عرض المقالة

(( لعلّ خُفًا يقعُ على خُف )) ... مقتطفات من سيرة عبد الله بن عمر رضي الله عنهما

صفية الشقيفي
هيئة الإدارة

0
15035
0
0
0
1

غير مصنف

غير مراجَع


(( لعلّ خُفًا يقعُ على خُف ))
مقتطفات من سيرة عبد الله بن عمر رضي الله عنهما


عاش صغار الصحابة رضي الله عنهم في المدينة وشهدوا عز الإسلام ونصرته على أعدائه، وتنعموا بالتعلم على يدي النبي صلى الله عليه وسلم وكبار الصحابة، ثم عاشوا من بعدهم سنوات طويلة وابتُلوا بأداء الأمانة التي تحملوها في شبابهم من نشر الإسلام وتعليم التابعين ما تعلموه من النبي صلى الله عليه وسلم وكبار الصحابة، فكانوا خير من أدى الأمانة بعدهم، وخير من نصح الأمة
ومن هؤلاء، عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
عُرف عبد الله بن عمر رضي الله عنه بشدة متابعته للنبي صلى الله عليه وسلم في حياته وبعد مماته، حتى قالت عنه عائشة رضي الله عنها: ((ما رأيت ألزم للأمر الأول من عبد الله بن عمر)) (1)
وقال عنه نافع: لو نظرت إلى ابن عمر إذا اتبع أثر النبي صلى الله عليه وسلم لقلت: ((هذا مجنون)) (2)
وكان يركب راحلته ويسير بها في الطريق ويأخذ رأس راحلته يثنيها، ويقول: (( لعل خُفًا يقع على خُف)) (3)
يعني لعل خُف راحلة عبد الله بن عمر تقع على أثر خُف راحلة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان هذا من شدة محبته للنبي صلى الله عليه وسلم وشدة حرصه على اتباعه
فإذا كان هذا حاله في تتبع أثر النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف حاله في تتبع هديه والاستقامة عليه؟!
لنتوقف أمام بعض المواقف من سيرته - رضي الله عنه - نستضيء بنورها في ظلمة واقعنا الحالي، ونسترشد بها، ولم لا وهو في كل فعله يسترشد بكتاب الله وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم
أسلم عبد الله بن عمر رضي الله عنه صغيرًا مع والده في مكة، وهاجر معه، ثم نشأ وشبّ في المدينة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فنشأ في عبادة الله، وحكى عن نفسه هذه القصة:
عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال: كان الرجل في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا رأى رؤيا قصَّها على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فتمنيت أن أرى رؤيا أقصها على النبي صلى الله عليه وسلم، قال: وكنت غلاما شابا عزبا، وكنت أنام في المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأيت في النوم كأن ملكين أخذاني فذهبا بي إلى النار، فإذا هي مطوية كطي البئر، وإذا لها قرنان كقرني البئر، وإذا فيها ناس قد عرفتهم، فجعلت أقول: أعوذ بالله من النار، أعوذ بالله من النار، أعوذ بالله من النار، قال فلقيهما مَلَك فقال لي: لم تُرَع، فقصصتها على حفصة، فقصتها حفصة، على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل».
قال سالم: فكان عبد الله بعد ذلك لا ينام من الليل إلا قليلا). (4)
فانظروا إلى ثبات ابن عمر رضي الله عنه، والتزامه أمر النبي صلى الله عليه وسلم طيلة حياته !
يتوفى النبي صلى الله عليه وسلم وعمر عبد الله بن عمر أربعة وعشرون عامًا، (5) صحب الخلفاء الراشدين، وشهد معهم بعض الفتوحات.
وأوصى عمر رضي الله عنه مشورة الستة الذين سيختارون منهم الخليفة من بعد عمر رضي الله عنه على ألا يكون له من الأمر شيء، (6).
ثم توالت الفتن على أمة محمد صلى الله عليه وسلم ليظهر حسن فهم ابن عمر رضي الله عنه للقرآن وحسن اتباعه للنبي صلى الله عليه وسلم
عن عبد الله بن عبيد بن عمير: قال ابن عمر: (إنما كان مثلنا في هذه الفتنة كمثل قوم كانوا يسيرون على جادّة يعرفونها؛ فبينا هم كذلك إذ غشيتهم سحابة وظلمة؛ فأخذ بعضنا يمينا، وبعضنا شمالا، وأخطأنا الطريق وأقمنا حيث أدركنا ذلك حتى تجلى عنا ذلك؛ حتى أبصرنا الطريق الأول فعرفناه فأخذنا فيه). (7).
ولما حدثت الفتنة الثانية بعد يزيد بن معاوية، قال مروان بن الحكم لابن عمر: ألا تخرج إلى الشام فيبايعوك؟ قال: فكيف أصنع بأهل العراق؟ قال: تقاتلهم بأهل الشام، قال: والله ما يسرني أن يبايعني الناس كلهم إلا أهل فدك، وأني قاتلتهم فقتل منهم رجل واحد). (8).
ولما حدثت فتنة ابن الزبير أتى ابن عمر رجلان فقالا: إنّ النّاس صنعوا وأنت ابن عمر، وصاحب النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فما يمنعك أن تخرج؟ فقال «يمنعني أنّ اللّه حرّم دم أخي» فقالا: ألم يقل اللّه: {وقاتلوهم حتّى لا تكون فتنةٌ} [الأنفال: 39] ، فقال: «قاتلنا حتّى لم تكن فتنةٌ، وكان الدّين للّه، وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتّى تكون فتنةٌ، ويكون الدّين لغير اللّه» (9)

ستون سنة عاشها ابن عمر بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، يشارك في الفتوحات ويفتي الناس، ويعلمهم أمور دينهم:
عن الإمام مالك بن أنس قال: (أقام ابن عمر بعد النبي صلى الله عليه وسلم ستين سنة يفتي الناس في الموسم وغير ذلك).
قال: (وكان ابن عمر من أئمة الدين). (10).
ستون سنة، والفتن تتوالى على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فيبصرهم رضي الله عنه مواطن الحق، ويتبرأ من كل بدعة وضلالة.
عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ، قَالَ: كَانَ أَوَّلَ مَنْ قَالَ فِي الْقَدَرِ بِالْبَصْرَةِ مَعْبَدٌ الْجُهَنِيُّ، فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَحُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِمْيَرِيُّ حَاجَّيْنِ - أَوْ مُعْتَمِرَيْنِ - فَقُلْنَا: لَوْ لَقِينَا أَحَدًا مَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَأَلْنَاهُ عَمَّا يَقُولُ هَؤُلَاءِ فِي الْقَدَرِ، فَوُفِّقَ لَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ دَاخِلًا الْمَسْجِدَ، فَاكْتَنَفْتُهُ أَنَا وَصَاحِبِي أَحَدُنَا عَنْ يَمِينِهِ، وَالْآخَرُ عَنْ شِمَالِهِ، فَظَنَنْتُ أَنَّ صَاحِبِي سَيَكِلُ الْكَلَامَ إِلَيَّ، فَقُلْتُ: أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِنَّهُ قَدْ ظَهَرَ قِبَلَنَا نَاسٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، وَيَتَقَفَّرُونَ الْعِلْمَ، وَذَكَرَ مِنْ شَأْنِهِمْ، وَأَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنْ لَا قَدَرَ، وَأَنَّ الْأَمْرَ أُنُفٌ، قَالَ: «فَإِذَا لَقِيتَ أُولَئِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنِّي بَرِيءٌ مِنْهُمْ، وَأَنَّهُمْ بُرَآءُ مِنِّي»، وَالَّذِي يَحْلِفُ بِهِ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ «لَوْ أَنَّ لِأَحَدِهِمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا، فَأَنْفَقَهُ مَا قَبِلَ اللهُ مِنْهُ حَتَّى يُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ» ثم روي عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث جبريل الطويل، (11)
ستون سنة يصبِر ويصابر على فراق النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة واحدًا تلو الآخر
وكلما ذُكر أمامه النبي صلى الله عليه وسلم يبكي، حتى روى عنه حفــــــيده محمد بن زيد هذا الأمر ! (12)
ستون سنة ...
شعاره فيها: (إني لقيت أصحابي على أمر، وإني أخاف إن خالفتهم خشية ألا ألحق بهم). (13).
فأكرِم به من متبعٍ حسن، وصاحبِ وفي، علِم فعمل، وثبت حتى لقي الله عز وجل
يصيبه سهمُ جنود الحجاج بن يوسف الثقفي، في السنة التي غلب فيها الحجاج على مكة وقتل ابن الزبير رضي الله عنه
فيزوره الحجاج ويقول: (لو نعلم من أصابك)
فلم يمنعه بطش الحجاج من قول الحق، فقال ابن عمر: (أنت أصبتني)
فقال الحجاج: وكيف؟
قال ابن عمر: «حملت السلاح في يوم لم يكن يُحمل فيه، وأدخلت السلاح الحرم ولم يكن السلاح يدخل الحرم» (14).
وكان هذا سنة أربعة وسبعين للهجرة، وعمره إذ ذاك أربع وثمانون عامًا.

وفي الختام فائدة وعبرة ...
محبة النبي صلى الله عليه وسلم ليست مجرد كلام يقال، ولا ادّعاء خال من العمل؛ بل مقياسه الاتباع، والمجاهدة لضبط سيرك على نهجه، مهما لاقيت من ابتلاءات وعقبات وفتن، في كل مرة ترجع لهديه صلى الله عليه وسلم، وتتبع أمره ولا تبغ عنه حولا.
ولكّ في عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - خير قدوة، وتأمل كيف عاش هذا العمر الطويل بعد النبي صلى الله عليه وسلم، ومدى صعوبة الثبات على ما تركه عليه النبي صلى الله عليه وسلم، رغم كل الفتن التي تعرض إليها
فاللهم يامقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك حتى نلقاك، وأرنا الحق حقًا وارزقنا اتباعًا، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابًا.
______________________________
(1) رواه الحاكم في المستدرك
(2)، (3) رواهما أبو نعيم في حلية الأولياء.
(4) متفق عليه.
(5) مستفاد من رواية الخطيب البغدادي في رقم (10) ومن تاريخ وفاته رضي الله عنه.
(6) رواه البخاري.
(7) و (8) رواهما ابن سعد
(9) رواه البخاري.
(10) رواه الخطيب البغدادي.
(11) رواه مسلم.
(12) رواه الدارمي.
(13) رواه ابن سعد في الطبقات
(14) رواه البخاري.

التعليقات ()

أشهر المقالات
يبدو أن هذه المقالات ستعجبك

الآن يا عمر ... وق...

الآن يا عمر ... وقفات في سيرة عمر بن...

فقيه المدينة سعيد ...

فقيه المدينة سعيد بن المسيِّب...

رسالة في تفسير قول...

رسالة في تفسير قول الله تعالى: {ألا...

رسالة في تفسير قول...

رسالة في تفسير قول الله تعالى: {أفنضرب...

(( لعلّ خُفًا يقعُ...

(( لعلّ خُفًا يقعُ على خُف )) مقتطفات...

كيف نكونُ من أولي ...

هل جربت مرة الاستعداد لدخول اختبار؟...