رسالة في تفسير قوله تعالى :{ واصبر نفسَكَ مع الذين يدعونَ ربهم بالغداةِ والعشي يريدون وجهه} الآية
رسالة في تفسير قوله تعالى :{
واصبر نفسَكَ مع الذين يدعونَ ربهم بالغداةِ والعشي يريدون وجهه ولا تعدُ
عيناكَ عنهم تريدُ زينةَ الحياةِ الدنيا ولا تُطعْ من أغفلنا قلبه عن
ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطًا } [سورة الكهف: 28]
في هذه الآية بيانٌ لفريقين من الناس، وأمرٌ للنبي صلى الله عليه وسلم
-والأمةُ تبعٌ له- بلزومِ أحدهما، ونهي عن اتباعِ الآخر؛ أمرٌ بلزومِ فريق
الصالحين الذين يذكرون الله في جميع أحوالهم، مخلصين له في ذلك، ونهي عن
اتباع فريق غفل عن ذكر الله، وكان إلهه هواه، وأسرف في الضلال حتى هلك !
وفي هذه الرسالة نتوقف -بإذن الله- أمام مقاصد هذه الآية الكريمة لعلنا نستنير بنورها ونهتدي بهداها.
بدأت الآية بالأمر: {واصبِر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداء والعشي يريدون وجهه}
والصبر لغة هو الحبس؛ فالصبر على الطاعة هو حبس
النفس على فعل الطاعة فيلزمها، والصبر عن المعصية هو حبس النفس عن المعصية
فلا يأتيها، والصبر على الأقدار المؤلمة هو حبس النفس عن التسخط بالقول
أو الفعل.
لكن الأمر في هذه الآية وقع على:{نفسك}؛ فكأن المعنى: (احبس نفسك معهم)، وهذا المعنى يتضمن ملازمة صحبتهم، كما يتضمن معنى مجاهدة للنفس للعمل به.
كما يتضمن معنى المعية (مع) تأييدهم ونصرتهم وهذا يتطلب مزيدًا من الصبر ومجاهدة النفس!
فمن هؤلاء الذين أُمر النبي صلى الله عليه وسلم بملازمة صحبتهم وتأييدهم والصبر على صحبتهم؟
عرَّفهم الله عز وجل لنا بالاسم الموصول، ليتبين لنا صفتهم، فقال سبحانه: {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه}
وهذا الوصف ورد في سورة الأنعام في قوله تعالى: {ولا
تطردِ الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من
شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين} [سورة الأنعام: 52]
وهذه الآية صحَّ في سبب نزولها أن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه-، قال: "
كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ستة نفر، فقال المشركون للنبي صلى الله
عليه وسلم: اطرد هؤلاء لا يجترئون علينا. قال وكنت أنا وابن مسعود، ورجل
من هذيل، وبلال، ورجلان لست أسميهما، فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه
وسلم ما شاء الله أن يقع فحدث نفسه فأنزل الله عز وجل: {ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه} ". رواه مسلم في صحيحه.
وفي آية سورة الأنعام جاء النهي عن طرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي، لكن آية سورة الكهف جاء فيها الأمر بملازمة صحبتهم
فلنتوقف أمام صفات الذين نهى الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم عن طردهم وأمره بملازمة صحبتهم.
معنى (الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي):
الدعاء لغة هو العبادة؛ فيشمل الذكر وقراءة القرآن والصلاة، وغيرها من العبادات، وفسره بهذا المعنى ابن عباس رضي الله عنه في تفسير قوله تعالى: {ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي}، قال: "يعبدون ربهم"، رواه ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس.
والعبادة -كما عرّفها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله- هي: (كل ما يحبه الله ويرضاه من الأفعال والأقوال الظاهرة والباطنة).
فالصلاة عبادة، والصوم عبادة، وإغاثة الملهوف عبادة،
وإقراء الضيف عبادة، والإعانة على نوائب الحق عبادة، إلى غير ذلك من
العبادات التي يصعب حصرها لكن قصدت التمثيل، ومع هذا فيشترط لصحة هذه العبادات شرطان:
الأول: الإخلاص لله عز وجل، فمن أعان المحتاج مثلا، لكن ليس لله عز وجل، وإنما يريد به جزاء دنيويا فقط؛ فلا يعدُّ عمله عبادة.
الثاني:
متابعة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فيعمل العمل كما أمر النبي صلى الله
عليه وسلم، وكل عمل له هدي في السنة، وتفصيل أحكامه في كتب الفقه.
ومن لوازم هذه العبادة: محبة الله -عز وجل- وتعظيمه والانقياد له.
والغداة أول النهار، والعشي آخره؛
واتصافهم بالعبادة في أول النهار وآخره يدل على محافظتهم عليها، وفي هذين
الوقتين صلاة الفجر والعصر كما يستحب فيهما ذكر الله عز وجل، كما قال
تعالى: {واذكر ربَّك في نفسِك تضرعًا وخيفةً ودون الجهرِ من القولِ بالغُدوِّ والأصال ولا تكن من الغافلين} [الأعراف: 205]
وهذا التعبير (بالغداة والعشي) يفيد استمرارية الفعل، فكأن المعنى أن يومهم عامرٌ بعبادة الله عز وجل.
قال ابن عطية: " وقيل: بل قوله: بالغداة
والعشيّ عبارة عن استمرار الفعل وأن الزمن معمور به، كما تقول: الحمد لله
بكرة وأصيلا، فإنما تريد الحمد لله في كل وقت". اهـ.
وإذا كان هذا هو ظاهر حالهم؛ المحافظة على العبادة في كل وقت، فإن الآية بيّنت حالتهم الباطنة وهو قوله سبحانه: {يريدون وجهه}
أي أنهم يدعون ربهم بالغداة والعشي يبتغون بذلك وجه الله وحده!
وفي هذا بيان لعمل قلبي لا يعلم حقيقته إلا الله عز وجل، ليُعلم أن
المعوَّل على إخلاصهم لله عز وجل؛ وليس كل من كان سمته الصلاح كان مخلصًا،
بل كثيرًا ما يقع الشر بتقديم غير المخلصين وتمكينهم زمام الأمور.
وبهذا الوصف استحقوا أن يأمر الله عز وجل نبيه بلزوم صحبتهم، والأمر للنبي
صلى الله عليه وسلم أمر لجميع أمته ما لم يرد ما يفيد تخصيصه به؛ فنحن أولى بالتزام هذا الأمر!
فكيف ينصرف القلب عن ملازمة الصالحين المخلصين؟
سبحان من تكلم بالقرآن العليم الحكيم؛ فقد عطف الله على هذا الأمر قوله: {ولا تعدُ عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا}
فلم يقف الأمر عند مجرد ملازمة صحبتهم والاتصاف بوصفهم وتأييدهم ونصرتهم
والصبر على ذلك ومجاهدة النفس لتحقيق هذا الأمر، بل جاء النهي كذلك عن صرف
البصر إلى غيرهم، مجرد صرف البصر إلى غيرهم!
تأمل الجملة جيدًا: {ولا تعدُ عيناك}
الفعل مسند إلى العينين، كأن النهي موجه إلى العينين زيادة في التأكيد على أنه لا يجوز له أن يتجاوز ببصره إلى غيرهم، وتعدى الفعل بحرف الجر {عن} فقال: {ولا تعدُ عيناك عنهم} مع أن هذا الفعل يتعدى بـ {إلى}، ليتضمن معنى آخر وهو النهي عن الإعراض عنهم!
وما الذي يمكن أن يحمل النفس على الإعراض عنهم وصرف البصر إلى غيرهم؟
قال الله عز وجل: {ولا تعدُ عيناك عنهم تريدُ زينة الحياة الدنيا}
أي لا تنصرف عن الصالحين تريد الشرف والفخر عند الآخرين.
وكان الستة نفر الذين نهى الله عز وجل رسوله عن طردهم من فقراء الصحابة،
وضعفائهم، وكان رسول الله عز وجل يرجو إسلام أشراف المشركين، يكون بإسلامهم
عزًا للمسلمين وإسلام غيرهم من قومهم، وقد وصف الله عز وجل رسوله بقوله: {لقد جاءكم رسولٌ من أنفسكم عزيزٌ عليه ما عنِتم حريصٌ عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم} [التوبة: 128]
ومع هذا نهاه الله عز وجل أن يصرف بصره إلى غيرهم !
فكيف بنا؛ ونحنُ إنما نريد حقيقة زينة الحياة الدنيا بمتاعها الزائل؟!
جاءت هذه الآية تأمرنا بلزوم صحبة الصالحين المخلصين حتى وإن كان بهم من
الصفات ما تكرهه النفس من الضعف أو الفقر، فإن ما معهم من ذكر الله و
الإخلاص له كفيلٌ بأن يجعلهم مقدمين في الصحبة والولاية، وتحذرنا من صرف
البصر إلى غيرهم نريد بهذا زينة الحياة الدنيا فما هي إلا زينة لا تلبث أن
تنكشف حقيقتها ، وما هي إلا " دنيا " لا تلبث أن تنقضي ثم لا نجد أثرًا
لتلك اللذة إلا الحسرة والخسران ، والعياذ بالله.
وكما بينت الآية صفة هؤلاء الصالحين ظاهرًا
وباطنًا، ترغيبًا في لزوم صحبتهم، بيَّنت أيضًا صفة الفريق الآخر، مسبوقة
بالنهي عن طاعته، تزهيدًا فيه؛ فقال الله عز وجل: {ولا تُطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبعَ هواه وكان أمره فرطا}
فأول صفاتهم: الغفلة عن ذكر الله عز وجل، وهي مقابلة لصفة الفريق الآخر أنهم كانوا يدعون ربهم بالغداة والعشي، غير أن الله عز وجل لم يسند الفعل إليهم فيقول: (غفلوا عن ذكري)، كما شرّف الفريق الآخر فقال: (يدعون ربهم) ومعلومٌ أن هذه العبادة من فضل الله عز وجل عليهم وتوفيقه لهم!
ولكن هنا قال سبحانه: {أغفلنا قلبه عن ذكرنا}، فجاء الإسناد إليه، وقد عُلم من آيات أخرى أن هذا إنما يكون عقوبة على فعل العبد، كما قال سبحانه: {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم} [الصف: 5]
ولعل الحكمة في إسناد الفعل إلى الله عز وجل هنا، التأكيد على أنه ليس
لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الأمر شيء؛ فليس بيده هداية القلوب
هداية التوفيق وإنما عليه البلاغ، كما قال تعالى: {فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظًا إن عليكَ إلا البلاغ} [سورة الشورى: 48]
فإذا كان الله -عز وجل- أغفل قلوبهم عن ذكره؛ فمن يمكنه هدايتهم إلا أن يأذن الله -بفضله- فيهديهم إليه؟!
وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس له من الأمر شيء؛ فكيف بغيره من عموم المؤمنين!
وقال سبحانه: {أغفلنا قلبه} فالقلب نفسه غافل، وإذا غفل القلب غفلت كل الجوارح تبعًا له.
وجاء التعبير بالجمع في {أغفلنا} و {ذكرنا} تعظيمًا لله عز وجل؛ فما كان ينبغي لهم الغفلة عن ذكر الله عز وجل، وأمن مكره وعقوبته، وما كان للمؤمنين عصيان أمره أو إتيان نهيه.
ثم جاء الوصف الثاني: {واتبع هواه}
وهذا في مقابلة وصف الصالحين بـأنهم يريدون وجه الله عز وجل.
لكن هذا الفريق إنما اتّبع هواه، ومن أضل ممن اتبع هواه؟!
كما قال الله عز وجل: {فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنّما يتبعون أهواءهم ومن أضلُّ ممن اتّبع هواه بغيرِ هدى من الله إن الله لا يهدي القومَ الظالمين} [القصص: 50]
والتعبير بالفعل الماضي: {اتَّبع} فيه دلالة على تحقق هذا الوصف منهم، والعياذ بالله من اتباع الهوى.
فجاء الوصف الثالث بيانًا لعاقبة الغفلة عن ذكر الله عز وجل واتباع الهوى؛ فقال الله عز وجل: {وكان أمره فرطًا}
وهذه الجملة اسمية تدل على الثبوت واللزوم، فأمرهم دائما فُرُطا.
فما المقصود بالأمر؟ وما معنى فُرُطا؟
هذه الجملة -إضافة لكل ما سبق- فيها بيان بديع لبلاغة القرآن؛ فهذه الكلمات المعدودة تضمنت معاني واسعة:
فالأمر يمكن أن يُقصد به الطاعات التي أمرهم الله عز وجل بها، ويمكن أن يقصد به النواهي التي نهاهم عنها، ويمكن أن يقصد به عاقبتهم.
وأما "فُرُطا" فهو مصدر يأتي بمعنى التفريط أي التضييع، ويأتي بمعنى الإفراط أي الإسراف، ويأتي بمعنى الهلاك كالعقد الذي انفرطت حباته.
ويمكنك الآن تبيُّن المعاني التي تحتملها هذه الجملة:
- فإذا قُصد بالأمر الطاعات فهم يضيعونها.
- وإذا قُصد النواهي فهم يسرفون في الشرك والمعاصي.
- وإذا قُصد بالأمر العاقبة؛ فعاقبتهم -إذا أصروا على ما سبق- الهلاك.
فأي عاقل يمكن أن يطيع من كان هذا وصفه؛ غفلة عن ذكر الله عز وجل، واتباع الهوى وتضييع للطاعات وإسراف في المعاصي وعاقبته الهلاك!
وهذه الجملة هنا ليس لها مقابل في وصف فريق الصالحين لكنها دلّت بدلالة الإيماء على عاقبة فريق الصالحين وهي الفوز والنجاة؛ فكيف يزهد فيهم عاقل !
ولعلك تلاحظ أيضًا أن الله عز وجل أخبرنا عن الفريق الأول بصيغة الجمع: {يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه}، بينما أخبرنا عن الفريق الآخر بصيغة المفرد: {من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرُطا}
مع أن واقع الأمر أن فريق الصالحين كان من القلة الفقيرة الضعيفة، والفريق الآخر كانوا كثرة ومعهم القوة والسلطة ظاهرًا !
ولعل في هذا التفريق إيماء بديعًا إلى أن العزة إنما تكون بالإخلاص لله عز
وجل وعبادته وحده، وأن عاقبة هؤلاء الصالحين العزة والشرف، وأما الفريق
الآخر فحالهم على كثرتهم الضعف والتفرق، أو ربما يكون فيها إرشادًا إلى
ضرورة الحذر ممن كان صفته الغفلة واتباع الهوى ولو كان وحده، والله أعلم.
وقد عاب الكفار على نوحٍ -عليه السلام- أن أتباعه من الضعفاء فقالوا : {وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا باديَ الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين} [سورة هود: 27]؛ فكان عاقبتهم أن غرقوا في الطوفان، ونجا هؤلاء الضعفاء بأمر الله.
وقال تعالى ممتنا على المؤمنين : {ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون} [آل عمران : 123]
ونصر الله أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وأعز بهم دين الإسلام، وأعزهم
بالإسلام حتى فتحوا بلاد كسرى وقيصر، وملكوا كنوزهم، وصاروا أمراء على
البلاد والعباد بفضل الله وحده.
عن طارق بن شهاب، قال: لما قدم عمر الشام أتته الجنود
وعليه إزار وخفان وعمامة وأخذ برأس بعيره يخوض الماء؛ فقالوا له: يا أمير
المؤمنين! تلقاك الجنود وبطارقة الشام وأنت على هذا الحال؟!!
قال: فقال عمر: «إنا قوم أعزنا الله بالإسلام؛ فلن نلتمس العزّ بغيره». رواه ابن أبي شيبة، وابن عساكر في تاريخ دمشق.
فهذا هو الطريق لمن صدق ورغب في عزة الإسلام والمسلمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
_____________________________________________________________________________
* أصل هذه الرسالة كانت ضمن واجبات دورة أساليب التفسير
للشيخ عبد العزيز الداخل -حفظه الله-، كتبتها بتاريخ 6 جمادى الأولى
1438هـ/2-02-2017م، وعدلتها على مرات آخرها يوم
الأحد 15 جمادى الآخرة، الموافق 8 يناير 2023، وذلك بالاستفادة من التفسير
البياني في بيان مقاصد الآية؛ فما كان فيها من صواب فمن الله، وما كان
فيها من خطإ فمني ومن الشيطان.
التعليقات ()