وصايا للمخطوبات وأوليائهنّ في فقه حديث "إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه"
وصايا للمخطوبات وأوليائهنّ في فقه حديث "إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه"
الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى أما بعد:
فلكثرة
الأسئلة والاستشارات في شأن الخطبة وما يتصّل بقبول الخاطب وردّه، وما يلحظ
من الحيرة والتردّد على أكثر السائلين كتبتُ هذه الوصايا التي أرجو أن
تكون معينة على الوصول إلى قرار صحيح في قبول الخاطب أو ردّه، وأسأل الله
تعالى أن ينفع بها ويبارك فيها إنه حميد مجيد.
●
الزواج نعمة من الله عزّ وجلّ، وآية من آياته الدالة على حكمته ورحمته
وفضله، وقد شرعه الله لمقاصد عظيمة، وبيّن لنا فيه هدى من اتبعه سعد به.
وقد بيّن
الله مقاصد الزواج وما يكون به صلاحه بقوله :{ومن آياته أن خلق لكم من
أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم
يتفكرون}.
●
إذا حصل التوادّ والتراحم والسكن النفسي بين الزوجين صلح حالهما بإذن
الله، وطابت حياتهما، واضمحلّ عنهما النكد وسلموا من كثير من المشكلات.
وإذا
انتفت المودّة والرحمة لم يحصل السكن النفسي ولم تستقرّ حياتهما بل تكون
مرتعاً للمشكلات والنكد، وسوء الظن، وجفاء المعاملة، ومحق بركة الزواج.
- قال أبو
بكر المرُّوذي: سمعتُ أبا عبد الله [أحمد بن حنبل] يقول: (أقامت معي أم
صالح ثلاثين سنة فما اختلفتُ أنا وهي في كلمة). وتأملوا أثر هذا الاستقرار
على حياة الإمام أحمد رحمه الله.
فينبغي أن
يكون نظر الزوجين لما تتحقق به هذه المقاصد الثلاثة التي هي أصول السعادة
الزوجية بدءاً من اختيار الزوج الذي يظنّ فيه تحقيقها.
●
استقرار الحياة بين الزوجين يحصل به تعاونهما على طاعة الله وتربية
الأولاد وإنجاز كثير من الأعمال التي فيها نفع لهما وللأمة في رفق
وطمأنينة، وإذا فشا استقرار الأزواج في الأمة أثمر ذلك من البركات والخيرات
ما لا يحدّ.
●
بيّن لنا النبي صلى الله عليه وسلم أصلاً مهمّا في اختيار الزوج فقال:(إذا
خطب إليكم مَنْ ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض
وفساد عريض..) رواه أحمد والترمذي.
●
خصال الخير في الرجل ترجع إلى هذين الأصلين (الدين والخلق) فبالدين تسلم
المرأة من فِتَن فسق الزوج وفجوره، وبالخلق تسلم من فِتَن سوء عشرته.
●
الرجال يتفاضلون في الدين والخلق تفاضلاً كبيراً، ودرجة الرضا تختلف
باختلاف الأشخاص والمجتمعات والأحوال، وسأذكر ما يعين على التعرف على ذلك.
●
يُعرف رضا الدين بإقامة الصلاة، واجتناب الكبائر الظاهرة، والالتزام
بالسنة، واستقامة اللسان، فمن كان صالحاً في هذه الأمور فهو مرضيّ في دينه؛
ومن كان محسناً فيها فهو على درجة عالية من الرضا، ومن قصّر في واحدة منها
بما لا يخرجه عن الحدّ المقبول فيها فقبوله محل نظر وتروٍّ.
●
لا يلزم من تقصير الخاطب في أحد هذه الأمور تقصيراً غير مخلّ بالحد
المقبول منها أن لا يكون مرضياً في دينه، بل قد يبلغ درجة الرضا بحسب
اختلاف الأشخاص والأحوال.
أما من
كان مضيّعاً لحقّ الله جريئاً على الكبائر غير مبال بالسنة غير عفيف اللسان
فلا خير فيه، وحياة المرأة معه بلاء وشقاء ولو كان صاحب مال ومنصب وجمال.
●
يجب الحذر من الاغترار بصلاح الهيئة الظاهرة دون معرفة صلاح المرء في هذه
الأمور، فإن كان الخاطب غير معروف سُئل عنه أو نظر في أمره دون تعجل.
●
عفّة اللسان من علامات حفظ المرء لدينه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم
لمعاذ: (ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟) فأخذ بلسانه وقال: (كفّ عليك هذا).
- قال
يونس بن عبيد: (لا تجد من البِرّ شيئاً واحداً يتبعه البرّ كلُّه غير
اللسان؛ فإنك تجد الرجل يكثر الصيام ويفطر على الحرام، ويقوم الليل ويشهد
بالزور بالنهار،.. ولكن لا تجده لا يتكلم إلا بحق فيخالف ذلك عمله أبداً).
فحفظ المرء للسانه دليل على ورعه وتقواه وحفظه لحقوق الناس ورعاية حرماتهم.
ومِن حفظ
اللسان: أن يحفظه عن القول على الله بغير علم، وعن قول الزور، وعن الغيبة
والنميمة والكذب والبهتان والفحش والسباب والبذاءة وغيرها.
●
مَن كان يتورّع عن الكلام في أخيه المسلم بكلمة في غير حقّ أو يفشي سرّه؛
فهو أقرب لأن يحفظ حق زوجته فيما هو أعظم من ذلك؛ فلتعتنوا بأمر استقامة
اللسان.
● هذه الخصال الطيبة يعين بعضها على بعض، فمن كان مقيم الصلاة عفيف اللسان فإنه غالباً يكون ملتزماً بالسنة مجتنباً للكبائر الظاهرة.
- قال
يونس بن عبيد رحمه الله: (خصلتان إذا صلحتا من العبد صلح ما سواهما: صلاته
ولسانه). وهذا كلام جليل القدر من هذا الإمام الرباني.
●
لم أذكر اجتناب الكبائر الباطنة من الكِبْر والحسَد والرياء لأنها باطنة
لا يُطَّلع عليها، لكن من كان يُضمر سريرةَ سوء فإنَّ أثرها يظهر عليه، وقد
تُعرف بالفراسة، ومن ظهر عليه ما يدلّ على تلك الكبائر الباطنة أو بعضها
فليحذر منه فإنّ داءَه دويّ.
●
المقصود أن المرء إذا كان مرضيّا في هذه الأمور الأربعة فهو مرضي في دينه،
ودينه يردعه عن كثير من الأمور التي تخشاها الزوجة في الحياة معه.
●
وأما الخُلق المرضي فأصوله: الصدق، والعدل، والأمانة، والكرم، والرفق؛ فمن
جمعها فهو حسَنُ الخلق، يحمله خُلُقُه الحسن على حسن المعاملة وكرم
العشرة.
●
الصّدوق مأمون الجانب، يوثق بكلامه ويُطمأنّ له، وأما الكذوب فلا أمان له
ولا يوثق به؛ فعشرته نكد وبلاء؛ وقد يوقِع في مآزق، فلتفرّ منه المرأة
فرارها من الأسد.
●
والعدل أصل من أصول حسن الخلق، والرجل الذي لا يتجرأ على ظلم الأباعد أرجى
أن لا يتجرأ على ظلم زوجته؛ فتجد المرأة معه الإنصاف والطمأنينة لحفظ
حقها، وأمّا الظلوم الغشوم فلا أمان له، ولا قرار معه.
●
وكذلك الأمين الذي يحفظ للصحبة حقّها، ولحديث المجلس أمانته، فلا يفشي
سراً، و وإذا استودع شيئاً حفظه؛ فالحياة معه آمنة، وأما الخائن فلا أمان
له.
●
وأما الكرم فأصله كرم النفس وسخاؤها، ومن كان كريم النفس أكرم أهله وطيّب
معاشرتهم، وإذا وجد سعة من المال كان سخيّا لهم؛ فالكريم طيّب المعشر
موسراً كان أو معسراً.
●
وأما الرفق فهو زينة الرجل، جامع لمحاسن الأخلاق، وما كان في شيء إلا
زانه، وما نزع من شيء إلا شانه، ومن كان رفيقا في تعامله سعد به من يعاشره.
●
الذين يبلغون الدرجات العالية في هذه الخصال قليل جداً في الناس، فمن كان
محسناً في بعضها مقصّراً في بعضها تقصيراً غير مخلّ بالحد المقبول منها فهو
مرضيّ الخلق.
أما الذي يعدم بعض هذه الصفات فهو سيّء الخلق لا قرار للحياة معه إلا على مضض ونكد وتجاوز واحتمال شديد؛ فعند الاختيار ينبغي تجنّبه.
●
إذا بلغ الرجل درجة الرضا في الدين والخلق ولو كان في بعض هذه الأمور عالي
الرتبة، وفي بعضها متوسّط الرتبة؛ فهو مرضي، ويرجى أن تسعد المرأة معه
بإذن الله.
●
من كان فيه طبع مذموم يقدح في دينه وخلقه فيُحكم على حاله المنظور، ولا
يُغترّ بما بالوعود بأنه سيتغيّر لأن التغيّر في علم الغيب، ولا يعتدّ به
ما لم يقع، والعلماء يقولون: العبرة بالمنظور لا بالمنتظر.
●
ينبغي الحذر من الحكم على الخاطب بحسن الخلق بقصر النظر على يلحظ منه من
الدعابة والمرَح والمزاح دون النظر في أصول حسن الخلق المتقدم ذكرها من
الصدق والأمانة والعدل والكرم والرفق.
فإنّ من كان مخلّاً بها لا ينفع اتصافه بالمرح عند أصدقائه فقد يكون على الضدّ من ذلك مع أهله، وقد يكون مزّاحاً غير مأمون الجانب.
ومن كان قائماً بأصول حسن الخلق كانت الدعابة والمرح زينة إضافية في حقه، ولا يكاد يخلو من قدرٍ مُرْضٍ منهما.
●
فتأمّلوا عظمة هدي النبي صلى الله عليه وسلم وبركة كلامه إذ جمع في كلمة
وجيزة معاني عظيمة لمَّا بيّن لنا هذين الأصلين ( الدين والخلق)، وتأملوا
أثر بركة هديه صلى الله عليه وسلم في حسن اختيار الزوج الذي تكون الحياة
معه طيّبة كريمة مباركة.
●
يجب الحذر منه الاغترار بفتنة المال والمنصب والجمال عند غير مرضي الدين
والخلق؛ فإن الحياة معه فتنة عظيمة قد تفسد دين المرأة وخلقها وحياتها
وينبغي
لوليّ المرأة أن لا يفتن موليّته فيجمع لها بين فتنة ضعف دين الزوج وسوء
خلقه وفتنة ماله ومنصبه وجماله فيعذّبها مرّتين ويفسد حياتها.
●
إذا اجتمع (المال والمنصب والجمال) مع (الدين والخلق) فهذا من أحسن متاع
الدنيا، لكن إذا لم تجتمع؛ فيجب عدم التفريط في شرطي الدين والخلق؛ لأنهما
الأصل، وما سواهما مكمّل.
●
إذا كان الزوج مرضياً في دينه وخلقه فهو موعود بالرزق الكريم وأن يغنيه
الله من فضله في آيتين من كتاب الله كلتاهما في سورة النور فتدبروهما.
●
الرضا أصل السعادة، والشَّرِهُ لا يحيا حياة طيّبة ولو حيزت له الدنيا
بحذافيرها؛ لأنه يغفل عن شكر ما أُنعم به عليه، ويتعلّق قلبه بما لم يُعط.
اللهم
ارزقنا الحياة الطيبة، والذرية الصالحة، وبارك لنا فيما أعطيتنا، وأوزعنا
شكر نعمتك وحسن عبادتك، واغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين.
التعليقات ()