الدروس
course cover
الدرس الثاني: تفسير قول الله تعالى: {قل أعوذ برب الفلق (1) من شر ما خلق}
17 Oct 2012
17 Oct 2012

11538

0

0

course cover
تفسير المعوذتين

القسم الأول

الدرس الثاني: تفسير قول الله تعالى: {قل أعوذ برب الفلق (1) من شر ما خلق}
17 Oct 2012
17 Oct 2012

17 Oct 2012

11538

0

0


0

0

0

0

0

مشاركة2

تفسير سورة الفلق


بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير قول الله تعالى: {قل أعوذ برب الفلق * من شر ما خلق}



عناصر الدرس
تفسير سورة الفلق
- عدد آيات سورة الفلق
تفسير قول الله تعالى: {قل أعوذ برب الفلق * من شر ما خلق}
- الحكمة من إثبات "قل" في التلاوة.
- معنى (أعوذ)
- سَعَة معاني الفلَق
بيان الاستعاذة الصحيحة النافعة
- درجات الناس في الاستعاذة
الحكمة من تخصيص الاستعاذة بربّ الفلق
أنواع الشرور
- حاجة الروح والجسد إلى الغذاء والحماية
- شرط ضمان الهداية والنصر
- أثر قوّة استحضار المعاني في الرقية
خلاصة الدرس

عبد العزيز بن داخل المطيري

#2

17 Oct 2012

تفسير سورة الفلق


عدد آيات سورة الفلق
سورة الفلق مدنية كما تقدَّم ، وهي خمس آيات باتفاق علماء العدد.


تفسير قول الله تعالى: {قل أعوذ برب الفلق * من شر ما خلق}

الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أصالةً ولكل مؤمن بالتبع.

الحكمة من إثبات "قل" في التلاوة

فإن قيل: لِمَ أثبتت {قل} في التلاوة؟، ولم لا يبدأ القارئ بـ(أعوذ برب الفلق)؟
قيل: قال زرُّ بن حبيش رحمه الله: سألت أُبيَّ بن كعب -رضي الله عنه- عن المعوذتين فقال: (سألت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقالَ: (( قيل لي فقلت)) فنحن نقول كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم). رواه البخاري.
فكلمة {قل} من القرآن الذي أُمِرْنا بتلاوته فهي من كلام الله، ولو حذفت لأوهمَ ذلك استعاذة الرب جلَّ جلاله، وهو متنزه عن ذلك؛ فإن الله يعيذ ولا يستعيذ ، وإنما أَمَر عباده بالاستعاذة به.

معنى (أعوذ)
{أعوذ} أي: ألتجئ وأعتصم وأستجير {برب الفلق}.
وحقيقة الاستعاذة: طَلَبُ الأمان مما يُخاف منه.

سَعَة معاني الفلَق
{برب الفلق} أي: مالكه ومدبر أمره والمتصرف فيه، والفَلَقُ: اسم لكل ما يُفلَقُ أي: يُشق فيخرج منه ما شُقَّ عنه، كفَلَقِ الصبح الذي ينشق من جوف الليل بعد اشتداد الظلمة؛ فيخرج الصبح مشعاً منتشراً باسطاً نورَه على البسيطة، بعد ما كانت الظلمة بها محيطة ، وكما تُفلَق الحبة المصمتة التي لا مخرج فيها؛ فيفلقها الله فيخرج منها نباتُ الأرض الذي يأكل منه الناس والأنعام، وكما يَفلق النوى الذي ينبت منه النخلُ ذو الطلع النضيد، قال الله تعالى: {الله فالق الحب والنوى}.
وكما يَفلق للجنين الذي في بطن أمه مخرجاً يسهّل له به خروجه فيخرج حياً سليماً تبتهج بخروجه النفوس.
وهذه آيات يشاهدها الناس في يومهم وليلتهم وفي طعامهم وأنعامهم وأنفسهم فيها عبرة وتذكير وتنبيه لأمور أرشد الله إلى التفكر فيها.
ومن قال من أهل العلم: {الفلق}: الصبح؛ فهو تفسير بالمثال لتوضيح الصورة وتقريبها للذهن لا لحصر معنى الفلق في الصبح.
فهو أحد معاني الفلق، لكن لا يقصر المعنى عليه؛ فإن اللفظ الواحد في لغة العرب ربما دلَّ على معان متعددة، ومنها لفظ الفلق فإنه يدل على معانٍ واسعة جليلة لمن تدبر وتفكر وأناب وتذكر، فالذي يَفْلِقُ الصبحَ بعد اشتدادِ الظلمة فيشعُّ منه النور، ويفلق الحبة فيخرج منها النبات الذي هو أصل الطعام وعماده ، ويفلق للأجنَّة في بطون أمهاتها مخرجاً فتخرج منه وتحيا بإذن الله : قادرٌ على أن يفلق لك مخرجاً من الشرور وإن أحاطت بك من كل جانب.
وهذا من معاني تخصيص الاستعاذة بـ(رب الفلق) في هذه السورة واختيار هذه الربوبية الخاصة على ما سواها ، لحسن مناسبتها لما يستعاذ منه.
فالذي يفلق هذه الأمور العظيمة التي تتكرر كل يوم في صور شتى لا تعد ولا تحصى؛ لا يعجزه أن يفرّج عنك كربك ويصرف عنك ما تخشى من الشر والسوء، ويجعل لك فرجاً ومخرجاً.
وتأمل ما قصَّه الله من أنباء الرسل والصالحين وكيف فرَّج الله عنهم بعدما كاد أن يحيط بهم الكرب من كل مكان فجعل الله لأوليائه فرجاً ومخرجاً.
ولك في قصة موسى وأصحابه مع فرعون وجنوده عظة وعبرة؛ فإنه لما تراءى الجمعان وقال أصحاب موسى إنا لمَدركون؛ وذلك لمَّا رأوا أن البحر أمامهم وفرعونَ وجنودَه خلفهم، ولم يبصروا طريقاً يسلكونه للنجاة؛ فقالوا: {إنا لمدركون} فقال موسى عليه السلام: {كلا إن معي ربي سيهدين} فهداه ربُّ الفَلَق؛ ففلق له البحرَ {فكان كل فرق كالطود العظيم} فخرج موسى وأصحابُه يمشون في طرق يابسة وسط البحر حتى استتموا خارجين منه، وتبعهم فرعون وجنوده حتى استتموا داخلين في البحر فانطبق عليهم؛ فنجى الله موسى وأصحابَه وأهلك فرعون وجنوده وجعلهم عبرة وآية يعتبر بها المؤمنون فيوقنون بأنَّ الله ينجّي عبادَه المؤمنين مهما ادلهمَّت عليهم الخطوب وأحاطت بهم الكروب ؛ فربُّ الفلق قادرٌ على أن يفلق لهم مخرجاً ينجيهم به.
وبهذا تعلم المناسبة بين وصف المستعاذ به والمستعاذ منه؛ فإن الله تعالى هو رب الفلق أي: مالكه والمتصرف فيه فلا يكون فَلْقٌ إلا بإذنه، ولا يخرج شيء من شيء إلا بإذنه.
وكل بلاء وشرٍّ يعرض للعبد فإنه لا ينجيه منه إلا ربُّ الفلق؛ لأن العبد يحتاج إلى أن يُفلق عنه هذا الشر الذي أحاط به ليخرجَ منه سليماً، ولا يملك ذلك إلا ربُّ الفلق.
{من شر ما خلق} هذا عام لجميع الشرور، لا يخرج عن هذا العموم شيء منها.
والله تعالى لم يأمرك بالاستعاذة به إلا ليعيذك، والله تعالى يحبُّ أن يعيذ من استعاذ به؛ فهو الملك الجليل الذي يجير ولا يجار عليه، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لعقبة بن عامر: (( يا عقبة اقرأ بـ{قل أعوذ برب الفلق} فإنك لن تقرأ سورة أحبَّ إلى الله عزَّ وجلَّ وأبلغ عندَه منها؛ فإن استطعت أن لا تفوتك فافعل)). رواه النسائي والحاكم.

عبد العزيز بن داخل المطيري

#3

18 Oct 2012

بيان الاستعاذة الصحيحة النافعة

ولكن الشأن كلَّ الشأن في تصحيحِ الاستعاذةِ وإحسانها؛ فإن الاستعاذة الصحيحة هي التي تنفع العبد بإذن الله تعالى، وهي التي يكون فيها صدق التجاء القلب إلى الله تعالى، واتباع هداه، فيما يأمر به العبد وينهاه، فإذا سلك العبد سبيل النجاة نجاه الله.
وأما من يستعيذ بلسانِه وقلبُه معرضٌ عن صدق الالتجاء إلى الله، أو يستعيذ بلسانه ولا يتبع هدى الله فاستعاذته كاذبة.
والمسلمون يتفاضلون في إحسان الاستعاذة، ومن كملت استعاذته كملت إعاذته وكان له عهد رباني: [ولئن استعاذني لأعيذنه].

درجات الناس في الاستعاذة
ولذلك فإنَّ الناس في الاستعاذة على درجات:
الدرجة الأولى: الاستعاذة الباطلة، وهي الاستعاذة التي تخلَّف عنها أحد شرطي القبول من الإخلاص والمتابعة؛ وهؤلاء استعاذتهم من جَهْد البلاء، لأنهم يستعيذون بالله وبغيره فيشركون بالله، ويدعونَ وما دعاء الكافرين إلا في ضلال، وكذلك أصحاب الاستعاذات البدعية مما يحدثه بعض الناس من التعويذات المبتدعة، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

الدرجة الثانية: الاستعاذة الناقصة، وهي استعاذة خلت من الشرك والبدعة، لكنها استعاذة ناقصة ضعيفة لما فيها من ضعف الالتجاء إلى الله، وضعف الاستعانة به، والتفريط في اتباع هداه؛ فيستعيذ أحدهم وقلبه فيه غفلة ولهو عن الاستعاذةِ.
والاستعاذةُ نوع من أنواع الدعاء وقد رُوي من حديث أبي هريرة وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( إن الله لا يستجيب لعبد دَعَاه عن ظهر قلب غافل )) والحديث حسَّنه الألبانيّ رحمه الله.
قال ابن القيّم رحمه الله في الجواب الكافي كلاماً معناه: الدعاء دواء نافع مزيل للداء لكن غفلة القلب عن الله تضعف قوَّته.
وكذلك من يستعيذ بقلبه لكن في اتباعه لهدى الله عز وجلَّ ضعف وتهاون وتفريط فتكون استعاذته ناقصة بذلك، والاستعاذة الناقصة تنفع أصحابها بعضَ النفع بإذن الله تعالى.

الدرجة الثالثة: استعاذة المتقين، وهي الاستعاذة الصحيحة المتقبَّلة التي تنفع أصحابها بإذن الله، وهي التي تكون بالقلب والقول والعمل:
فأما تصحيح الاستعاذة بالقلب؛ فذلك بأن يكون في قلب صاحبها التجاء صادق إلى الله جل وعلا، فيؤمن بأنه لا يعيذه إلا الله، ويتوكل على الله وحده، ويحسن الظنَّ به، ويصبر على ما يصيبه حتى يفرج الله عنه، ولا ينقض استعاذته ولا يضعفها بالاستعجال وترك الدعاء أو التسخط والاعتراض.
وأما الاستعاذة بالقول؛ فتكون بذكر ما يشرع من التعويذات المأثورة، وما في معناها مما يصحّ شرعاً.
وأما الاستعاذة بالعمل؛ فتكون باتباع هدى الله جلَّ وعلا، ولا سيما في ما يتعلق بأمر الاستعاذة.
ولتوضيح هذا الأمر يقال:
مَن استعاذ بالله جل وعلا من شر الشيطان، فيجب عليه أن يتبع هدى الله بأن لا يتبع خطوات الشيطان، وأن يذكر الله ويسميه في المواضع المأثورة، ونحو ذلك مما هدى الله إليه للعصمة من شر الشيطان وكيده؛ فمن اتبع هدى الله كانت استعاذته صحيحة.
ومن كان يستعيذ بالله من الشيطان وهو يتبع خطوات الشيطان ويُعرِضُ عن هدى الله فاستعاذته غير صحيحة.
والمقصود أن استعاذة المتقين هي التي جمعت شروط الصحة وهي التي يترتب عليها أثرها بإذن الله تعالى.

الدرجة الرابعة: استعاذة المحسنين، وهي أعلى درجات الاستعاذة وأحسنها أثراً، وأصحاب هذه الدرجة هم ممن أوجبَ الله تعالى على نفسه أن يعيذهم إذا استعاذوه، وهم الذين حققوا صفات ولاية الله تعالى كما في صحيح البخاري وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( إن الله قال: [ من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليَّ عبدي بشيءٍ أحبَّ إليَّ مما افترضتُه عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبَّه؛ فإذا أحببته كنت سمعَه الذي يسمعُ به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينَّه، ولئن استعاذني لأعيذنَّه] )).
وهؤلاء هم الذين أحسنوا الاستعاذة بقلوبهم؛ حتى إنهم يستعيذون بالله كأنهم يرون الله جل وعلا، ويكثرون من ذكر الله، ويحسنون اتباع هدى الله تعالى؛ فتراهم يسارعون في الخيرات، ويتورعون عن الشبهات، ويحسنون التقرب إلى الله تعالى بالنوافل بعد الفرائض.
فهؤلاء أولياء الله، الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، واستعاذتهم سريعة الأثر في الغالب، كما كانت استجابتهم لله تعالى سريعة لا تردد فيها ولا توانٍ.

وبهذا يتبيَّن أن الناس يتفاضلون في الاستعاذة، بل أصحاب كلّ درجة يتفاضلون فيها، وكلما كان العبد أحسن استعاذةً كانت استعاذته أنفعَ وأحسنَ أثراً بإذن الله تعالى.

عبد العزيز بن داخل المطيري

#4

18 Oct 2012

الحكمة من تخصيص الاستعاذة بربّ الفلق

وتأمل معنى الاستعاذة بـ{رب الفلق} فإن ذكر ربوبية الله تعالى للفلق لها أثر عظيم في نفس المستعيذ الصادق ؛ فمن آثار ربوبية الله تعالى للفلَق أنه يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي، ويخرج أولياءه المؤمنين من الظلمات إلى النور فيفلق عنهم الظلمات فيتجلى لهم الحق كما يتجلى الصبح بانفلاقه من ظلمة الليل.
والعبد إنما يمنعه عن رؤية الحق ما يُجعل على بصره من الغشاوة ؛ وهذه الغشاوة قد تكون بسبب الجهل الأصلي للإنسان كما قال الله تعالى عن الإنسان: {إنه كان ظلوماً جهولاً} وقال تعالى في الحديث القدسي: ((يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته ، فاستهدوني أهدكم)).
ولا يتجلى الحق للعبد إلا أن يفلق الله له الحجاب الذي يحول بينه وبين رؤيته؛ فإذا فلق الله له الحجاب أبصر الحق وعرفه، فإن آمن وشكر زاده الله هدى ومعرفة بالحق، وجعل له فرقاناً يلازمه ويفلق له الحجب التي تحول بينه وبين رؤية الحق كما قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً}.
قال عبد الرحمن بن زيد: (فرقان يفرق في قلوبهم بين الحق والباطل، حتى يعرفوه ويهتدوا بذلك الفرقان). رواه ابن جرير.
وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم}

وقد ذكر جماعة من أئمة اللغة كأبي منصور الأزهري وغيره أن من معاني الفلق في اللغة: بيان الحق بعد إشكاله، ومن شواهد هذا المعنى حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم أوَّل ما بدئ به من أمر الوحي الرؤيا الصادقة في المنام فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح. رواه البخاري.
أي: واضحة بيّنة كوضوح الصبح لا تلتبس عليه.
فبيان الحق للمؤمنين المتقين هو من آثار ربوبية الله تعالى للفلق.
فإذا وفّق العبدُ شَكَر نعمة الله واتبع هداه ولا يزال يزداد من الهدى ومعرفة الحق حتى يبلغ الدرجات العالية؛ نسأل الله من فضله.
وأما إذا كفَر العبد بالحق ولم يشكر نعمة معرفته وأعرض عن هدى الله ، فإنه يعاقب بالغشاوة الشديدة على بصره والختم على قلبه ويكون كالذين ذكر الله مَثَلهم في سورة البقرة {مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون * صم بكم عمي فهم لا يرجعون}
فالمنافق والكافر الذي يَسأل عن الحق كالذي يستوقد النار، {فلما أضاءت ما حوله} فعرفوا الحق وتبيَّن لهم كما يعرف من تضيء له النار ما حولها، ثم كفروا به وأعرضوا عنه بعد هذا التبيّن؛ فجعل الله عقوبتهم أن {ذهب الله بنورهم} فكانت الظلمة الثانية أشد عليهم من الظلمة الأولى، وهي ظلمة لا يعذرون فيها بخلاف الظلمة الأصلية فإنها ظلمة جهل لا يؤاخذون به، وهي ظلمة أخف من الثانية، لأن الظلمة الثانية ظلمة عقوبة وغضب، والعياذ بالله.
ولا يزالون يتمادَون في الإعراض عن هدى الله تعالى ويدخلون في ظلمة بعد ظلمة بعد ظلمة ويبعدون عن الحق جداً فلا يرونه ولا يسمعونه ولا ينطقون به فهم في أمور الحق {صم بكم عمي فهم لا يرجعون}.
فهذا حال المنافقين والكافرين والعياذ بالله، وأما المؤمنون فإن الله يخرجهم من الظلمات إلى النور فيرون الحق ويعرفونه ويتكلمون به ويعملون به ويتبعون هدى الله ولايزالون يتخلصون من الظلمات ظلمة تلو ظلمة حتى يتمحضوا للنور التام ، ويكون من جزائهم أن يجعل الله نورهم تاماً يوم القيامة؛ نسأل الله من فضله.
وأما المسلم الذي يكون لديه نور الإسلام وظلمات المعاصي فإنه يبقى صاحب نور وظلمة ، قد خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً، فليس من الكفار الذين هم في ظلمات لا يبصرون، وليس من أهل النور التام من المؤمنين المتقين، ويكون توفيقه على قدر ما معه من النور.
وهذا نور معنوي يجعل الله أصله في قلب عبده المؤمن فيضيء له حتى يميز الحق من الباطل، والصواب من الخطأ، والسنة من البدعة، وإذا وردت عليه الفتن التي تلتبس على المنافقين والذين ظلموا أنفسهم جعل الله له نوراً يهديه به فيثبت في وقت الفتنة ولا ينخدع بغرور الباطل وزخرف قول المضلين، وتزيين الشياطين، بل يسير بنور الله على هدى من الله سوياً على صراط مستقيم حتى يلقى الله عز وجل وهو راض عنه، نسأل الله من فضله.
والمقصود بيان أن العبد إنما يحول بينه وبين الهداية وفعل الصواب في أموره كلها ما يُجعل أمامه من الظلمات والحجب إما فتنة له أو عقوبة له على بعض ما اكتسب من الإثم، ولذلك فإن المؤمن أخوف ما يخاف من الذنوب كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (لا يخافنَّ العبد إلا ذنبه، ولا يرجُو إلا ربه).
وهذه الظلمات لا يفلقها له إلا رب الفلق جل وعلا.
فتلخص من هذا البيان أن الفلق عام في الخلق والأمر، وأن الشرور الحسية والمعنوية بأنواعها قد تحيط بالعباد ولا يفلقها عنهم إلا رب الفلق، وإذا فلق الله لعبده المؤمن مخرجاً سار فيه آمناً مهتدياً سوياً على صراط مستقيم.

عبد العزيز بن داخل المطيري

#5

18 Oct 2012


أنواع الشرور

قول الله تعالى: {من شر ما خلق}
أي: من شر جميع المخلوقات ؛ وهذا يعمُّ الشرور كلها؛ فهي استعاذة عامة من كل شر.
والشرور على نوعين:
- شرور حجب وإمساك.
- وشرور هجوم واعتداء.
فأما شرور الإمساك فهي ما يُحجب بسببه عن العبد ما يحتاج إليه ؛ فيقف هذا الشر حائلا بين العبد وبين ما ينفعه.
وهذا يكون في الأمور الحسية والأمور المعنوية.
وأما شرور الاعتداء فهي الشرور التي تهجم على العبد فتؤذيه وتضرُّه وربما تمرضه وتقتله.
فقد يكون في بعض المخلوقات ما يغلب عليه النوع الأول من الشرور، ومنها ما يغلب عليه النوع الثاني، ومنها ما يجمع النوعين والعياذ بالله من كل شر.

حاجة الروح والجسد إلى الغذاء والحماية
والجسد والروح كلاهما بحاجة إلى غذاء يقوي، ووقاية تحمي؛ فغذاء الروح ما تستمد به قوتها من العلم النافع والسلوك الحسن وأصل ذلك الإيمان بالله تعالى والعمل الصالح.
وتحتاج إلى وقاية تحميها مما يضرها من كيد أعدائها من شياطين الإنس والجن، ومن علل النفس وأدوائها؛ فإذا حصلت لها هذه الحماية والوقاية وحصل لها الغذاء الذي يقوّيها زكت النفس وقويت واستنارت بنور الله فأبصرت الحقائق وأدركت المعالي وتخلصت من الرذائل وتطهرت من الأدناس.
وكذلك الجسد يحتاج إلى غذاء نافع ينميه ووقاية تحميه من الآفات، بل كل عضو من أعضاء الجسد يحتاج إلى مادة تغذيه ووقاية تحميه، وأيما عضو من الأعضاء ضعفت وقايته كان عرضة للآفات، وأيما عضو أحاط به من الشر ما يعوّق وصول إمداده إليه ضعف وأنهك وربما تلف.
والعبد يخشى من نوعي الشر على جسده وروحه ؛ الشر الذي يحجب عنه ما ينفعه، والشر الذي يهجم عليه بما يضره.
فما يحجب عن النفس ما ينفعها هو الشرور المعنوية من الجهل والضلال وعقوبات الذنوب التي ترين على القلب فتحجب عنه معرفة الهدى بعد ما كانت تبصره؛ فيدخل العبد في أنواع من الظلمات ويخرج من أنواع من النور كلما أوغل في الغي والضلال والإعراض عن هدى الله.
فتكون حاجة العبد ماسة إلى أن يُفلق عنه هذا الحجاب الذي يحول بينه وبين ما ينفعه من العلم والهدى؛ ليخرج من الظلمات إلى النور.
وكذلك الجسد إذا أصيب عضو من أعضائه بآفة تمنع عنه ما يمدُّه من الغذاء وأسباب القوة ضعف ذلك العضو واشتكى ؛ فإذا كثرت الإصابة في أعضائه أنهك ذلك الجسد وضعف ؛ فلا يفلق عنه هذا الحجاب إلا رب الفلق جل جلاله.
فإن كل عضو من أعضاء الجسد إذا وصل إليه ما يحتاجه من الغذاء ووُقي من نوعي الشر السابقين كان صحيحاً سليماً معافى بإذن الله.

والضرر الذي يخشاه الناس راجع إلى هذين النوعين : شر يحجب عنهم ما ينفعهم، وشر يهجم عليهم بما يضرهم، ومن وقي هذين الشرين فقد وقي.
وهذا أمر عام ينطبق على الفرد وعلى الجماعة أيضاً، ويبيّن هذا المعنى ويزيده وضوحاً قول النبي صلى الله عليه وسلم : (( لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك)). رواه الشيخان من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، وهذا لفظ البخاري.
فالخذلان يُحجب به سبب النصر، والمخالفة آفة تهجم عليهم، والمخالفات على درجات وتكون من أنواع من الأعداء كل يخالف على درجته .
ومن أصحاب الشرور من يجمع الآفتين: الخذلان والمخالفة ، كأهل الحسد والبغي الذين يظن فيهم النصر والتأييد فإذا هم أهل خذلان ومخالفة.
فضمن الله تعالى لمن يقوم بأمره أن لا يضره من يخذله ولا من يخالفه مهما كانت درجة الخذلان ومهما كانت درجة المخالفة.
وَفِقْهُ هذه المسألة يفيد كل مؤمن قائم بأمر الله ، وكل جماعة قائمة بأمر الله كأصحاب الأعمال الدعوية وغيرهم؛ فكل مؤمن قائم بأمر الله فإنه يبتلى بالخذلان ويبتلى بالمخالفة فإذا قام بأمر الله كما يحب الله لم يضره من خذله ولا من خالفه؛ فإن الله تعالى ينصره ويهديه ويفلق له سبباً ينصره به.
كما قال تعالى: {وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين وكفى بربك هادياً ونصيراً}.
والمؤمنون هم أتباع الأنبياء ينالهم من جنس ما ينال الأنبياء من الابتلاء، وقد جعلهم الله أسوة لنا وأمرنا أن نقتدي بهم.

شرط ضمان الهداية والنصر
وقد تكفل الله لأوليائه بالهداية والنصر، فبالهداية يسيرون في الطريق الصحيح، وبالنصر يتغلبون على أعدائهم ممن خذلهم وخالفهم.
وتقديم الهداية على النصر في الآية من باب تقديم العلم على العمل، لأن الهدايةَ من ثمرات العلم ، والنصرَ من ثواب العمل.
والنصر له معانٍ وأسباب ؛ ونصر الله لعباده المؤمنين حق وعد الله به كما قال تعالى : {وكان حقاً علينا نصر المؤمنين} .
فهو وعد صادق لا يتخلف لكن قد يعجّل الله به ، وقد يؤخره لحكمة.

وشرط هذا الضمان بالهداية والنصر هو القيام بأمر الله ؛ فإذا قام العبد بأمر الله على ما يستطيع {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها}، فإن الله يضمن له الهداية والنصر.

وأنت إذا تأملت هذا المعنى حق التأمل؛ تبيَّن لك أن الإنسان إذا لم يقم بأمر الله فإنه هالك لا محالة، ولذلك قال سفيان بن عيينة كما في صحيح البخاري: (ما في القرآن آية أشد علي من {لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم}).
فإذا كان العبد لا يقيم ما أنزل الله عليه فإنه ليس على شيء؛ فلا ضمان له من الله، ولا عهد، ولا أمان له، ولا سبب له إلى النجاة ، بل هو هالك لا محالة إلا أن يتوب إلى الله ويقوم بأمر الله.
وعلى قدر ما يقوم به العبد من أمر دينه يكون نصيبه من النصر ومن الهداية.
فمن الناس من يكون محسناً في القيام بأمر الله فهذا نصيبه من الهداية والنصر أحسن النصيب {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} .
ومن كان في قيامه بأمر الله بعض الإساءة والتردد وضعف العزيمة تخلف عنه من الهداية والنصر بقدر ما فرط وضيَّع وأساء.
أما من ضيَّع أمر الله جملةً كالكفار والمنافقين فهؤلاء ليسوا على شيء كما قال الله تعالى لكفرة أهل الكتاب: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ}.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((رأس الأمر الإسلام ، وعموده الصلاة ، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله)) . رواه أحمد والترمذي وابن ماجه من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه.
ورأس الأمر هو أصله ، كما يقال: رأس المال، فمن ذهب رأس ماله بقي مفلساً لا مال له، وكذلك من ذهب إسلامه فهو على غير شيء؛ لأن رأس أمره قد ذهب.
أما من صح إسلامه فمعه العهد العظيم الذي بينه وبين ربه بأن يدخله الجنة وينجيه من النار فهو على شيء عظيم بهذا العهد.
فالمسلم وإن عذب ببعض ذنوبه في الدنيا أو في قبره أو يوم القيامة فمآله إلى الجنة بإذن الله تعالى.
ولكنَّ عذاب الله شديد ، ومن يطيق عذاب القبر وعذاب النار ولو لحظات؟! .

وأنتم ترون أن العبد إذا عذب على بعض ذنوبه في الدنيا اشتدَّ ذلك عليه جداً وعرف أنه لا طاقة له به؛ فكيف بعذاب القبر وعذاب النار؟!
نسأل الله العافية.

والخلاصة التي نستفيدها من هذا التصوير المقتضب لما يحتاجه الجسد والروح ولما تحتاجه الأمة وما يحتاجه كل مؤمن، وشرط ضمان النصر والهداية وهو القيام بأمر الله، وبيان نوعي الشرور أنَّ كل ذلك مهم في فهم دلائل آيات هذه السورة العظيمة.
والنبي صلى الله عليه وسلم كان يعلّم أصحابه إدارك المعاني وعقلها، وربما قرن في أذهانهم بعض الأمور المعنوية ببعض الصور الحسية ليؤثر ذلك في نفوسهم قوة استحضار المعنى وجلاءه ووضوحه؛ كما في مسند الإمام أحمد وصحيح مسلم من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: (قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قل: اللهم اهدني وسددني، واذكر بالهدى هدايتك الطريق، والسداد سداد السهم)) ).

أثر قوّة استحضار المعاني في الرقية
واستحضار هذه المعاني التي تضمنتها سورة الفلق مهم في الرقية بها وقوة التأثير بها؛ فإن الرقية كلام مؤثر، وتأثيره معنوي يخلص إلى الأمور الحسية بإذن الله بحسب ما يقدره الله من قوة هذا التأثير.
وليس تأثير الرقية بكثرتها وطولها، وإنما بقوتها وقوة عقل المعاني واستحضارها وإرادة التأثير، ولا يتنفع مع هذا إلا إذا أذن الله بنفعها.

وأنا لا أعرف عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من الصحابة والتابعين رقية مطولة كما يفعله بعض الناس اليوم.

عبد العزيز بن داخل المطيري

#6

18 Oct 2012

خلاصة الدرس

ذكرتُ في هذا الدرس بيانَ معنى الاستعاذة، ومعنى تخصيص الربوبية للفلق، ومناسبته للاستعاذة من أنواع الشرور كلها، وأن الله تعالى هو رب الفلق، لا رب له سواه، وأنه لا يملك الفلق إلا الله جل وعلا، وأنه يقع على معانٍ كثيرة متعددة في الخلق والأمر، وذكرتُ بعض آثار ربوبية الله تعالى للفلق في عالم الخلق وعالم الأمر، وأن تفسير بعض أهل العلم للفلق بأنه الصبح تفسير بالمثال، وهو مسلك من مسالك التفسير المعتبرة.

وممن نص على عموم معنى الفلق وأنه لا يقصر على فلق الصبح: ابن جرير الطبري وأبو إسحاق الزجاج وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم .
قال ابن جرير: (ولم يكن -جلَّ ثناؤه- وضع دلالة على أنه عنى بقوله: {رب الفلق} بعضَ ما يُدعى الفلق دون بعض، وكان الله -تعالى ذكره- ربَّ كلِّ ما خلق من شيء : وجب أن يكون معنياً به كل ما اسمه الفلق) ا.هـ.
وقال أبو إسحاق الزجاج (ت:311هـ): (ومعنى الفلق: الخلق، قال الله عز وجل: {فالق الإصباح}، {فالق الحبّ والنوى} ، وكذلك فَلَقَ الأرض بالنبات والسحاب بالمطر، وإذا تأمّلت الخلق تبيّن لك أن خلقَه أكثره عن انفلاق؛ فالفلق جميع المخلوقات وفلق الصبح من ذلك) ا.هـ.
وقال ابن تيمية: (الفَلَق فعل بمعنى مفعول ، كالقبض بمعنى المقبوض ، فكل ما فلقه الرب فهو فلق).
وقال ابن القيم: (واعلمْ أنَّ الخلقَ كلَّه فَلَقٌ، وذلك أنَّ فَلَقًا فَعَلٌ بمعنى مَفعولٍ: كقَبَضٍ وسَلَبٍ وقَنَصٍ بمعنى مَقبوضٍ ومَسلوبٍ ومَقنوصٍ.
واللهُ - عزَّ وجَلَّ - فالِقُ الإصباحِ وفالقُ الحَبِّ والنَّوى وفالِقُ الأرضِ عن النباتِ، والجبالِ عن العُيونِ، والسَّحابِ عن المطَرِ، والأرحامِ عن الأَجِنَّةِ، والظلامِ عن الإصباحِ، ويُسَمَّى الصبْحُ الْمُتَصَدِّعُ عن الظُّلْمَةِ: فَلَقًا وفَرَقًا، يُقالُ: هو أبيضُ من فَرَقِ الصُّبْحَ وفَلَقِه.
وكما أنَّ في خَلْقِه فَلْقًا وفَرْقًا؛ فكذلك أمْرُه كلُّه فُرْقَانٌ يَفْرُقُ الحقَّ والباطلَ فيَفْرُقُ بينَ ظلامِ الباطلِ بالحَقِّ كما يفْرُقُ ظلامَ الليلِ بالإصباحِ، ولهذا سَمَّى كتابَه الفُرْقَانَ، ونَصْرَه فُرْقَانًا لتَضَمُّنِه الفَرْقَ بينَ أوليائِه وأَعدائِه، ومنه فَلْقُه البَحْرَ لموسى فَلْقًا وسَمَّاهُ، فظَهَرَتْ حِكمةُ الاستعاذةِ برَبِّ الفَلَقِ في هذه الْمَواضعِ، وظَهَرَ بهذا إعجازُ القرآنِ وعَظَمَتُه وجَلالتُه، وأنَّ العِبادَ لا يَقْدِرون قَدْرَه، وأنه {تَنْزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ})ا.هـ.
وتفطَّن إلى أن قول ابن القيم فيه أن الفلق يعمّ الخلق والأمر ، وهذا له ما يؤيده من الإطلاق اللغوي كما سبق نقله عن أبي منصور الأزهري، وقد تقدّم شرح ذلك.
بل شيخ الإسلام ابن تيمية له كلام في أن الفلق يعمّ الخلق والأمر.
والمقصود أن ربوبية الله تعالى للفلق ربوبيّة عظيمة القدر ، عظيمة الآثار في الخلق والأمر، وأنها من معاني ملك الله عز وجل وتصرفه وتدبيره؛ فلا يكون فلق إلا بإذنه، ولا يخرج شيء من شيء إلا بإذنه، ولا يكشف حجاب عن حق إلا بإذنه، ((يا عبادي كلكم ضالّ إلا من هديته فاستهدوني أهدكم)) وهذا يعمّ الهداية العامة لدين الإسلام والهدايات التفصيلية في شؤون العلم والعمل والدعوة بل في شؤون الدين والدنيا.
فإنه إذا لم يكشف الحجاب بين العبد وبين الحق لم يَره ولم يهتدِ إليه، وإذا لم يكشف له الحجاب بينه وبين ما ينفعه في أمور دنياه لم يهتدِ له، بل ربما أضاع الإنسان من جهده ووقته وماله شيئاً كثيراً في تحصيل ما يريد ويتعسر عليه، وهو في حقيقة الأمر قريب المتناول لكنه لا يبصره ولا يهتدي إليه.
ولا يملك هدايته لذلك إلا رب الفلق جل وعلا، ومن يضلل الله فلا هادي له، ومن يهده الله فلا مضلّ له.

والعبد إذا أيقن بهذا استراح من عناء كثير من جانب التعلق بالخلق وما يترتب على التعلق بهم من آثار سيئة كبيرة قد تفسد الدين والعقل والمروءة والخلق.
ومن جانب آخر تقتضي منه استشعار مسؤولية القيام بأمر الله كما يحب الله عز وجل، وأن فلاحه وسعادته وضمان أمره إنما هو بالقيام بأمر الله: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله}.
ومن قام بأمر الله لم يضره من خذله ولا من خالفه، بل له عهد الهداية والنصر من الله جل وعلا.
فيكون الشأن كل الشأن؛ كيف يقوم العبد بأمر الله؟
والجواب: أن العبد لا يكلف من ذلك إلا ما يستطيع، وليبدأ بإصلاح قلبه ونيته، فإنه إذا صلح القلب صلح سائر الجسد.
ولذلك فإن العناية بالعبادات القلبية لها أثر عظيم في صلاح العبد.

قوله تعالى: {من شر ما خلق} هذا يعمّ جميع الشرور، ويفيد بأن الشر مختص بعالم الخلق دون عالم الأمر؛ فإن الله تعالى لا يكون في أمره شر، وإنما يكون الشر في بعض مخلوقاته.
وفي هذه الآية استعاذة من جميع الشرور ؛ فلا يخرج منها شرّ من الشرور؛ فهي تشمل شر النفس، وشر سيئات الأعمال، وشر الشيطان، وشر السحرة والحسدة والبغاة، وشرور كل دابةّ ، بل ما في الكون كله من شرور.
وقد ذكرنا لكم أن الشرور تنقسم إلى نوعين:
شرور حجب وإمساك للخير، وشرور عدوان وهجوم بالشر.
وأن الشرور منها شرور حسية، ومنها شرور معنوية.
وأن الجسد والروح كلاهما بحاجة إلى غذاء يقوّي ، ووقاية تحمي، فإذا حجب الغذاء أو خرقت الوقاية لم يأمن العبد من الضرر والتعرض للآفات بسبب ذلك.
وأن هذا كما ينطبق على الفرد فهو كذلك ينطبق على الجماعة، وعلى ما يكون بينهما من الأواصر والروابط والمؤاخاة.
وفهم هذه التقسيمات يعين على فهم كلام أهل العلم في تفسير هذه الآيات، ويعين على الترجيح بين ما اختلف فيه من الأقوال.