7 May 2016
تفسير القرآن بلغة العرب
النوع الخامس: التفسير البياني
التفسير البياني هو التفسير الذي يُعنى بالكشف عن حسن بيان القرآن، ولطائف
عباراته، وحِكَم اختيار بعض الألفاظ على بعض، ودواعي الذكر والحذف، ولطائف
التشبيه والتمثيل، والتقديم والتأخير، والإظهار والإضمار، والتعريف
والتنكير، والفصل والوصل، واللف والنشر، وتنوّع معاني الأمر والنهي، والحصر
والقصر، والتوكيد والاستفهام إلى غير ذلك من أبواب البيان الكثيرة.
وكلام العلماء في هذا النوع كثير مستفيض، وقد
عُني المفسّرون ببيان بعض ما حضرهم من ذلك، والإحاطة بهذا النوع غير
ممكنة، لأنّ منه أبواباً يتفاضل العلماء في إدراكها، والتفطّن لها لدقّة
مأخذها؛ فإذا أُثير السؤال عنها تبيّن للعلماء عند التأمّل ما يقفون به
على بعض بدائع القرآن.
وقد قال ابن عطية رحمه الله في مقدّمة تفسيره: (كتاب الله لو نُزِعَت منه لفظة، ثم أُديرَ لسانُ العرب في أن يوجد أحسن منها لم يوجد)ا.ه.
وتقرير هذا الكلام من وجهين:
أحدهما: قدرة الله
تعالى المطلقة على كلّ شيء، ومن ذلك بلوغ الغاية في حسن البيان بما لا
تطيقه قدرة المخلوقين ولو اجتمعوا وكان بعضهم لبعض ظهيراً؛ فالله تعالى
أقدر منهم على حسن البيان، بل لا تبلغ نسبة قدرتهم ولو اجتمعوا نسبة سراج
ضعيف إلى قوّة نور الشمس وإشراقها.
والوجه الآخر: سَعَة
علم الله تعالى وإحاطته بجميع الألفاظ وأنواع دلالاتها وأوجه
استعمالاتها، وأنّه لا يغيب عن علمه شيء من ذلك، ولا يحتاج إلى ما يحتاج
إليه المخلوق من التذكّر والموازنة والتحقق.
ولو قُدِّرَ وجود لفظة أحسن لكان إدراك علم الله تعالى لها سابق على إدراك المخلوقين، وقدرته عليها أمكن من قدرتهم ولو اجتمعوا.
وفي هذا ما يُقطع به على انتفاء إمكان الإتيان
بمثل هذا القرآن، وأن الله تعالى لم يذكر فيه ما ذكر إلا عن علم، ولم
يترك ما ترك إلا عن علم، كما قال الله تعالى: {ولقد جئناهم بكتاب فصّلناه على علم}.
ومن هذا الباب ما يكون من لطائف اختيار بعض الألفاظ على بعض كما في قوله تعالى: {والفتنة أشدّ من القتل} ، وقوله: {والفتنة أكبر من القتل}،
وكثيراً ما تعرف لطائف الفروق بالنظر إلى السياق؛ فالسياق في الآية
الأولى في حث المؤمنين على القتال وترغيبهم فيه وتحذيرهم من تركه، حيث قال
تعالى:{ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ
الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ
وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ
الْقَتْلِ}.
فكان من أوجه حثّهم على القتال أن بيّن لهم أن
الفتنة في الدين أشدّ من القتل وأعظم ضرراً من القتل، وما يحصل لمن فُتن
في دينه من العذاب عند الله لا يوازي ما يحصل له من ألم القتل وهو ثابت
على دينه.
قال ابن جرير: (فتأويل
الكلام: وابتلاء المؤمن في دينه حتى يرجع عنه فيصير مشركاً بالله من بعد
إسلامه أشد عليه وأضرّ من أن يقتل مقيماً على دينه متمسكاً بملته محقاً
فيه)ا.هـ.
فالمراد بالفتنة في هذه الآية الافتتان في
الدين، والخطاب فيها للمؤمنين فلما كانت الموازنة بين ألم القتل وعاقبة
الفتنة ناسب أن يكون التفضيل بأشد، حتى يقدم المؤمن على القتال موقناً بأن
ما يصيبه من أذى هو أخف من عاقبة ترك القتال والافتتان في الدين، كما قال
تعالى: {كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم..} الآية.
ويوضّحه أيضاً معنى قوله تعالى: {وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حراً لو كانوا يفقهون} وكذلك نظائرها في القرآن الكريم.
وأما الآية الأخرى فسياقها في تعداد الآثام الكبار التي وقع فيها المشركون؛ حيث قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ
عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ
وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ
أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ}.
فلمّا ذكر الصدَّ عن سبيل الله والكفر به وإخراج المؤمنين من مكة؛ ناسب أن يكون التفضيل بـ(أكبر) أي أكبر إثماً.
قال ابن عاشور: (والتفضيل في قوله: {أكبر} تفضيل في الإثم )
هذا من جهة.
ومن جهة أخرى فالخطاب في هذه الآية للمشركين
فلم يناسب أن يقال لهم إن الفتنة أشد على المسلمين من هذه الآثام فيحصل لهم
بذلك نوع شماتة بالمسلمين، بل المراد أن الفتنة التي أنتم مقيمون عليها
وهي الشرك، أكبر إثماً من قتلكم من قتلتم من المؤمنين.
أصول
التفسير البياني
ومسائل التفسير البياني ترجع إلى خمسة أصول:
الأصل الأول: مقدّمات التفسير البياني، من
نشأته، وتدرّج التأليف فيه، وأشهر العلماء المعتنين به، وإجمال مناهجهم، وضوابط
ومحاذير البحث في مسائل التفسير البياني، وما إلى ذلك.
والأصل الثاني: دلالات المفردات القرآنية،
وذلك أنّ كلّ مفردة في القرآن لها أنواع من الدلالات؛ فتدلّ بوضعها اللغوي،
وبصيغتها الصرفية، واشتقاقها إن كانت مشتقة، وإعرابها إن كانت معربة.
والأصل الثالث: دلالات تراكيب الجمل، فمن
المعلوم أنّ لكلّ جملة متركبة من مفردات؛ ولهذه التراكيب أنواع وتفصيلات تقتضي
أنواعاً من الدلالات البيانية.
والأصل الرابع: دلالات الأساليب البيانية،
ومن ذلك: أسلوب الاستفهام، وأسلوب الشرط، وأسلوب الأمر، وأسلوب النهي، وأسلوب
التوكيد، وأسلوب الاستثناء، وأسلوب التعجب، وأسلوب الحصر، وغيرها.
والأصل الخامس: مسالك التفريق البياني، وفيه
تبحث أنواع الفروق بين المفردات، والأساليب، وطرق العلماء في استخراج تلك الفروق.
وقد كتبت في شرح هذه الأصول كتاب "أصول
التفسير البياني" نفع الله به.
عناية العلماء بالتفسير البياني
والتفسير البياني له صلة بالكشف عن المعاني
المرادة، ورفع الإشكال، ويُستعمل في الترجيح بين الأقوال التفسيرية،
واختيار بعضها على بعض، وله صلة وثيقة بعلم مقاصد القرآن.
غير أن كلام العلماء في هذا الباب منه ما هو
ظاهر الدلالة بيّن الحجّة، ومنه ما يدقّ مأخذه ويلطف منزعه، ومنه ما هو
محلّ نظر وتأمل لا يُجزم بثبوته ولا نفيه، ومنه ما هو خطأ بيّن لمخالفته
لنصّ أو إجماع أو قيامه على خطأ ظاهر.
وكلام العلماء في هذا النوع كثير مستفيض، وممن عُني بالتفسير البياني من المفسرين: الزمخشريّ، والرازي، وأبو السعود، والآلوسي، وابن عاشور، غير أنه ينبغي أن يُحذر من بعض ما يُذكر في التفسير البياني مما يخالف صحيح الاعتقاد، كتأويل بعض الصفات، والأمور الغيبية، وما يكون لدى بعضهم من تكلّف وتمحّل في بعض المواضع.
ولشيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيّم كلامٌ حسنٌ كثيرٌ في هذا النوع متفرّق في كتبهم.
ولشرف الدين الطيبي حاشية نفيسة على الكشاف للزمخشري عني فيها بالتفسير البياني.
ولجلال الدين السيوطي كتاب في التفسير البياني سماه "قطف الأزهار في كشف الأسرار" بلغ فيه إلى سورة التوبة ولم يتمّه.
وممن أفرد التصنيف في هذا النوع: ابن قتيبة، وابن المنادَى، والخطيب الإسكافي، وعبد القاهر الجرجاني، وابن أبي الإصبع المصري، ومحمد بن أبي بكر الرازي، وابن الزبير الغرناطي، وابن تيمية، وابن جماعة، وابن ريان، وزكريا الأنصاري، وغيرهم.
فلهؤلاء كتب في متشابه القرآن، ومشكل القرآن، وبديع القرآن، وكثيراً ما يعرضون في كتبهم لمثل هذا النوع من التفسير اللغوي.
وللعلماء المتقدّمين كلام مقتضب يندرج في هذا النوع، ثم توسّع العلماء فيه بعد تأسيس علم البلاغة والبيان، وإفراد التصنيف فيه، وتدريس أبوابه وقواعده وأمثلته، واشتهار مصطلحاته.
قال عبد القاهر الجرجاني: (قوله تعالى: {إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب} أي لمن أعملَ قلبَه فيما خُلق القلب له من التدبر والتفكر والنظر فيما ينبغي أن ينظر فيه.
فهذا على أن يجعل الذي لا يعي ولا يسمع ولا ينظر ولا يتفكر كأنه قد عُدِم
القلب من حيث عدم الانتفاع به، وفاته الذي هو فائدة القلب والمطلوب منه
كما يجعل الذي لا ينتفع ببصره وسمعه ولا يفكر فيما يؤديان إليه، ولا يحصل
من رؤية ما يرى وسماع ما يسمع على فائدة بمنزلة من لا سمع له ولا
بصر)ا.هـ.
وحجة ما ذهب إليه ظاهرة من أن العرب تُسمّي من
لا ينتفع بالآلة باسم فاقدها؛ فيقال لمن لا يبصر الحق مع وضوحه: أعمى،
ومن لا يسمعه: أصمّ، وقد قال الله تعالى في الكفار: {صمّ بكم عمي فهم لا يعقلون}.
وقال ابن القيّم رحمه الله في كتاب الفوائد: (وقوله {لمن كان له قلب} .. المراد به القلب الحي الذي يعقل عن الله كما قال تعالى: {إن هو إلا ذكر وقرآن مبين لينذر من كان حيا} أي حيّ القلب..).
وقال في مدراج السالكين: (وقال تعالى في آياته المشهودة {وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا فنقبوا في البلاد هل من محيص إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد}.
والناس ثلاثة: رجل قلبه ميت، فذلك الذي لا قلب له، فهذا ليست هذه الآية ذكرى في حقه.
الثاني: رجل له قلب
حي مستعد، لكنه غير مستمع للآيات المتلوة التي يخبر بها الله عن الآيات
المشهودة إما لعدم ورودها، أو لوصولها إليه ولكن قلبه مشغول عنها بغيرها،
فهو غائب القلب، ليس حاضرا، فهذا أيضا لا تحصل له الذكرى مع استعداده ووجود
قلبه.
الثالث: رجل حي
القلب مستعد، تليت عليه الآيات، فأصغى بسمعه، وألقى السمع وأحضر قلبه، ولم
يشغله بغير فهم ما يسمعه، فهو شاهد القلب، ملق السمع، فهذا القسم هو الذي
ينتفع بالآيات المتلوة والمشهودة.
فالأول: بمنزلة الأعمى الذي لا يبصر.
والثاني: بمنزلة البصير الطامح ببصره إلى غير جهة المنظور إليه، فكلاهما لا يراه.
والثالث: بمنزلة البصير الذي قد حدق إلى جهة المنظور، وأتبعه بصره، وقابله على توسط من البعد والقرب، فهذا هو الذي يراه.
فسبحان من جعل كلامه شفاء لما في الصدور.
فإن قيل: فما موقع " أو " من هذا النظم على ما قررت؟
قيل: فيها سر لطيف، ولسنا نقول: إنها بمعنى الواو، كما يقوله ظاهرية النحاة.
فاعلم أن الرجل قد يكون له قلب وقاد، مليء
باستخراج العبر، واستنباط الحكم، فهذا قلبه يوقعه على التذكر والاعتبار،
فإذا سمع الآيات كانت له نورا على نور، وهؤلاء أكمل خلق الله، وأعظمهم
إيمانا وبصيرة، حتى كأن الذي أخبرهم به الرسول مشاهد لهم، لكن لم يشعروا
بتفاصيله وأنواعه، حتى قيل: إن مثل حال الصديق مع النبي صلى الله عليه
وسلم، كمثل رجلين دخلا دارا، فرأى أحدهما تفاصيل ما فيها وجزئياته، والآخر
وقعت يده على ما في الدار ولم ير تفاصيله ولا جزئياته، لكن علم أن فيها
أمورا عظيمة، لم يدرك بصره تفاصيلها، ثم خرجا، فسأله عما رأى في الدار؟
فجعل كلما أخبره بشيء صدقه، لما عنده من شواهده، وهذه أعلى درجات الصديقية،
ولا تستبعد أن يمن الله المنان على عبد بمثل هذا الإيمان، فإن فضل الله
لا يدخل تحت حصر ولا حسبان.
فصاحب هذا القلب إذا سمع الآيات وفي قلبه نور
من البصيرة ازداد بها نورا إلى نوره، فإن لم يكن للعبد مثل هذا القلب
فألقى السمع وشهد قلبه ولم يغب حصل له التذكر أيضا {فإن لم يصبها وابل فطل}
والوابل والطل في جميع الأعمال وآثارها وموجباتها. وأهل الجنة سابقون
مقربون، وأصحاب يمين، وبينهما في درجات التفضيل ما بينهما، حتى إن شراب أحد
النوعين الصرف يطيب به شراب النوع الآخر ويمزج به مزجا، قال الله تعالى {ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ويهدي إلى صراط العزيز الحميد} فكل مؤمن يرى هذا، ولكن رؤية أهل العلم له لون، ورؤية غيرهم له لون آخر)ا.هـ.
ثم انتقد عبد القاهر من اقتصر على تفسير القلب في هذه الآية بالعقل.
ثم قال: (ومن
عادة قوم ممن يتعاطى التفسير بغير علم، أن يتوهموا أبدا في الألفاظ
الموضوعة على المجاز والتمثيل، أنها على ظواهرها، فيفسدوا المعنى بذلك،
ويبطلوا الغرض، ويمنعوا أنفسهم والسامع منهم العلم بموضع البلاغة، ومكان
الشرف. وناهيك بهم إذا هم أخذوا في ذكر الوجوه، وجعلوا يكثرون في غير
طائل، هناك ترى ما شئت من باب جهل قد فتحوه، وزند ضلالة قد قدحوا به،
ونسأل الله تعالى العصمة والتوفيق)ا.هـ.
وها هنا أمر ينبغي التوقف
عنده والتنبيه عليه، وهو أن من المتأخّرين من يظهر له معنى يراه بديعاً في
بيان الآية فيتعصّب له ويشنّع على من لم يفسّر الآية به، وقد يكون ما رآه
مسبوقاً إليه بعبارة منبّهة موجزة؛ فإنّ السلف لم يكن من عادتهم التطويل
في التفسير، وإنما يستعملون التنبيه والإيجاز والإلماح إلى ما يُعرف به
المعنى؛ ويترك للسامع تأمّل ما وراء ذلك إذ فتح له الباب وأبان له السبيل.
وقد روى ابن جرير بسند صحيح عن قتادة في تفسير قول الله تعالى: {إنّ في ذلك لذكرى لمن كان له قلبٌ}: أي من هذه الأمّة، يعني بذلك القلب: القلب الحيّ).
وروى عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله: {لمن كان له قلبٌ} قال: (قلبٌ يعقل ما قد سمع من الأحاديث الّتي عذّب اللّه بها من عصاه من الأمم).
وهذا هو أصل هذا القول إلا أنّ عبد القاهر الجرجانيّ حبّره ببيانه، ثمّ زاده ابن القيّم رحمه الله شرحاً وتحبيراً.
وقد يكون في بعض اجتهادات المتأخّرين ما
يخطئون فيه مع تشنيعهم على السلف ورميهم بضعف التأمّل وقلّة الدراية
بأساليب البيان، ويكثر هذا من أهل البدع والأهواء، ويتوصّلون بذلك إلى ردّ
بعض ما تقرر من مسائل الاعتقاد لدى أهل السنة والجماعة.
ومن ذلك قول الزمخشري في تفسير قول الله تعالى: { الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ}.
قال: (فإن قلت:
ما فائدة قوله وَيُؤْمِنُونَ بِهِ ولا يخفى على أحد أنّ حملة العرش ومن
حوله من الملائكة الذين يسبحون بحمد ربهم مؤمنون؟
قلت: فائدته إظهار شرف الإيمان وفضله،
والترغيب فيه كما وصف الأنبياء في غير موضع من كتابه بالصلاح لذلك، وكما
عقب أعمال الخير بقوله تعالى ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا فأبان بذلك
فضل الإيمان.
وفائدة
أخرى: وهي التنبيه على أن الأمر لو كان كما تقول المجسّمة ، لكان حملة
العرش ومن حوله مشاهدين معاينين، ولما وصفوا بالإيمان، لأنه إنما يوصف
بالإيمان: الغائب، فلما وصفوا به على سبيل الثناء عليهم، علم أنّ إيمانهم
وإيمان من في الأرض وكل من غاب عن ذلك المقام سواء: في أنّ إيمان الجميع
بطريق النظر والاستدلال لا غير، إلا هذا، وأنه لا طريق إلى معرفته إلا
هذا).ا.هـ.
يريد بالمجسّمة أهلَ السنّة والجماعة.
وهذا القول خطأ بيّن، والذي حمله عليه اعتقاده نفي صفة العلوّ لله تعالى واستوائه على العرش حقيقة كما هو حال المعتزلة.
وهذا القول المنكر الذي شانَ الزمخشريُّ تفسيرَه به وبمثله مما يُلحق بما
يستخرج بالمناقيش من اعتزالياته كما ذكر السيوطي عن البلقيني أنه قال:
(استخرجت من الكشاف اعتزالاً بالمناقيش)ا.هــ.
ومنشأ الخطأ أنّ الزمخشريّ ظنَّ أن وصف الملائكة الذين يحملون العرش ومن
حوله بالإيمان إنما سببه أنهم لا يرون الله تعالى، ثمّ فرّع على هذا
الاستنتاج أنه ليس على العرش إله حقيقةً تعالى الله عما يقول.
وهذه الفائدة المتوهّمة أعجبت الرازيَّ صاحب التفسير الكبير، وهو من كبار
متكلّمي الأشاعرة، وطار بها فرحاً لأن من الأشاعرة من ينكر صفة استواء الله
على عرشه حقيقة، ويتأوّل معنى الاستواء الوارد في النصوص بالاستيلاء.
فنقل الرازي كلام الزمخشري وزاد فيه شرحاً وتوضيحاً وبالغ في الثناء عليه بما قال؛ فقال: ( فإنْ قيل فأي فائدة في قوله: {ويؤمنون به}؛ فإن الاشتغال بالتسبيح والتحميد لا يمكن إلا وقد سبق الإيمان بالله؟
قلنا: الفائدة فيه ما ذكره صاحب «الكشاف» ، وقد أحسن فيه جداً؛ فقال: إن
المقصود منه التنبيه على أن الله تعالى لو كان حاضرا بالعرش لكان حملة
العرش والحافون حول العرش يشاهدونه ويعاينونه، ولما كان إيمانهم بوجود الله
موجبا للمدح والثناء لأن الإقرار بوجود شيء حاضر مشاهد معاين لا يوجب
المدح والثناء، ألا ترى أن الإقرار بوجود الشمس وكونها مضيئة لا يوجب المدح
والثناء، فلما ذكر الله تعالى إيمانهم بالله على سبيل الثناء والمدح
والتعظيم، علم أنهم آمنوا به بدليل أنهم ما شاهدوه حاضرا جالسا هناك، ورحم
الله صاحب «الكشاف» فلو لم يحصل في كتابه إلا هذه النكتة لكفاه فخرا
وشرفا)ا.هـ.
وتناقل عدد من مفسري المعتزلة والأشاعرة القول في هذه المسألة التي أثارها
الزمخشري وزادها الرازيّ إثارة؛ فكان لأهل السنة ردود على ما أثاروه؛ من
أحسنها وأجمعها ردّ ابن القيّم رحمه الله تعالى عليه في الصواعق المرسلة في
معرض ردّه في الوجه التاسع والثلاثين بعد المئتين على شُبَه الذين ينصبون
التعارض بين العقل والنقل؛ فقال في بيان حال طائفتين حاولتا منع دلالة
القرآن على صحّة ما جاءت به أحاديث الصفات: (الطائفة الثانية: من يعتقد
أنَّ لكلامه باطناً يخالف ظاهره وتأويلا يخالف حقيقته فالطريقة الأولى
للمتفلسفة ومن يتتلمذ لهم، والطريقة الثانية للجهمية ومن اقتفى آثارهم،
وكثير من المتأخرين يجمع بين الطريقتين؛ فيتفلسف تارة، ويتجهّم تارة،
ويجمع بين الإدامين تارة؛ فهذه درجات المنع.
وأما درجات المعارضة فثلاثة أيضا:
إحداها: أن يعارض المنقول بمثله ويسقط دلالتهما أو يرجح دلالة المعارض كما
عارض الجهمي قوله {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} بقوله {قُلْ
هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وزعم أنه لو كان على العرش لم يكن أحداً وعارضه
بقوله {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} وزعم أنه لو كان على عرشه لم
يكن معنا وعارضه بقوله {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ
يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ} وهذه معارضة
الزمخشري في كشافه قال: وفيها التنبيه على أن الأمر لو كان كما يقوله
المجسمة كان حملة العرش ومن حوله مشاهدين معاينين ولما وصفوا بالإيمان لأنه
إنما يوصف بالإيمان الغائب ولما وصفوا به على سبيل الثناء عليهم علم أن
إيمانهم وإيمان من في الأرض وكل من غاب عن ذلك المقام سواء في إيمان
الجميع بطريق النظر والاستدلال لا غير وأنه لا طريق إلى معرفته إلا هذا
وأنه منزه عن صفات الأجرام.
فلو كان المجسم - بزعمك - جسما حقيقة لما رضي لنفسه ولمن يخاطبه بمثل هذا
الكلام الذي هو من أقبح الكلام وأبطله ولشحّ على زمانه وأوراقه أن يضيعه
بمثله، ولمنعه وقار القرآن وعظمته في صدره أن يفسره بمثل هذا الكلام الذي
هو كما قيل: مثل حجارة الكنيف ترجع وتنجس؛ فقد صرح قائله بأنّ إيمان محمد
بن عبد الله وإبراهيم الخليل وموسى الكليم وجميع الأنبياء والمرسلين إنما
هو عن نظر واستدلال وهم بسعادتهم قد سدوا جميع طرق الإيمان والمعرفة إلا
طريق الجواهر والأعراض والاجتماع والافتراق وإبطال حوادث لا أول لها
وزعموا أن من لم يعرف ربه من تلك الطريق مات ولم يعرف له رباً، ولم يقرّ
بأن له إلها وخالقا، وزادوا في الافتراء والكذب والبهت؛ فزعموا أن إيمان
جبريل وميكائيل والملائكة المقربين وجميع المرسلين مبني على هذه الطريقة،
وأن إيمانهم كلهم سواء، وأنهم لا طريق لهم إلى معرفته إلا هذا النظر
والاستدلال الذي وضعه لهم شيوخ الجهمية ومبتدعة المتكلمين وضلال أهل
الاعتزال؛ فهاهنا يسجد المجسّم - بزعمكم- شكرا لله إذ عافاه الله من مثل
هذا البلاء العظيم، وهذا القول أقلّ وأحقر من أن يتكلف للوجوه التي تدل
على بطلانه بأكثر من حكايته)ا.هـ.
وخلاصة الردّ على شبهة الزمخشري:
1. أن رؤية حملة العرش لربّهم أو عدم رؤية أمر غيبي لا نثبته ولا ننفيه إلا
بدليل شرعي، والعرش عظيم جداً؛ بل قد ورد أنه أعظم المخلوقات، وليس بلازم
في العقل أن من يطوف حوله يرى من عليه؛ فانتفت الشبهة من أصلها.
2. أنهم لو صحّ الدليل بأنّهم رأوه فهذا لا ينفي وصفهم بالإيمان؛ والله
تعالى قد وصفهم بأنّهم يؤمنون به؛ فلا حجّة لأحد يعارض وصف الله لهم
بالإيمان.
3. أنّ الملائكة يسمعون تكلّم الله تعالى بالوحي كما صحّت الأحاديث بذلك؛
فسماعهم كلام الله تعالى لم ينفِ وصف الإيمان عنهم، وما يقال في السمع يقال
نظيره في الرؤية إذ لا فرق مع تحققهم من أنّ الكلام كلام الله تعالى.
4. أن الإيمان لا يُقصر على الإقرار بالوجود؛ فهذا القدْر يقرّ به أكثر أهل
الأرض؛ ولم ينكر وجود الله تعالى إلا فئة قليلة جداً من الملاحدة؛
فالإيمان الذي أثنى الله تعالى عليهم به هو ما فسّرته النصوص الأخرى من
دأبهم في طاعته وذكره وأنهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون لا
على مجرّد أنهم يقرّون بوجوده.
والمقصود التنبيه على وجوب الاحتراز مما يتكلّم به أهل البدع في تقرير بدعهم بسلوك مسلك التفسير البياني.
ومما ينبغي أن يحترز منه مَن يسلك
مسلك التفسير البياني أيضاً: الجزم بما لا دليل عليه سوى ذوقه وتأمّله
واجتهاده؛ فكثيراً ما يغيب عن بعض المتأملين معارضة بعض الأوجه التي
استخرجوها لنصّ صحيح أو إجماع، وكل تفسير عارض نَصّاً أو إجماعاً فهو
تفسير باطل.
والحديث عن التفسير البياني يطول، والمقصود التعريف به، فنكتفي بهذا القدر.