18 Oct 2012
تفسير قول الله تعالى: {ومن شر غاسق إذا وقب}
عناصر الدرس:
تفسير قول الله تعالى: {ومن شر غاسق إذا وقب}
- ما يفيده تنكير الغاسق في الآية
- أقوال العلماء في المراد بالغاسق
- ما قيل في سبب وصف الليل بأنه غاسق
- القول الراجح في معنى الغاسق في اللغة
- القول الراجح في المراد بالغاسق في هذه الآية
- ما قيل في تفسير الغاسق بالقمر
- تفسير الغاسق بالكوكب
- تفسير الغاسق بالذَّكَر
- الحكمة من تقييد الاستعاذة من شرّ الغاسق بإذا الظرفية
- أنواع الغواسق
بيان معنى الوقوب
- معنى الوقوب في اللغة
- الوقوب من الأضداد
- اشتقاق لفظ "الوقوب"
- معاني وقوب الغواسق
حفظ الملف
تفسير قول الله تعالى: {ومن شر غاسق إذا وقب}
ما يفيده تنكير الغاسق في الآية
{غاسق} التنوين هنا للتنكير المفيد للعموم، أي: من شر كل غاسقٍ، وهذا يدل على أن الذي يغسق أشياء كثيرة. أأن سجعت فى بطن وادٍ حمامةٌ.......تجاوب أخرى ماء عينيك غاسق أقولُ لِفَتْلاءِ المَرافِقِ سَمْحَةٍ ..... ولِلَّيلِ كِسْرٌ يَصْنع البيدَ غاسِقُه
قال ابن جرير: (كل غاسق فإنه صلى الله عليه وسلم كان يُؤمر بالاستعاذة من شرِّه إذا وقب).
أقوال العلماء في المراد بالغاسق
وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن السلف الصالح في تفسير الغاسق ما يدل على أنه يقع على أشياء متعددة يجمعها وصف الغسوق.
ففُسِّرَ الغاسق بالليل، وفسر بالقمر، وفسر بالكوكب، وفسر بالثريا، وفسّر بغير ذلك.
فأما تفسيره بالليل فعليه أكثر المفسرين من التابعين وعلماء اللغة ، ولا شك أن الليل يغسِق وقد قال الله تعالى: {أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل}.
دلوك الشمس: زوالها ، وقيل: غروبها، وقيل: دنوّها للغروب، ثلاثة أقوال.
وغسق الليل فيه ثلاثة أقوال أيضاً: أول ظلمته عند غروب الشمس، وأول العشاء عند غياب الشفق، وحين اشتداد ظلمة الليل واجتماعها، وذلك نصف الليل.
وهذه الأقوال كلها صحيحة وهي تنتظم مواقيت الصلوات بَدْءًا وانتهاء سوى صلاة الفجر، فقال تعالى: {وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهوداً}.
فقول الله تعالى: {ومن شر غاسق إذا وقب} فسر بأنه "الليل إذا دخل"، وهذا قول مجاهد بن جبر.
وقد روى عبد الرزاق عن معمر عن الحسن أن معنى {وقب} أي: "أقبل ودخل على الناس".
وروى عن معمر عن قتادة أن معنى {وقب} أي: "غاب وذهب".
فإذا صحَّ قول قتادة -وهو من أهل عصر الاحتجاج- فاللفظ من الأضداد، فيكون لليل وقوب عند دخوله ووقوب عند ذهابه.
فكأن الوقوب وصف لحالة دخوله وحالة خروجه.
ومما يقوّي هذا أن المعوذتين تسن قراءتهما عند الإصباح وعند الإمساء.
ومن أهل العلم من أنكر
معرفة المعنى الذي ذكره قتادة؛ قال ابن جرير: (ولست أعرف ما قال قتادة في
ذلك من كلام العرب، بل المعروف من كلامها من معنى وقب: دخل)
وقال أبو جعفر ابن النحاس: (وقول قتادة : "وقب: ذهب" لا يعرف).
وقتادة من أهل عصر الاحتجاج والإسناد إليه صحيح؛ فلا يدفع كلامه بمثل هذا النفي.
لكن هذه المسألة فيها لبس يزول بإذن الله بمعرفة أصل لفظ الوقوب عند العرب.
وسيأتي بيان هذه المسألة إن شاء الله وذكر ما يشهد لقول قتادة من كلام العرب، بعد تمام الكلام على معنى الغاسق.
ما قيل في سبب وصف الليل بأنه غاسق
فالذين فسروا الغاسق بأنه الليل منهم من تكلم في علة وصف الليل بالغسوق واختلفوا في ذلك على أقوال:
القول الأول: أن الليل سمي غاسقاً لأنه مظلم، وكل ما يُظلِم فهو غاسق، والظلمة غسق.
وهذا قول الفراء وابن قتيبة وابن جرير الطبري وجماعة من اللغويين منهم: الأخفش واليمان البندنيجي وابن خالويه وغيرهم.
قال ابن جرير الطبري في تفسيره: (وقوله: {وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} يقول: ومن شرّ مظلم إذا دخل، وهجم علينا بظلامه) ا.هـ.
وهؤلاء يذهبون إلى أن الغاسق هو كل ما كان فيه ظلمة من الليل وغيره، فكل ظلمة هي غسق.
والقول الثاني:
أن الليل سمي غاسقاً لأنه أبرد من النهار، وهذا قول الزجاج فإنه قال:
(قيل لليل غاسق لأنه أبرد من النهار، والغاسق: البارد ، والغسق: البرد).
والزجاج ومن قال بقوله ممن أتى بعده يُستدل لهم بقول الله تعالى: {هذا فليذوقوه حميم وغساق} وقوله: {لا يذوقون فيها برداً ولا شرابا * إلا حميماً وغساقاً} قرئ بالتخفيف والتشديد. غسّاقاً وغساقاً.
فالحميم: الحار، والغسَّاق: البارد الذي يحرق من شدة برده على أحد الأقوال، وهو قول ابن عباس في الغساق: "الزمهرير"، وقال به مجاهد وأبو العالية.
وذلك أن أهل النار يعذبون بشدة الحر وبشدة البرد، والعياذ بالله من عذابه.
وعند هؤلاء أن كل بارد فهو غاسق؛ سواء أكان مظلماً أم غير مظلم.
وعند الأولين: كل مظلم فهو غاسق؛ سواء أكان بارداً أم غير بارد.
وقيل غير ذلك من الأقوال، وكل طائفة منهما أصابت بعض الحق.
القول الراجح في معنى الغاسق في اللغة
ويجمع هذين القولين قول هو الصواب والتحقيق إن شاء الله ، وهو ما قاله الماوردي في تفسيره إذ قال: (أصل الغسق: الجريان بالضرر، مأخوذ من قولهم: غسقت القرحة إذا جرى صديدها).
قوله: (الجريان بالضرر) لو قال: (بما يحتمل الضرر) لكان أدق في العبارة وأصوب.
وهذا المعنى – إذا تأملته وجدته - يجمع الأقوال التي قيلت في تفسير الغاسق كلها، وهو معنى صحيح تدل عليه شواهد اللغة.
ولذلك ينبغي لطالب علم
التفسير أن يحرص على معرفة إطلاقات اللفظ عند العرب، ثم يحاول أن يستخرج
المعنى الكلي للفظ من المعاني التي تحتملها تلك الإطلاقات؛ كما فعل القاضي
الماوردي هنا، وقد أحسن في ذلك؛ فإن العرب تقول: غسَق الجرح، إذا سال صديده.
وغسَقت العين: إذا جرى دمعها بما يخالطه من قذى العين وغمصها ورمصها.
قال العوام بن عقبة بن كعب
بن زهير بن أبي سلمى يبكي على امرأة كان يريدها فماتت فتصبَّر عن البكاء
عليها حتى سمع صوت حمامة تنوح فهيجت ما في نفسه فبكى وأنشد يعاتب نفسه على
البكاء:
كأنك لم تسمع بكاء حمامة.......بليلٍ ولم يحزنك إلف مفارق
ولم تر مفجوعا بشىء يحبه.......سواك ولم يعشق كعشقك عاشق
بلى فأفق عن ذكر ليلى فإنما.......أخو الصبر من كف الهوى وهو تائق
وهذه الأبيات ذكرها أبو
علي القالي في أماليه، والشاهد منها قوله: (ماء عينيك غاسق) أي: جارٍ
بالدمع وما يصحبه من قذى العين على إثر البكاء الذي جاشت به النفس.
وغَسَقُ الطعامِ عند العرب هو: قُمَاشُه وما يكون فيه من أخلاط يسمونه غسقاً.
وتقول العرب: غَسَقَ اللبنُ إذا انصبَّ من الضرع.
وغسقت السماء إذا أمطرت وإذا أظلمت.
وهذه المعاني مذكورة بشواهدها في كتب اللغة.
وفي حديث عمر موقوفاً: (ولا تفطروا حتى يغسِقَ اللّيلُ على الظِّرابِ)
أي: حتى تغشى ظلمةُ الليل الظرابَ وهي الجبال الصغار، وذلك إذا كانت
الشمس متوارية بسبب غيم أو جبال ولم يتبيَّن غروبُها، فلا يفطر الصائم حتى
يغسِق الليل وهو أوَّل ظلمته.
وكان الربيع بن خثيمٍ الثوري يقول لمؤذنه يوم الغيم: "أَغْسِقْ أَغْسِقْ"، أي: لا تؤذن للمغرب حتى تبدوَ ظلمةُ الليل.
وقال الحارث بن جحدر الحضرمي وهو جاهلي قديم:
فتبيَّن بذلك أن الغسق شيء ينتقل ويجري وربما يتغشى وربما يكون فيه ما يكون من الأخلاط والآفات.
ويجمع ذلك أنه يقب كما سيأتي شرحه إن شاء الله.
وإذا تأملت هذا المعنى وجدته يصدق على جميع الأقوال:
فالليل يغسق إذا غطَّى بظلمته، ويكون معه ما يكون من الفتن والآفات والشرور، وفي الصحيحين من حديث أسامةَ بنِ زيد رضي الله عنهما قال: (أشرف النبي صلى الله عليه وسلم على أطم من آطام المدينة ثم قال: ((هل ترون ما أرى؟ إني أرى مواقع الفتن خلال بيوتكم كمواقع القطر)) ).
وفي الصحيحين أيضاً من حديث أم سلمة رضي الله عنها قالت: (استيقظ النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فقال: ((سبحان الله! ماذا أنزل الليلة من الفتن!! وماذا فتح من الخزائن!!
أيقظوا صواحبات الحُجَر؛ فربَّ كاسية في الدنيا عاريةٍ في الآخرة)) ).
فظلمة الليل تغسِق أي:
تتغشى الأفق بما يخالطها من الفتن والشرور والآفات ، وذلك كل ليلة، ونحن
نستعيذ بالله من شر غسوق الليل وما يكون فيه من الفتن والآفات والشرور.
والبَرْدُ كذلك يغسِق
لأنه يتغشى من يصيبه البرد شيئاً فشيئاً، ويدخل البرد إلى أعضائه دخولاً
يكون فيه شرور وآفات، وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في وصيته لرعيته
لما حضر الشتاء: (فإن البرد عدو سريع دخوله، بعيد خروجه). رواه ابن المبارك كما في لطائف المعارف لابن رجب.
والجرح يغسق إذا سال بصديده، ويكون غسوقه مصحوباً بأخلاط قد تُرى وقد لا تُرى، وقد يكون أثرها محسوساً وقد يكون خفياً غير محسوس.
والسِّحر يغسِق ، والحسد
يغسِق، والعين تغسق، وسائر الشرور تغسق على الإنسان فيحصل بسبب ذلك من
الضرر والأذى ما يحصل مما يأذنُ الله به، ويعصمُ الله من شره من استعاذ به.
فدلَّ هذا على أن لفظ الغاسق يقع على أشياء متعددة ومن أشهرها ما ذكره المفسرون من باب التمثيل لا الحصر.
وأما
تفسير الغاسق بالقمر؛ فقد ورد فيه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم رواه
أحمد والنسائي في السنن الكبرى وغيرهما من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن
قال: قالت عائشة: (أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدِي فأرانيَ القمر حين طلع ؛ فقال: ((تعوَّذي بالله من شر هذا الغاسق إذا وقب)) ).
والحديث أخرجه أيضاً الترمذي والحاكم وأبو يعلى وغيرهم لكن هذا اللفظ (فأراني القمر حين طلع) تفرد
به أبو داوود الحفري عن ابن أبي ذئب عند أحمد والنسائي وفيه فائدة لغوية
لم أجدها في الطرق الأخرى وهي معنى الوقوب في هذا الحديث.
والحديث حسنه الحافظ ابن حجر في الفتح.
وقد أشكل هذا الحديث على بعض أهل العلم حتى أورده الطحاوي في شرح مشكل الآثار ولهم أجوبة عنه .
وقد ذهب إبراهيم الحربي في
غريب الحديث والطحاوي وشيخ الإسلام ابن تيمية ومن وافقهم إلى أن مناسبة
ذكر القمر في الحديث للآية أنه آية الليل واستدلوا بقوله تعالى: {وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة} .
وفي هذا التوجيه نظر.
وقال بعضهم: {ومن شر غاسق إذا وقب} أي: القمر إذا خَسَف، وهؤلاء
أرادوا أن القمر إذا خَسَف اسودَّ فيكون ذلك غسوقه لأنهم فهموا من معنى
الغسوق الإظلام، والقمر إذا كسف أظلم، وهذا التعليل ذكره ابن قتيبة في غريب
القرآن والبغوي في معالم التزيل، وهو خطأ فإن النبي صلى الله عليه وسلم
لما أشار إلى القمر لم يكن منكسفاً.
وقد ضعَّف هذا القولَ شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وأحسنا في ذلك.
وأغرب منه قول ابن خالويه
في توجيه هذا القول بأن الغاسق إذا وقب: القمر إذا ذهب ضوءه، قال: (وإنما
يكون ذهابُ ضوئه أمارة لقيام الساعة).
والصواب أن يقال:
إن القمر غاسق من جملة ما يغسق، ودلَّ الحديث على أن لغسوقه شرّا عظيماً
لا نعلمه ولا ندركه بحواسنا؛ كما أن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم من
الشر في الليل والخلوة فيه ما لو علمناه ما سار راكب بليل وحده أبداً.
فهذا يدل على أن الشرور التي يغيب عنَّا علمها وإدراكها كثيرة، وهي قد تصيب بعض الخلق بأمر الله تعالى .
وهذا نظير ما صحَّ أن الشمس تطلع بين قرني شيطان وتغرب بين قرني شيطان كما في صحيح مسلم وسنن أبي داوود من حديث عمرو بن عبسة السلمي رضي الله عنه.
وفي صحيح البخاري من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تحينوا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها؛ فإنها تطلع بين قرني شيطان)).
والشيطان يقارن الشمس عند
طلوعها ، فإذا ارتفعت فارقها ، فإذا استوت في كبد السماء قارنها ، فإذا
زالت فارقها، فإذا دنت للغروب قارنها ، فإذا غربت فارقها .
وهذا الاقتران يكون معه شر
وفتنة لبعض الخلق، ويعصم الله منه من اتبع هداه، وهذا يكون كلَّ يوم حتى
يأتي اليومُ الموعود الذي تطلع فيه الشمسُ من مغربها، إلا ما ذكر في صبيحة
ليلة القدر إن صحَّ فيه ما رواه ابن أبي شيبة وغيره من حديث سماك عن
عكرمة عن ابن عباس موقوفاً: (إن الشيطان يطلع مع الشمس كل ليلة إلا ليلة القدر، وذلك أنها تطلع يومئذ بيضاء لا شعاع لها).
فطلوع الشمس وغروبُها بين قرني شيطان دليل على اقتران شرٍّ بطلوعها وغروبها لا ندركه، وإنما نعلم منه ما دلَّ عليه الدليل.
فكذلك اقتران طلوع القمر
بشرّ لا نعلمه يكون له أثر على الخلق هو أمر من أمور الغيب نؤمن به ولا
نتكلم في تعيينه ولا وصفه إلا بما دل عليه الدليل، وما ظهر لنا علمه.
وقد حذّر الله تعالى من الافتتان بالشمس والقمر وجمع بينهما في قوله تعالى: {ومن آياته الليل النهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون}.
فدل هذا على أن من الناس من يسجد للشمس ومنهم من يسجد للقمر، وهذا من الفتنة بهما.
وبعض الفتن تقع في الناس
على التدريج؛ ومن ذلك ما حذر منه العلماء مما يعرف بالرياضات الروحية
كاليوجا وغيرها، فإن من أصحابها من يتحرّى في بعض التمرينات طلوع الشمس
وغروبها ويتجهون إليها ويؤدّون حركات مصحوبة بخضوع وتأمل وصمت، ويزعمون
بذلك أنهم يستلهمون الطاقة، وهم إنما يتقربون للشياطين بذلك في حقيقة
الأمر.
وقد ذكر الرازي في تفسيره
قولاً له حظ من النظر في معنى وصف القمر بأنه غاسق، وهو أن القمر غاسق
بطَبعه لأنه جسم مظلم غير مُنيرٍ بنفسه كما يقول أهل العلم بالفلك وإنما
تكون إنارته التي تظهر للناس بسبب عكسه لإضاءة الشمس، وهذا ظاهر لأن القمر
لو كانت إنارته من قِبَلِ نفسه لما كان هلالاً أوَّل الشهر وآخره، ولأضاءَ
جميعُ ما يرى منه .
لكن الرازي قال إن الوقوب هو انمحاء نور القمر في آخر الشهر. وهذا التفسير لا تدل عليه اللغة.
وقد ذكر الرازي من الفوائد
أن السحرة يتحينون لعمل سحر التمريض آخر الشهر لأجل ازدياد ظلمة القمر،
والرازي له معرفة بالسحر وقد ألف فيه كتاباً ثم تاب من ذلك، فإن صح ما ذكره
فهذا نوع من أنواع السحر يتحينون فيه هذا الوقت، وقد يكون لأنواع أخرى
منه أوقاتاً أخرى يتحينها السحرة وغيرهم من أصحاب الشرور.
بل إن المنجّم أبا معشر
جعفر بن محمد البلخي (ت:272هـ) وكان رئيس المنجمين زمن الخليفة العباسي
المعتز بالله، وهو من المؤلفين في التنجيم والسحر وطرقه وأوقاته، ألَّفَ
كتاباً سمَّاه (مصحف القمر) قال فيه شيخ الإسلام ابن تيمية: (ذكر فيه من
الكفريات والسحريات ما يناسب الاستعاذة منه).
والمقصود أن القمر غاسق،
وفي وقوبه شر عظيم الله أعلم به؛ فما يجعله السحرة من مواقيت أعمالهم لها
تعلُّق بمنازل القمر، وما يكون من الآفات والشرور التي تُبث في الفضاء
والتي تخرج من الأرض في مواقيتَ مقدرَّةٍ لها تعلق بمنازل القمر، وما
تتحينه الشياطين وبعض الحيوانات من أوقاتٍ مقدرة تنتشر فيها أو تخرج من
بياتها لها تعلق أيضاً بمنازل القمر ووقوبه من منزلة إلى منزلة.
تفسير الغاسق بالكوكب
وقد رَوى ابن جرير عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الغاسق كوكب.
ورَوى عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم أنه قال: (كانت العرب تقول: الغاسق سقوط الثريا، وكانت الأسقام والطواعين تكثر عند وقوعها وترتفع عند طلوعها).
ويُروى في هذا المعنى حديث
عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: (النجم الغاسق) رواه ابن جرير في
تفسيره وأبو الشيخ في العظمة كلاهما من طريق محمد بن عبد العزيز بن عمر بن
عبد الرحمن بن عوف عن أبيه عن عمِّه أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن
عوف عن أبي هريرة رضي الله عنه .
قال ابن كثير: (وهذا الحديث لا يصح رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم) ا.هـ.
وهذا التفسير إن صح فهو
جزء من المعنى، وتفسير بالمثال للتنبيه عليه، والله تعالى أعلم بما يُحدث
في خلقه من الفتن والشرور، ونحن علينا الإيمان واتباع هدى الله تعالى؛ فمن
اتبع هدى الله فإن الله يضمن له أن لا يخاف ولا يحزن، وأن لا يضل ولا
يشقى، ومن استعاذ بالله أعاذه.
تفسير الغاسق بالذَّكَر
وأغرب ما ذكر في تفسير هذه الآية هو ما ذكره أبو المظفر السمعاني، عن أبي
بكر النقاش المفسّر -وهو تلميذ ابن خزيمة-، أنه روى في تفسير بإسناده إلى
سعيد بن جبير عن ابن عباس قالَ: {مِن شَرِّ غاسقٍ إذا وَقَبَ}: "مِن شرِّ الذَّكَرِ إذا دَخَلَ".
قالَ النَّقَّاشُ: فذَكَرْتُ ذلك لمحمَّدِ بن إسحاقَ ابن خُزيمةَ، وقلْتُ: هل يَجوزُ أن تُفَسِّرَ القرآنَ بهذا؟
قالَ: نعم , قالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ((أَعُوذُ بكَ مِنْ شَرِّ مَنِيِّي)).
وعلى كلٍّ فتفسير النقاش مفقود لكن إن صحَّ هذا التفسير عن ابن عباس فهو تنبيه منه على أن هذا مما يشمله اسم الغاسق.
فإن الفرج من أكثر ما يدخل
الناس النارَ، ويكون بسبب الوطء المحرم من الشرور شيء عظيم في الإثم
وعقوباته وما يتبع الفاحشة من تبعات يكون فيها شرُّ عظيم لمن لم يعصمه الله
ويرحمه، فإنه قد يجر إلى شرور عظيمة مِن الحملِ سفاحاً، والخزي والعار،
وربما قتل النفس بغير الحق، وتسلط الشياطين، وإذلال بعض الناس لبعض، إلى
غير ذلك من الشرور العظيمة التي كان مبدؤها إيلاج في فرج محرَّم، ودخول هذا
الغاسق في وَقْبٍ محرم.
بل حتى الوطء المباح في
أصله قد يحصل بسببه شرور وإن كان العبد لا يأثم بها، لكن قد يحصل بسببه شر
وأذى، ولذلك سُنَّ للزوجين أن يقولا عند الجماع: ((اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا)).
وبهذا تعلم أن الأقوالَ المرويةَ عن السلف في تفسير الغاسق هي من باب التمثيل، وهذا كثير في تفاسير السلف.
الخلاصة:
والخلاصة أن قوله تعالى: {ومن شر غاسق إذا وقب} التنكير هنا لإرادة العموم، أي: من شر كل غاسق، ما علمنا منه وما لم نعلم.
والغاسق مقابل للفلق، فهو شر يغسق على العبد ويقب ؛ فيمنع عنه ما ينفعه؛ فيحتاج العبد إلى أن يوقى شرَّ ما غسق عليه.
وهذا الغاسق يكون في الأفق عامة، ويكون في جسد الإنسان، ويكون في روحه، ويكون على الفرد ، ويكون على الجماعة.
ويجمعه وصف الغاسق.
الحكمة من تقييد الاستعاذة من شرّ الغاسق بإذا الظرفية
وأشد ما يخشى شر الغاسق عند وقوبه؛ ولذلك
كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بكفِّ الصبيان عند بدء الإظلام كما في
حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
قال: ((كفّوا صِبيانكم حتى تذهب فَحْمَةُ -أو فورة- العشاء ساعةَ تهبُّ الشياطين)). رواه البخاري في الأدب المفرد من طريق حماد بن سلمة قال: حدثنا حبيبُ المعلم عن عطاء بن أبي رباح عن جابر، وصححه الألباني. إما سلكتَ سبيلاً أنتَ سالِكُهُ ..... فاذهبْ فلا يبعدَنْكَ اللهُ منتشرُ
ورواه الحميدي في مسنده قال: ثنا سفيان، قال: ثنا أبو الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كفوا
صبيانكم عند فحمة العشاء، وإياكم والسَّمَرَ بعد هَدْأة الرِّجْل؛ فإنكم
لا تدرون ما يبثُّ الله من خلقه؛ فأغلقوا الأبواب، وأطفئوا المصباح،
وأَكْفِؤا الإناء، وأوكوا السقاء)).
قال أبو سليمان الخطابي: (هَدْأَةُ الرِّجل يريد به: انقطاع الأرجل عن المشي في الطريق ليلاً، وأصل الهدوء: السكون).
وفي صحيح مسلم وسنن أبي داوود من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا
ترسلوا فَواشيَكم وصبيانكم إذا غابت الشمس حتى تذهب فَحْمَةُ العشاء،
فإنَّ الشياطين تنبعث إذا غابت الشمس حتى تذهب فحمة العشاء)).
قال أبو داوود: (الفواشي ما يفشو من كل شيء).
وقال النووي: (قال أهل
اللغة: الفواشي: كل منتشر من المال كالإبل والغنم وسائر البهائم وغيرها،
وهى جمع فاشية لأنها تفشو أى: تنتشرُ فى الأرض).
وفحمة العشاء هي: أوَّل سواده ، وذلك بين الصلاتين.
فهذا في وقوب أوَّل الليل،
والليل له وقوب عند أوَّله ، وله وقوب عند اشتداد ظلمته، لأن الإظلام
يزداد شيئاً فشيئاً ؛ فهو يغسق مرة بعد مرة.
وفي صحيح البخاري من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم: ((لو يعلم الناس ما في الوَحدة ما سار راكب وحده بليلٍ أبداً)).
وهذا يدلّك على أن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم في الليل والخلوة من الشرور ما لو يعلمه الناس لم يسر راكب وحدَه بليل أبداً.
وقد ذكر بعض أهل العلم أن لهذا الحديث سبباً ؛ وهو ما أخرجه الإمام أحمد والحاكم وصححه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: (خرج رجل من خيبر فتبعه رجلان، ورجل يتلوهما يقول: ارجعا حتى أدركهما؛ فردَّهما.
ثم
قال: إن هذين شيطانان؛ فاقرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم السلامَ
وأعلمه أنا في جمع صدقاتنا، لو كانت تصلح له لبعثنا بها إليه).
قال: (فلمَّا قدم على النبي صلى الله عليه وسلم حدَّثه ، فنهى عند ذلك عن الخلوة).
والمقصود أن غسق الليل يكون في الأفق بعامة ؛ لأن الأفق يظلم بسببه ويحصل فيه من الشرور والآفات والفتن ما الله به عليم.
أنواع الغواسق:
ويكون الغسق على الفرد وعلى الجماعة ، ويكون على جسد الإنسان، وعلى روحه،
بل يكون على بعض أعضائه، فإنه يغسق عليه من أنواع الغواسق ما يكون معه من
الشرور والأذى الذي يهجم عليه أو يمنع عنه أسباب ما ينفعه ما يحتاج معه إلى
أن يوقى شرَّ هذا الغاسق، ويفلق عنه ما أحاط به من الشرَّ.
ومن ذلك : أن القلب له
سحابة كسحابة القمر إذا غطت القلبَ نسي الإنسان ما شاء الله أن ينسى فإذا
تجلت هذه السحابة ذَكَرَ ما كان نسيه.
وقد روى الطبراني في
الأوسط وأبو نعيم في معرفة الصحابة قصة مجلس مذاكرة جمع عمر بن الخطاب وعلي
بن أبي طالب رضي الله عنهما ، وفيه أن عمر سأل علياً : (ممَّ يذكر الرجل؟ ومم ينسى؟).
فقال علي: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما
من القلوب قلب إلا وله سحابة كسحابة القمر، بينا القمر مضيء إذ علت عليه
سحابة فأظلم، إذ تجلت عنه فأضاء، وبينا الرجل يحدث إذ علته سحابة فنسي، إذ
تجلت عنه فذكر)) ). والحديث حسنه الألباني.
ويروى في معناه حديث مشتهر
في كتب أهل اللغة رواه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن ابن عباس
مرفوعاً: (إن للقلب طخاة كطخاة القمر).
ولا يصح إسناده ، لكن صح في معناه الحديث السابق، وقد تكلم أهل اللغة في تفسيره ، فقال الخليل بن أحمد: (وفي الحديث: ((إن للقَلبِ طَخْأَةً كطَخْأَةِ القَمَر)) إذا غَشِيَه الشّيء، وكلُّ شيءٍ أُلبِسَ شيئاً فهو طَخاءٌ له، والطَّخْياءُ : ظُلْمةُ الغَيْمِ). ا.هـ.
يقال: طَخْأَةٌ، وطَخَاة بالتسهيل، ويقال: طَخْيَةٌ وطِخية وطُخية بتثليث الطاء ، كما نص عليه المبرد في الكامل.
والعرب تسمي الظلمة الشديدة: الطِّخية.
كما قال أعشى بني باهلة في رثائه المنتشر الباهلي:
وَرَّادُ حَربٍ شِهابٌ يُستضاءُ بهِ ..... كما يضيءُ سوادَ الطِّخْيَةِ القمرُ
والمقصود أن الطخية مما يشمله اسم الغاسق.
وطخاء القلب هو نوع من
أنواع الغسق، وذلك أن سحابة القلب تتغشاه فينسى العبدُ ما كان يذكره،
وأشدُّ من ذلك الرَّين والطبع والختم فإنها إذا جعلت على القلب قسا وغفل عن
الحق غفلة شديدة وعمي عنه فلا يبصره ولا يريده من شدة إعراضه؛ فيكون
العبد بذلك من الذين هم في طغيانهم يعمهون.
وكلما استرسل العبد في
المعاصي واتباع خطوات الشيطان وأعرض عن هدى الله ازداد الرَّين على قلبه
حتى يُطبعَ على قلبه فلا يفقه ولا يهتدي للحق، والعياذ بالله.
وهذا حال المنافقين الذين قال الله فيهم: {ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون}.
قال عَلِيُّ بنُ أبي طَالِبٍ رضِيَ اللهُ عنهُ: (الإيمانُ
يَبْدَأُ لُمْظَةً بيضاءَ في القلبِ، كُلَّما ازدادَ الإيمانُ ازدادت
بَياضًا حتى يَبْيَضَّ القلبُ كلُّه، وإن النِّفاقَ يَبْدَأُ لُمْظَةً
سوداءَ في القلبِ فكلما ازدادَ النفاقُ ازدادت حتى يَسْوَدَّ القلبُ كلُّه). رواه ابنُ أبي شَيْبةَ في كتابِ الإيمانِ، والبيهقيُّ في شُعب الإيمانِ.
والُّلمْظَةُ هي كالنُّقْطةِ الصغيرةِ.
وأصل علة اسوداد القلب وتسلط الشياطين عليه : الإعراض عن ذكر الله عز وجل ، وقد قال الله تعالى: {ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرين * وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون}.
فأخطر ما يكون على الإنسان
أن يعرض عن ذكر ربه فإذا تليت عليه آيات الله نفر منها، وإذا وعظه واعظ
الله في قلبه أعرض عنه وأقبل على غيّه ؛ فهذا هو منشأ الضلال وسببه.
وبذلك تعلم أن أصل الهدى
والخير والفلاح هو الإنابة إلى الله تعالى فيكون العبد مقبلاً بقلبه على
الله ، معظماً لله ، معظماً لذكر الله ، ولآيات الله ، يعلم أن اتباعه لهدى
الله خير له وأحسن عاقبةً في الأمور كلها ؛ فيوفَّق العبد بسبب الإنابة
للهداية ويؤتى من حسن التذكر وفهم القرآن العظيم ما لا يؤتاه غيره، ويفتح
له من أبواب التفكر فيه والانتفاع به ما لا يفتح لغيره.
وقد قال الله تعالى: {وما يتذكر إلا من ينيب} ، وقال: {الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب}، وقال: {قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب} ، وقال: {واتبع سبيل من أناب إلي} ، وقال: {والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى فبشر عباد}.
ولا يندفع شر الشيطان بمثل الإنابة إلى الله تعالى، وإقبال القلب عليه جل وعلا، والالتجاء إليه ، ومحبة ذكره وطاعته وتلاوة كتابه .
فإذا قرأ العبد أذكاره
بقلب منيب إلى الله فقد هدي إلى الصراط المستقيم ، وعصم من الشيطان الرجيم،
وكان من أهل العبودية الخاصة، الذين هم أولياء الله وصفوته من خلقه.
والمقصود هنا بيان أن
الغاسق له معنى كبير يقع على أشياء كثيرة متعددة؛ فيقع على الأفق عامة ،
كما في غسق الليل الذي يغسق على الأفق فيظلم ويكون في وقوبه -وهو أول
دخوله- ما يكون من الشرور العظيمة والفتن والآفات التي يصيب الله بها من
يشاء ويصرفها عمن يشاء.
ويكون الغسق أيضاً على
الجماعة من الناس ، فإنه قد يغشاهم شر أو فتنة تحيط بهم فتصرفهم عن الحق أو
عن بعض ما ينفعهم ، ويكون وقوبها عليهم وقوب شر وبلاء.
ويكون الغاسق أيضاً على
الواحد من الناس ، فيغشاه من الشر في جسده أو روحه ما يحجب عنه ما ينفعه أو
يكون معه فتنة أو شر يصيبه بما يضره بإذن الله، وقد يطول أمد هذا الغاسق،
وقد يقصر، وقد تكثر عليه بسببه الفتن والآفات والشرور وقد تقل ، وقد يعظم
أثرها عليه جداً وقد يخف بحسب ما يقدّره الله عليه من ذلك كله.
والخلاصة أننا نستعيذ بالله من شر كلّ غاسق إذا وقب ، علمناه أو لم نعلمه.
ولعل هذا الشرح والتفصيل
يطلعك على بعض معاني عظمة هذا القرآن العظيم ؛ فانظر ما دلت عليه هذه
الكلمة من معانٍ عظيمة جامعة لأشياء كثيرة لا نحصيها.
تفسير قوله تعالى: {إذا وقب}
تقدم تفسير الحسن وقتادة لهذا اللفظ ، وأن الحسن فسَّر الوقوب بالدخول، وأن قتادة فسَّره بالذهاب. أبَـنِــي نُـجَـيْـحٍ إنَّ أُمَّـكُــمُ ..... بشِمَتْ وإنَّ أباكُمُ وَقْبُ فسَرَيْتُ في وَقْبِ الظَّلامِ أقودُهمْ ..... حتَّى رأيتُ الشَّمسَ زالَ ضحاها رأيتُ القوافي يتَّلِجْنَ موالِجاً ..... تَضَيَّقُ عنها أن تولَّجَها الإِبَر
وقال بقول الحسن عامة المفسرين، وأما قول قتادة فمن أهل العلم من نص على أنه لا يُعرف كما ذكر ذلك ابن جرير والنحاس.
وقتادة هو ابن دعامة
السدوسي من التابعين ، يروي عن أنس بن مالك ، ولد سنة ستين للهجرة تقريباً ،
فهو من أهل عصر الاحتجاج ولا يدفع قوله بمثل هذا النفي العام.
ولقوله شواهد تشهد له؛ فإن
العرب تقول: وقبت الشمس إذا غابت؛ بل روي فيه حديث مرسل عن النبي صلى
الله عليه وسلم رواه أبو عبيد في غريب الحديث عن عبيد الله بن عبد الله بن
عتبة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى الشمس قد وقبت قال: (هذا حينُ
حلِّها)، أي: صلاة المغرب.
قال أبو عبيد: (وقوله: (وقبت) يعني غابت ودخلت في موضعها) ا.هـ.
وتقول العرب: وقبت العينان؛ إذا غارتا.
معنى الوقوب في اللغة
والوقوب في اللغة : هو الدخول في الوقبة.
وأصل هذا اللفظ (الوقبة) يطلق على : النقرة التي تكون في الحَجَر أو الجَبَل يجتمع فيها الماء.
قال الراعي النميري: وعينٍ كَمَاء الوَقْبِ أشرفَ فوقَها ..... حِجاجٌ كأرجاءِ الرَّكِيَّةِ غائِرُ
قال الأصمعي: (الوقب: النقرة في الجبل).
فهذا أشهر استعمالات هذا اللفظ عند العرب، ويطلقونه على غيرها ، بل كل نقرة تكون في حَجَرٍ أو عظم أو غيرهما يسمونها وقبة.
فالنقرة التي في كتف الإنسان تسمَّى وقبة، ووقب العين هو تجويف عظامها لأنه كالنقرة؛
وفي خبر سرية أبي عبيدةَ عامر بن الجراح في صحيح مسلم وغيره أنه أجلس ثلاثة عشر رجلاً من الصحابة في وَقْبِ عين الحوت، وقال جابر: (ولقد رأيتنا نغترف من وقب عينه القلالَ من الدهن).
والكُوَّة التي تكون في الجدار ونحوه تُسمَّى وقباً ، وجمعها أوقاب وهي النافذة في استعمالنا.
والمقصود أن الخرق المتسع الذي يكون في الجدار يسمَّى وقباً عند العرب.
وقال أبو فيد مؤرج السدوسي
(ت:195هـ) وهو تلميذ الخليل بن أحمد الفراهيدي، في كتاب الأمثال له:
("الوقبة " و " الوقب ": النقرة في الحجر وفي الجبل، فأولى بالوقب والوقبة
من الحجر الشيخ الخرف؛ يقولون للشيخ الذي كَبَر وانفتح دُبُره، وربما كان
لغير الكِبَر، إذا انفتح دبره؛ لخلقة أو لداء، إلا أنه أكثرُ ما يصيب
الدالفَ من الهَرَم.
وقال الأسود بن يعفر، يهجو بني نُجيح:
وذلك لأنه صار فيه مثل
النقرة، وهذا إنما نذكره لمعرفة المعنى اللغوي لهذه اللفظة ومواضع
استعمالها في لسان العرب، ولذلك فوائد كثيرة منها أن طالب العلم يعرف
مناسبة اختيار هذا اللفظ على ما سواه من الألفاظ المترادفة والمتقاربة.
فالوَقْبَةُ والوَقْبُ: اسمان ، وَوَقَبَ - فِعْلٌ - أي: دخل في الوقبة.
والوقوب مصدر؛ فهو وصف جامع لحال دخول الغاسق في وقبته.
وهذا يدلك على أن للغاسق محلاً يقب من خلاله أو يقب فيه ويكون هو وقبه.
فالوَقْبُ قد يكون مصمتاً
غير نافذ مثل النقرة التي تكون في الجبل أو في العظم تسمَّى وقباً وهي غير
نافذة لكنها تجويف قد يقب فيه ما يقب.
وقد يكون الوقب نافذا كالكوَّة التي في الجدار وغيره؛ فيكون الوقوب فيه الدخول من خلاله.
وعلى هذا ؛ فالليل له وَقْبٌ يدخل فيه قال الله تعالى: {يولج الليل في النهار} ، فهذا الولوج هو وقوب الليل، أي: دخوله في وقبته، أي: الموضع الذي يتغشاه الليل .
قال عنترة العبسي:
معاني وقوب الغواسق
وكلُّ ما فُسِّرَ به الغاسق فله موضع يدخل فيه أو يدخل من خلاله هو وقبته التي يكون وقوبه فيها أو من خلالها.
وأنت إذا تأملت أنواع
الغواسق وما يكون معها من الشرور العظيمة علمت أن لها محلاً تقب من خلاله
أو محلاً تقب فيه فإذا وقبت فيه أثرت وضرَّت بإذن الله.
فالسحر الذي يتضرر به
الإنسان له موضع يدخل فيه في جسد الإنسان وتتأثر به روحه، وكذلك العين،
وكذلك الفتنة وغيرها من الشرور لها مواضع تدخل إليها فتؤثر بذلك ولا سيما
إذا تمكنت.
حتى الكلمة ربما دخلت موضعاً في قلب الإنسان فتمكنت منه فتأثر بها جداً .
قال طرفة بن العبد:
ولذلك كان السلف يخافون
النفاق على أنفسهم خوفاً شديداً، لأنهم يعلمون أن العبد إذا غفل عنه وأعرض
عن ذكر الله وطال عليه الأمد؛ نسي وازدادت قسوة قلبه وزاد إعراضه عن ذكر
الله ، فكان عرضة لاستيلاء النفاق على القلب حتى يكون العبد منافقاً خالصاً
، والعياذ بالله.
هذا ما تيسر الحديث عنه في تفسير قول الله تعالى: {ومن شر غاسق إذا وقب}
وهي إضاءات تدلك على ما وراءها من المعاني العظيمة حيث جمعت هذه الآية
الاستعاذة من أنواع كثيرة جداً من الشرور لا يحيط بها إلا الله جل وعلا.