصياناً فالأمر به يقتضي الدوام، والدوام على نوعين: دوام فعل، ودوام استصحاب بأن لا يعمل نقيضه.
وأغراض الأمر أكثر من ذلك، ومحلّ بحثها في أصول التفسير البياني، وإنما المقصود هنا بيان أنّ الأمر المطلق يدل على الإطلاق حتى يرد ما يقيّده.
2: النكرة في سياق الأمر أو الإثبات.
- فأما النكرة في سياق الإثبات فهي في الأخبار غالباً، ويأتي التنكير في سياق الإثبات لأغراض منها: التعظيم، والإبهام، والتشويق.
- وأما النكرة في سياق الأمر فغالباً ما تكون في الأحكام، وهي مفيدة للإطلاق، لكن ينبغي أن يُعلم أنّ الإطلاق يفسّر في كلّ موضع بحسبه.
- فمنه ما يتكرر الأمر به بتكرر شرطه أو سببه؛ كما في قول الله تعالى: {وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها}، وقوله تعالى: {وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيبا}.
- ومنه ما تجب المداومة عليه أو استصحاب حكمه؛ كما في قول الله تعالى: {واعملوا صالحاً} فقد ورد الأمر مقيّداً بقيد الصلاح، والمعنى: "اعملوا وليكن عملكم صالحاً"، فيبقى الإطلاق فيما جاوز هذا القيد؛ فيختار العبد من الأعمال الصالحة ما يصلح له، وقد يرد على بعض الأعمال قيدٌ من نصّ آخر يوجبها فيستفاد الوجوب من ذلك النصّ الآخر.
لكن هذا النص يصحّ فيه إعمال مفهوم المخالفة لأن الصفة مقيدة، والمعنى: لا تعمل عملاً سيئاً.
وكذلك قول الله تعالى: {وقولوا للناس حسناً} ورد الأمر مطلقاً بما يفيد المداومة؛ أي: ليكن قولكم حسناً أو ذا حُسْن، على القراءتين.
وكذلك قول الله تعالى: {اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً}
ومن المهمّ التفريق بين العموم والإطلاق؛ فلو كان قوله تعالى: {واعملوا صالحاً} من صيغ العموم لكن المعنى: اعملوا جميع الأعمال الصالحة، وهذا غير مراد.
والعام والمطلق يشتركان في وصف "مطلق العموم"، لكن العام عمومه شمولي، والمطلق عمومه بدلي.
وهذا كما لو قال لك الطبيب: كُلْ أكلاً صحياً؛ فإنّه يريد منك المداومة على الأكل الصحي من غير إلزام بجميع المأكولات الصحية؛ فهو قد أطلق لك الاختيار بين المأكولات الصحية، وقيّد الأكل بما يمنعك من مخالفته؛ فكان كلامه بمعنى: كل، وليكن أكلك صحياً، ومفهوم المخالفة فيه: "لا تأكل أكلاً غير صحي"، لكن جملة الأمر أبلغ من جملة النهي لأنها تقتضي الإلزام بالفعل أو الحثّ عليه.
3: تعريف الماهية، ويسمّيه بعضهم تعريف الحقيقة، وهو ما يصدق على قليل المعرَّف وكثيره، كما تقول: شربت الماء، وأكلت الخبز، وإنما شربت قدراً من الماء، وأكلت قدراً من الخبز، ومنه قول الله تعالى: {وافعلوا الخير} فهو مطلق في أنواع الخير، وليس تعريفاً للجنس يقتضي الأمر بجميع أفعال الخير.
تقييد المطلق:
وتقييد المطلق قد يكون متصلاً به، وقد يكون في نصّ آخر منفصل عنه، وقد يكون التقييد معنوياً يعرف بدلالة الحسّ أو العقل أو العرف وقت نزول الخطاب.
فمن المقيّدات: الصفة المقيدة، والشرط، والحال، والغاية، وغيرهما.
حكم المطلق والمقيّد
المطلق يجب العمل به على إطلاقه حتى يرد ما يقيّده.
والنصّ المقيَّد هو الذي قُيّد ما فيه من الإطلاق بقيد متّصل أو منفصل؛ فيجب العمل به على تقييده.
وقول العلماء يجب حمل المطلق على المقيّد هو كقولهم يجب حمل المتشابه على المحكم، أي: أن يرجع في معنى النصّ المطلق إلى النصّ المقيَّد.
وقد اشتهر التمثيل لذلك عند الأصوليين بتقييد تحريم الدم في قوله تعالى: {حرمت عليكم الميتة والدم} بأن يكون الدم مسفوحاً، لقوله تعالى: {قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً}.
وهذا التمثيل فيه نظر لأنّ التعريف في الدم في الآية الأولى للعهد وليس للجنس، فهو غير مطلق، ولا عامّ، وإنما هو الدم المعروف عند العرب في الجاهلية مما كانوا يشربونه وهو مسفوح، ولذلك لما ورد هنا معرّفاً تعريف العهد الذهني لم يُحتج فيه إلى تخصيص ولا تقييد لأنه نصّ بيّن في الحكم.
ولما ورد الدم منكراً في سياق النفي في الآية الثانية قيّد بكونه مسفوحاً حتى لا يفهم منه تحريم مطلق الدم ولو كان مختلطاً باللحم بعد الذبح.
وقد كثر في كتب الأصول وبعض كتب علوم القرآن بحث صور المطلق والمقيد، وذكر الاتفاق على حمل المطلق على المقيّد إذا اتحدا في الحكم والسبب، وذكروا الخلاف فيما عدا ذلك، ولا طائل من هذا المبحث لأنّ النصّين إذا كانا في مسألتين مختلفتين فلكل مسألة بحثها المستقل، وإنما يصحّ حمل المطلق على المقيد إذا تواردا على مسألة واحدة.
- قال أبو المظفر السمعاني: (نقول في المطلق والمقيّد إذا وردا في حادثة واحدة أنَّ التقييد زيادة في أحد الخطابين ورد من الشارع فوجب الأخذ بها).
ومما اشتهر عند الأصوليين في هذا الباب اختلافهم في إيجاب أن تكون الرقبة مؤمنة في كفارة الظهار المذكورة في قول الله تعالى: {والذين يظاهرون من نسائهم ثمّ يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسّا} فهي هنا مطلقة، وقد ورد التقييد بالإيمان في كفارة قتل المؤمن خطأ في قول الله تعالى: {ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلّمة إلى أهله}
وقد ذهب جمهور أهل العلم الأوزاعي ومالك والشافعي وأبو عبيد وأحمد إلى اشتراط أن تكون الرقبة مؤمنة في كفارة الظهار، وذهب إبراهيم النخعي، وسفيان الثوري وأبو ثور وأهل الرأي إلى أنه يجزئ عتق رقبة كافرة.
- قال أبو بكر ابن المنذر: (لكل آية حكمها، فما أطلقه الله فهو مطلق).
وما قاله ابن المنذر هو التحقيق، لكن ينظر في عمل الصحابة؛ فإن كان على اشتراط أن تكون الرقبة مؤمنة فله أصل تعضده مقاصد الشريعة، ولذلك روي عن الحسن البصري أنه لا يجزئ في شيء من الكفارات إلا عتق رقبة مؤمنة.
وهذا القول ليس مبناه حمل المطلق على المقيد هنا لاختلاف المسألتين، وإنما على اتباع عمل الصحابة ومراعاة مقاصد الشريعة.
11: فقه أمثال القرآن
ومن الأصول المهمة في تدبّر القرآن عقل أمثال القرآن، فإنّ الله تعالى قد ضرب في القرآن من كلّ مثل، وصرّف فيه الآيات، فلم يبق أمرٌ مما يحتاج فيه إلى معرفة الهدى إلا وقد ضرب الله له مثلاً؛ فمن عقل أمثال القرآن فقد حصّل علماً غزيراً يكون به من العلماء الذين أثنى الله على علمهم.
- قال الله تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ}
- وقال تعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٧)}
- وقال تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٢١)}
- وقال تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (٤٣)}.
فتبيّن بهذه الآيات كثرة الأمثال في القرآن، وشمولها لكل ما يُحتاج إلى بيان الهدى فيه، وأنّ الله ضربها للتفكر والتذكر فهي ميسّرة بتيسير الله تعالى القرآن للذكر.
- فمن أحسن التفكر والتذكر تبيّنت له مقاصد الأمثال وعرف ما فيها من الهدى واتبعه فحسنت حاله وحسنت عاقبته؛ فكان من عالماً من العلماء.
- ومن عرف هذه الأمثال ثمّ لم يتّبع ما فيها من الهدى فمثله كمثل الذي قال الله تعالى فيه: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (١٧٥)}.
وقد جعل الله تعالى ضرب الأمثال حجّة على المخالفين والمعرضين عن اتباع هداه؛ كما قال تعالى: {وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (٤٤) وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (٤٥)}.
وعقلُ أمثال القرآن يكون بالإيمان بها، وفهم معناها، وإدراك مقاصدها، واتباع هداياتها، وحفظها علماً وعملاً.
- فمن لم يؤمن بأمثال القرآن فليس بعاقل لها.
- ومن لم يفهم معناها ولم يدرك مقاصدها فليس بعاقل لها.
- ومن لم يتبع ما فيها من الهدى فليس بعاقل لها.
- ومن عرفها ثمّ نسيها أو ترك العمل بها فليس بعاقل لها.
فعاد عقل الأمثال إلى أمرين عظيمين:
أحدهما: إدراك معانيها ومقاصدها بأن يعيها القلب ويتفهّمها ويتبصّر بها.
والآخر: حفظها وتعاهدها، ومنه عقل البعير بتقييده؛ فكذلك عقل الأمثال والوصايا بحفظها وتعاهدها وعدم التفريط فيها وإضاعتها.
وضرب الأمثال من أحسن من طرق التعليم والبيان، لما فيها من تقريب للمعاني الكثيرة بألفاظ وجيزة يسهل تصورها والتفكر فيها.
وربّ مثل يتفكّر فيه المرء فينتفع به خيرٌ له من كلامٍ كثيرٍ وشرح طويل؛ لأنّ العبرة بنفاذ العلم إلى القلب حتى يعقله، ويثبت فيه فينتفع به.
وأمثال القرآن على صنفين:
الصنف الأول: أمثال صريحة، وهي الأمثال التي صرّح فيها بلفظ المثل، كما في قول الله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ...} الآية، وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (٢٤)}
والصنف الثاني: أمثال كامنة، وهي التي تتضمّن معنى المثل ومقصده من غير أن يصرّح فيها بلفظ المثل، وهو أكثر أمثال القرآن؛ وكلّ ما تتحقق به العبرة بالتبصّر أو الثواب أو العقاب فهو مثل، وإن لم يصرّح فيه بلفظ المثل.
- ومن ذلك قول الله تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٢١)}
فسمّى ما ذكره الله تعالى في صدر الآية مثلاً وإن لم يصّرح فيه بذكر المثل.
- ومن ذلك قول الله تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (١٦) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٧)}
فذكر قدرة الله تعالى على إحياء الأرض بعد موتها مثل ضربه الله لنتفكر فيه ونتذكر به، وفيه بيان قدرته تعالى على إحياء القلوب موتها وتليينها بعد قسوتها؛ ومن تدبر المثل على هذا النحو أدرك أنّ مقصده حث المؤمنين على تعظيم الرجاء في الله تعالى، وألا يقنطوا من هدايته ورحمته، وأن يسألوه أن يصلح قلوبهم ويحييها بذكره، وأن يتعاهدوا قلوبهم بالذكر والتذكر والتفكر فلا يكونوا كالذين قست قلوبهم من الغفلة وطول الأمد عن الذكر.
- ومن ذلك قول الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٥٧) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (٥٨)}.
قال قتادة: « هذا مثل ضربه الله في المؤمن والكافر ». رواه عبد الرزاق.
فهذا مثل لاختلاف آثار ما أنزل الله من الوحي والهدى على الناس فمنهم مؤمن شاكر طيّب القلب يتقبّل الهدى وينتفع به ويثمر فيه شكراً وعملاً صالحاً، ومنهم كافر جحود خبيث القلب لا يقبل الهدى ولا ينتفع بالآيات على ظهورها وكثرتها، ولا تثمر فيه إلا شيئاً قليلاً لا ينتفع به ولا يثبت عليه.
وقرأ أبو جعفر: [ إلا نكَداً] بفتح الكاف؛ فيكون الاستثناء منقطعاً، والمعنى: لا ينتفع به أصلاً، وإنما يكون ما يخرج منه النَّكد وخلاف ما يجب أن يخرج؛ فدلّت القراءتين على صنفين من أهل الكفر والشقاق.
12: فقه المقاصد القرآنية
من الأصول المهمة في تدبر القرآن فقه مقاصده؛ وللقرآن مقاصد عامّة بيّنتها كثير من الآيات، ولسوره وآياته مقاصد تفصيلية توافق مقاصده العامة.
وهدايات القرآن وما يستخرج من معانيه وأحكامه ولطائفه راجعة إلى تحقيق مقاصده؛ فمن تفقَّه في مقاصد القرآن عرف مناسبة هداياته لمقاصده، بل ربما أدرك بهذه المعرفة علل بعض الأقوال الخاطئة في التفسير، وبعض حجج الترجيح بين أقوال المفسرين.
والإضافة في كلمة "مقاصد القرآن" هي من باب الإضافة لأدنى ملابسة، وذلك لأنها تستخرج من آيات القرآن فتنسب إليه لا على الجزم بقصد الله تعالى لها في جميع ما يذكر منها.
وذلك أنّ مقاصد القرآن على مرتبتين:
المرتبة الأولى: مقاصد جلية تعرف من دلالة النص أو الظاهر أو تكون محلّ إجماع عند أهل العلم؛ وعامّتها مما هو معلوم من الدين بالضرورة أو مما تظافرت فيه الأدلة.
وهذه يقع غالباً الجزم بها لظهورها.
والمرتبة الثانية: مقاصد خفية تستخرج بالاستنباط، وقد لا يتفطّن لبعضها كثير من العلماء فضلاً عمّن دونهم، وإنما يتبيّن ذلك لخاصتهم على تفاضل منهم في ذلك، وقد يتبيّن لغيرهم من ذلك شيء بعد شيء.
وسبب ذلك أنّ إدراك هذه المقاصد الخفية قد يكون بتفهيم خاصّ يوفّق الله له بعض عباده بما يظهر له من غير مشقة، وقد يكون ظهوره بعد طول قراءة وتدبر وتفكّر حتى يتبيّن له المقصد تبيّنا جلياً.
والكلام في هذه المرتبة اجتهادي، والمجتهد قد يصيب وقد يخطئ، فإذا ظهر صواب قوله بحجج صحيحة فهو من توفيق الله تعالى له، واعتباره يعين على التدبر.
وقد يكون لكلامه حظّ من النظر ولا يجزم بصحته.
وقد يتبيّن للناظر ما يدلّ على خطأ المجتهد في اجتهاده؛ فيردّ قوله لظهور خطئه.
فالاجتهاد في مقاصد القرآن على هذه المراتب في أحكامه.
عناية السلف بمقاصد القرآن
وقد كان للسلف من الصحابة والتابعين وتابعيهم عناية ظاهرة بمقاصد القرآن والاجتهاد في معرفتها؛ لإدراكهم بأنّ أشرف المراتب في فهم كلام المتكلم إدراك مقاصده من كلامه وإن لم ينصّ عليها، وقد رويت عنهم في ذلك آثار تدلّ على هذه العناية. وكلام السلف في مقاصد القرآن ومقاصد السور والآيات على نوعين:
أحدهما: كشف الخفيّ من ذلك بالتنبيه على العلّة الكاشفة كما بيّن ابن عباس رضي الله عنهما مقصد سورة النصر وأنّها نعي النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد وافقه على ذلك عمر بن الخطّاب وقال: (لا أعلم منها إلا ما تعلم)؛ وهذا المقصد الخفيّ لا يُدرك بمجرد معرفة معاني ألفاظ الآيات، وإنما يدرك بالفهم الخاص والاستنباط الدقيق للغرض من إنزال تلك السورة في ذلك الوقت، ومناسبة الأمر للحدَث، وهذا الأمر لا يدركه إلا الأفذاذ ممن يرزقهم الله الفهم الخاص.
والنوع الآخر: التعبير عن المقصد العام للسورة بدلالة ما يتكرر نوعه في مواضع منها؛ ومن ذلك قول ابن عباس في سورة التوبة: إنها الفاضحة ؛ لكثرة ما ورد فيها من بيانٍ لصفات المنافقين.
طرق معرفة مقاصد القرآن
الكلام في مقاصد القرآن على ثلاثة أصناف:
الصنف الأول: المقاصد العامة للقرآن
ومما يستعان به على معرفة المقاصد العامة للقرآن الكريم تدبر الآيات المتصلة بالأمور التالية:
1: المقصد من إنزال القرآن، وقد ورد في ذلك آيات كثيرة تدلّ على تعدد مقاصد إنزال القرآن.
2: مقاصد إرسال الرسول صلى الله عليه وسلم، والمقاصد العامة لإرسال الرسل عليهم السلام.
3: وصف القرآن بأوصاف لها أثر على التشريع؛ ومن ذلك: وصفه بأنه هدى وبيان، وشفاء وبشرى، وذكر وذكرى، ونحو ذلك من الصفات التي تعرف بها بعض المقاصد العامة للقرآن.
4: مقاصد خلق المكلفين؛ لأن تكليفهم بمرتبط بمقاصد الشريعة، والقرآن الكريم هو أصل هذه الشريعة.
5: تعليل الأحكام الشرعية بعلل عامة يدخل فيها الحكم المعلَّل وغيره.
الصنف الثاني: مقاصد السور
ومما يستعان به على معرفة مقاصد السور النظر فيما أثر عن السلف وأئمة المفسرين من الكلام في مقاصدها، وتدبر مقاصد الآيات، ومناسبة بعضها لبعض، وتعرف الغايات القريبة والبعيدة لتلك المقاصد.
ومقاصد بعض السور قد تعرف بدلالة المناسبة بين القصص الواردة وبين حال نزولها كما دلّت سورة الفيل على تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين بذكر آية من أظهر آيات قدرة الله تعالى التي استفاضت بها معرفتهم، بل تواترت، فيعرف بذلك أنّ مقصد سورة الفيل بيان أن مَن ردّ كيد أصحاب الفيل وحفظ بيته المحرم على حين ضعف أهل مكة وقوة أعدائهم سيحفظ دينه ورسوله ويعلى كلمته وينصر عباده المؤمنين.
وكما دلّت سورة الفجر على أنّ أهل الباطل مهما أوتوا من سطوة ومهما كان لهم من صولة فإنّ لهم مرصاداً يتبعه حساب، وأنّ ما أتوه لم يكن عن إكرام لهم بل هو ابتلاء واختبار، وأنّ لكل نفس غاية تنتهي إليها إما النعيم الخالد وإما العذاب المقيم.
فكانت هذه السورة شفاء لنفوس المؤمنين مما يجدون من سطوة أعدائهم، وتبصيراً لهم بعاقبة ما أتوه من قوة وزينة في الحياة الدنيا.
الصنف الثالث: مقاصد الآيات
ومقاصد الآيات منها مقاصد جلية ظاهرة تعرف من دلالة النص أو الظاهر؛ كذكر الثواب لعمل من الأعمال للترغيب فيه، أو الوعيد على عمل من الأعمال للترهيب منه، أو الثناء على عمل من الأعمال أو على عامليه للترغيب في الاقتداء بهم، ونحو ذلك.
ومنها مقاصد تعرف بتدبر التناسب بين الآيات، ومناسبة الآية للسورة، ومناسبة هدايات السورة لأحوال نزولها، ونحو ذلك.
التحذير من التكلف والانحراف في الكلام في مقاصد القرآن
بحسب طالب العلم أن يتكلم في هذا الباب بما صحّ مما أثر فيه، وما عرفه وظهرت له دلالته، وتبينت له حجته، وليمسك لسانه عما لا يدركه علمه، لأن التساهل في الحديث في هذا الباب قد يفضي بالعبد إلى القول في القرآن بغير علم، وهو من كبائر الذنوب.
وليحذر طالب العلم من التكلف في هذا الباب؛ فهو بريد القول في القرآن بغير علم،
وليكن على حذر شديد من كلام أهل الأهواء في هذا الباب؛ فقد دخلوا منه مدخلاً لمحاولة تقرير بدعهم، ومحاولة إيجاد مناسبة بينها وبين بعض الآيات المتشابهات عليهم ابتغاء منهم للفتنة والدعوة إلى أهوائهم.
ولما وجدوا أقوال السلف وأئمة المفسرين يستعصي عليهم تطويعها لترويج بدعهم وأهوائهم، وكذلك الدلالات اللغوية فزع بعضهم إلى التفسير البياني، وبعضهم إلى التفسير المقاصدي وبعضهم إلى غيرها ليتحرروا من قيود التفسير بالمأثور، والتفسير اللغوي لأن الكلام في دلالات تلك الطرق منضبط بضوابط علمية لا حجة لمن خالفها، وأما كلام كثير منهم في التفسير البياني وفي التفسير المقاصدي فليس له زمام ولا خطام.
ولذلك كان من الواجبات على أهل التفسير في هذا الزمان أن يعرفوا من الأصول والضوابط ما يمكّنهم من تعرّف الأخطاء والانحرافات في هذا الباب، والكشف عن أسبابها وآثارها، والردّ على المخالفين، وبيان الحقّ بما يكفي ويشفي.
والتفسير بالأسلوب المقاصدي من أنفع الأساليب في التفسير إذا أحسنه طالب العلم، ولبعض العلماء عناية به بيّنتها في كتاب "أساليب التفسير".
13: تناسب الآيات والسور
ومن العلوم التي يستفيد منها المتدبر فوائد حسنة علم المناسبات القرآنية، وهو علم لطيف تظهر به وجوه بديعة في التفسير ولطائف القرآن، ويستفاد من بعضها في بعض أوجه التفسير، ونقد بعض الأقوال وإعلالها.
وأصل القول بالتناسب هو الإيمان بسعة علم الله تعالى وقدرته وحكمته وإحكامه لكتابه جلّ وعلا، وأنه ما من مفردة من مفردات القرآن إلا وقد اختارها الله على علم وحكمة، ووضعها موضعها الذي هو أنسب لها.
وهذا يقتضي صحة القول بالتناسب إجمالاً، وأما التفصيل فتتفاضل الأفهام في إدراكه:
- فمنه ما يظهر بقدر من التأمّل والنظر.
- ومنه ما يقع فيه الاختلاف والتردد.
- ومنه ما لا يكاد يدركه كثير من العلماء.
ولذلك فإنّ كلام المفسرين في هذه الأبواب منه ما هو حسن بديع، ومنه ما هو محلّ نظر وتأمّل، ومنه ما فيه تكلّف وبعد.
والذي أوصي به طلاب التفسير أن يأخذوا من هذا العلم بما ظهرت لهم معرفته، وتيسّر لهم البيان عنه من غير تكلّف، وأن يدعوا التكلّف في هذا الباب وغيره فهو مظنّة للزلل، وبريد للقول في القرآن بغير علم، وأن يحذر أن يستجريه الشيطان لشيء من ذلك فإنّ البدعة والغلو يولعان بأصحابهما حتى يخرجوا من منهج السنة والسداد إلى سبل الضلالة والزيغ.
فروع علم المناسبات
وعلم المناسبات له فروع عدة منها:
1: تناسب سور القرآن في ترتيب المصحف.
وترتيب سور القرآن في المصحف وإن كان القول الراجح فيه أنه غير توقيفي إلا أنّ الصحابة لما رتبوا السور كان عندهم من العلم بترتيب النبي صلى الله عليه وسلم للسور في التلاوة والعرض ما يكفي، وعندهم من العلماء بالمناسبات ومقاصد السور ما اقتضى أن يكون ترتيبهم الذي أجمعوا عليه له مناسبات معتبرة.
- قال سليمان بن بلال التَّيمي: سمعتُ ربيعةَ يُسأل: لم قُدِّمَت البقرة وآل عمران وقد نزل قبلهما بضع وثمانون سورة بمكة، وإنما نزلتا بالمدينة؟
فقال: « قُدِّمَتا، وأٌلّفَ القرآن على علمٍ ممن ألَّفه به، ومن كان معه فيه، واجتماعهم على علمهم بذلك، فهذا مما يُنتهى إليه، ولا يُسأل عنه ». رواه ابن شبة في تاريخ المدينة، وابن وهب في جامعه كما في جامع بيان العلم لابن عبد البر.
قال ابن وهب: وسمعت مالكاً يقول: « إنما أُلِّفَ القرآن على ما كانوا يسمعونه من النبي صلى الله عليه وسلم ».
ثمّ إن القرآن قد نزل جملة واحدة إلى سماء الدنيا، ولا بد في نزوله جملة واحدة من ترتيب، وهذا الترتيب إنما هو بعلم الله تعالى وحكمته.
وقد اجتهد جماعة من أهل العلم في محاولة استخراج مناسباتٍ لترتيب السور في المصاحف؛ فذكر بعض المفسرين من ذلك في كتبهم ما ذكروا، وأفرده بعضهم بالتأليف، ومن تلك المؤلفات:
- البرهان في تناسب سور القرآن، لأبي جعفر أحمد بن إبراهيم الثقفي الغرناطي(ت: 708هـ).
- وتناسق الدرر في تناسب السور، لجلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي(ت: 911هـ).
- وجواهر البيان في تناسب سور القرآن، لعبد الله بن الصديق الغماري المغربي(ت:1413هـ).
ومن أمثلة هذا التناسب:
1: أن سورة النمل في التثبيت، وسورة القصص في التمكين، وسورة العنكبوت في الابتلاء؛ فلما كانت الحاجة إلى التثبيت أعظم قدّمت عليهما، ولما بيّنت أسباب التمكين وسنّة الله تعالى الماضية فيه مهما بلغ عتوّ المفسدين في الأرض وتطلّعت النفس إلى التنمكين ناسب إتباع ذلك ببيان سنّة الابتلاء، وأن التمكين لا بدّ فيه من ابتلاء.
2: ومن ذلك التناسب بين سورتي الفيل وقريش؛ فإنّ الله تعالى لما ذكر إهلاكه أصحاب الفيل؛ ذكّر قريشاً بمنّته عليهم بتيسير رحلتي الشتاء والصيف وأن أطعمهم وآمنهم.
3: ومن ذلك التناسب بين المعوذتين، وذلك لأنّ سورة الفلق في الاستعاذة من الشرور عامة، والشرور الخارجية خاصة، وسورة الناس في الاستعاذة من الشرور الداخلية التي تأتي الناس من قبل وسوسة أنفسهم ووسوسة الشياطين.
2: تناسب فواتح السور لخواتيم السور التي قبلها.
وقد تكلم في هذا الفرع جماعة من أهل العلم، ومنهم بدر الدين الزركشي في البرهان، والسيوطي في الإتقان، وبعض المفسرين في تفاسيرهم، وقد ذكروا أوجها للتناسب بين خاتمة كلّ سورة وفاتحة السورة التي تليها، ومن ذلك:
1: أنه لما ذكر في خاتمة سورة الفاتحة الصراط المستقيم وسؤال الهداية إليه والسلامة من طرق المغضوب عليهم والضالين ذكر في سورة البقرة تفصيل ذلك؛ فقال تعالى: {ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين} وفيه بيان الصراط المستقيم الذي يسأل المؤمنون الهداية إليه، وصدّر السورة بذكر تفصيل عن حال الذين أنعم عليهم، وحال المغضوب عليهم والضالين.
2: ما ذُكر في مناسبة خاتمة سورة الإسراء لأوّل سورة الكهف؛ وذلك أنّ في ختام سورة الإسراء الأمر بحمد الله، وذكر بعض آلائه وما يمجَّد به، وفي أوّل سورة الكهف ذكر الحمد لله.
هذا مع ما ذكر في تناسب الترتيب، ومنه قول بدر الدين الزركشي: (وكذلك مناسبة فاتحة سورة الإسراء بالتسبيح، وسورة الكهف بالتحميد؛ لأن التسبيح حيث جاء مقدم على التحميد يقال: "سبحان الله والحمد الله").
والكلام في أوجه التناسب كثير، وفي بعضه نظر.
3: تناسب فواتح السورة وخواتمها.
ويراد به أن يكون بين فاتحة السورة وخاتمتها مناسبة، وقد تكلم في هذا الفرع جماعة من المفسرين في تفاسيرهم، وذكره جلال الدين السيوطي في الإتقان، وأفرد فيه كتاباً سماه "مراصد المطالع في تناسب المقاطع والمطالع".
ومن أمثلة ذلك:
1: سورة النحل افتتحت بالنهي عن الاستعجال وختمت بالأمر بالصبر.
2: افتتاح سورة الإسراء بالتسبيح وختمها بالحمد، فناسبت دلائل قول: سبحان الله وبحمده.
3: ذكر فلاح المؤمنين في أول سورة المؤمنون، ثم قال في آخرها: {إنه لا يفلح الكافرون}.
4: تناسب ترتيب الآيات في السور.
ولجماعة من المفسّرين كلام حسن في الإبانة عن تناسب ترتيب بعض الآيات، وأكثر من عرف عنه التوسّع في ذلك برهان الدين البقاعي في كتابه "نظم الدرر في تناسب الآيات والسور"، وقد أحسن في مواضع من كتابه، ودخل عليه الغلط والتكلف في بعضها، وله أصول وقواعد في استخراج المناسبات منها ما هو صحيح ومنها ما هو خطأ ظاهر كاستعماله حساب الجمّل، والتكلف في هذا الباب كثير، ولذلك ينبغي لطالب العلم أن يأخذ بما استبانت صحته وظهر حسنه، وأن يدع ما فيه تكلف وتردد.
ولو جمع الصحيح الحسن من كلام العلماء في التناسب لكان أصلاً مهماً يعين طلاب العلم على تصوّر مسائل هذا الباب، ويوضح لهم منهاجه.
وترتيب الآيات في السور توقيفي بإجماع أهل العلم، فلا يستراب في أنّ لترتيبها حكمةً ومناسبة يعلمها من يوفقه الله لمعرفتها، ويجهلها من يجهلها.
- قال ابن عاشور في مقدمة تفسيره: (وإنَّ للتقديم والتأخير في وضع الجمل وأجزائها في القرآن دقائق عجيبة كثيرة لا يحاط بها، وسننبه على ما يلوح منها في مواضعه إن شاء الله، وإليك مثلاً من ذلك يكون لك عونا على استجلاء أمثاله.
قال تعالى: {إن جهنم كانت مرصادا للطاغين مآبا} إلى قوله: {إن للمتقين مفازا حدائق وأعنابا} إلى قوله: {وكأسا دهاقا لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا} فكان للابتداء بذكر جهنم ما يفسر المفاز في قوله: {إن للمتقين مفازا} أنه الجنة لأن الجنة مكان فوز، ثم كان قوله: {لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا} ما يحتمل لضمير فيها من قوله: {لا يسمعون فيها} أن يعود إلى {كأسا دهاقا} وتكون في للظرفية المجازية أي الملابسة أو السببية أي لا يسمعون في ملابسة شرب الكأس ما يعتري شاربيها في الدنيا من اللغو واللجاج، وأن يعود إلى {مفازا} بتأويله باسم مؤنث وهو الجنة وتكون في للظرفية الحقيقية أي لا يسمعون في الجنة كلاما لا فائدة فيه ولا كلاما مؤذيا. وهذه المعاني لا يتأتى جميعها إلا بجمل كثيرة لو لم يقدم ذكر جهنم ولم يعقب بكلمة {مفازا}. ولم يؤخر {وكأسا دهاقا} ولم يعقب بجملة {لا يسمعون فيها لغوا} إلخ).
5: مناسبة خواتيم الآيات لأوائلها ومقاصدها
وهو من بديع التناسب وأجلّ أنواعه قدراً، وأعظمها نفعاً، والتفكر فيه يورث فوائد جليلة القدر في التدبر والتبصر.
ويسمّيه بعض البلاغيين التذييل، وهذه التسمية منتقدة، وإنما سمّوه بذلك لأنّهم أوّل ما عرّفوا هذا الاصطلاح كان غرضهم دراسة البديع في الشعر؛ فسمّوا هذا اللون من البديع بالتذييل؛ فلما رأى بعضُ مَن كتب في بلاغة القرآن أمثلةً كثيرةً من ذلك في القرآن الكريم أجروا هذا الاصطلاح على ما استخرجوه منها، والأولى تسميته بحسن الختام.
وحسن الختام على أنواع، وأخصّ أنواعه ما يكون من ختم الآيات بالأسماء والصفات؛ فاختيار بعض الأسماء على بعض في ختام الآيات وتنوّع ترتيبها حكماً جليلة ولطائف بديعة تنبّه على مقاصد بعض الآيات، وتعليل بعض الأحكام، وقد لا يتفطّن لبعض تلك المناسبات إلا بعد التنبيه عليها، ومن ذلك قول الله تعالى: {وإن عزموا الطلاق فإنّ الله سميع عليم} ومناسبة هذا الختام أن الطلاق لا بدّ فيه من لفظ يُنطق، ونيّة تُقصد، والله تعالى سميع لكل صوت، وعليم بكلّ قصد.
وقد عني بهذا النوع جماعة من المفسرين في تفاسيرهم، وكان لبعض العلماء في هذا الباب كلام حسن؛ منهم:
- شيخ الإسلام ابن تيمية في مواضع من كتبه.
- وابن القيم له في ذلك كلام حسن بديع متفرّق في كتبه، وقد جمعتُ ما وقفتُ عليه من ذلك، وأفردتُ له باباً في كتاب "المرتبع الأسنى".
- والسعدي في القواعد الحسان أفرد له القاعدة التاسعة عشرة، وذكر له أمثلة أحسن فيها.
- وأفرده جماعة من المعاصرين بمؤلفات خاصة.
6: مناسبة مطالع السور لمقاصدها
وهو من أجلّ أبواب فهم القرآن، والكلام فيه فرع عن الكلام في مطالع السور، ومقاصد السور؛ فمن وفق لفهم المطالع والمقاصد رجي له أن يوفّق لفهم التناسب بينهما، وهو باب عظيم الأثر على القلب تبصيراً وتذكيراً وتنويراً.
وسأذكر مثالاً يتبيّن به فضل هذا العلم وأثره؛ وهو مناسبة مطلع سورة الصافات لمقصدها.
فمن تدبّر ما ذكره الله من القصص في هذه السورة وجدها تجتمع في التذكير بأمرٍ لا تكاد تخطئه عين البصيرة وهو الفرج بعد الشدة، ووجد فيها بيان الهدى في قضية من أشد القضايا وطأة على النفس المؤمنة، وهي الابتلاء بالشدائد، والتنبيه على أنواعها وأسبابها ومظاهرها والسبيل إلى تفريجها، وما يجب أن يكون عليه حال المؤمن المبتلى بالشدة من اليقين بالله تعالى، والطمأنينة لنصره وتأييده وتفريجه، وألا يستكين لعدوّه، ولا يجزع مما قدّر الله.
فذكر الله تعالى في هذه السورة ما يدل على أنّ الابتلاء بالشدائد سنّة ماضية، وله تبارك تعالى في ذلك حكم بديعة، وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أنّ أشدّ الناس ابتلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، وأنّ الفرج إنما هو بيد الله تعالى، وأنّ له أجلاً مقدراً، وأنّ الله ليس بغافل عن عباده.
فذكر الله في هذه السورة الكريمة التأصيل المفصّل لمعنى الفوز الحقيقي، والفوز فيه معنى التفريج، ثم ذكر تفريجه تعالى عن عبده نوحٍ عليه السلام من الكرب العظيم، والتفريج عن إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، ولما ابتلي برؤيا الذبح، ثم التفريج عن موسى وهارون، إلى أن ذكر الله في آخر السورة أصلاً جامعاً لا يتخلّف وهو قول الله تعالى: {ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين . إنهم لهم المنصورون . وإنّ جندنا لهم الغالبون} ثم ما بعدها من الآيات يدلّ على أنّ التفريج عن نبيه صلى الله عليه وسلم قادم لا محالة، وأنّ استعجال المشركين للعذاب إنما هو من فرط جهالتهم، وأنّ العذاب إذا نزل بساحتهم فلا مردّ له.
فكان مطلع السورة بديع المناسبة لهذا المقصد الجليل، وفيه ما يملأ قلب المؤمن طمأنينة ورضا بالله عزّ وجلّ وحسن تدبيره.
فقال الله تعالى: {والصافات صفا . فالزاجرات زجراً . فالتاليات ذكراً }
ثلاثُ جُمل استوعبت ثلاثة أحوال: قبل التفريج، وحال التفريج، وما بعد التفريج؛ معقبة بالفاء التي تفيد سرعة الاقتضاء لتعالج ما في النفس البشرية من الاستبطاء.
فقوله تعالى: {والصافات صفا} هم الملائكة في حالَيْ تأهّبهم وانطلاقهم لإنفاذ أوامر الله تعالى بزجر أعداء أوليائه الذين يكيدونهم، وزجر المخاطر عنهم.
فقوله تعالى: {والصافات صفا} يجمع معنيين صحيحين:
أحدهما: اصطفافهم صفوفاً لتلقي أوامر الله تعالى.
والآخر: انطلاقهم بإفراد أجنحتهم وصفّها مضيّاً لإنفاذ أمر الله تعالى.
والصف بهذا المعنى يقابله القبض كما قال تعالى: {أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن} ؛ فذكر هنا الصفّ ولم يذكر القبض لأنّه أدلّ على المضي والانطلاق السريع لإنفاذ أمر الله تعالى.
كما اختصّ المشارق بالذكر في قوله تعالى: {وربّ المشارق} ولم يذكر المغارب؛ لأن المقام مقام تبشير بالفرج.
والإتيان بالمصدر {صفا} دون صفوفاً ولا اصطفافاً فيه جمع بديع للمعنيين؛ فهم بين متأهّبٍ ومنطلق.
وأظهر أحوال استعداد الجند لإنفاذ أوامر الملك اصطفافهم لتلقي أمره وانطلاقهم لإنفاذه، والملائكة جند من جنود الله تعالى.
و{الصافات}: اسم فاعل من "صَفَّ"، وهو فعل يقع لازماً ومتعدياً.
فاللزوم يدلّ على المعنى الأول، وهو اصطفاف الملائكة.
والتعدّي يدلّ على المعنى الثاني وهو صفّها لأجنحتها.
وقوله تعالى: {فالزاجرات زجراً}
التعقيب بالفاء يفيد سرعة الاقتضاء بوقوع الزجر، فكأن الأمر إنما هو تأهّبٌ فانطلاقٌ فإنفاذ.
ولما كانت الكربات والشدائد يجمعها جامع الخوف، إما من عدوّ متربّص، وإما من خطرٍ متقحّم، كان أشدّ ما يحتاجه المكروب هو زجر هذه المخاوف عنه.
وحذف متعلّق الزجر دالّ على العموم، وذكر المصدر بعد اسم الفاعل يفيد التوكيد، وتحقق الزجر تحققاً لا ريب فيه.
وقوله تعالى: {فالتاليات ذكرا} وصف يصدق على أصناف:
- فيصدق على الملائكة القائمة بأمر ربها من الصفّ والزجر.
- وعلى النفوس المؤمنة التي تذكر الله عزّ وجلّ بعد وقوع التفريج لها.
- وعلى النفوس التي ترى العبرة في ذلك.
فمن مسبّح وحامدٍ؛ ففيه معنى قول الله تعالى: {فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين}.
وكلّ ذلك من ذكر الله عز وجلّ الذي تتلوه النفوس المؤمنة في مواضعه.
وفيه أحسن المناسبة لختام السورة بقوله تعالى: {سبحان ربك ربّ العزّة عما يصفون . وسلام على المرسلين . والحمد لله رب العالمين }
وصيغة جمع الجمع في الصافات والزاجرات والتاليات تفيد الكثرة الظاهرة لوقوع هذه الأمور وتكررها.
تقول: ملائكة صافة إذا أردتَ الجمع، و"الصافات" جمع الجمع، وكذلك يقال في الزاجرات والتاليات.
وفي ذلك تنبيه جليّ على كثرة ما يفرّج الله به عن عباده المؤمنين ويزجر عنهم من الأعداء والأخطار؛ فلو كشف لك الحجاب أو نفذت بصيرتك إلى التفكر في هذه الآيات ولوازمها وآثارها لتبيّنتَ كثرةَ ما يفرّج الله عن المكروبين في كلّ يوم، فكم نصرَ عبداً من عدو قاهر، وكم فكّ أسيراً من قيد آسر، وكم خلّص مستغيثاً من خطرٍ داهم، وكم شفى مريضاً من مرض مؤلم، وكم أغاث ملهوفاً، وأيسر على معسر، وقضى ديناً، وستر زلة، ووقى عثرة، وأخرج من ضائقة.
فإذا تبصّر المؤمن ذلك اطمأنّ قلبه، وسكنت نفسه، وعظم رجاؤه، لأنَّه إن لم يكن في المفرّج عنهم اليوم؛ فهو يرجو أن يكون مع المفرّج عنهم في الغد القريب، ولا يُستعجل الفرج بأحسن مما أرشد الله إليه في هذه السورة الكريمة من الدعاء، والتوكل، والتسليم لأمر الله، واتباع هداه، ونصر دينه، والسعي لإعلاء كلمته، والاعتصام بحبله، وتوحيد الله تعالى وتسبيحه وتحميده.
فمن كان على هذا الحال فهو من جند الله الغالبين وأتباع الرسل المهتدين، الذين سبقت لهم الكلمة بالنصر والكفاية وحسن العاقبة.
وقوله تعالى: {إنّ إلهكم لواحد} فيه تأكيد على أنّ الله تعالى هو الذي إليه المرجع في ذلك الأمركلّه، وأن الملائكة جند من جنده، وأنه هو وحده المستحقّ للعبادة؛ ليكون تعلّق القلب بالله وحده لا بالأسباب.
7: مناسبة أسماء السور لمقاصدها
وهذا النوع ذكره جلال الدين السيوطي، وهو نوع معتبر فيما كانت فيه أسماء السور مأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ فما ظهر من هذا النوع ففيه فوائد، ومن ذلك مناسبة سورة يونس لمقصدها؛ فإنّها في بيان الهدى في قضية من أهم القضايا التي اعترضت الأنبياء، وما تزال تعترض الدعاة إلى الله، وهي إيمان المدعوين وإباؤهم.
فبيّن الله تعالى أنّ إيمان من يُدعى إليه لا يكون إلا بهداية من الله تعالى وإذن منه، وأنّ للمكلفين أعمالاً لها آثار في هدايتهم وإضلالهم، وأنّ الذين يسألون الآيات تعنّتاً لا يؤمنون.
وتسمية السورة بسورة يونس فيه تنبيه على مقصدها من الترغيب والترهيب؛ فالترهيب هو من الجزاء الذي حلّ بالذين حقّت عليهم كلمة العذاب لعدم إيمانهم، والترغيب في المسارعة إلى الإيمان قبل أن تحقّ عليهم كلمة ويمضي عليهم العذاب، وأقيم لهم حال قوم يونس مثلاً لأنهم لما آمنوا قبل أن تحقّ عليهم الكلمة كشف الله عنهم العذاب ومتّعهم إلى حين.
14: استخراج الفوائد السلوكية
التاج الجامع لما تقدم من أصول التدبر وأدواته العلمية هو استخراج الفوائد السلوكية من الآيات القرآنية، وهو عمل ذهنيّ أصله التفكر، وثمرته التبصر والتذكر، وتلك هي حقيقة التدبر.
والمراد بالفوائد السلوكية ما يستفيده المرء لتصحيح عبادته لربّه جلّ وعلا وإحسانها، وتبصره بما يقرّبه إليه علماً وعملاً، وكيف يصنع فيما يبتلى به من الفتن والمحَن، وكيف يتبع هداه ليفوز برضوانه وثوابه، وينجو من سخطه وعقابه.
والسلوك هو سلوك الصراط المستقيم، ولذلك فإنّ الفوائد السلوكية تنقسم إلى قسمين:
أحدهما: بصائر يتبصّر بها المؤمن، وبيّنات يتبيّن بها الحقّ، قال الله تعالى: {قد جاءكم بصائر من ربّكم} وقال تعالى في شأن القرآن: {هدى للناس وبيّنات من الهدى والفرقان}.
والقسم الآخر: الهدى الذي يُتّبع بامتثال الأمر واجتناب النهي.
فالقسم الأول ثمرته تصحيح العلم، والقسم الآخر ثمرته إصلاح العمل، وبهما يستقيم سلوك العبد، ويتحقق له الهدى والرشاد.
ولاستخراج الفوائد السلوكية مهارات يحسن بطالب العلم أن يتمرّن عليها حتى يتقنها؛ وأن يقرأ في كتب العلماء الذين برعوا في الاستنباط واستخراج الهدايات حتى إنّ بعضهم ربما استخرج من آية وجيزة الألفاظ فوائد كثيرة جليلة القدر.
ولو جعل الطالب لنفسه أصلاً علمياً يدوّن فيه ما يستجيده من أقوال العلماء، وما يستخرجه بتدبره في الآيات من الفوائد السلوكية واللطائف البديعة، ويُعمل الأصول والأدوات التي درسها لاستفاد بعد مدة من الزمن ثروة علمية لا يستهان بها، وكان هذا الأصل له كالعدة العلمية ينتفع بها أيّما انتفاع، ولَنمت لديه مهارات الاستنباط وإعمال الأصول والقواعد بكثرة التأمل والتدوين والمراجعة والتهذيب.
وسأذكر بعض ما أحسب أنه يفيد في استخراج الفوائد السلوكية ويعين على إتقان مهارة الاستنباط مما يتكرر في كثير من الآيات.
فمن ذلك:
1: تعرف القراءات في الآية وأثرها على المعنى.
2: إذا اشتملت الآية على خطاب فمن المهمّ معرفة المخاطَب في الآية.
3: التفكر في مرجع الضمير واحتمال عوده لأكثر من مرجع.
4: النظر في أوجه الإعراب في الآية.
5: تعرف معنى القسم في الآية إن وجد ومناسبته.
6: تعرّف معاني الإضافة في الآية.
7: إذا كان في الآية فعل فيتعرّف نوعه وعمله ومعموله إن وجد.
8: التفكر في معاني الحروف واحتمالها لتعدد الأوجه.
9: التفكر في حكم اختيار بعض المفردات على بعض، ومن ذلك اختيار بعض الصفات على بعض وأثرها في المعنى.
10: النظر في دلالة الصيغ الصرفية لمفردات الآية وأغراضها البيانية.
11: تعرّف المتعلّق المحذوف وفائدة حذفه.
12: تعرّف الأغراض البيانية للأمر والنهي في الآية.
13: تعرّف المعاني البيانية للاستفهام والشرط وجواب الطلب.
14: تعرّف فوائد التقديم والتأخير، والتعريف والتنكير، والفصل والوصل، والالتفات.
15: تعرّف دواعي الإضمار والإظهار وأثرها على المعنى.
16: إذا تضمنت الآية وصفاً أو عملاً يتعلق به مدح أو ذمّ أو جزاء وكان مما يدخله التفاضل فليتفكر في أثر التفاضل فيه.
17: تعرّف المعاني البيانية للعطف وتركه في الآية.
18: التفكر في نوع الاستثناء في الآية إن وجد، ودلالاته البيانية.
19: التفكر في مقصد الآية.
20: إعمال ما يمكن من دلالات المنطوق والمفهوم.
21: التفكر في أوجه المناسبات.
فمن داوم على استخراج الفوائد السلوكية وحرص على استعمال ما تقدم ذكره من الأصول في تدبر القرآن، وما ذكر هنا من الأدوات المقربة لاستخراج الفوائد السلوكية، ورزق تيقظاً ومعرفة حسنة بطرق الاستدلال ظهرت له فوائد كثيرة لا تنحصر، والله الموفق والمعين.
15: آداب التدبر
مما لا ريب فيه أنّ الله تعالى قد أنزل القرآن لنتدبّره فقال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29) }، وقد ذمّ الله تعالى الكفّار على ترك التدبّر فقال تعالى: {أفلم يدبروا القول}.
ولذلك يخطئ من يظنّ أنّ التدبّر مما يختصّ به العلماء، ومنشأ الخطأ قصر التدبّر على دقيق المعاني التي تُستخرج بالاستنباط، والتدبّر أوسع من ذلك بكثير فهو يعني تفهّم الخطاب وتأمّله، والنظر في مآلاته وعواقبه.
وهذا منه ما هو ميسّر لكلّ من يبلغه القرآن ولديه معرفة كافية باللسان العربي، ومنه ما يتفاضل العلماء في معرفته، ومنه ما استأثر الله تعالى به.
لكن مما ينبغي أن يُعلم أنّ للتدبر آداباً واجبة وآداباً مستحبة، وقد تقدّم بيان أكثرها عند الكلام على آداب أهل التفسير، ومن أجلّ ما يختصّ به المتدبر من الآداب أن يفقه ما يصحّ له أن يتكلم فيه وما يجب عليه أن يُمسك عنه؛ فإنّ لكلام الله تعالى حرمة عظيمة، ولا يحلّ لامرئ أن يخوض في معاني كلام الله تعالى بغير علم.
ولذلك يجب أن يكون كلام المتدبر قائماً على أصول صحيحة في النظر والاستدلال ليكون تدبّره تدبراً حسناً نافعاً.
وما يستخرج بالتدبر لا يخرج عن كونه نوعاً من أنواع الاستدلال، ولصحة الاستدلال عموماً ثلاثة شروط:
الشرط الأول: صحة الدليل
والشرط الثاني: صحة المدلول عليه
والشرط الثالث: صحة وجه الدلالة
فإذا صحّت هذه الشروط كان الاستدلال صحيحاً.
فأما الشرط الأول فيبحث عند الحاجة إلى البحث فيه كالتحقق من صحة القراءة، وصحة الحديث.
وأما الشرط الثاني فضابط صحته ألا يخالف المدلول عليه بذلك الدليل نصاً أقوى منه ولا إجماعاً صحيحاً.
وأما الشرط الثالث فيُعرف بدراسة أوجه الدلالات وضوابط صحتها في كلّ دلالة.
وما يستخرج بتلك الدلالات على مرتبتين:
المرتبة الأولى: استخراج ظاهر جليّ، وهو ما تُعرف صحّته بأدنى نظرٍ لتيسّر معرفة وجه الدلالة، وصحة اقتضائها للمدلول عليه.
والمرتبة الثانية: استخراج خفيّ دقيق، وأكثر ما يكون الخطأ في هذه المرتبة، لتوهّم وجه الدلالة، ولاشتباه بعض الأدوات ببعض، وللاعتماد على دلالات مختلف في حجيتها، أو يدخلها التنازع، أو لا تفيد حجة قاطعة كما يكون في بعض ما يُستخرج بدلالة الاقتران، ودلالة المناسبة، والتفسير الإشاري.
والذي ينبغي لطالب العلم العناية به في أوّل الأمر دراسة أصول تدبر القرآن، وتعرّف الدلالات التي يستعملها العلماء بأمثلتها وتطبيقاتها، وأن تكون دراسته إياها تحت إشراف علمي من عالم أو طالب علم متمكن، حتى إذا درس أمثلة كثيرة دراسة صحيحة أمكنه بإذن الله تعالى أن يستقلّ بالاستنباط والتدبّر لتمكّنه من أدواته.