الدروس
course cover
تفسير الاستعاذة
11 Aug 2016
11 Aug 2016

9231

0

2

course cover
تفسير سورة الفاتحة

القسم الأول

تفسير الاستعاذة
11 Aug 2016
11 Aug 2016

11 Aug 2016

9231

0

2


1

1

0

0

0

تفسير الاستعاذة

معنى الاستعاذة
الاستعاذة هي الالتجاء إلى من بيده العصمة من شرِّ ما يُستعاذ منه والاعتصام به.
قال الحصين بن الحمام المري:

فعوذي بأفناء العشيرة إنما ..... يعوذ الذليلُ بالعزيز ليُعصما
قال أبو منصور الأزهري: (يقال: عاذ فلان بربّه يعوذ عَوْذاً إذا لجأ إليه واعتصم به).
والعِصمة هي المنَعَة والحماية ، قال الله تعالى: {لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم}، وقال: {ما لهم من الله من عاصم}.

أقسام الاستعاذة:
الاستعاذة على قسمين:
القسم الأول: استعاذة العبادة، وهي التي يقوم في قلب صاحبها أعمال تعبّدية للمستعاذ به من الرجاء والخوف والرغب والرهب، وقد يصاحبها دعاء وتضرّع ونذر.
وهي تستلزم افتقار المستعيذ إلى من استعاذ به، وحاجته إليه، واعتقاده فيه النفع والضر.
فهذه الاستعاذة عبادة يجب إفراد الله تعالى بها، ومن صرفها لغير الله تعالى فقد أشرك مع الله.

ومن صرفها لغير الله فإنه لا يزيده من استعاذ به إلا ذلاً وخساراً، كما قال الله تعالى: {وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجنّ فزادوهم رهقا}.

والقسم الثاني: استعاذة التسبب، وهي ما يفعله المستعيذ من استعمال الأسباب التي يُعصم بها من شر ما يخافه من غير أن يقوم في قلبه أعمال تعبدية للمستعاذ به.
وهذا كما يستعيذ الرجل بعصبته أو إخوانه ليمنعوه من شرّ رجل يريد به سوءاً، فهذه الاستعاذة ليست بشرك لخلوّها من المعاني التعبّدية، فهي أسباب تجري عليها أحكام الأسباب من الجواز والمنع بحسب المقاصد والوسائل.
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ستكون فِتَن، القاعِدُ فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من السَّاعي، مَنْ تَشَرَّفَ لها تَسْتَشْرِفْهُ، ومَن وَجَدَ مَلْجأ أو مَعاذا فَلْيَعُذْ به)).
وفي رواية عند مسلم: ((فليستعذ)) ومعناهما واحد، فهي استعاذة تسبب لا استعاذة عبادة.

لوازم "الاستعاذة"
الاستعاذة عبادة عظيمة تستلزم عبادات أخرى قلبية وقولية وعملية:
فمنها: افتقار العبد إلى ربّه جلّ وعلا، وإقراره بضعفه وتذلّلـه وشدّة حاجته إليه.
ومنها: أنها تستلزم إيمان العبد بأسماء الله الحسنى وصفاته العليا، وتدبيره وتصرّفه التامّ في الكون؛ وذلك أنّ الحامل على الاستعاذة في الأصل إيمان العبد بقدرة ربّه جلّ وعلا على إعاذته، وإيمانه برحمته التي يرجو بها قبول طلب إعاذته، وإيمانه بعزّته وملكه وجبروته وأنه لا يعجزه شيء، وإيمانه بعلم الله عزّ وجلّ
بحاله وحال ما يستعيذ منه، وإحاطته بكلّ شيء، وتستلزم أيضاً إيمان العبد بسمع الله وبصره وحياته التامّة وقيّوميّته، إلى غير ذلك من الاعتقادات الجليلة النافعة التي متى قامت في القلب قياماً صحيحاً كان لها أثر عظيم في إجابة طلب الإعاذة.
ومنها: أنها تحمل العبد على الاستقامة على أمر الله جلّ وعلا، وحفظ جوارحه ولسانه؛ لأنه يخشى أن يخذل بسبب ذنوبه وما فرّط فيه، فإذا ما وقع في عصيان أو تفريط أثر ذلك في قلبه خشية تحمله على المبادرة إلى التوبة والاستغفار والإنابة إلى الله جلّ وعلا.
ومنها:
أن المستعيذ تقوم بقلبه أعمال جليلة يحبّها الله تعالى، من الصدق والإخلاص والمحبّة والخوف والرجاء والخشية والإنابة والتوكّل والاستعانة وغيرها، وكل هذه العبادات القلبية العظيمة تقوم في قلب المستعيذ حين استعاذته؛ فلذلك كانت عبادة الاستعاذة من العبادات الجليلة التي يُحبّها الله تعالى ويثيب عليها، ويبغض من أعرض عن التعبّد له بها.


أثر الاستعاذة بالله تعالى على قلب العبد:
من أعظم ثمرات الاستعاذة بالله عمران القلب بخشية الله وصدق الإنابة إليه، وما تثمره من التفكّر والتذكّر والتبصّر والاستقامة.
- فأمّا الخشية فلما يقوم بقلبه من المعرفة بالله تعالى وبأسمائه وصفاته والمعرفة بما كسبت نفسه وفرّطت فيه من أوامر الله ؛ فيخشى سخط ربّه وعقابه.
- وأمّا الإنابة فلأجل ما يقوم في قلبه من الإقبال على ربّه، والإعراض عما يصدّ عنه، وهذه الإنابة هي المقصود الأعظم للابتلاء بما يُستعاذ منه.
ومتى صحّت الإنابة في قلب العبد كان من الذين يهديهم الله كما قال الله تعالى: {قل إن الله يضلّ من يشاء ويهدي إليه من أناب} ، وقال تعالى: {الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب}
- وأما الصدق فلأجل أن المستعيذ صادق في طلب الإعاذة لشدّة حاجته إلى من يعصمه، واجتهاده في ذلك.
- وأما الإخلاص؛ فلأجل أن المؤمن يفزع إلى ربّه جلّ وعلا لا إلى غيره؛ فيستعيذ به وحده.
- وأما التوكّل فلأجل ما يقوم في قلب العبد من التفويض وعزمه على اتّباع هدى الله.
- وأمّا الاستعانة فلأجل معرفته بحاجته إلى عون الله تعالى على اتّباع هداه ليعصمه من شرّ ما استعاذ منه.

ومحركات القلوب إلى الله تعالى ثلاثة: المحبّة والخوف والرجاء
والاستعاذة تستحثّ هذه المحرّكات وتحفّزها في قلب العبد؛ فإذا دَهمَ القلبَ ما يزعجه ويخاف ضرره؛ فزع إلى الله تعالى ولاذ بجانبه وأيقن أنّه لا عاصم له إلا هو:
1. فيعظم الرجاء في الله لطلب السلامة والعصمة مما استعاذ منه؛ ذلك لأنّ المستعيذ إنما يحمله على الاستعاذة رجاؤه أن يستجيب له ربّه فيعيذه من شرّ ما استعاذ منه.
2. ويعظم الخوف من الله تعالى لعلم العبد بأنّه لن يخذل إلا من جهة نفسه وذنبه؛ فيحمله ذلك على الاستقامة والكفّ عن المعاصي؛ لأجل ما يقوم في قلبه من خوف ردّ استعاذته بسبب ذنوبه، ولذلك كان من شأن المحسنين عند الملمّات تقديم الاستغفار والتوبة إلى الله؛ كما أثنى الله تعالى على بعضهم بقوله: { وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)}
فسمّاهم الله محسنين وبيّن أنّهم يحبّهم ويحبُّ من يعملُ عملهم لمّا أحسنوا الاستعاذة به جلّ وعلا من شرّ عدوّهم؛ واتّبعوا هداه بصبرهم وعزيمتهم على جهاد عدوّهم، وخوفهم من ربّهم؛ فحقّقوا بما عملوا وبما قالوا معنى الاستعاذة كما يحبّ اللهُ ويرضى، حتى جعلهم مثلاً يحثّ عباده المؤمنين من هذه الأمّة على الاتّساء بهم في ذلك.

وقال تعالى: {إنّ الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلّهم الشيطان ببعض ما كسبوا}

ولذلك قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: (لا يخاف العبدُ إلا ذنبَه، ولا يرجو إلا ربه) رواه عبد الرزاق والبيهقي في شعب الإيمان.
3. وتعظم محبّة الله في قلبه لما يرى من أثر إعاذته له ويجد من طمأنينة القلب في الالتجاء إليه والاعتصام به، وإيمانه بأنّ الله وليّه الذي لا وليّ له غيره.

ومن قامت في قلبه هذه العبادات العظيمة كانت استعاذته من أعظم أسباب محبّة الله تعالى له، وهدايته إليه.
والمقصود أنّ الاستعاذة من العبادات العظيمة التي هي من مقاصد خلق الله تعالى للإنس والجنّ كما قال الله تعالى: {وما خلقت الجنّ والإنس إلا ليعبدون}، وأنها تثمر في القلب أعمالاً تعبّدية يحبّها الله من الصدق والإخلاص والمحبة والرجاء والخوف والخشية والإنابة والتوكل وغيرها؛ فيحيا القلب بعد موته، ويستيقظ بعد غفلته، ويلين بعد قسوته، وتزكو النفس، وتستنير البصيرة، ويصلح العمل، وتحسن العاقبة.

الحكمة من تقدير ما يُستعاذ منه:

وبما تقدّم تتبيّن لك بعض الحِكَم الجليلة من تقدير الله تعالى لما يُستعاذ منه، وخلق الأشياء المؤذية والضارة، مع ضمانه لعباده المؤمنين بإعاذتهم إذا أحسنوا الاستعاذة به؛ كما قال تعالى في حديث الوليّ المشهور: (ولئن استعاذني لأعيذنّه).
ولو قُدّر خلو العالم الدنيوي من الشرور التي يُستعاذ منها لفات على العباد فضيلة التعبد لله تعالى بالاستعاذة به، وفاتهم من المعارف الإيمانية الجليلة، والعبادات العظيمة ما يناسب ذلك.
والنفس البشرية إذا أمِنَت المضارّ ارتاحت إلى اتّباع الهوى وطول الأمل ودخل عليها من العلل والآفات ما يسوء به الحال والمآل؛ فكان من حكمة الله تعالى أن قدّر من أقدار الشرّ ما يحمل عباده على الاستعاذة به جلّ وعلا واتّباع هداه؛ فتتطهّر قلوبهم وتتزكّى نفوسهم وتصلح أحوالهم وتحسن عواقبهم، وقد قال الله تعالى {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }
فتقدير المشقّة والضرر لا يريد الله به أن يجعل على عباده المؤمنين حرجاً أو يكلّفهم ما لا يطيقون، وإنما يريد به أن يطهّرهم، وأن تتهيّأ نفوسهم لإنعامه الخاصّ الذي يختصّ به من يستجيب له ويتّبع هداه.
والمقصود أنّ الحوادث والابتلاءات مجال رحب يعرّف العباد بربّهم جلّ وعلا وبأسمائه وصفاته، ليجدوا ما أخبر الله به وما وعدهم به على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم صدقاً وحقاً.

تحقيق الاستعاذة:

تحقيق الاستعاذة يكون بأمرين:
أحدهما: التجاء القلب إلى الله تعالى وطلب إعاذته بصدق وإخلاص معتقداً أن النفع والضر بيده وحده جلّ وعلا، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
والآخر: اتّباع هدى الله فيما أمر به ليعيذه، ومن ذلك بذل الأسباب التي أمر الله بها، والانتهاء عما نهى الله عنه.
فمن جمع بين هذين الأمرين كانت مستعيذاً بالله حقاً.

درجات الاستعاذة:
أمرَ الله تعالى بالاستعاذة به؛ وهذا الأمر الرباني يتضمّن وعداً كريماً بإعاذة من يستعيذ به، فمن أحسن الاستعاذة بالله تعالى أعاذه الله،كما قال الله تعالى في الحديث القدسي [ولئن استعاذني لأعيذنه]، والله تعالى لا يخلف وعده، ولكن الشأن كلَّ الشأن في تصحيحِ الاستعاذةِ وإحسانها؛ فإن الاستعاذة الصحيحة هي التي تنفع العبد بإذن الله تعالى، وهي التي يكون فيها صدق التجاء القلب إلى الله تعالى، واتباع هداه، فيما يأمر به العبد وينهاه، فإذا سلك العبد سبيل النجاة نجاه الله.
وأما من يستعيذ بلسانِه وقلبُه معرضٌ عن صدق الالتجاء إلى الله، أو يستعيذ بلسانه ولا يتبع هدى الله فاستعاذته كاذبة.


ولذلك فإنَّ الناس في الاستعاذة على درجات:
الدرجة الأولى: أصحاب الاستعاذة الباطلة، وهي الاستعاذة التي تخلَّف عنها أحد شرطي القبول من الإخلاص والمتابعة؛ وهؤلاء استعاذتهم من جَهْد البلاء، لأنهم يستعيذون بالله وبغيره؛ فيشركون بالله، ويدعونَ {وما دعاء الكافرين إلا في ضلال}، وكذلك أصحاب الاستعاذات البدعية مما يحدثه بعض الناس من التعويذات المبتدعة، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
والدرجة الثانية: الاستعاذة الناقصة، وهي الاستعاذة التي خلت من الشرك والبدعة، لكنها استعاذة ناقصة ضعيفة لما فيها من ضعف الالتجاء إلى الله، وضعف الاستعانة به، والتفريط في اتباع هداه؛ فيستعيذ أحدهم وقلبه فيه غفلة ولهو عن الاستعاذةِ.
والاستعاذةُ نوع من أنواع الدعاء وقد رُوي من حديث أبي هريرة وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( إن الله لا يستجيب لعبد دَعَاه عن ظهر قلب غافل )) والحديث حسَّنه الألبانيّ رحمه الله.
قال ابن القيّم رحمه الله في الجواب الكافي كلاماً معناه: الدعاء دواء نافع مزيل للداء لكن غفلة القلب عن الله تضعف قوَّته.
وكذلك من يستعيذ بقلبه لكن في اتباعه لهدى الله عز وجلَّ ضعف وتهاون وتفريط فتكون استعاذته ناقصة بذلك، والاستعاذة الناقصة تنفع أصحابها بعضَ النفع بإذن الله تعالى.

الدرجة الثالثة: استعاذة المتقين، وهي الاستعاذة الصحيحة المتقبَّلة التي تنفع أصحابها بإذن الله، وهي التي تكون بالقلب والقول والعمل:
- فأما تصحيح الاستعاذة بالقلب؛ فذلك بأن يكون في قلب صاحبها التجاء صادق إلى الله جل وعلا، فيؤمن بأنه لا يعيذه إلا الله، ويتوكل على الله وحده، ويحسن الظنَّ به، ويصبر على ما يصيبه حتى يفرج الله عنه، ولا ينقض استعاذته ولا يضعفها بالاستعجال وترك الدعاء ولا بالتسخط والاعتراض.
- وأما الاستعاذة بالقول؛ فتكون بذكر ما يشرع من التعويذات المأثورة، وما في معناها مما يصحّ شرعاً.
- وأما الاستعاذة بالعمل؛ فتكون باتباع هدى الله جلَّ وعلا، ولا سيما في ما يتعلق بأمر الاستعاذة.
الدرجة الرابعة: استعاذة المحسنين، وهي أعلى درجات الاستعاذة وأحسنها أثراً، وأصحاب هذه الدرجة هم ممن أوجبَ الله تعالى على نفسه أن يعيذهم إذا استعاذوه، وهم الذين حققوا صفات ولاية الله تعالى كما في صحيح البخاري وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( إن الله قال: [ من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليَّ عبدي بشيءٍ أحبَّ إليَّ مما افترضتُه عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبَّه؛ فإذا أحببته كنت سمعَه الذي يسمعُ به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينَّه، ولئن استعاذني لأعيذنَّه] )).
وهؤلاء هم الذين أحسنوا الاستعاذة بقلوبهم وأعمالهم وأحوالهم؛ حتى إنهم يستعيذون بالله كأنهم يرون الله جل وعلا، يكثرون من ذكر الله، ويحسنون اتباع هدى الله تعالى؛ فتراهم يسارعون في الخيرات، ويكفّون عن المحرّمات، ويتورعون عن الشبهات، ويحسنون التقرب إلى الله تعالى بالنوافل بعد الفرائض.
فهؤلاء أولياء الله، الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، واستعاذتهم سريعة الأثر في الغالب، كما كانت استجابتهم لله تعالى سريعة لا تردد فيها ولا توانٍ.
وبهذا يتبيَّن أن الناس يتفاضلون في الاستعاذة، بل أصحاب كلّ درجة يتفاضلون فيها، بل إنّ العبد الواحد تتفاضل استعاذاته فيحسن في بعضها ويقصّر في بعضها، ومن تبصّر بحقيقة الاستعاذة بالله، وأيقن بنفعها وعظيم أثرها على قلبه وجوارحه وحاله ومآله حرص على إحسانها.
وكلما كان العبد أحسن استعاذةً كانت إعاذته أرجى وأنفعَ وأحسنَ أثراً بإذن الله تعالى.

والله تعالى يبتلي عبادَه ببعض ما يُستعاذ منه؛ فمن أحسن الاستعاذة به جلّ وعلا أعاذه، واصطفاه، ورفع درجته؛ فكانت حاله بعد استعاذته أحسن وأكمل وأحبّ إلى الله من حاله قبل أن يُقدّر عليه ما استعاذ منه.
وقد كتب الله حسن العاقبة لمن يتّبع هداه، وبذلك يطمئنّ المؤمن أنّه ما دام متبعاً لهدى الله فهو على خير، وإلى خير، وما أصابه مما يكره فسيفضي به إلى ما يحبّ بإذن الله. (*)

الأمر بالاستعاذة من الشيطان الرجيم
أمر الله تعالى عباده بالاستعاذة من الشيطان الرجيم في آيات من القرآن الكريم:
- فقال الله تعالى: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ باللّه من الشّيطان الرّجيم * إنّه ليس له سلطانٌ على الّذين آمنوا وعلى ربّهم يتوكّلون}.
- وقال تعالى: {وإمّا ينزغنّك من الشّيطان نزغٌ فاستعذ باللّه إنّه سميعٌ عليمٌ}.
- وقال تعالى: {قل ربّ أعوذ بك من همزات الشّياطين * وأعوذ بك ربّ أن يحضرون}
- وقال تعالى: {وإمّا ينزغنّك من الشّيطان نزغٌ فاستعذ باللّه إنّه هو السّميع العليم}.
وهذه الآيات تدلّ دلالة بيّنة على أن للشيطان من الشرور ما يستوجب استعاذة المسلم منه بربّه جلّ وعلا، وأنه لا سلامة من شرّه وكيده إلا بتحقيق الاستعاذة بالله تعالى.
وقد بيّن الله تعالى في مواضع كثيرة من القرآن أن الشيطان عدوّ للإنسان، وأنه إنما يريد أن يغوي بني آدم ليكونوا من أصحاب النار، وأن من أعظم حبائله الوسوسة التي يغرّ بها بعض بني آدم ويستزلّهم بها حتى يُنسيهم ما وعدهم الله به من وعد الحقّ إذا آمنوا به وأطاعوه، ولذلك جاء الأمر الصريح باتّخاذه عدوا يجب الحذر منه والانتهاء عن اتّباع خطواته.
وقد جمع الله ما تقدّم من هذه الأصول العظيمة في آيتين من كتابه؛ فقال تعالى: { يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6)}
وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21)}.
وقال تعالى: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4)}.
وقال: { إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15)}

أنواع شرور الشيطان:
للشيطان شرور كثيرة متنوّعة لا يخلو منها شأن من شؤون الإنسان؛ كما في صحيح مسلم من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الشيطان يحضر أحدكم عند كل شيء من شأنه)).
وقد ثبت في النصوص أن الشيطان يوسوس وينزغ ويهمز وينفخ وينفث، ويستزلّ ويضلّ، ويخوّف، ويَعِدُ ويمنّي ويزيّن الشهوات المحرمة، ويثير الشبهات المحيرة، بل له تصرفات في بعض أجساد الناس، كما صح أن التثاؤب من الشيطان، والحلم من الشيطان، والاستحاضة من الشيطان، وصراخ الطفل إذا استهل من الشيطان، والغضب من الشيطان، والعجلة من الشيطان، والالتفات في الصلاة اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد، وأن الشيطان يوهم بعض الناس أنه خرج منه ريح وهو لم يخرج، كما في مسند الإمام أحمد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن أحدكم إذا كان في الصلاة جاءه الشيطان فأبسّ به ، كما يبس الرجل بدابته، فإذا سكن له أضرط بين إليتيه ليفتنه عن صلاته ، فإذا وجد أحدكم شيئا من ذلك فلا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا لا يشك فيه)). إلى غير ذلك من أنواع الشرور التي تدلّ من تفكّر فيها وفي آثارها أنّه لا بدّ له من الاستعاذة بالله تعالى من شرّه وكيده.
وهذه الأعمال أدلتها معلومة في الكتاب والسنة وشرحها يطول ويخرجنا عن المقصود من تلخيص كلام أهل العلم في تفسير الاستعاذة.

درجات كيد الشيطان:
ومما ينبغي أن يعلم أن كيد الشيطان على درجات:
الدرجة الأولى: الوسوسة، وهي أصل كيده وأوّله، وهو بلاء عامّ قد ابتلي به الأنبياء فمن دونهم، وهو أصل الابتلاء في هذه الحياة الدنيا، لكنَّ هذه الوسوسة لا تضرّ من يتّبع هدى الله شيئاً كما قال الله تعالى في أوّل وصية أوصى بها آدم وحواء لما أهبطهما إلى الأرض وأهبط معهما إبليس فتنة وابتلاء: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) }
وقال تعالى: { قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)}.
فهذا هو أصل الابتلاء في هذه الحياة الدنيا ليعلم الله من يتبع هداه ممن يتّبع الشيطان.
والدرجة الثانية: التسلط الناقص، وهو على نوعين: استزلال، وابتلاء.
أ: فأمّا الاستزلال فيكون لبعض عصاة المسلمين الذين يتّبعون خطوات الشيطان حتى يستزلّهم، أي: يوقعهم في الزَّلَل؛ فيتسلَّط عليهم تسلّطاً يفتنهم ويغويهم به؛ فيرتكبون بعضَ ما حرّم الله أو يتركون بعضَ ما أوجب الله؛ فيُحرمون بذلك من خير عظيم وثواب كريم، ويتعرّضون لفتنة أشدّ وعذاب أليم؛ كما قال الله تعالى: { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)}
وقال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا}
وقال تعالى: { وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209)}
والآيات في هذا المعنى كثيرة.
ب: وأما الابتلاء فقد يبتلي الله بعض عباده المؤمنين بإيذاء الشياطين وكيدهم، كالإيذاء بالفزع والتخويف، والإضرار بأنواع من الضرر، ومن ذلك كيد بعض مردة الجنّ لبعض الصالحين، وما يكون من همزات الشياطين ونزغهم، وقد يشتدّ هذا الإيذاء والإضرار ببعض المؤمنين وقد يضعف، وقد يطول أمده وقد يقصر؛ بحسب ما يقدّره الله من ذلك لحكمة يعلمها جلّ وعلا، ومن هذا النوع ما قد يُبتلى به بعض الأنبياء فمن دونهم كما قال الله تعالى في شأن أيّوب عليه السلام: {واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربّه أنّي مسني الشيطان بنصب وعذاب}
ومن هذا النوع ما يحصل لبعض الصالحين من الابتلاء بالسحر والعين وتسلط الشياطين، وما يحصل لهم من الآفات التي تُضعف أبدانهم ويتسلط عليهم الشيطان بأنواع من الأذى.
فهذا التسلّط شفاؤه الصبر والتقوى؛ فمن صبر واتّقى كانت عاقبته حسنة، ورفع الله عنه بلاءَه وأعظم جزاءه؛ فإنَّ الله تعالى لا يديم البلاء على عبده، ولا يجعل عاقبة من اتّبع هداه سيّئة، وقد قال الله تعالى: {فاصبر إنّ العاقبة للمتقين}، وقال الله تعالى: {إنه من يتق ويصبر فإنّ الله لا يضيع أجر المحسنين}.
فأهل البلاء يبلغون درجة الإحسان التي هي أعلى مراتب الدين بالصبر والتقوى.
وهؤلاء لا يتمكن الشيطان منهم تمكناً تاماً ما بقي معهم الإيمان بالله جل وعلا والعمل الصالح، ومهما بلغ بهم الأذى فإن الله يجعل لهم مخرجاً وفرجاً، والله تعالى لا يديم البلاء على عبده، وعظم الجزاء مع عظم البلاء.
ومن هذا الإيذاء ما حصل للنبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن كما في مسند الإمام أحمد ومصنف ابن أبي شيبة وغيرهما من حديث أبي التيَّاح قال: سأل رجل عبد الرحمن بن خنبش رضي الله عنه وكان شيخاً كبيراً قد أدرك النبيَّ صلى الله عليه وسلم: كيف صنع رسول الله صلى الله عليه و سلم حين كادته الشياطين؟
قال: (جاءت الشياطين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأودية، وتحدَّرت عليه من الجبال، وفيهم شيطان معه شعلة من نار يريد أن يحرق بها رسول الله صلى الله عليه وسلم).
قال: (فرعب؛ جعل يتأخر).
قال: (وجاء جبريل عليه السلام؛ فقال: يا محمد قل).
قال: ((ما أقول؟)).
قال: (قل:((أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما خلق وذرأ وبرأ، ومن شر ما ينزل من السماء، ومن شر ما يعرج فيها، ومن شر ما ذرأ في الأرض، ومن شر ما يخرج منها، ومن شر فتن الليل والنهار، ومن شر كل طارق إلا طارقاً يطرق بخير يا رحمن))؛ فطفئت نار الشياطين وهزمهم الله عزَّ وجل).
فهذه التعويذة نافعة لمن وجد شيئاً من أذى الشياطين وتبدّيهم له وتفلتهم عليه.

والدرجة الثالثة: التسلّط التام، وهو تسلّط الشيطان واستحواذه على أوليائه الذين اتّخذوه ولياً من دون الله حتى خرجوا من النور إلى الظلمات ، ومن ولاية الله إلى ولاية الشيطان {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19)}
وقال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)}.
ومن ضيّع الصلاة وتعامى عن ذكر الله تعالى كان على خطر من استحواذِ الشيطان عليه كما قال الله تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37)}
وفي المسند والسنن من حديث معدان بن أبي طلحة اليعمري قال: قال لي أبو الدرداء: أين مسكنك؟
قلت: في قرية دون حمص.
قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما من ثلاثة في قرية لا يؤذّن ولا تقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان)) فعليك بالجماعة فإن الذئب يأكل القاصية).

أسباب العصمة من كيد الشيطان:
لا سبيل للعصمة من كيد الشيطان إلا بالاستعاذة بالله والإيمان به والتوكّل عليه، كما تقدّم في آية النحل.
وهذا المعنى الكبير أفاض أهل العلم رحمهم الله في الحديث عنه وتفصيله وسلكوا في ذلك طرقاً متنوّعة، وحاصل ما تلخّص لي من كلام أهل العلم في هذا الباب يمكن إرجاعه إلى ثلاثة أسباب إجمالاً:
السبب الأول: اليقين بشدة حاجة العبد إلى أن يعيذه الله من كيد الشيطان.
وهذا اليقين متركب من بصيرتين:
البصيرة الأولى: بصيرة العبد بنفسه وضعفها، وشدّة افتقاره إلى الله تعالى، وأنه لا عصمة له إلا أن يعصمه الله؛ كما قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21)}.
وقال تعالى: { وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83)}.
والبصيرة الثانية: البصيرة بشدة عداوة الشيطان، ودوامها ما دامت حياة الإنسان، وحضور الشيطان للعبد عند كلّ شيء من شأنه، والبصيرة بخطر اتّباع خطوات الشيطان.

فينشأ من هاتين البصيرتين يقينٌ بالافتقار الدائم الشديد إلى الله تعالى، ومن حصل له هذا اليقين أثمر له الاعتصام بالله {ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم}.

والسبب الثاني، وهو مترتب على الأوّل: العمل بما أرشد الله تعالى إليه وأرشد إليه رسوله صلى الله عليه وسلم مما يعصم الله به عبده من كيد الشيطان:
وأصل ذلك ومعناه الجامع: تقوى الله عزّ وجلّ بأداء الفرائض والانتهاء عن المحرمات، والتوبة مما يحصل من العبد من ذنب باقتراف محرّم أو تضييع واجب.
ومن ذلك: قراءة السور والآيات والأدعية والأذكار والتعويذات الشرعية التي جعلها الله سبباً مباركاً للعصمة من كيد الشيطان.
ومنها: المعوذات وآية الكرسي إذا أصبح وإذا أمسى، وقراءة آخر آيتين من سورة البقرة، وقراءة سورة البقرة، وقراءة الأذكار والتعويذات الشرعية، وهي متنوّعة وميسّرة، ولله الحمد، وفضلها عظيم، وأثرها نافع جداً.
ومن ذلك: التسمية في المواضع المندوب إلى التسمية فيها؛ عند الدخول والخروج، وعند الأكل والشرب والجماع والرمي وكلّ أمر ذي بال.
والسبب الثالث: حراسة مداخل الشيطان على الإنسان، وأهمها: الغفلة، والهوى، والغضب، والفرح، والشهوة، والشحّ، والفضول.
فهذه المداخل التي يدخل منها الشيطان على كثير من الناس فيستزلّهم؛ فمن أقام دون كلّ مدخل منها حرساً من ذكر الله والاعتصام به والعمل بما أرشد الله إليه في كلّ أمر من هذه الأمور؛ فقد وقي شرّا عظيماً.
والجمع بين هذه الأسباب الثلاثة هو تفصيل لاتّباع هدى الله تعالى فيما أرشد إليه في آية النحل بقوله: {فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربّهم يتوكّلون}
فإن تحقيق التوكّل إنما يكون بالجمع بين تفويض القلب واتّباع الهدى، والتوكّل من واجبات الإيمان ودلائله كما قال الله تعالى: {وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين}.

الاستعاذة من الشيطان عند قراءة القرآن
قال الله تعالى {فإذا قرأت القرآن فاستعذ باللّه من الشّيطان الرّجيم * إنّه ليس له سلطانٌ على الّذين آمنوا وعلى ربّهم يتوكّلون}
فالشيطان يريد أن يحول بين المرء وبين الانتفاع بالقرآن بما يستطيع من الكيد، فإن استطاع أن يردّه عن تلاوته أصلاً ردّه حتى يقع في هجران القرآن؛ فإن عصاه المسلم فقرأ القرآن اجتهد في صدّه عن الانتفاع بتلاوته بإفساد قصده، أو إشغال ذهنه، أو التلبيس عليه في قراءته أو غير ذلك من أنواع الكيد، إذ لا شيء أنكى على الشيطان ولا أغيظ عليه من أن يتّبع المسلم هدى ربّه جلّ وعلا ويفوز بفضله ورحمته.
وَمَن عصمه الله من كيد الشيطان عند تلاوته للقرآن كان أقرب إلى إحسان تلاوته، وتدبّر آياته، والتفكّر في معانيه، وعَقْلِ أمثاله، والاهتداء بهداه، وكان أحرى بالخشية والخشوع، والسكينة والطمأنينة، والتلذّذ بحلاوة القرآن، ووجدان طعم الإيمان، والفوز بنصيب عظيم من فضل الله ورحمته وبركاته.

هل الاستعاذة قبل القراءة أو بعدها؟
قال الله تعالى {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم}
وقد نُقل في معنى هذه الآية أربعة أقوال للعلماء:
القول الأول: إذا أردت قراءة القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم، وهذا قول جمهور أهل العلم، فإنّ العرب تطلق الفعل على مقاربته، كما في الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل الخلاء قال: ((اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث)).
أي إذا أراد الدخول إلى الخلاء أو قارب الدخول إلى الخلاء.
ومنه ما في الصحيحين أيضاً من حديث عائشة رضي الله عنها أن ابن أم مكتوم كان لا يؤذن حتى يقال له: أصبحت أصبحت، وقد فسَّره جماعة من الشرَّاح كابن عبد البر وغيره بأن المراد قاربت الصباح.
وهو قول جمهور العلماء، وممن قال به: ابن جرير، وابن خزيمة، والطحاوي، والبيهقي، وابن عطية، وابن الجوزي، وابن تيمية، وغيرهم.
وقال به من علماء اللغة: يحيى بن سلام، والزجاج، وابن الأنباري، والنحاس، وابن سيده، وغيرهم.
والقول الثاني: في الآية تقديم وتأخير، والتقدير إذا استعذت بالله فاقرأ القرآن، وهذا قول أبي عبيدة معمر بن المثنى في مجاز القرآن.
وقد ردّه ابن جرير رحمه الله بقوله: (كان بعض أهل العربيّة يزعم أنّه من المؤخّر الّذي معناه التّقديم، وكأنّ معنى الكلام عنده: وإذا استعذت باللّه من الشّيطان الرّجيم فاقرأ القرآن، ولا وجه لما قال من ذلك، لأنّ ذلك لو كان كذلك لكان متى استعاذ مستعيذٌ من الشّيطان الرّجيم لزمه أن يقرأ القرآن)ا.هـ.
والقول الثالث: إذا قرأت فاجعل مع قراءتك الاستعاذة، وهذا قول ثعلب.
قال كما في مجالسه: (في قوله عز وجل: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم " قال: هذا مثل الجزاء، مثل قولهم إذا قمت قمت، وإذا فعلت فعلت، وقيامى مع قيامك، أي الاستعاذة والقرآن معاً، أي اجعل مع قراءتك الاستعاذة، كقولهم: اجعل قيامك مع قيام زيد).
والأقوال الثلاثة المتقدّمة متفقة على أنَّ الاستعاذة قبل القراءة.
والقول الرابع: إذا فرغت من قراءتك فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم، وهذا القول روي عن أبي هريرة رضي الله عنه، ونُسب القول به إلى الإمام مالك، وحمزة الزيات القارئ، وأبي حاتم السجستاني، وداود بن عليّ الظاهري.
وكلّ هؤلاء لا تصحّ نسبة هذا القول إليهم، وقد شاعت نسبته إليهم في كتب التفسير وبعض شروح الحديث، وقد أحسن ابن الجزري - رحمه الله-
بيانَ علل هذه الروايات في كتابه "النشر في القراءات العشر" وخطَّأ من نسبها إليهم، وقال في وقت الاستعاذة: (هو قبل القراءة إجماعاً ولا يصح قولٌ بخلافه، عن أحد ممن يعتبر قوله، وإنما آفة العلم التقليد).
ثم قال بعد توجيه معنى الآية على القول الأول: (ثم إن المعنى الذي شرعت الاستعاذة له يقتضي أن تكون قبل القراءة؛ لأنها طهارة الفم مما كان يتعاطاه من اللغو والرفث وتطييب له، وتهيؤ لتلاوة كلام الله تعالى، فهي التجاء إلى الله تعالى، واعتصام بجنابه من خلل يطرأ عليه، أو خطأ يحصل منه في القراءة وغيرها وإقرار له بالقدرة، واعتراف للعبد بالضعف والعجز عن هذا العدو الباطن الذي لا يقدر على دفعه ومنعه إلا الله الذي خلقه).ا.هـ.

الإجماع على أنّ (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) ليست قرآنا
قال ابن عطية: (وأجمع العلماء على أن قول القارئ: «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» ليس بآية من كتاب الله).

صِيَغ الاستعاذة
روي في صيغ الاستعاذة عدد من الأحاديث النبوية والآثار عن الصحابة والتابعين؛ فمن الأحاديث المرفوعة:
1. حديث سليمان بن صرد رضي الله عنه قال: استبّ رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم ونحن عنده جلوس، وأحدهما يسب صاحبه، مغضبا قد احمر وجهه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (( إني لأعلم كلمة، لو قالها لذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ))
فقالوا للرجل: (ألا تسمع ما يقول النبي صلى الله عليه وسلم؟)
قال: (إني لست بمجنون). رواه البخاري ومسلم وغيرهما من طرق عن الأعمش، عن عدي بن ثابت، عن سليمان بن صرد رضي الله عنه.

وهذا الحديث روي من طريق أبيّ بن كعب ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما.
وهذه الصيغة الواردة في الحديث لم تكن في الصلاة ولا عند القراءة، لكنّها أصحّ ما روي من صيغ الاستعاذة، وبها يقول الشافعي وكثير من الفقهاء والقراء.
2. وروى محمد بن فضيل عن عطاء بن السائب، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: «اللهم إني أعوذ بك من الشيطان، من همزه ونفخه ونفثه». رواه أحمد وابن أبي شيبة وأبو داوود وابن المنذر في الأوسط، وغيرهم.
محمد بن فضيل سمع من عطاء بن السائب بعد الاختلاط.
3. جعفر بن سليمان الضبعي عن علي بن علي الرفاعي، عن أبي المتوكل الناجي، عن أبي سعيد الخدري، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل كبر، ثم يقول: «سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك»، ثم يقول: «لا إله إلا الله» ثلاثا، ثم يقول: «الله أكبر كبيرا» ثلاثا، «أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه، ونفخه، ونفثه» رواه أحمد والدارمي وأبو داوود والترمذي وابن خزيمة وغيرهم.
4. عمرو بن مرّة، عن عاصم بن عمير العنزيّ، عن نافع بن جبير بن مطعمٍ، عن أبيه قال: رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حين دخل في الصّلاة، قال: «اللّه أكبر كبيرًا، ثلاثًا، الحمد للّه كثيرًا، ثلاثًا، سبحان اللّه بكرةً وأصيلًا ثلاثًا، اللّهمّ إنّي أعوذ بك من الشّيطان من همزه ونفخه ونفثه».
قال عمرٌو: «وهمزه: المُوتة، ونفخه: الكبر، ونفثه: الشّعر». رواه أحمد وأبو داوود وابن ماجه وغيرهم.
رجال ثقات معروفون غير عاصم العنزي وقد اختلف في اسمه، وهو مجهول الحال، وقد ذكره ابن حبان في الثقات.
وله شاهد مرسل رواه الإمام أحمد من طريق عكرمة بن عمار عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يقول: " اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم، من همزه ونفثه ونفخه).
5. وروى يعلى بن عطاء، أنه سمع شيخا من أهل دمشق، أنه سمع أبا أمامة الباهلي يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل في الصلاة من الليل كبر ثلاثا، وسبح ثلاثا، وهلل ثلاثا، ثم يقول: " اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه). رواه أحمد، والشيخ الدمشقي مجهول الحال.

وأما الآثار المروية عن الصحابة رضي الله عنهم في صيغ الاستعاذة فمنها:
1. ما رواه الأعمش، عن إبراهيم النخعي ، عن الأسود بن يزيد النخعي قال: افتتح عمر الصلاة، ثم كبر، ثم قال: «سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك , وتعالى جدك، ولا إله غيرك، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، الحمد لله رب العالمين» رواه ابن أبي شيبة.
2. وما رواه ابن جريج عن نافع، عن ابن عمر، كان يتعوذ يقول: «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم»، أو «أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم» رواه ابن أبي شيبة.
وفي رواية عند عبد الرزاق وابن المنذر كان يقول: « اللهمّ إنّي أعوذ بك من الشّيطان الرّجيم »

وقد روي عن بعض التابعين في ذلك آثار صحيحة منها:
1. ما رواه عبد الله بن طاووس بن كيسان عن أبيه وكان من أصحاب ابن عباس أنه كان يقول: «رب أعوذ بك من همزات الشياطين، وأعوذ بك رب أن يحضرون أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إن الله هو السميع العليم» رواه عبد الرزاق.
2. وما رواه أيوب السختياني عن محمد بن سيرين أنه كان يتعوذ قبل قراءة فاتحة الكتاب وبعدها، ويقول في تعوذه: «أعوذ بالله السميع العليم من همزات الشياطين، وأعوذ بالله أن يحضرون» رواه ابن أبي شيبة.
3. وما رواه كهمس بن الحسن عن عبد الله بن مسلم بن يسار، قال: سمعني أبي، وأنا أستعيذ بالسميع العليم، فقال: «ما هذا؟» قال: قل: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، إن الله هو السميع العليم). رواه ابن أبي شيبة.

وهذه الأحاديث والآثار تدلّ على أنّ الاختيار في صيغة الاستعاذة واسع، وقد اختلفت اختيارات أئمة الفتوى والقراءات في ذلك:
- فمن الأئمة من اختار التعوذ بقول: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) وهو قول أبي حنيفة والشافعي ورواية عن أحمد، وهو المختار عند القراء.
قال ابن الجزري: (المختار لجميع القراء من حيث الرواية {أعوذ بالله من الشيطان الرجيم}).
- ومنهم من اختار: {أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم} وهو رواية عن أحمد.
- ورواية ثالثة عنه: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إن الله هو السميع العليم).
قال النووي: (قال الشّافعيّ في الأمّ وأصحابنا يحصل التّعوّذ بكلّ ما اشتمل على الاستعاذة باللّه من الشّيطان لكنّ أفضله أعوذ باللّه من الشّيطان الرّجيم).
وقال ابن قدامة: (وهذا كلّه واسع، وكيفما استعاذ فهو حسن).

لكن ينبغي أن يختار من الصيغ المأثورة، وأن لا يتّخذ صيغة غير مأثورة شعاراً له يكثر منها عند القراءة؛ لأنّ الأصل في القراءة الاتّباع.
قال ابن عطية: (وأما المقرئون فأكثروا في هذا من تبديل الصفة في اسم الله تعالى وفي الجهة الأخرى كقول بعضهم: «أعوذ بالله المجيد من الشيطان المريد» ونحو هذا مما لا أقول فيه: نعمت البدعة، ولا أقول: إنه لا يجوز)ا.هـ.

حكم الاستعاذة لقراءة القرآن
اختلف العلماء في حكم الاستعاذة لقراءة القرآن على ثلاثة أقوال:
القول الأول: هي سنّة في الصلاة وخارجها، وهو قول الحسن البصري وإبراهيم النخعي وعطاء بن أبي رباح وابن سيرين والأوزاعي وسفيان الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق بن راهويه وغيرهم كثير.

ثم من هؤلاء من يقول: تكفي الاستعاذة في أوّل ركعة، وهو قول الحسن وعطاء بن أبي رباح، ورواية عن أحمد.
ومنهم من قال: يستعيذ في كلّ ركعة وهو قول ابن سيرين، والشافعي، ورواية عن أحمد.
قال الشافعي: (إن قاله في كل ركعة قبل القراءة فحسن، ولا آمر به في شيء من الصلاة أمري به في أوّل ركعة).
ثم منهم من يرى الاستعاذة للإمام والمنفرد دون المأموم، وهذا قول سفيان الثوري.
قال ابن المنذر: (وذلك لأنه كان لا يرى خلف الإمام قراءة؛ فأمّا على مذهب من يرى القراءة خلف الإمام فإنّه يستعيذ).
والقول الثاني: لا يستعيذ في صلاة الفريضة، ويستعيذ في النافلة إن شاء، وفي غير الصلاة.
وهذا قول الإمام مالك في المشهور عنه.
والقول الثالث: وجوب الاستعاذة لقراءة القرآن ، وهذا القول يُنسب إلى عطاء بن أبي رباح وسفيان الثوري، ولم أره مُسنداً عنهما.

والراجح هو القول الأول وهو قول جمهور أهل العلم رحمهم الله تعالى.

حكم الجهر بالاستعاذة
أما في الصلاة فيسرّ بها على قول الجمهور في استحباب الاستعاذة.
قال ابن قدامة: ( يسرّ الاستعاذة ولا يجهر بها ، لا أعلم فيه خلافا).
لكن مما ينبغي أن يُعلم حكمه أثرٌ رواه الشافعي عن إبراهيم بن محمد عن سعد بن عثمان عن صالح بن أبي صالح أنه سمع أبا هريرة وهو يؤم الناس رافعا صوته: "ربنا إنا نعوذ بك من الشيطان الرجيم" في المكتوبة وإذا فرغ من أم القرآن. وأخرجه البيهقي من طريق الشافعي، وفي إسناده إبراهيم بن محمد الأسلمي متروك الحديث، قال عنه الإمام أحمد: (كان قدريا معتزليا جهميا، كل بلاء فيه) واتّهمه جماعة من أهل الحديث بالكذب، وكان الشافعي حسن الظنّ فيه لا يتّهمه بالكذب، ولذلك روى عنه، وجمهور النقّاد على ترك حديثه، واستقّر عملهم على ذلك.
وقال الشافعي كما في الأم: (كان ابن عمر يتعوّذ في نفسه، وأيهما فعل الرجل أجزأه إن جهر، أو أخفى).

وأما في القراءة خارج الصلاة؛ فيجهر بها على نحو ما يجهر بقراءته.
قال ابن الجزري: (المختار عند الأئمة القراء هو الجهر بها عن جميع القراء، لا نعلم في ذلك خلافا عن أحد منهم إلا ما جاء عن حمزة وغيره).
ثم ذكر عن بعض قراء المدينة أنهم كانوا يخفون التعوذ ويجهرون بالقراءة، وذكر عن بعضهم أنهم كانوا يقرأون من غير استعاذة.
والراجح ما عليه جماهير أهل العلم من القراء والفقهاء.

خبر نزول الاستعاذة
روي في نزول الاستعاذة حديث ضعيف الإسناد منكر المتن، وهو ما أخرجه ابن جرير الطبري من طريق بشر بن عمارة، قال: حدثنا أبو روق، عن الضحاك، عن عبد الله بن عباس، قال: (أوَّل ما نزل جبريل على محمد، قال: يا محمد، قل: أستعيذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم. ثم قال: قل بسم الله الرحمن الرحيم. ثم قال: {اقرأ باسم ربك الذي خلق}).
قال عبد الله: (وهي أول سورة أنزلها الله على محمد، بلسان جبريل، فأمره أن يتعوَّذ بالله دون خلقه).

بشر بن عمارة الخثعمي ضعيف الحديث لا يقبل تفرّده، ضعّفه جماعة من أهل الحديث، وقال البخاري: (تعرف وتنكر)، وهذا الخبر من منكراته، والضحاك لم يسمع من ابن عباس، وهذا الخبر رواه ابن أبي حاتم من هذا الطريق ولم يذكر فيه الاستعاذة.

معنى "الشيطان"
الشيطان مُشتقّ من "شطن" على الراجح من قولي أهل اللغة، وهو لفظ جامع للبعد والمشقّة والالتواء والعُسر.
يقال:
نوىً شطون: أي بعيدة شاقّة.
وبئر شطون: ملتوية عوجاء بعيدة القعر.
وحرب شطون: عسرة شديدة.
قال الخليل بن أحمد: الشيطان فَيْعَالٌ من شَطَنَ أي: بَعُدَ.
وقال: (شَيْطَنَ الرَّجُل وتشيطن إذا صار كالشيطان وفَعَل فِعْلَه).
وحكى أبو منصور الأزهري عن بعض اللغويين أن الشيطان مشتقّ من شاط يشيط إذا احترق وهلك وقيل: إذا ذهب وبطل.

ورجّح أبو منصور القولَ الأول واستشهد له بقول أمية ابن أبي الصلت يذكر سليمان النبي عليه السلام:
أيما شاطن عصاه عكاهُ .....

قال: (أراد أيما شيطان).
وقال ابن جرير: (فكأنّ الشّيطان على هذا التّأويل فيعالٌ من شطن؛ وممّا يدلّ على أنّ ذلك كذلك، قول أميّة بن أبي الصّلت:
أيّما شاطنٍ عصاه عكاه.......ثمّ يلقى في السّجن والأكبال
ولو كان فعلان، من شاط يشيط، لقال أيّما شائطٍ، ولكنّه قال: أيّما شاطنٍ، لأنّه من شطن يشطن، فهو شاطنٌ).
وقد حكى القولين جماعة من المفسرين واللغويين.

والعرب تسمّي الرجل السريع إلى الشرّ وإلى ما يُعاب ويُنكر والبعيد عن الخير شيطاناً.
قال جرير بن عطية:
أزْمانَ يَدعُونَني الشّيطانَ من غزَلي ... و كنَّ يهوينني إذْ كنتُ شيطانا
قال ابن جرير: (وإنّما سمّي المتمرّد من كلّ شيءٍ شيطانًا، لمفارقة أخلاقه وأفعاله أخلاق سائر جنسه وأفعاله، وبعده عن الخير)ا.هـ.

معنى الرجم:
الرجم في اللغة الرمي بالشرّ وبما يؤذي ويضرّ، ويكون في الأمور الحسية والمعنوية.
فمن الأول الرجم بالحجارة، ورجم الشياطين بالشهب.
ومن الثاني: الرجم بالقول السيء من السبّ والشتم والقذف والتخرّص.

معنى "الرجيم"
الرجيم فيه قولان:
أحدهما: أنه بمعنى مرجوم، كما يقال: لَعِين بمعنى ملعون، وقتيل بمعنى مقتول، وهكذا فيما كان على فَعِيلٍ وهو بمعنى مفعول.
والقول الآخر: أنه بمعنى راجم، أي يرجم الناس بالوساوس والربائث.
قال ابن كثير: (وقيل: رجيم بمعنى راجم؛ لأنه يرجم الناس بالوساوس والربائث والأول أشهر).
والربائث جمع ربيثة هي هنا ما يحبس المرء عن حاجته من العلل ويثبّطه عن القيام بما يصلحه.
وفي سنن أبي داوود من حديث عطاء الخراساني عن مولى امرأته أم عثمان قال: سمعت علياً رضي الله عنه على منبر الكوفة يقول إذا كان يوم الجمعة غدت الشياطين براياتها إلى الأسواق فيرمون الناس بالترابيث أو الربائث ويثبطونهم عن الجمعة).
عطاء الخراساني ليّن الحديث، وشيخه مجهول الحال.

معنى وصف الشيطان بأنّه رجيم:
الشيطان حيثما كان فهو رجيم مذموم مقذوف بما يسوءه ويشينه، فهي صفة ملازمة لة غاية الملازمة، وهذا أقصى ما يكون في التحقير، وأبلغ ما يُتصوّر من الذلّ والمهانة.
وحيثما كان فهو راجم لأتباعه بسهام الفتن وتزيين الباطل والتثبيط عن الحقّ، مجتهد في إغوائهم، وهذا غاية ما يكون من النهمة في الإفساد، واللهث في الغواية.


هل تُجوَّد تلاوة الاستعاذة؟
مما ينبغي التنبّه له أن قول: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" ليس بقرآن، وإنما هو ذكرٌ ودعاء، قال ابن عطية: (أجمع العلماء على أن قول القارئ: «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» ليس بآية من كتاب الله).
وقد جرى عمل كثير من القراء ممن اختار الجهر بالاستعاذة على ترتيلها وتجويدها، كما جوَّدوا التكبير والتهليل المروي عن بعض القرّاء وألحقوه بالتلاوة.
ومن العلماء من اختار عدم ترتيلها لأنها ليست بقرآن.
والأولى الأخذ بما عليه أئمة القرّاء لما صحّ عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: (إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم أنْ تقرءوا كما عُلِّمتم) رواه عبد الله بن الإمام أحمد في مسند أبيه والضياء في المختارة.
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (اقرأوا كما عُلّمتم). رواه أبو عبيد في فضائل القرآن وابن أبي شيبة في مصنّفه.

والمشهور عن القرّاء ترتيلها، وقد تكلّموا في أحكام وصل الاستعاذة بالبسملة وبالآية بعدها، وفي الوقف عليها كما هو معروف في كتب القراءات والتجويد، وقد صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يجهر بآمين ويمدّ بها صوته، وهي ليست بقرآن اتفاقاً.





* إحالة:
هذا المبحث كان من جملة مباحث تتعلّق بالاستعاذة بسطت شرحها في كتاب "قرّة العينين بتفسير المعوّذتين"، وذكرت فيه مسائل ذات صلة وثيقة بموضوع هذا الدرس، فأحيل إليه من أراد الاستزادة. [ وهو (هنا) ]