7 May 2016
تفسير القرآن بلغة العرب
النوع السادس: الوقف والابتداء
من أنواع عناية علماء
اللغة بالقرآن الكريم عنايتهم بعلم الوقف والابتداء في القرآن، ويسمّى علم
الوقوف، وعلم التمام، والقطع والائتناف، والمقاطع والمبادي.
ولهذا العلم صلة وثيقة بالتفسير لتعلّقه ببيان المعنى؛ حتى كان يوصف من يُتقنه بأنّه يفسّر القرآن بتلاوته.
وقد روى الليث بن سعد
عن عبد الله ابن أبي مُليكَة عَن يعلى بن مملك أنه قال: (سألتُ أمَّ سلمة
عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل وقراءته قالت: (( ما لكم ولصلاته ولقراءته؟
قد كان يصلي قدر ما ينام، وينام قدر ما يصلي))
وإذا هي تَنْعَتُ قراءته، فإذا قراءة مفسّرة حرفا حرفا). أخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن وأحمد والترمذي والنسائي.
وروى ابنُ جريج، عن عبد
الله بن أبي مليكة، عن أم سلمة، أنها سُئلت عن قراءة رسول الله صلى الله
عليه وسلَّم، فقالت: ( كان يقطع قراءته آية آية: {بسم الله الرحمن الرحيم} . {الحمد لله رب العالمين} . {الرحمن الرحيم} .{مالك يوم الدين}). أخرجه الإمام أحمد وأبو داوود والترمذي.
ولفظ الترمذي: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع قراءته يقرأ: {الحمد لله رب العالمين}، ثم يقف، {الرحمن الرحيم}، ثم يقف).
وإبهام السائل في هذه
الرواية لا يضرّ؛ لأنّه قد سُمّي في الرواية الأخرى، ومن حذف ذكر السائل
فقد اختصر الإسناد فلا تعلّ به الرواية الموصولة المعيّنة للمبهم، وهذه
الروايات يفسّر بعضها بعضاً.
وكان للقرّاء اللغويين عناية بالغة بعلم الوقف والابتداء؛ يتعلّمونه مع القراءة، ويعرفون أحكامه وأحواله وعلله وأسبابه.
قال ابن مجاهد فيما ذكره عنه أبو جعفر النحاس: (لا يقوم بالتمام في الوقف إلا نحوي عالم بالقراءات عالم بالتفسير والقصص وتخليص بعضها من بعض، عالم باللغة التي نزل بها القرآن)ا.هـ.
وذلك لاستلزامه المعرفة
بمعاني الأساليب، وأوجه التفسير والإعراب، والمقطوع والموصول، ومواضع
الوقف والسكت ، مع المعرفة الحسنة بأوجه القراءات ورسم المصاحف.
وقال ابن الأنباري: (ومن تمام معرفة إعراب القرآن ومعانيه وغريبه معرفة الوقف والابتداء فيه).
وقال أبو جعفر النحاس:
(فقد صار في معرفة الوقف والائتناف التفريق بين المعاني، فينبغي لمن قرأ
القرآن أن يتفهَّم ما يقرأه، ويشغل قلبه به، ويتفقد القطع والائتناف، ويحرص
على أن يُفهِمَ المستمعين في الصلاة وغيرها، وأن يكون وَقْفُه عند كلام
مستقرٍّ أو شبيهٍ، وأن يكون ابتداؤه حسنًا، ولا يقف على مثل {إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى} لأن الواقف ها هنا قد أشرك بين المستمعين وبين الموتى، والموتى لا يسمعون ولا يستجيبون، وإنما أخبر عنهم أنهم يُبعثون)ا.هـ.
وقال علم الدين السخاوي رحمه الله:
(ففي معرفة الوقف والابتداء الذي دوَّنه العلماء تبيينُ معاني القرآن
العظيم، وتعريفُ مقاصده، وإظهارُ فوائدِه، وبه يتهيَّأ الغوصُ على دُرره
وفرائده)ا.ه
وقال أيضاً: (وقد
اختار العلماء وأئمة القراء تبيين معاني كلام الله عز وجل وتكميل معانيه،
وجعلوا الوقف منبّهاً على المعنى، ومفصّلا بعضه عن بعض، وبذلك تَلَذُّ
التلاوة، ويحصل الفهم والدراية، ويتّضح منهاج الهداية)ا.هـ.
والمقصود أن عناية
علماء اللغة بالوقف والابتداء كانت لأجل إفادة القارئ بما يُحسن به أداءَ
المعنى عند قراءته، ويُفهم المراد، ولأنّه إذا أخطأ في الوقف أو الوصل أو
الابتداء أوهمَ معنى غير صحيح.
وقد حذّر العلماء من الوقف القبيح، وهو الذي يوهم معنى لا يصحّ، كالوقف على قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ...}.
فمثله هذا الوقف لا يوقف عليه إلا لضرورة انقطاع النفس أو التعليم ثم يبتدئ بما قبله.
ونظير الوقف القبيح الابتداء القبيح، وهو الذي يوهم معنى فاسداً كما لو قرأ قارئ قول الله تعالى: { يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ..} فوقف على {الرسول} وابتدأ بما بعده؛ فإنّه يوهم بقراءته غير المعنى المراد.
وكذلك الوصل القبيح، وهو الذي يوهم معنى غير مراد كما لو وصل قارئ قول الله تعالى:{فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ} وقوله تعالى: {فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (76)}. والصواب أن يقف على {عنهم} ويقف على {قولهم}.
قال ابن الأنباري رحمه الله: (اعلم
أنه لا يتم الوقف على المضاف دون ما أُضيف إليه، ولا على المنعوت دون
النعت، ولا على الرافع دون المرفوع، ولا على المرفوع دون الرافع، ولا على
الناصب دون المنصوب ولا على المنصوب دون الناصب، ولا على المؤكد دون
التوكيد...) إلى آخر ما قال، وهو فصل طويل في كليّات الوقف والابتداء، وقواعده العامة.
وكثير من مسائل الوقف
والوصل والابتداء متّفق عليها عند العلماء، ومنها مسائل يختلفون فيها
لاختلافهم في فهم المعنى، واختلاف ترجيحاتهم بين أوجه التفسير، فإنّ تعلّق
علم الوقف والابتداء بالتفسير تعلّق ظاهر، وكلام العلماء فيه إنما هو بحسب
ما بلغهم من العلم بالقراءة والتفسير وما أدّاه اجتهادهم فيه.
ومن أمثلة اختلافهم في الوقف بناءً على التفسير اختلافهم في الوقف في قوله تعالى: {فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً}.
فإذا وصل القارئ أفاد توقيت التحريم عليهم بأربعين سنة، وهذا قول الربيع بن أنس البكري، وهو ظاهر النسق القرآني.
وإذا وقف على {عليهم} وابتدأ بقوله: {أربعين سنة يتيهون في الأرض} أفاد تعلّق التوقيت بالتّيه لا بالتحريم، فيكون التحريم مؤبّداً عليهم، والتيه مؤقتاً بأربعين سنة.
قال قتادة: {فإنّهما محرمة عليهم} قال: أبداً، {أربعين سنة يتيهون في الأرض} قال: يتيهون في الأرض أربعين سنة). رواه ابن جرير، وروى ابن منيع وابن عديّ وابن عساكر نحوه عن عكرمة من طريق الزبير بن الخرّيت البصري وهو ثقة من رجال الصحيحين.
قال ابن الأنباري: (وقوله: {أربعين سنة} يُنصب من وجهين:
- إن شئت نصبتها بـ{محرمة عليهم} فلا يتم الوقف على {عليهم}.
- وإن شئت نصبتها بـ{يتيهون في الأرض}؛ فعلى هذا المذهب يتمّ الوقف على {عليهم} )ا.هـ.
والراجح أن التحريم
عامّ على المعنيّين في الآية، وهم الذين امتنعوا من دخول الأرض المقدّسة
خوفاً من الجبّارين وعصياناً لأمر الله، وجملة {يتيهون في الأرض}
في محلّ نصب حال، أي: تائهين في الأرض، والإتيان بالفعل المضارع الدالّ
على التجدد في موضع الحال لإفادة تجدّد التيه عليهم في تلك المدة؛ يتيهون
تيها بعد تيه إلى الأمد الذي جعله الله لهم.
وجائز أن يكون جميع من
عُنوا بالتحريم ماتوا في زمن التيه كما ذكره غير واحد من المفسّرين إلا أنّ
هذا ليس بلازم في ظاهر النسق القرآني.
ومن الأمثلة على ذلك أيضاً الوقف في قوله تعالى: {قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92)} فمن وقف على {اليوم} كان الابتداء بما بعدها دعاء من يوسف عليه السلام لإخوته، وهو أرجح الوجهين في التفسير.
قال الأخفش: (وقال: {لا تثريب عليكم اليوم} (اليوم) وقفٌ ثم استأنف فقال: {يغفر اللّه لكم} فدعا لهم بالمغفرة مستأنفاً)ا.هـ.
ومن وقف على {عليكم اليوم} ثمّ ابتدأ {اليوم يغفر الله لكم..} كان المعنى خبرٌ من يوسف عليه السلام – وهو نبيّ يوحى إليه – بمغفرة الله تعالى لهم في ذلك اليوم.
والغرض من ذكر هذين المثالين بيان عناية علماء اللغة بعلم الوقف والابتداء، وبيان ترتّبه على التفسير، وأثره في إفادة المعنى.
مناهج العلماء في تقسيم الوقوف
وللعلماء مناهج
يتوخّونها في تقسيم الوقوف، وتعداد مراتبه، وقد اختلف اجتهادهم في تسمية
تلك المراتب، وتفصيل حدودها اختلافاً كثيراً، فخرجوا بتقسيمات متقاربة في
أصول أحكامها؛ ومختلفة في بعض تفصيلها.
فقسّم ابن الأنباري الوقوف إلى: تامّ، وكافٍ، وقبيح.
وقسمها أبو عمرو الداني إلى: تامّ مختار، وكافٍ جائز، وصالح مفهوم، وقبيح متروك، وربمّا سمّى الصالح بالحسَن.
وقسّمها ابن الطحّان وعلم الدين السخاوي إلى: تام، وكافٍ، وحسن، وقبيح.
وقسّمها السجاوندي إلى: لازم، ومطلق، وجائز، ومجوَّز لوجه، ومرخّص ضرورة، وقبيح.
وقسّمها ابن الفرُّخان
في آخر كتابه "المستوفى في النحو" إلى اضطراري واختياري، ثم قسّم الاختياري
إلى تام وناقص وأنقص؛ ثم جعل كلّ قسم على مراتب.
وقسمها الأشموني إلى: تام، وأتم، وكاف، وأكفى، وحسن، وأحسن، وصالح، وأصلح، وقبيح، وأقبح.
قال ابن الجزري: (أكثر ما ذكر الناس في أقسامه غير منضبط ولا منحصر، وأقرب ما قلته في ضبطه أن الوقف ينقسم إلى اختياري واضطراري....)
ثم ذكر أقسام الاختياري وهي: التام، والكافي، والحسن، وبيّن حدودها.
ثم قال: (وإن
لم يتم الكلام كان الوقف عليه اضطرارياً وهو المصطلح عليه بالقبيح، لا
يجوز تعمّد الوقف عليه إلا لضرورة من انقطاع نفس ونحوه لعدم الفائدة أو
لفساد المعنى)ا.ه.
ومما ينبغي التنبّه له
أنّ كلام العلماء في مسائل الوقوف يدخله الاجتهاد كثيراً، ومن أكثر ما
وسّع الخلاف في الوقوف التوسّع في ما يحتمله الإعراب من غير نظر في
التفسير، فمن استرسل مع احتمالات الإعراب وغفل عن مراعاة الأوجه الصحيحة في
التفسير والأحكام وقع في أخطاء كثيرة.
وقد استرسل قوم من
المتصوّفة في التفسير الإشاري حتى خرجوا بوقوف قبيحة فيها إشارات تحيل
تركيب الآية وتوقع صاحبها في لحن جليّ، ومعنى فاسد، فليحذر من ذلك.
والغلوّ في الوقوف قد
يفضي بصاحبه إلا تمحّلات وتعسفات متكلّفة باردة، ولذلك أمثلة كثيرة ذكر
السخاوي وابن الجزري والسيوطي طائفة منها.
قال ابن الجزري في مقدمته:
وليس في القرآن من وقف وَجَبْ ... ولا حرام غيرُ ما له سبب
وهذه قاعدة جليلة من قواعد علم الوقف والابتداء.
ومما ينبغي أن يُعلم أن
المراد بالوجوب في الوقف هو الوجوب الأدائي، وليس التكليفي الذي يأثم
مخالفه، وهذا كما تقول: يجب رفع الفاعل؛ فهو وجوب من جهة الأداء.
وإنما يأثم من يتعمّد الوقف القبيح، والابتداء القبيح.
ومسائل الوقف والابتداء منها ما يعتني به المفسّرون في تفاسيرهم، ولا سيّما من كتب في معاني القرآن من علماء اللغة.
وقد أفرد بعض العلماء
هذا العلم بالتأليف، ومن أشهر الكتب المؤلفة فيه: كتاب الوقف والابتداء في
كتاب الله عز وجل لابن سعدان الضرير، وإيضاح الوقف والابتداء لابن
الأنباري، والقطع والائتناف لأبي جعفر النحاس، والمكتفى في الوقف والابتداء
لأبي عمرو الداني، ونظام الأداء لابن الطحان، وعلل الوقوف لابن طيفور
السجاوندي، والمرشِد للعماني، والهادي إلى معرفة المقاطع والمبادي لأبي
العلاء الهمذاني، وعلَم الاهتداء لعلَم الدين السخاوي، والمقصد لتلخيص ما
في المرشد لزكرياء الأنصاري، ومنار الهدى للأشموني المتقدّم، ومعالم
الاهتداء للحصري.
وقد ذُكر من الكتب
المفقودة في هذا العلم: كتاب المقطوع والموصول لعبد الله بن عامر القارئ،
وكتاب الوقف والابتداء لأبي عمرو بن العلاء، وكتاب مقطوع القرآن وموصوله
للكسائي، وكتاب المقاطع والمبادئ لأبي حاتم السجستاني، وكتاب الاهتداء إلى
معرفة الوقف والابتداء لابن الجزري.