27 Apr 2016
تفسير القرآن بأقوال الصحابة رضي الله عنهم
من طرق التفسير: تفسير
القرآن بأقوال الصحابة رضي الله عنهم، فإن التفسير علم جليل، ولكل علم
أهله وأئمته، والصحابة رضي الله عنهم أعلم الأمة بالقرآن بعد النبي صلى
الله عليه وسلم؛ فقد علمهم النبي صلى الله عليه وسلم وأدّبهم وزكّاهم،
وشهدوا من وقائع التنزيل وعرفوا من أحوال النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته
وجهاده وشؤونه العامة والخاصة ما تقدّموا به على غيرهم في العلم بالقرآن.
● وكان
لكثرة اجتماعهم بالنبي صلى الله عليه وسلم، وصلاتهم معه خمس مرات في اليوم،
واستماعهم لخطبه ووصاياه، وحضورهم لمجالسه؛ وتلقّيهم القرآن منه، وتمكّنهم
من سؤاله عمّا يحتاجون إليه؛ وتنوّع معاملاتهم معه، كلّ ذلك كان له أثر
عظيم النفع في معرفتهم لمعاني ما يتلوه عليهم من القرآن.
● وكان
تعليم النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه الكتاب والحكمة وتزكيته إيّاهم،
وتأدّبهم بالأدب النبويّ المبارَك من أجلّ أسباب انتفاعهم بالقرآن العظيم
وفهمهم لمعانيه وتيسّر العمل به، كما قال الله تعالى: { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ
آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ
كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)}، والصحابة أوفر الناس حظاً بهذه الآية.
● ومن
الأوجه الجليلة في تفضيلهم وتقديم تفسيرهم رِضَا الله تعالى عنهم، وتزكيته
لهم وطهارة قلوبهم وزكاة نفوسهم ، وما فضلوا به غيرهم من الفهم الحسن
والعلم الصحيح والعمل الصالح ،وكل ذلك كان له أثره البيّن في توفيقهم لحسن
فهم معاني القرآن الكريم.
● ومن أوجه تقديم الصحابة رضي الله عنهم في التفسير علمهم بالقراءات وبالأحرف السبعة وبما نسخت تلاوته.
- عن عاصم بن أبي النجود، عن زر بن حبيش، قال: قال لي أبي بن كعب: (يا زر، كأين تعد؟)، أو قال: (كأين تقرأ سورة الأحزاب؟).
قلت: اثنتين وسبعين آية، أو ثلاثا وسبعين آية.
فقال: (إن كانت لتعدل سورة البقرة، وإن كنا لنقرأ فيها آية الرجم).
قلت: وما آية الرجم؟
قال: ({إذا زنا الشيخ والشيخة فارجموهما البتة نكالا من الله. والله عزيز حكيم})). رواه أبو عبيد.
● ومن
أوجه تفضيلهم علمهم بمواضع النزول وشهودهم لوقائعه وأسبابه وأحواله، وهذه
المعرفة العزيزة لا يقاربهم فيها أحد بعدهم، ولها أثر كبير في معرفة معاني
القرآن، وفهم مقاصده.
- قال أبو الطفيل عامر بن واثلة رضي الله عنه: شهدت عليا وهو يخطب ويقول: سلوني عن كتاب الله، فو الله ما من آية إلا وأنا أعلم بليل نزلت أم بنهار وأم في سهل، أم في جبل). رواه عبد الرزاق في تفسيره من طريق معمر عن وهب بن عبد الله الكوفي، عن أبي الطفيل.
- وقال أيضاً: «والله ما نزلت آية إلا وقد علمت فيما نزلت، وأين نزلت، وعلى من نزلت، إن ربي وهب لي قلبا عقولا، ولسانا طلقا» رواه
ابن سعد في الطبقات وأبو نعيم في الحلية من طريق أبي بكر بن عياش عن نصير
بن أبي الأشعث عن سليمان بن ميسرة الأحمسي عن أبيه عنه، نصير وسليمان
ثقتان.
- وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «والله
الذي لا إله غيره، ما أنزلت سورة من كتاب الله إلا أنا أعلم أين أنزلت،
ولا أنزلت آية من كتاب الله إلا أنا أعلم فيم أنزلت، ولو أعلم أحدا أعلم
مني بكتاب الله، تبلغه الإبل لركبت إليه» رواه البخاري ومسلم من طريق الأعمش عن أبي صالح عن
أبي هريرة رضي الله عنه.
- وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن: «ما
رأيت أحدا أعلم بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أفقه في رأي إن
احتيج إلى رأيه، ولا أعلم بآية فيما نزلت، ولا فريضة من عائشة» رواه ابن سعد.
● ومن
أوجه تفضيلهم فصاحة لسانهم العربي، ونزول القرآن بلغتهم، وفي ديارهم،
وسلامتهم من اللحن والضعف الذي حدث بعد زمانهم؛ فما يتعلمه المتعلمون في
علوم اللغة العربية قد حصلوا أكثره بسليقتهم من غير تكلّف، وفرقٌ كبيرٌ بين
من يفهم عامّة الخطاب لسلامة لسانه وحسن معرفته بمعاني المفردات وفنون
الأساليب وبين من يحتاج إلى التفتيش في المعاجم ودراسة كتب كثيرة ليدرك بعض
تلك المعاني والأساليب.
● ومن
أوجه تفضيل الصحابة وتقدّمهم في علم التفسير سلامتهم من الأهواء والفتن
والفرق التي حدثت بعد زمانهم، وما قذفت به كلّ فرقة من الشبهات والتضليلات.
وفي صحيح مسلم من حديث زيد بن وهب، عن عبد
الرحمن بن عبد رب الكعبة، عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه قال: ((إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقا
عليه أن يدلَّ أمته على خيرِ ما يعلمه لهم، وينذرهم شرَّ ما يعلمه لهم، وإن
أمَّتكم هذه جُعل عافيتها في أولها، وسيصيب آخرها بلاء، وأمور تنكرونها،
وتجيء فتنة فيرقق بعضها بعضا..)) الحديث.
- قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (فقولنا بتفسير الصحابة والتابعين لعِلْمنا
بأنهم بلغوا عن الرسول صلى الله عليه وسلم ما لم يصل إلينا إلا بطريقهم، وأنهم علموا
معنى ما أنزل الله على رسوله تلقياً عن الرسول؛ فيمتنع أن نكونَ نحن مصيبين في فهم
القرآن وهم مخطئون، وهذا يُعلم بطلانه ضرورة، عادةً وشرعاً)ا.هـ.
والمقصود أن كلّ ما تقدّم يبيّن لنا أن
الصحابة رضي الله عنهم كانوا أقرب طبقات الأمّة إلى فهم مراد الله تعالى
بكتابه، وأقرب إلى فهم مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعرفة بيانه
للقرآن، وهم أئمة هذا العلم، ومنار طريقه.
وقد سبق الحديث عن طرق الصحابة رضي الله عنهم في تعلّم التفسير وتعليمه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم بما أغنى عن إعادته.
تفاضل الصحابة في العلم بالتفسير:
والصحابة – رضي الله عنهم - يتفاضلون في العلم
بالتفسير؛ فلعلماء الصحابة وقرّائهم وكبرائهم مزيد عناية بالعلم بالقرآن
كالخلفاء الأربعة ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وابن مسعود وأبي الدرداء وسلمان
الفارسي وحذيفة بن اليمان وزيد بن ثابت وعائشة وأبي هريرة وعبد الله بن
عمرو بن العاص وابن عباس وأبي موسى الأشعري، وجابر بن عبد الله، وابن عمر،
وأبي سعيد الخدري، وأنس بن مالك.
قال مسروق بن الأجدع:
«لقد جالست أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فوجدتهم كالإخاذ، فالإخاذ يروي
الرجل، والإخاذ يروي الرجلين، والإخاذ يروي العشرة، والإخاذ يروي المائة،
والإخاذ لو نزل به أهل الأرض لأصدرهم، فوجدت عبد الله بن مسعود من ذلك
الإخاذ» رواه ابن سعد في الطبقات، والبيهقي في المدخل إلى السنن الكبرى، وابن عساكر في تاريخه.
- قال أبو عبيدة: (الإخاذ بغير هاء وهو مجتمع الماء، شبيه بالغدير).
تعظيم الصحابة رضي الله عنهم لشأن التفسير:
وكان الصحابة رضي الله عنهم على قدر كبير من
التورع عن القول في القرآن بغير علم، وقد أدّبهم النبي صلى الله عليه وسلم
في ذلك أدباً حسناً، فلزموا تأديبه وهديه، وقد ورد في ذلك أحاديث:
منها: حديث عبد
الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: هجَّرت إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم يوما، فسمع أصوات رجلين اختلفا في آية.
قال: فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعرف في وجهه الغضب، فقال: «إنما هلك من كان قبلكم، باختلافهم في الكتاب» رواه أحمد ومسلم والنسائي في الكبرى من طريق أبي عمران الجوني، عن عبد الله بن رباح الأنصاري، عن عبد الله بن عمرو.
وأخرجه الإمام أحمد أيضاً من طريق عمرو بن
شعيب عن أبيه عن جدّه عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أَنّ
نَفَراً كانوا جلوساً بباب النبي صلي الله عليه وسلم؛ فقال، بعضهم ألم
يَقُلِ اللهُ كذا وكذا؟ وقال بعضهم: ألم يَقُل الله كذا وكذا؟
فسمع ذلك رسول الله صلي الله عليه وسلم؛ فخرج كأنما فُقِيءَ في وجهه حَبُّ الرُّمَّان، فقال:
بهذا أُمرْتُم؟! أَو بهذا بُعثتُمْ؟! أَنْ تَضْربوا كتابَ الله بعضَه
ببعضٍ! إنما ضلَّت الأُمم قبلَكم في مثلَ هذا، إنكم لستم ممّا ها هنا في
شيء، انظروا الذي أُمِرتم به فاعملوا به، والذي نُهيتُمْ عنه فانْتَهوا).
ورواه معمر بن راشد ومن طريقه الإمام أحمد في
مسنده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: سمع النبي صلى الله عليه وسلم
قوما يتدارءون القرآن، فقال: " إنما هلك من كان قبلكم
بهذا، ضربوا كتاب الله بعضه ببعض، وإنما نزل كتاب الله يصدق بعضه بعضا، فلا
تكذبوا بعضه ببعض، فما علمتم منه فقولوا، وما جهلتم، فكلوه إلى عالمه "
- ومنها حديث عبد الله بن أبي مليكة، عن القاسم بن محمد، عن عائشة، قالت: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {هو
الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات، فأما
الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله،
وما يعلم تأويله إلا الله، والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند
ربنا، وما يذكر إلا أولو الألباب} قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم» متفق عليه.
ورواه ابن ماجه من طريق ابن أبي مليكة عن عائشة ، وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يا عائشة، إذا رأيتم الذين يجادلون فيه، فهم الذين عناهم الله، فاحذروهم»
قال الترمذي: وقد سمع [ابن أبي مليكة] من عائشة أيضاً.
- ومنها: ما رواه
البخاري ومسلم وغيرهما من طرق عن أبي عمران الجوني، عن جندب بن عبد الله
رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اقرءوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم، فإذا اختلفتم فقوموا عنه».
وهذا التعليم والتأديب من النبي صلى الله عليه
وسلم أخذه الصحابة رضي الله عنهم أحسن الأخذ؛ وانتهجوه أحسن الانتهاج،
وظهرت آثاره على هديهم ووصاياهم.
قال عبد الله بن أبي مليكة: سئل أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - عن آية من كتاب الله - عز وجل -، قال: أيَّة أرض تقلني، أو أيَّة سماء تظلني، أو أين أذهب، وكيف أصنع إذا أنا قلت في آية من كتاب الله بغير ما أراد الله بها؟). رواه سعيد بن منصور.
وابن أبي مليكة لم يدرك أبا بكر، لكن رويت هذه المقالة عن أبي بكر من طرق يشدّ بعضها بعضاً.
قال الشعبي: كان أبو بكرٍ يقول: «أي سماءٍ تظلني، وأي أرضٍ تقلني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم» رواه ابن أبي شيبة.
وقال يحيى بن سعيد الأنصاري: قال أبو بكر الصديق: أي أرض تقلني، وأي سماء تظلني، إذا قلت على الله ما لا أعلم) رواه مالك في الموطأ.
فهذه المقولة مروية عن أبي بكر من أكثر من وجه.
وروى الطبراني في مسند الشاميين من طريق شعيب عن الزهري قال: حدثني أنس بن مالك، قال: قرأ عمر بن الخطاب: {فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا وحدائق غلبا وفاكهة وأبا} فقال: كل هذا قد علمنا به فما الأبّ؟
ثم قال: (هذا لَعَمْرُ الله التكلف، اتبعوا ما بيّن لكم من هذا الكتاب، وما أشكل عليكم فَكِلُوه إلى عالمه).
وأصله في صحيح البخاري مختصراً بلفظ: (نهينا عن التكلف).
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه شديداً في
التأديب على القول في التفسير بغير علم، وعلى السؤال عنه سؤال تنطّع
وتكلّف، وقصّته مع صبيغ بن عسل التميمي معروفة مشتهرة، مروية من طرق متعددة:
منها ما أخرجه
الإمام أحمد في فضائل الصحابة من طريق يزيد بن خصيفة، عن السائب بن يزيد
أنه قال: أُتى إلى عمر بن الخطاب، فقالوا: يا أمير المؤمنين، إنا لقينا
رجلا يسأل عن تأويل القرآن.
فقال: اللهم أمكني منه، قال: فبينا عمر ذات
يوم جالس يغدي الناس إذ جاءه وعليه ثياب وعمامة، فغداه، ثم إذا فرغ قال: يا
أمير المؤمنين، {والذاريات ذروا فالحاملات وقرا} ؟
قال عمر: أنت هو؟ فمال إليه وحسر عن ذراعيه،
فلم يزل يجلده حتى سقطت عمامته، ثم قال: احملوه حتى تقدموه بلاده، ثم ليقم
خطيبا ثم ليقل: إن صبيغاً ابتغى العلم فأخطأ، فلم يزل وضيعا في قومه حتى
هلك، وكان سيد قومه.
ومنها ما أخرجه الدارمي من طريق يزيد
بن حازم، عن سليمان بن يسار أن رجلا يقال له صبيغ قدم المدينة؛ فجعل يسأل
عن متشابه القرآن، فأرسل إليه عمر رضي الله عنه وقد أعدَّ له عراجين النخل،
فقال: من أنت؟
قال: أنا عبد الله صبيغ.
فأخذ عمر عرجونا من تلك العراجين، فضربه وقال: أنا عبد الله عمر؛ فجعل له ضربا حتى دمي رأسه.
فقال: يا أمير المؤمنين، حسبك، قد ذهب الذي كنت أجد في رأسي.
ومنها ما أخرجه ابن
بطة العكبري من طريق المعتمر بن سليمان عن أبيه عن أبي عثمان النهدي أن
رجلا كان من بني يربوع، يقال له: صبيغ، سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، عن
الذاريات والنازعات والمرسلات، أو عن إحداهن، فقال له عمر: «ضع عن رأسك» فوضع عن رأسه فإذا له وفيرة، فقال: «لو وجدتك محلوقا لضربت الذي فيه عيناك» قال: ثم كتب إلى أهل البصرة أن لا تجالسوه، أو قال: «كتب إلينا أن لا تجالسوه» قال: «فلو جلس إلينا ونحن مائة لتفرقنا عنه».
وبنو يربوع من تميم.
قال ابن تيمية في قول عمر له في شأن التحليق: (لأنه لو وجده محلوقاً استدلَّ بذلك على أنه من الخوارج المارقين، وكان يقتله لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتالهم).
ورويت هذه القصة من طرق أخرى فيها زوائد
وفوائد؛ منها ما روي أن أهل البصرة هجروه سنة حتى اشتدّ ذلك عليه، وظهرت
منه التوبة مما كان يتكلّفه من المسائل؛ فكتب أبو موسى الأشعري إلى عمر أن
الرجل قد حسنت توبته؛ فأذن بمجالسته.
وقد انتفع صُبيغ بهذا التأديب؛ وعصمه الله به من فتنة الخوارج التي حدثت في عهد عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه.
قال معمر بن راشد: خرجت الحرورية، فقيل لصُبيغ: إنه قد خرج قوم يقولون كذا وكذا، قال: هيهات قد نفعني الله بموعظة الرجل الصالح.
وروى الإمام أحمد وأبو يعلى وابن خزيمة
والطحاوي من طريق إبراهيم النخعي عن علقمة قال: جاء رجل إلى عمر وهو بعرفات
فقال: جئت يا أمير المؤمنين من الكوفة، وتركت بها رجلا يملي المصاحف عن
ظهر قلبه؛ فغضب عمر وانتفخ حتى كاد يملأ ما بين شعبتي الرحل.
فقال: ومن هو ويحك؟
قال: عبد الله بن مسعود؛ فما زال يطفأ ويسرى عنه الغضب، حتى عاد إلى حاله التي كان عليها.
ثم قال: ويحك، والله ما أعلمه بقي من الناس
أحد هو أحق بذلك منه، وسأحدثك عن ذلك، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا
يزال يسمر عند أبي بكر الليلة كذلك في الأمر من أمر المسلمين، وإنه سمر
عنده ذات ليلة، وأنا معه، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخرجنا معه،
فإذا رجل قائم يصلي في المسجد؛ فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع
قراءته، فلما كدنا أن نعرفه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من سره أن يقرأ القرآن رطبا كما أنزل، فليقرأه على قراءة ابن أم عبد ".
قال: ثم جلس الرجل يدعو، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له: " سل تعطه، سل تعطه ".
قال عمر: قلت: والله لأغدون إليه فلأبشرنه.
قال: فغدوت إليه لأبشره فوجدت أبا بكر قد سبقني إليه فبشره، ولا والله ما سابقته إلى خير قط إلا سبقني إليه.
وكانت هذه الشدة من عمر حمايةً لجناب القرآن،
وصيانةً له من زلل العلماء وعبث المتعالمين والمتكلفين في قراءته وتأويله،
وردعاً لأهل الأهواء الذين يتبعون متشابهه، ويضربون بعضه ببعض؛ ابتغاء
الفتنة وابتغاء تأويله.
قال ابن عباس: خطبنا عمر بن الخطاب فقال: (إن أخوف ما أخاف عليكم تغير الزمان، وزيغة عالم، وجدال منافق بالقرآن، وأئمة مضلون يضلون الناس بغير علم). رواه أبو الجهم الباهلي في جزئه، ومن طريقه أبو القاسم البغوي كما في مسند الفاروق لابن كثير.
فنفع الله بحزم عمر وقوّته فحُمِيَ جنابُ القرآن، وعُظّم القول فيه، والسؤال عنه،
وارتدع المنافقون والذين في قلوبهم مرض، وأما الذين يسألون استرشادا
ليتفقهوا في كتاب الله، ويعلموا ما فيه من البينات والهدى فكان ليّنا لهم،
وكان يبعث المعلمين إلى الأمصار ليعلّموا الناس القرآن، ويفقهوهم في الدين.
وكان شباب الصحابة مع هذا يتهيّبون عمر لما
جعل الله له من الهيبة ، ولشدته في شأن القرآن والاحتياط له، ففي الصحيحين
عن عبيد بن حنين عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: مكثت سنة أريد أن
أسأل عمر بن الخطاب عن آية، فما أستطيع أن أسأله هيبة له، حتى خرج حاجا
فخرجت معه، فلما رجعنا وكنا ببعض الطريق عدل إلى الأراك لحاجة له، قال:
فوقفت له حتى فرغ ثم سرت معه، فقلت: يا أمير المؤمنين من اللتان تظاهرتا
على النبي صلى الله عليه وسلم من أزواجه؟
فقال: تلك حفصة وعائشة.
قال: فقلت: والله إن كنت لأريد أن أسألك عن هذا منذ سنة، فما أستطيع هيبة لك، قال: (فلا تفعل، ما ظننتَ أنَّ عندي من علمٍ فاسألني، فإن كان لي علم خبرتك به).
وقد نشأ جيل الصحابة على هذا التعظيم لكتاب
الله تعالى، والتحرّز من القول فيه بغير علم، وأن لا يسألوا عن مسائل العلم
إلا أهلَ العلم المعروفين به، وأن لا يتكلفوا ما لا علم لهم به، ولا
يتنازعوا في القرآن ، ولا يضربوا بعضه ببعض.
ثم بلّغ الصحابة هذه الوصايا للتابعين لهم بإحسان؛ فأخذوها بإحسان.
- قال زياد بن حُدَير الأسدي: قال لي عمر: «هل تعرف ما يهدم الإسلام؟»
قال: قلت: لا.
قال: «يهدمه زلة العالم، وجدال المنافق بالكتاب وحكم الأئمة المضلين» رواه الدارمي وأبو نعيم الأصبهاني في حلية الأولياء..
وفي رواية عند ابن بطة العكبري في الإبانة قال عمر: (إن أخوف ما أخاف عليكم
ثلاثة: جدال المنافق بالقرآن لا يخطئ واوا ولا ألفا يجادل الناس أنه أجدل
منهم ليضلهم عن الهدى، وزلة عالم، وأئمة المضلين).
- وقال إياس بن عامر: أخذ علي بن أبي طالب بيدي، ثم قال: (إنك إن بقيت سَيَقرأ القرآن ثلاثةُ أصناف: فصنف لله، وصنف للجدال، وصنف للدنيا، ومن طلب به أدرك). رواه الدارمي.
- وروى عبد الله بن سَلِمة عن معاذ بن جبل أنه قال: (كيف أنتم عند ثلاث: دنيا تقطع رقابكم، وزلة عالم، وجدال منافق بالقرآن؟)
فسكتوا؛ فقال معاذ بن جبل: (أما دنيا تقطع رقابكم، فمن جعل الله غناه في قلبه فقد هُدي، ومن لا فليس بنافعته دنياه، وأما زلة عالم؛ فإن اهتدى فلا تقلّدوه دينكم، وإن فتن فلا تقطعوا منه أناتكم،
فإن المؤمن يفتن ثم يفتن ثم يتوب، وأما جدال منافق بالقرآن، فإن للقرآن
منارا كمنار الطريق لا يكاد يخفى على أحد، فما عرفتم فتمسّكوا به، وما أشكل
عليكم فكلوه إلى عالمه). رواه وكيع في الزهد، وأبو داوود في الزهد، والطبراني في الأوسط، أبو نعيم في الحلية، وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله كلهم من طريق شعبة عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن سلمة به، وألفاظهم متقاربة.
- وقال عبد الرحمن بن أبزى لأبيّ بن كعب لما وقع الناس في أمر عثمان رضي الله عنه: أبا المنذر، ما المخرج من هذا الأمر؟
قال: «كتاب الله وسنة نبيه، ما استبان لكم فاعملوا به، وما أشكل عليكم فكِلُوه إلى عالمه» رواه الحاكم في المستدرك من طريق أسلم المنقري عن عبد الله بن عبد الرحمن عن أبيه، وصححه الذهبي.
- وقال عبد الله بن مسعود لمّا بلغه قول رجل في مسألة في التفسير: (من علم علماً فليقل به، ومن لم يعلم فليقل: الله أعلم، فإن من فقه الرجل، أن يقول لما لا يعلم: الله أعلم). والخبر في صحيح مسلم.
- وقال أبو موسى الأشعري في خطبة له «من علم علماً فليعلّمه الناس، وإياه أن يقول ما لا علم له به؛ فيمرق من الدين ويكون من المتكلفين» رواه الدارمي.
- وقال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما لأصحابه: (لا تضربوا كتاب الله بعضه ببعض، فإن ذلك يوقع الشك في قلوبكم). رواه أبو عبيد القاسم بن سلام.
- وقال عبد الله ابن أبي مليكة: دخلت أنا وعبد
الله بن فيروز مولى عثمان بن عفان على عبد الله بن عباس ؛ فقال له ابن
فيروز: يا ابن عباس ، قول الله: {يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة} الآية .
فقال ابن عباس: من أنت؟
قال: أنا عبد الله بن فيروز مولى عثمان بن عفان.
فقال ابن عباس: {يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون}.
فقال له ابن فيروز: أسألك يا ابن عباس.
فقال ابن عباس: «أياما سماها الله تعالى لا أدري ما هي، أكره أن أقول فيها ما لا أعلم» قال ابن أبي مليكة: فضرب الدهر حتى دخلتُ على سعيد بن المسيب فسُئل عنها فلم يدر ما يقول فيها.
قال: فقلت له: ألا أخبرك ما حضرتُ من ابن عباس؟ فأخبرته؛ فقال ابن المسيب للسائل: (هذا ابن عباس قد اتَّقى أن يقول فيها وهو أعلم مني). رواه عبد الرزاق.
طرق التفسير عند الصحابة رضي الله عنهم
كان
الصحابة رضي الله عنهم يفسّرون القرآن بالقرآن، ويفسرون القرآن بالسنة،
ويفسّرون القرآن بما يعرفون من وقائع التنزيل، ويفسّرون القرآن بلغة العرب،
وكانوا يجتهدون رأيهم في فهم النص، وفيما لا نصّ فيه على التفسير.
واجتهاد الصحابة أسلم وأقرب إلى الصواب من اجتهاد من بعدهم.
وكان يقع منهم اتفاق كثير على مسائل في التفسير، ويقع بينهم من الخلاف في الاجتهاد في التفسير كما يقع مثله في الأحكام.
1. فأمّا تفسيرهم القرآن بالقرآن فله أمثلة كثيرة تدلّ على عنايتهم به، ومن تلك الأمثلة: ما
رواه الزهري قال: أخبرني أبو عبيد مولى عبد الرحمن بن عوف أن عثمان بن
عفان رضي الله عنه صلى الصلاة، ثم جلس على المنبر فأثنى على الله بما هو
أهله ثم قال: «أتى هاهنا امرأة إخالها قد عادت بشرّ، ولدت لستة أشهر، فما ترون فيها؟» فناداه ابن عباس رضي الله عنهما؛ فقال: إن الله قال: {ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرا}، وقال: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة} ، فإذا تمت رضاعته فإنما الحمل ستة أشهر، فتركها عثمان رضي الله عنه فلم يرجمها). رواه ابن شبّة في تاريخ المدينة واللفظ له، وعبد الرزاق وابن جرير في تفسيريهما.
- وقد روي نحو هذه الحكاية عن علي بن أبي طالب
رضي الله عنه، رواها الإمام مالك في الموطأ بلاغاً، وأسندها ابن جرير وابن
أبي حاتم وابن شبة في تاريخ المدينة من طرق عن يزيد بن عبد الله بن قسيط
عن بعجة الجهني بألفاظ مختلفة.
2. وأما تفسيرهم القرآن بالسنة فهو على نوعين:
النوع الأول: تفسير
نصّي صريح إما مما سألوا عنه النبي صلى الله عليه وسلم فأجابهم، وإما من
معرفتهم بسبب نزول الآية، وإما أن يكون الحديث صريحاً في بيان معنى الآية.
ولهذا النوع أمثلة كثيرة:
- منها ما رواه
مسلم عن مسروق بن الأجدع قال: كنت متكئا عند عائشة، فقالت: يا أبا عائشة:
ثلاث من تكلم بواحدةٍ منهنَّ فقد أعظم على الله الفرية، قلت: ما هن؟ قالت:
من زعم أن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية.
قال: وكنت متكئا فجلست، فقلت: يا أم المؤمنين، أنظريني، ولا تعجليني، ألم يقل الله عز وجل: {ولقد رآه بالأفق المبين}، {ولقد رآه نزلة أخرى}؟
فقالت: أنا أوَّل هذه الأمة سأل عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:
«إنما هو جبريل، لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين،
رأيته منهبطا من السماء سادا عظم خلقه ما بين السماء إلى الأرض»
- ومنها ما رواه أبو داوود الطيالسي عن أميّة بنت عبد الله قالت: سألت عائشة عن قول الله عز وجل: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله} ، وسألتها عن قول الله عز وجل {من يعمل سوءا يجز به} فقالت: لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد منذ سألت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «هذه
متابعة الله عز وجل للعبد مما يصيبه من الحمى والحزن والنكبة حتى البضاعة
يضعها في كُمِّه فيفقدها، فيفزع لها فيجدها في ضِبْنِه، حتى إنَّ العبد
ليخرج من ذنوبه كما يخرج التبر الأحمر من الكير».
- ومنها ما رواه الدارمي عن مسروق، قال: قلت لعائشة: يا أم المؤمنين، أرأيت قول الله تعالى: {يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات وبرزوا لله الواحد القهار} أين الناس يومئذ؟ قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: «على الصراط».
- ومنها ما رواه الطبراني في الأوسط وابن حبان
عن صالح بن أبي طريف قال: قلت لأبي سعيد الخدري: أسمعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول في هذه الآية {ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين} ،
فقال: نعم سمعته يقول: "يخرج الله أناسا من النار بعدما يأخذ نقمته منهم
قال: لما أدخلهم الله النار مع المشركين، قال المشركون: أليس كنتم تزعمون
في الدنيا أنكم أولياء فما لكم معنا في النار فإذا سمع الله ذلك منهم أذن
في الشفاعة فيتشفع لهم الملائكة والنبيون حتى يخرجوا بإذن الله فلما أخرجوا
قالوا: يا ليتنا كنا مثلهم فتدركنا الشفاعة فنخرج من النار، فذلك قول الله
جل وعلا: {ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين}.
قال: فيُسَمَّون في الجنة الجهنَّميين من أجل
سوادٍ في وجوههم فيقولون: ربنا أذهب عنا هذا الاسم، قال: فيأمرهم فيغتسلون
في نهر الجنة فيذهب ذلك منهم).
والنوع الآخر: أحاديث يستدلّ بها على التفسير من غير نصّ عليه.
ومثال هذا النوع ما رواه البخاري في صحيحه من
طريق عبد الله بن طاووس بن كيسان عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:
ما رأيت شيئا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم:
«إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا، أدرك ذلك لا
محالة، فزنا العين النظر، وزنا اللسان المنطق، والنفس تمنى وتشتهي، والفرج
يصدق ذلك كله ويكذبه»
ومثاله أيضاً ما روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص من طرق يشدّ بعضها بعضاً أنه قال: «من تاب قبل موته بعام تيب عليه» حتى قال: «بشهر» حتى قال: «بجمعة» حتى قال: «بيوم» حتى قال: «بساعة» حتى قال: «بفواق».
فقال له رجل: سبحان الله أولم يقل الله عز وجل: {وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن}؟
فقال عبد الله: إنما أحدثك بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فهذا الحديث مما يستدلّ به على تفسير قول الله تعالى: {ثم يتوبون من قريب}.
ويشهد له حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله تعالى يقبل توبة عبده ما لم يغرغر " رواه أحمد وابن ماجه.
3. تفسير الصحابة بما يعرفون من وقائع التنزيل
ومما يمتاز به الصحابة على من بعدهم شهودهم
لوقائع التنزيل، ولذلك أثر حسن مبارك في معرفة المعنى وإدراك المقصد وبيان
المشكل على من لم يعرف ذلك.
ومن أمثلة ذلك: ما رواه البخاري في صحيحه من
طريق الزهري عن عروة بن الزبير قال: سألت عائشة رضي الله عنها فقلت لها:
أرأيت قول الله تعالى: {إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما}،
فوالله ما على أحد جناح أن لا يطوف بالصفا والمروة، قالت: بئس ما قلت يا
ابن أختي، إن هذه لو كانت كما أولتها عليه، كانت: لا جناح عليه أن لا يتطوف
بهما، ولكنها أنزلت في الأنصار، كانوا قبل أن يسلموا يهلون لمناة الطاغية،
التي كانوا يعبدونها عند المشلَّل، فكان من أهلَّ يتحرَّج أن يطوف بالصفا
والمروة، فلما أسلموا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، قالوا:
يا رسول الله، إنا كنا نتحرج أن نطوف بين الصفا والمروة، فأنزل الله تعالى: {إن الصفا والمروة من شعائر الله}. الآية قالت عائشة رضي الله عنها: «وقد سنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما، فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما».
قال: ثم أخبرت أبا بكر بن عبد الرحمن فقال: إن
هذا لعلم ما كنت سمعته، ولقد سمعت رجالاً من أهل العلم يذكرون: أن الناس -
إلا من ذكرت عائشة - ممن كان يهل بمناة، كانوا يطوفون كلهم بالصفا
والمروة، فلما ذكر الله تعالى الطواف بالبيت، ولم يذكر الصفا والمروة في
القرآن، قالوا: يا رسول الله، كنا نطوف بالصفا والمروة وإن الله أنزل
الطواف بالبيت فلم يذكر الصفا، فهل علينا من حرج أن نطوف بالصفا والمروة؟
فأنزل الله تعالى: {إن الصفا والمروة من شعائر الله} الآية.
قال أبو بكر: «فأسمع هذه
الآية نزلت في الفريقين كليهما، في الذين كانوا يتحرجون أن يطوفوا
بالجاهلية بالصفا والمروة، والذين يطوفون ثم تحرجوا أن يطوفوا بهما في
الإسلام، من أجل أن الله تعالى أمر بالطواف بالبيت، ولم يذكر الصفا حتى ذكر
ذلك بعد ما ذكر الطواف بالبيت»
- وفي صحيح البخاري من حديث خالد بن أسلم، قال: خرجنا مع عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، فقال أعرابي: أخبرني عن قول الله: {والذين يكنزون الذهب والفضة، ولا ينفقونها في سبيل الله} قال ابن عمر رضي الله عنهما: «من كنزها، فلم يؤد زكاتها، فويل له، إنما كان هذا قبل أن تنزل الزكاة، فلما أنزلت جعلها الله طُهراً للأموال»
4. تفسير الصحابة بلغة العرب
من طرق التفسير عند الصحابة رضي الله عنهم التفسير بلغة العرب، وكان من أكثرهم استعمالاً لهذا الطريق ابن عباس رضي الله عنهما.
- قال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة: «شهدت ابن عباس، وهو يسأل عن عربية القرآن، فينشد الشعر» رواه الإمام أحمد في فضائل الصحابة.
- وقال مسمع بن مالك: سمعت عكرمة قال: «كان إذا سئل ابن عباس عن شيء من القرآن أنشد شعراً من أشعارهم» رواه ابن أبي شيبة.
وقد روي عنه في ذلك آثار كثيرة:
منها: ما رواه أبو المعلى العطّار عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أنه كان يقرأ {دارست} ويقول: «دارس كطعم الصاب والعلقم» أخرجه ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم.
ومنها: ما رواه إبراهيم بن مهاجر عن مجاهد قال: "(كان ابن عباس لا يدري ما {فاطر السموات} حتى جاءه أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما: يا أبا عباس بئري أنا فطرتها، فقال: خذها يا مجاهد {فاطر السموات}). رواه الدولابي في الكنى واللفظ له، ورواه ابن جرير والبيهقي.
ومنها: ما رواه منصور بن المعتمر، عن مجاهد، عن ابن عباس، في هذه الآية {إلا اللمم} قال: (الذي يلم بالذنب ثم يدعه، ألم تسمع قول الشاعر:
إن تغفر اللهم تغفر جما ... وأي عبد لك لا ألما ). أخرجه الحاكم في مستدركه.
ومنها: ما رواه الأجلح الكندي عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: أتاه رجل وأنا جالس فقال: أرأيت قول الله: (وثيابك فطهر) قال: لا تلبسها على معصية ولا على غدرة، ثم قال: أما سمعت قول غيلان بن سلمة الثقفي:
وإني بحمد الله لا ثوب فاجر ... لبست ولا من غدرة أتقنع). أخرجه ابن جرير.
ومنها: ما رواه عبد الله بن أبي مليكة، عن ابن عباس (وما وسق): وما جمع، ألم تسمع قول الشاعر: مستوسقات لو يجدن سائقا ). أخرجه ابن جرير.
5. اجتهاد الصحابة في التفسير
والصحابة رضي الله عنهم يجتهدون رأيهم في
التفسير عند الحاجة من غير تكلّف، ولا ادّعاء للعصمة، واجتهادهم أقرب إلى
التوفيق للصواب ممن بعدهم لما سبق ذكره من أوجه تفضيل تفسيرهم، وامتلاكهم
من أدوات الاجتهاد ما لا يقاربهم فيه غيرهم.
ومن أمثلة اجتهادهم في التفسير: اجتهاد أبي بكر رضي الله عنه في تفسير الكلالة؛ فيما روي عنه من طرق أنه قال: «إني
قد رأيت في الكلالة رأيا، فإن كان صوابا فمن الله وحده لا شريك له، وإن
يكن خطأ فمني والشيطان، والله منه بريء؛ إن الكلالة ما خلا الولد والوالد»
قال الشعبي: (فلما استخلف عمر رضي الله عنه، قال: إني لأستحيي من الله تبارك وتعالى أن أخالف أبا بكر في رأي رآه). هذا لفظ ابن جرير، وهذا التفسير ثابت عن أبي بكر رضي الله عنه من طرق أخرى موصولة.
وقد صحّ تفسير الكلالة مرفوعاً من حديث جابر رضي الله عنه في الصحيحين، بما يوافق تفسير أبي بكر.
اختلاف الصحابة رضي الله عنهم في التفسير
اختلاف الصحابة رضي الله عنهم في مسائل التفسير قليل جداً في جنب ما لم يؤثر عنهم فيه اختلاف.
وما روي عنهم من مسائل الخلاف فأكثره مما لا يصح إسناده، وما صحّ إسناده إليهم فهو على نوعين:
النوع الأول: ما يصحّ فيه الجمع بين الأقوال دون الحاجة إلى الترجيح، وأكثره مما يكون من باب التفسير بالمثال أو ببعض المعنى.
ومن أمثلة هذا النوع ما تقدّم من القولين في سبب نزول قول الله تعالى: {إن الصفا والمروة من شعائر الله فمنّ حجّ البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوّف بهما...}
وقد حكى القولين عن الصحابة أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام كما في صحيح البخاري.
ومن أمثلته: اختلافهم في المراد بالعذاب الأدنى:
فقال أبيّ بن كعب: هو مصائب الدنيا.
وقال ابن مسعود: هو يوم بدر.
وقال ابن عباس: هو الحدود.
فتفسير أبيّ أعمّ بأنّ كل ما يصيبهم من العذاب في الدنيا فهو مما توعّدوا به.
وتفسير ابن مسعود يعدّ من قبيل التفسير
بالمثال؛ فما أصابهم من العذاب يوم بدر مثال على المصائب العظيمة التي وقعت
عليهم بسبب كفرهم وعنادهم.
وأما تفسير ابن عباس فمحمولٌ على التنبيه على
سعة دلالة الآية على وعيد المنافقين الذين يصيبون بعض ما يقام عليهم به
الحدّ؛ فيكون هذا الحدّ من العذاب الأدنى الذي يقع عليهم لعلّهم يرجعون
فيؤمنون ويتوبون ومن أصرّ على نفاقه وكفره فينتظره العذاب الأكبر.
وهذا من دقيق فقه ابن عباس رضي الله عنهما.
قال ابن جرير رحمه الله بعد أن أسند الأقوال
إليهم: (وأولى الأقوال في ذلك أن يقال: إن الله وعد هؤلاء الفسقة المكذبين
بوعيده في الدنيا العذاب الأدنى، أن يذيقهموه دون العذاب الأكبر، والعذاب:
هو ما كان في الدنيا من بلاء أصابهم، إما شدة من مجاعة، أو قتل، أو مصائب
يصابون بها، فكل ذلك من العذاب الأدنى، ولم يخصص الله تعالى ذكره، إذ وعدهم
ذلك أن يعذبهم بنوع من ذلك دون نوع، وقد عذبهم بكل ذلك في الدنيا بالقتل
والجوع والشدائد والمصائب في الأموال، فأوفى لهم بما وعدهم).
ومن أمثلته أيضاً: اختلافهم في المراد بالقسورة:
فقال ابن عباس: هم الرماة.
وقال أبو هريرة: الأسد.
والقسورة لفظ مشترك يطلق على الرماة وعلى الأسد، وكلٌّ قد قال ببعض المعنى.
والنوع الآخر: ما يُحتاج فيه إلى الترجيح، وعامّة مسائل هذا النوع مما يكون للخلاف فيه سبب يُعذر به صاحب القول المرجوح.
أسباب اختلاف الصحابة رضي الله عنهم في التفسير
ما يصحّ من اختلاف الصحابة رضي الله عنهم في التفسير له أسباب:
- منها: أن يقول كلُّ واحد بما بلغه من العلم، ويكون تمام المعنى بمجموع ما بلغهم.
- ومنها: أن يفسّر
أحدهم بمثال أو بجزء من المعنى، ويفسّر الآخر بمثال آخر أو بجزء آخر من
المعنى، ومن ذلك أن يكون في الآية مشترك لفظي أو مشترك أسلوبي فيفسّر كل
واحد الآية ببعض معناها.
- ومنها: أن يقصد بعضهم إلى إلحاق معنى تشمله دلالة الآية وقد يُغفل عنه؛ فيفسّر الآية به تنبيهاً وإرشاداً، ويفسّر غيره الآية على ظاهرها.
- ومنها: أن يدرك بعضهم مقصد الآية فيفسّر الآية بها، ويفسّر بعضهم الآية على ظاهر لفظها.
- ومنها: أن يُسأل
أحدهم عن مسألة فيجيب عليها بآية من القرآن فينقل قوله على أنّه تفسير لتلك
الآية، وهو مما يدخل في باب التفسير ببعض المعنى.
- ومنها: أن يكون أحدهم متمسّكاً بنصٍّ منسوخ لم يعلم ناسخه، ويكون هذا في الأحكام.
- ومنها: أن يكون مُستنَد أحدهم النص، ومستند الآخر الاجتهاد.
- ومنها: أن تكون المسألة اجتهادية فيختلف اجتهادهم فيها.
- ومنها: أن يفسّر بعضهم على اللفظ، ويفسّر بعضهم على سبب النزول لعلمه بحاله.
والتمثيل على هذه الأنواع يطول جداً، والمقصود التنبيه على قلة الخلاف في مسائل التفسير عند الصحابة، وأن ما صحّ منه فله أسبابه.
وقد أرشد الصحابةُ التابعين إلى الهدى في هذه
الحالة، ففي صحيح مسلم من حديث مسلم بن صبيح، عن مسروق، قال: جاء إلى عبد
الله [وهو ابن مسعود] رجلٌ فقال: تركت في المسجد رجلا يفسر القرآن برأيه
يفسر هذه الآية: {يوم تأتي السماء بدخان مبين}.
قال: يأتي الناس يوم القيامة دخان، فيأخذ
بأنفاسهم حتى يأخذهم منه كهيئة الزكام، فقال عبد الله: (من علم علما فليقل
به، ومن لم يعلم فليقل: الله أعلم، فإن من فقه الرجل أن يقول لما لا علم له
به: الله أعلم، إنما كان هذا، أن قريشا لما استعصت على النبي صلى الله
عليه وسلم، «دعا عليهم بسنين كسني يوسف»،
فأصابهم قحط وجهد، حتى جعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى بينه وبينها كهيئة
الدخان من الجهد، وحتى أكلوا العظام، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل
فقال: يا رسول الله استغفر الله لمضر، فإنهم قد هلكوا، فقال: «لمضر؟!! إنك لجريء» قال: فدعا الله لهم، فأنزل الله عز وجل: {إنا كاشفو العذاب قليلا إنكم عائدون} قال: فمطروا، فلما أصابتهم الرفاهية، قال: عادوا إلى ما كانوا عليه، قال: فأنزل الله عز وجل: {فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين، يغشى الناس هذا عذاب أليم} {يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون} قال: يعني يوم بدر).
فذكر ابن مسعود القول الذي يعرفه بصحبته للنبي
صلى الله عليه وسلم، وعلمه بأحوال نزول القرآن، ولم يعبْ على من علم علماً
أن يقول به.
ومن النادر وقوع اختلاف بسبب تأويل خاطئ؛ وما
وقع من ذلك فلا يخلو قائله من الإنكار عليه وبيان خطئه، كما روى النسائي في
السنن الكبرى من طريق ثور بن زيدٍ الديلي، عن عكرمة، عن ابن عباسٍ، أن
قدامة بن مظعونٍ، شرب الخمر بالبحرين فشُهد عليه ثم سُئل فأقرَّ أنه شربه،
فقال له عمر بن الخطاب: ما حملك على ذلك، فقال: لأن الله يقول: {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناحٌ فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات}، وأنا منهم أي من المهاجرين الأولين، ومن أهل بدرٍ، وأهل أحدٍ.
فقال: للقوم أجيبوا الرجل؛ فسكتوا.
فقال لابن عباسٍ: أجبه.
فقال: إنما أنزلها عذرًا لمن شربها من الماضين قبل أن تحرم وأنزل: {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسٌ من عمل الشيطان} حجةً على الباقين.
ثم سأل مَن عنده عن الحدّ فيها، فقال علي بن أبي طالبٍ: إنه إذا شرب هذى، وإذا هذى افترى فاجلدوه ثمانين).
مراتب حجّيّة أقوال الصحابة رضي الله عنهم في التفسير
أقوال الصحابة رضي الله عنهم في التفسير على مراتب:
المرتبة الأولى: ما له حكم الرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو على أنواع:
منها: ما يصرّح فيه بأخذه عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ومنها: مراسيل الصحابة.
ومنها: ما لا يقال
بالرأي والاجتهاد، ولم يأخذه الصحابي عمن يروي عن بني إسرائيل فهذا مع
ضميمة الجزم بتورّع الصحابة رضي الله عنهم وتثبّتهم في القول عن الله تعالى
وعن رسوله صلى الله عليه وسلم يدلّ على أنّهم إنما أخذوه عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم.
ومنها: قول الصحابي الصريح في سبب النزول.
فهذه المرتبة ما صحّ منها فهو حجّة في التفسير.
والمرتبة الثانية:
أقوالٌ صحّت عنهم في التفسير، اتّفقوا عليها ولم يختلفوا فيها، فهذه حجّة
أيضاً لحجيّة الإجماع، وأرفعه إجماع الصحابة رضي الله عنهم.
والمرتبة الثالثة: ما اختلف فيه الصحابة رضي الله عنهم، وهذا الاختلاف على نوعين:
النوع الأول: اختلاف تنوّع، وهو ما يمكن جمع الأقوال الصحيحة فيه من غير تعارض؛ فهذه الأقوال بمجموعها حجّة على ما يعارضها.
والنوع الثاني: اختلاف تضادّ لا بدّ فيه من الترجيح؛ فهذا مما يجتهد العلماء المفسّرون فيه لاستخراج القول الراجح بدليله.
وهذا النوع لا بدّ أن يكون أحد القولين فيه مأخذه الاجتهاد؛ لأنه لا يقع تعارض بين نصين، وإذا تعارض النص والاجتهاد قُدّم النص.
أقسام المرويات عن الصحابة في التفسير
تنقسم المرويّات عن الصحابة في التفسير من حيث الصحّة والضعف إلى أربعة أقسام:
القسم الأول: صحيح
الإسناد صحيح المتن؛ فهذا النوع يُحكم بثبوته عن الصحابي رضي الله عنه، ثمّ
يكون حكمه على ما سبق بيانه من مراتب حجيّة أقوال الصحابة.
القسم الثاني: ضعيف الإسناد غير منكر المتن، وهذا النوع كثير في كتب التفسير المسندة، وهو على ثلاث مراتب يأتي تفصيلها.
القسم الثالث: ضعيف الإسناد منكر المتن؛ فهذا النوع يُحكم بضعفه، ويُردّ ولا تصحّ نسبته إلى الصحابة رضي الله عنهم.
القسم الرابع: صحيح
الإسناد في ظاهر الأمر لكنّه منكر المتن؛ ومرويات هذا النوع قليلة جداً في
كتب التفسير، ونكارة المتن تدلّ على علّة خفية في الإسناد تعرف بجمع الطرق
وتفحّص أحوال الرواة وأخبارهم فمن الرواة من يكون ثقة له أوهام وأخطاء،
وقد ينصّ بعض الأئمة النقاد على أخطاء بعض الثقات من الرواة؛ فإذا عُرفت
العلّة وتبيّن الخطأ عُرف أن ذلك القول المنكر لا تصحّ نسبته إلى الصحابة.
غير أنه ينبغي التنبّه إلى أن الحكم بنكارة
المتن قضيّة اجتهادية؛ فقد يتوّهم المفسّر نكارةَ المتن لما سبق إلى فهمه،
ويكون للقول تأويل صحيح سائغ غير متكلَّف ولا منكر.
مراتب الضعف فيما روي عن الصحابة في التفسير
ما يحكم عليه بالضعف مما يُروى عن الصحابة في التفسير على نوعين:
النوع الأول: ما يكون ضعفه بسبب نكارة متنه، وقد تقدّم الحديث عنه.
والنوع الآخر: ما يكون ضعفه بسبب ضعف إسناده، وهو على ثلاث مراتب:
المرتبة الأولى: الضعف
اليسير، كأن يكون من مراسيل الثقات، أو فيه انقطاع يسير، أو راوٍ ضعيف
الضبط يُكتب حديثه، ونحو هذه العلل التي يكون الإسناد فيها معتبراً قابلاً
للتقوية بتعدد الطرق، والمتن غير منكر؛ فمرويات هذه المرتبة قد جرى عمل
أئمة المحدّثين والمفسّرين على روايتها والتفسير بها إلا أن تتضمّن حكماً
شرعياً؛ فمنهم من يشدّد في ذلك إلا أن تحتفّ به قرائن تقوّيه كجريان العمل
به.
والمرتبة الثانية:
الضعف الشديد، وهو ما يكون فيه الإسناد واهياً غير معتبر؛ لكون أحد رواته
متروك الحديث لكثرة خطئه أو اضطراب حديثه أو شَابَته شائبة التهمة بالكذب
من غير أن يظهر في المتن نكارة؛ فهذا النوع من أهل الحديث من يشدّد في
روايته، ومن المفسّرين الكبار من ينتقي من مرويات هذه الطرق ويَدَع منها.
وهذه المرتبة ليست حجّة في التفسير ولا تصحّ
نسبة ما روي بأسانيدها إلى الصحابة ، وقد تساهل بعض المفسّرين في ذلك
وحذفوا الأسانيد اختصاراً، وكان هذا من أسباب شيوع كثير من الأقوال
المعلولة إلى الصحابة رضي الله عنهم.
ومرويات هذا النوع كثيرة في كتب التفسير المسندة.
والمرتبة الثالثة: الموضوعات على الصحابة في التفسير؛ فهذه لا تحلّ روايتها إلا على التبيين أو لفائدة عارضة يُستفاد منها في علل المرويات.
وقد اشتهر برواية الموضوعات رواة ضعفاء متهمون
بالكذب لهم نسخ في التفسير في زمانهم من أمثال محمد بن السائب
الكلبي(ت:146هـ) ومقاتل بن سليمان البلخي(ت:150ه) وأبو الجارود زياد بن
المنذر الهمداني(ت: بعد 150هـ) وموسى بن عبد الرحمن الصنعاني(ت:190هـ)
وأضرابهم.
فهؤلا كانت لهم تفاسير معروفة في زمانهم وقد
تجنّب الرواية عنها أئمة المفسّرين الكبار من أمثال عبد الرزاق وابن جرير
وابن المنذر وابن أبي حاتم، ومنهم من ينتقي منها شيئاً يسيراً كما انتقى
ابن جرير مرويات قليلة جداً من تفسير أبي الجارود وتفسير الكلبي وتحاشى
الرواية عن مقاتل بن سليمان وموسى الصنعاني.
لكن هؤلاء الضعفاء قد تساهل بعض المفسّرين
المتأخرين في الرواية عنهم كابن شاهين والثعلبي والواحدي وقد شانوا
تفاسيرَهم بالرواية عنهم.
ثم اختصر بعض المفسرين ما في هذه التفاسير
وحذفوا الأسانيد اختصاراً كما فعل الماوردي وابن الجوزي في تفاسيرهم فشاع
بسبب ذلك عن الصحابة أقوال لا تصحّ نسبتها إليهم.
قول الصحابي في نزول الآية
مما يتّصل بمبحث تفاسير الصحابة أقوالهم في نزول الآيات، وهو على نوعين:
النوع الأول: ما
كان صريحاً في نقل سبب النزول فهذا له حكم الرفع؛ لأنه نقل حادثة وقعت في
زمان النبي صلى الله عليه وسلم، والصحابة عدول فيما ينقلون.
قال أبو عبد الله الحاكم: (الصحابي الذي شهد الوحي والتنزيل فأخبر عن آية من القرآن أنها نزلت في كذا وكذا فإنه حديثٌ مُسند).
ومراده بالمُسند هنا: المرفوع.
وقال ابن الصلاح: (ما قيل من أنّ تفسير
الصّحابيّ حديثٌ مسندٌ، فإنّما ذلك في تفسيرٍ يتعلّق بسبب نزول آيةٍ يخبر
به الصّحابيّ أو نحو ذلك، كقول جابرٍ رضي اللّه عنه: (كانت اليهود تقول: من
أتى امرأته من دبرها في قبلها جاء الولد أحول؛ فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {نساؤكم حرثٌ لكم..} الآية).
فأمّا سائر تفاسير الصّحابة الّتي لا تشتمل
على إضافة شيءٍ إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فمعدودةٌ في
الموقوفات. واللّه أعلم).
والنوع الثاني: ما كان لبيان معنى تدلّ عليه الآية؛ فهذا حكمه حكم اجتهاد الصحابة في التفسير،
ومن أمثلته: ما رواه ابن جرير عن سلمة بن كهيل، عن أبي الطفيل، قال: سأل عبد الله بن الكوَّاء عليًّا عن قوله: {قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا} قال: أنتم يا أهل حروراء).
فهذا فيه أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه يرى أن معنى الآية يتناولهم وإن كان لا يحكم بكفرهم لكنّهم شابهوا الكفار في هذا المعنى.
وقد روى ابن أبي حاتم والطبراني عن زكريا بن يحيى القصاب قال: سألت أبا غالب عن قول الله عز وجل: {ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين}؛ فقال: حدثني أبو أمامة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " نزلت في الخوارج، حين رأوا تجاوز الله عن المسلمين، وعن الأمة والجماعة قالوا: يا ليتنا كنا مسلمين).
أبو غالب البصري ضعيف الحديث، ولا يصحّ رفعه
إلى النبي صلى الله عليه وسلم، لكن روي عن أبي أمامة من أكثر من وجه أنه
أنزل بعض الآيات على الخوارج؛ كقوله تعالى: {فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتّبعون ما تشابه منه}، وقوله تعالى: {إن الذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعاً ... }
فهذا كلّه من قبيل التفسير لا من صريح سبب النزول.
وعليه فإنّ قول الصحابي: (هذه الآية نزلت في كذا) قد يراد به صريح سبب النزول، وقد يراد به التفسير أي أن معنى الآية يتناوله.
والله تعالى أعلم.