عبادُ الله المخبتون
عبادُ الله المخبتون
الإخبات عمل قلبي ورد في القرآن في ثلاثة مواضع:
قال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ
أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23)} [سورة هود:23]
وقال: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا
لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ
الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ
الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ
وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا
رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35)} [سورة الحج: 34-35]
وقال: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ
أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ
قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ
مُسْتَقِيمٍ (54)} [سورة الحج: 54]
وأصل معنى الإخبات في اللغة هو التخشع والتواضع، وهو مأخوذ من الأرض الخبت أي الأرض المنخفضة، ومن صفة هذه الأرض أن تكون صالحة للاستطراق ولغير ذلك من المنافع.
قال الخليل بن أحمد (ت:170 هـ): "الخَبْتُ: ما اتسع من بطون الأرض، وجمعه خُبُوت. والمُخْبِتُ: الخاشع المتضرع، يخبت إلى الله ويخبت قلبه لله" [العين: 4-241]
وتفسير السلف لمعناه يبدو كأن فيه شيئا من التناقض -وليس كذلك-:
قال عبد اللّه بن صالحٍ، قال: ثني معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عبّاسٍ، في قوله: {وأخبتوا إلى ربّهم} يقول: "خافوا". رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.
قال معمرٌ، عن قتادة: "{وأخبتوا إلى ربّهم} الإخبات: التّخشّع والتّواضع". رواه عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم.
قال ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ: "{وأخبتوا إلى ربّهم} قال: اطمأنّوا". رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.
قال سُنيد: ثني حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ، "{وأخبتوا إلى ربّهم} قال: اطمأنّوا". رواه ابن جرير.
قال عطية العوفي عن ابن عباس: قوله: {إنّ الّذين آمنوا وعملوا الصّالحات وأخبتوا إلى ربّهم} قال: "الإخبات: الإنابة". رواه ابن جرير.
قال سعيدٌ، عن قتادة، قوله: {وأخبتوا إلى ربّهم} يقول: "وأنابوا إلى ربّهم". رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.
وأقوال السلف متلازمة، لكن فسر بعضهم بالمعنى المطابق مثل تفسير قتادة أنه
التخشع والتواضع، وفسره بعضهم بلازم معناه إما بسبب التخشع وهو الخوف وإما
بنتيجته وهو الإنابة والطمأنينة.
وبيان هذا في قوله تعالى:
{فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا
وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ
قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي
الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35) [سورة الحج: 34-35]
جاء بيان معنى المخبتين في هذه الآيات ببيان أعمالهم، مع اختلاف في التعبير اللغوي لوصف كل عمل:
فأول وصفهم أنهم إذا ذُكر الله وجِلت قلوبهم، والوجل هو
استشعار الخوف، وجاء هذا المعنى في صيغة الشرط (إذا) الدال على تكرره كلما
حصل فعل الشرط وهو ذكر الله، يحصل جوابه وهو وَجَلُ قلوبهم، لكن هذا الخوف
ليس خوف المضطرب القلق وإنما هو الخوف الذي يُترجم إلى عمل ثابت راسخ؛
فجاءت الأوصاف التالية معبرة عن ذلك:
{والصابرين على ما أصابهم والمقيمي الصلاة ومما رزقناهم ينفقون}
التعبير باسم الفاعل عن الصبر وإقامة الصلاة يدل على ملازمتهم لهذا الفعل حتى صار وصفًا لهم، والتعبير بالفعل المضارع عن النفقة مما رزقهم الله يدل على التجدد والاستمرار، و "ما" في و {ومما رزقناهم} تدل على العموم، أي ينفقون من كل ما رزقهم الله.
وكذلك قوله: {والصابرين على ما أصابهم} يدل على
العموم، فهم صابرون على كل ما يصيبهم من أمر الله عز وجل، والصبر حبس
النفس عن السخط، والسخط موجب للجزع والقلق والاضطراب؛ فإذا صبروا كان هذا
أول طريقهم للطمأنينة، وكذلك إذا كانوا ممن يحافظون على إقامة الصلاة
والنفقة مما رزقهم الله؛ فإن الله قال: {إِنَّ
الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20)
وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22)
الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي
أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25)} [المعارج: 19-25]
فإذا كان هذا وصف فعلهم، فهو منبئ عن المعنى القائم بقلوبهم وهو الخشوع
والخضوع لله عز وجل، فإذا انقادت قلوبهم لأمر الله عز وجل، ركنت إليه
فاطمأنت، لأنها إنما تركن لأمر العليم الحكيم، الشكور الحليم، تعلم أن أمره
حكمة وفي الإتيان به عين المصلحة للعبد، وتعلم أن الله لا يضيع عنده أجر
المؤمنين.
ولعل تعدية الفعل بحرف الجر (إلى) في قوله تعالى: {وأخبتوا إلى ربهم}
ليتضمن معنى التضرع إلى الله والركون إليه، وتعديته بحرف الجر اللام في
قوله: {وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له
قلوبهم} على أصله من الخضوع لأمر الله عز وجل.
ولعل هذا المعنى يبين لنا وجه الجمع بين قوله تعالى:
{ ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحۡسَنَ ٱلۡحَدِیثِ كِتَـٰبࣰا مُّتَشَـٰبِهࣰا
مَّثَانِیَ تَقۡشَعِرُّ مِنۡهُ جُلُودُ ٱلَّذِینَ یَخۡشَوۡنَ رَبَّهُمۡ
ثُمَّ تَلِینُ جُلُودُهُمۡ وَقُلُوبُهُمۡ إِلَىٰ ذِكۡرِ ٱللَّهِۚ ذَ ٰلِكَ
هُدَى ٱللَّهِ یَهۡدِی بِهِۦ مَن یَشَاۤءُۚ وَمَن یُضۡلِلِ ٱللَّهُ فَمَا
لَهُۥ مِنۡ هَادٍ }
[سُورَةُ الزُّمَرِ: ٢٣]
وقوله تعالى: {وَیَهۡدِیۤ إِلَیۡهِ مَنۡ أَنَابَ (٢٧) ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟
وَتَطۡمَىِٕنُّ قُلُوبُهُم بِذِكۡرِ ٱللَّهِۗ أَلَا بِذِكۡرِ ٱللَّهِ
تَطۡمَىِٕنُّ ٱلۡقُلُوبُ (٢٨) }
[سُورَةُ الرَّعۡدِ: ٢٧-٢٨]
أنهم لما وجلت قلوبهم من ذكر الله خشعوا وخضعوا لربهم فأنابوا إليه فحصلت
لهم الطمأنينة؛ آية سورة الرعد أثبتت الطمأنينة لمن أنابوا، وآية سورة
الزمر فيها وصف الذين يخشون ربهم، والخشية وصف أخص من الخوف لأنه خوف مقرون
بعلم بالله عز وجل وأمره ونهيه، ومن أثر خشيتهم أنهم يتذكرون بالذكر
فينتفعون به ويعملون به.
وباختصار فالخبتُ هي الأرض المنخفضة الواسعة، التي
يسهل إنشاء الطرق والبناء عليها، بعكس الأرض الوعرة التي تحتاج لكثير من
الإصلاح قبل استعمالها.
وكذلك قلوب عباد الله المخبتين لما خشعت لله عز وجل تواضعت وانقادت لأمره؛ فركنت إلى جنابه واطمأنت.
ويحصل هذا الخشوع مع ذكر الله عز وجل، بالقلب واللسان والعمل؛ فإذا ذُكر
الله وجلت قلوبهم تعظيما له وخوفا منه، فتخشع، فتخضع، فتركن لأمره؛ فتنيب
إلى ربها وتطمئن.
اللهم إنا نعوذ بك من علم لا ينفع ومن قلب لا يخشع ومن دعوة لا يستجاب لها.
والله أعلم.
التعليقات ()