تأملات في قول الله تعالى: {ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما}
قال الله عز وجل: {وَمَن
يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ
اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء
وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ
اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ عَلِيمًا (70)} [سُورَةُ النِّسَاءِ: 69-70]
بيّن سبحانه في هاتين الآيتين عظيم فضله على عباده، أن يرزقهم رفقة النبيين
والصديقين والشهداء والصالحين في الجنة، جزاء على طاعتهم لله ورسوله، هذا
مع كون بعضهم لم يلحقوا بهم في العمل !
ثم قال الله عز وجل: {ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما}
وفي هذه الآية بيان لعظيم فضل الله على عباده ورأفته بهم، وفيها ما يؤنس
السالك في طريقه إلى ربه، ويهون عليه مجاهدة العوائق، وقطع العلائق.
وهذا بعض ما وقفت عليه، وأسأل الله التوفيق:
1. اسم الإشارة (ذلك) للبعيد، مع قرب مرجعه،
أفاد عظيم هذا الفضل وعلو مرتبته وقدره، وهو مما يحث العبد على تحصيله
بتحقيق موجبه (طاعة الله ورسوله)، ويستوجب الشكر أن بشّر الله عباده في
كتابه بمثل هذا الفضل.
2. اسم الإشارة (ذلك) مبتدأ، واختُلف في خبره:
- فقيل الخبر هو (الفضل)، و (من الله) حال، أو صفة للفضل.
وعلى هذا القول يكون المبتدأ والخبر معرفتين، وهو مما يفيد الحصر أنّ هذا الفضل من الله وحده.
- وقيل (الفضل) صفة لاسم الإشارة، والخبر (من الله).
وعلى كل حال ففي هذه الجملة بيان لأن هذا الفضل من الله ابتداء، وهذا مما يوجب كمال تعلق القلب بالله عز وجل، وألا يطلب هذا الفضل من غيره !
3. والمقصود بالفضل يحتمل أن يكون التوفيق للطاعة؛ فيستحقون عليها الجزاء.
ويحتمل أن يكون الفضل هو الجزاء برفقة النبيين والصديقين والشهداء
والصالحين في الجنة، وكلا القولين صحيح؛ فالله سبحانه هو المتفضل على عباده
بالتوفيق للطاعات ابتداء وهو المتفضل عليهم بعظيم الثواب.
4. كلمة (الفضل) تفيد أنهم لم يبلغوا هذه الدرجة في الجنة بعملهم؛ وإنما هو فضل الله عليهم، وهذا يستوجب مزيدا من الشكر، والاجتهاد في الثبات على الطاعة.
وفي الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال:
"جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا
رسول الله كيف تقول في رجل أحب قوما ولم يلحق بهم فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: ((المرء مع من أحب))".
وروى البخاري نحوه عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
وروى أيضا عن أنس بن مالك رضي الله عنه أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ السَّاعَةِ، فَقَالَ مَتَى السَّاعَةُ قَالَ: ((وَمَاذَا أَعْدَدْتَ لَهَا)).
قَالَ لاَ شَيْءَ إِلاَّ أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ: ((أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ)). قَالَ أَنَسٌ فَمَا فَرِحْنَا بِشَيْءٍ فَرَحَنَا بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ)).
قَالَ أَنَسٌ فَأَنَا أُحِبُّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ
بِحُبِّي إِيَّاهُمْ، وَإِنْ لَمْ أَعْمَلْ بِمِثْلِ أَعْمَالِهِمْ.
5. جاء ختام الآية: (وكفى بالله عليما)
وفيها حثٌ أيضا على الثبات على طاعة الله ورسوله؛
- فإن من أيقن أن الله عليم به، مطلع على حاله وعمله، يستحي أن يراه الله عز وجل حيث نهاه، ويجتهد أن يراه حيث أمره.
- ثم من أيقن أن الله هو العليم، واكتفى به عليما أخلص عمله لله عز وجل، وثبت عليه غير مبال بمدح أحد أو ذمه.
- وإذا أيقن أن الله هو العليم واكتفى به عليما، علم أنه لا يخيب عند الله سعيه وهو مكافئه عليه.
كما قال تعالى: { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10)} [سورة الغاشية: 8-10]
وقال: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94)}[سُورَةُ الأَنبِيَاءِ: 94]
- وفي هذه الجملة: (وكفى بالله عليما) إظهار في موضع الإضمار، فكان يمكن أن يقول: (ذلك الفضل من الله وكفى به عليما)
ولعل الحكمة منه والله أعلم- ، التأكيد على هذه المعاني السابق ذكرها؛
الإخلاص لله عز وجل، واحتساب الأجر عنده، واستحضار مراقبته واطلاعه على عمل
العبد.
- وحذف متعلق العلم ليشمل ذلك كله؛ علمه بحالهم،
وما في قلوبهم من الإخلاص واليقين واحتساب الأجر عند الله، وعلمه بطاعتهم
لله ورسوله، وعلمه بالجزاء الذي يتفضل به عليهم.
كما قال تعالى:
{وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ
اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ
بِالشَّاكِرِينَ (53)} [سُورَةُ الأنعام: 53]
وقال: {إِنْ
يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا
أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70)} [سورة الأنفال: 70]
والله أعلم.
12 رمضان 1444 هـ
التعليقات ()