مَعينُ الصابرين
مَعينُ الصابرين
اليقين هو المعين الذي يغترف منه الصابر؛ فكلما أوشك صبره على النفاد تزود باليقين، وذكر الله هو زاد اليقين.
دلَّ على هذا المعنى-والله أعلم- قول الله تعالى : {واصبِر لحُكمِ ربِّك فإنَّكَ بأعيننا وسبح بحمد ربِّك حين تقوم. ومن الليل فسبِّحه وإدبار النُّجومِ}. [سورة الطور: 48-49]
{واصبر لحكم ربِّك}: أمر بالصبر والاستسلام لحكم الله عز وجل، ودلَّ على معنى الاستسلام؛ تعدية الفعل {اصبر} بحرف الجر اللام، فقال: {واصبر لحكم ربك} ولم يقل: (واصبر على حكم ربك)
وحكم الله عز وجل يشمل الأمر بالطاعات، والنهي عن المحرمات، والصبر على الأقدار المؤلمة.
ومعنى الربوبية هنا من المعنى الخاص الذي فيه حفظ الله لأوليائه وتربيتهم بالإيمان والتوفيق لكل خير.
ثم علل هذا الأمر بالصبر بقوله: {فإنّك بأعيننا}:
وهذا مما يبعث على اليقين بالله عز وجل ووعده؛ فإنّ من علم أن الله عز وجل
يحفظه ويتولى أمره ومطلِّع عليه ولا يخفى عليه مجاهدته للصبر لحكم الله عز
وجل، زاد صبره واحتسب عند الله أجره.
قال ابن جرير الطبري: (يقول تعالى ذكره لنبيّه محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم {واصبر لحكم ربّك} يا محمّد الّذي حكم به عليك، وامض لأمره ونهيه، وبلّغ رسالاته {فإنّك بأعيننا} يقول جلّ ثناؤه: فإنّك بمرأًى منّا نراك ونرى عملك، ونحن نحوطك ونحفظك، فلا يصل إليك من أرادك بسوءٍ من المشركين).
واذا تتبعت أمر الله عز وجل لنبيه -صلى الله عليه وسلم- بهذا الذكر، ستجد أنه جاء مقرونا بالأمر بالصبر، والتوكل عليه.
قال الله عز وجل : {فَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا
يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ
غُرُوبِهَا ۖ وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ
لَعَلَّكَ تَرْضَىٰ}[سورة طه: 130]
وتأمل ختام هذه الآية: (لعلك ترضى)
وقال تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98)}[سورة الحجر: 97-98]
وقال: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ ۚ وَكَفَىٰ بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا} [سورة الفرقان:58]
وقال: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} [سورة غافر 55]
وقال: {فَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [سورة ق 39]
وقال: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ
بِأَعْيُنِنَا ۖ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ * وَمِنَ
اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ}[سورة الطور 48 - 49]
ولعل السر في ذلك هو اجتماع التسبيح مع الحمد؛ والتسبيح تنزيه الله عن كل نقص مع تعظيمه، والحمد فيه إثبات صفات الكمال له.
فتستشعر أنه ما ابتلاكَ عن نقصٍ فيه، وما أخرَّ الفرجَ عليك عن عجز -
سبحانه ، والحمد يثبت عكس ذلك من تمام حكمته وقدرته ، وعزته ، لا يعجزه
شيء في الأرض ولا في السماء؛ أوامره كلها عدل وإحسان، وأخباره صدق، وأحكامه
حكمة محكمة.
فسبحانه، لم يأمر عباده بما لا طاقة لهم به، وما كان ابتلاؤه لهم ليحرجهم،
ولا يعجزه تفريج الكرب، ولا يغفل عن خلقه، يعلم بأمرك، وهمك، ويسمع دعاءك
الذي خفي عن جلسائك، ويؤخر إجابتك لحكمة له فهو العليم الحكيم، البر
الرحيم.
وإذا كان هذا أمر الله لخير الخلق -محمد صلى الله عليه وسلم-، فكيف بنا نحن!
فتأمل كيف أمر بهذا الذكر في مواضع الأمر بالصبر والتوكل عليه، كأنما هو عدة الصابرين في طريقهم.
قال ابن عطية في تفسير قوله تعالى: {واصبر لحُكم ربك فإنّك بأعيننا}: "وهذه الآية ينبغي أن يقررها كل مؤمن في نفسه، فإنها تفسح مضايق الدنيا".
تدبر
وتفكر
وإذا عرفت فالزم !
سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم.
مجموعة من أكثر من فقرة؛ أولها بتاريخ 26 صفر 1436 هـ، وآخرها بتاريخ 27 شوال 1443 هـ
تعديل: 9 رمضان 1444هـ
التعليقات ()