7 May 2016
تفسير القرآن بلغة العرب
النوع السابع: التصريف
علم
الصرف من العلوم المهمّة للمفسّر، يكشف له كثيراً من المعاني والأوجه
التفسيرية، ويعرّفه علل بعض الأقوال الخاطئة في التفسير، ويعينه على معرفة
التخريج اللغوي لكثير من أقوال السلف في التفسير.
وهو علم يتعلّق ببنية
الكلمة، وتمييز حروفها الأصلية، وما يلحقها من زيادة وإعلال، وقلب وإبدال،
وحذفٍ وتغيير بالحركات والحروف لإفادة معانٍ تتعلّق بأصل الكلمة وتختلف
باختلاف صيغتها.
قال عبد القاهر الجرجاني: (اعلم أن التصريف "تفعيل " من الصرف، وهو أن تصرف الكلمة المفردة؛ فتتولد منها ألفاظ مختلفة، ومعان متفاوتة)ا.هـ.
وهذا كما تصرّف الفعل
"ضرب" إلى اضربْ للأمر، ويضربُ للمضارع، و"ضرْب" للمصدر، و"ضارب" لاسم
الفاعل، و"ضرَّاب" للمبالغة، و"ضرَّابة" لزيادة المبالغة، "وضاربين" للجمع
المذكر، و"ضاربات" للجمع المؤنث، "ومضروب" للمفعول، "وتضارَب" للتفاعل بين
اثنين بالضرب، "وضَرْبَة" لاسم المرَّة، و"ضِرْبة" لاسم الهيئة.
وكما تصرّف لفظ "رجل"
إلى "رجلين" للمثنَّى، و"رجال" للجمع، و"رجالات" لجمع الجمع، "ورُجَيل"
للتصغير، "وأرجلة" لجمع القلة، وغير ذلك من أوجه تصريف الكلمة وتقليبها على
تراكيب مفيدة لمعانٍ مختلفة.
ولضبط هذه التغييرات ابتكر الصرفيون: الميزان الصرفي، والقياس اللغوي.
- فأمّا الميزان الصرفي فهو
تمثيل الكلمات بحروف "الفاء والعين واللام" ( فعل) ؛ فتقول في "ضَرَبَ
يَضْرِبُ": ميزانها الصرفي: "فَعَلَ يفعِلُ" ، وتقول في "رَجُل ورِجَال":
"فَعُل وفِعَال".
وهذا الميزان يميزون به الحروف الأصلية من المزيدة، ويعرفون به ما يلحق الكلمة من تغيير في بنيتها.
- وأمّا القياس اللغوي فيراد به إجراء ما لم يُعْرف بالسماع مجرى ما عُرف به في نظائره واطّردت به قواعد التصريف.
وأبواب علم الصرف لا تخرج عن تصريف الأسماء وتصريف الأفعال.
- ويشترك القسمان في أبواب كثيرة؛ كالأبنية،
وأحرف الزيادة، والقلب والإبدال، والإلحاق والإعلال، والحذف والنقل، والهمز
والتخفيف، والإمالة والإدغام، وعوارض الوقف والابتداء، والتقاء الساكنين،
وغير ذلك.
- ويشتمل تصريف الأفعال على
أبنية الأفعال وأنواعها باعتبار الصحة والإعلال، وباعتبار الدلالة على
الزمن، وباعتبار التجريد والزيادة، ويشتمل أيضاً على أبواب الإسناد
والتوكيد، وأبواب معاني صيغ الأفعال وما يتركّب منها.
- ويشتمل تصريف الأسماء على
معاني أبنية الأسماء، والمقصور والممدود، والتذكير والتأنيث، والتثنية
والجمع، والتصغير والتكبير، والتقليل والتكثير، والنسب، والتعريب،
والمصادر، والمشتقات وهي: اسم الفاعل، واسم المفعول، والصفة المشبهة باسم
الفاعل، واسم التفضيل، واسم الزمان، والمكان، واسم الآلة، وغير ذلك.
وفي كتب الصرف اختلاف كثير في ترتيب أبوابه وعرض مسائله، والمقصود هنا التعريف بأهمّ أبواب هذا العلم.
وقد كانت عناية العلماء
بعلم الصرف مصاحبة لعنايتهم بعلم النحو؛ إذ كان اللحن يقع فيهما، والقياس
جارٍ عليهما، ولذلك كانت عامّة كتب النحو حافلة بأبواب من علم الصرف.
* واشتهر بالعناية بعلم الصرف جماعة من العلماء منهم:
1. عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي(ت:129هـ)، وله كتاب "الهمز" مفقود.
2. وعمرو بن عثمان بن قنبرٍ المعروف بسيبوبه ت:180هـ) ، وقد ذكر في كتابه أبواباً كثيرة في علم الصرف، وعني به عناية حسنة.
3. ومعاذ بن مسلم الهراء (ت:190هـ) شيخ الكسائي، وهو ممن اشتهر بالعناية بعلم الصرف، ومسائله وتمريناته.
4. وعلي بن المبارك الأحمر (ت:194هـ)، وله كتاب في التصريف مفقود.
5.
ويحيى بن زياد الفراء (ت:207هـ)، وله كتاب "التصريف" مفقود، وكتاب
"المقصور والممدود" وكتاب"المذكر والمؤنث"، مطبوعان، وله الكتاب المشهور في
"معاني القرآن" وقد أكثر فيه من الكلام عن مسائل الصرف.
6. ويعقوب بن إسحاق ابنُ
السِّكِّيتِ البغدادِيُّ (ت: 244هـ)، وله "إصلاح المنطق"، و"الألفاظ"،
و"القلب والإبدال" ، و"المقصور والممدود"، وكلها مطبوعة.
7. وأبو عثمان بكر بن محمد المازني (ت:249هـ)، وله كتاب "التصريف"، وهو كتاب مشهور عُني به العلماء شرحاً وتدريساً.
8. ومحمّد بن يزيدَ المبرّد (ت: 285هـ) ، وقد ذكر في كتابه المقتضب أبواباً كثيرة في علم الصرف.
9. وأبو العباس أحمد بن يحيى الشيباني المعروف بثعلب (ت:291هـ)، وله كتاب "الفصيح"
10. وأبو بكر محمد بن سهل بن السراج النحوي (ت: 316هـ)، وله كتاب "الأصول في النحو" ضمّنه أبواباً كثيرة في علم الصرف.
11. وأبو علي الحسن بن أحمد الفارسي (ت: 377هـ)، وله كتاب "التكملة على الإيضاح"، فالإيضاح في علم النحو، والتكملة في علم الصرف.
12. وأبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ) ، وله "التصريفي الملوكي"، و"الخصائص"، و"المنصف" وغيرها.
13. وعبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني (ت: 471هـ)، وله كتاب "المفتاح في الصرف"
14. وأبو البركات عبد الرحمن بن محمد الأنباري (ت:577هـ)، وله "الوجيز في التصريف" و"أسرار العربية" و"المذكر والمؤنث".
15. وعثمان بن عمرو بن أبي بكر ابن الحاجب (ت: 646هـ)، وله "الشافية في علم التصريف".
16. وعز الدين عبدالوهاب بن إبراهيم الزنجاني (ت:655هـ) صاحب "تصريف العزي" المشهور.
17. وعلي بن مؤمن ابن عصفور الإشبيلي (ت: 669هـ) ، وله "الممتع في التصريف".
18. ومحمد بن عبد الله
ابن مالك الطائي الأندلسي (ت: 672هـ)، صاحب الألفية المعروفة في النحو،
وقد ذكر فيها أبواباً من تصريف الأسماء، وأفرد تصريف الأفعال في منظومته
"لامية الأفعال"، وله كتاب "إيجاز التعريف في علم التصريف".
ثمّ توالى التأليف في علم التصريف، وكثرت فيها المؤلفات واشتهرت، وما يزال أهل العلم يعنون به شرحاً وتقريراً، وتحريراً وتحبيراً.
* ومن المفسّرين الذين لهم عناية ظاهرة بالتصريف في تفاسيرهم:
1. ابن عطية الأندلسي(ت:542هـ) ، وكثيراً ما يعلّ بعض الأقوال بمخالفتها قواعد التصريف.
2. وأبو حيان الأندلسي (ت:745هـ) في تفسيره "البحر المحيط" ، وله تعقّبات حسنة للزمخشري
3. ومحمد الطاهر ابن عاشور (ت:1394هـ) في "التحرير والتنوير"
4. ومحمد الأمين الشنقيطي (ت:1393هـ) في "أضواء البيان" وفي مجالسه في التفسير التي طبعت باسم "العذب النمير".
5. ومحمد
الأمين الهرري في تفسيره "حدائق الروح والريحان" ، وهو تفسير حافل بشرح
مسائل التصريف في القرآن، ولمؤلفه عناية بعلم الصرف، وله شرح على "لامية
الأفعال" لابن مالك سماه "مناهل الرجال ومراضع الأطفال بلبان معاني لامية
الأفعال"
وهو من علماء الحبشة الموصوفين بالعلم والعبادة، والجلَد
في البحث والتأليف والتدريس، تصدّر للتدريس والإفادة في الحبشة عام
1373هـ، وهو ابن خمسة وعشرين عاماً، ولم يزل معتنياً بالتدريس والدعوة في
بلده حتى حاصره الشيوعيون وحاولوا قتله؛ فهاجر إلى مكة؛ وابتدأ التدريس في
المسجد الحرام سنة 1400هـ، ثم انتقل إلى التدريس بدار الحديث بمكة المكرمة،
وألّف كتباً كثيرة في فنون عديدة، منها تفسيره المذكور في اثنين وثلاثين
مجلداً.
* ولعلماء هذا العصر عناية حسنة بأحكام التصريف في القرآن؛ فألّفت المعاجم والموسوعات والكتب التعليمية المتخصصة في تصريف ألفاظ القرآن، ومن أجود تلك المؤلفات:
1. المعجم الصرفي لألفاظ
القرآن الكريم، وهو القسم الثاني من أقسام كتاب "دراسات في أساليب القرآن
الكريم" للدكتور محمد عبد الخالق عضيمة (ت:1404هـ) ويقع هذا القسم في أربع
مجلدات كبار ؛ حرص فيها المؤلف على تقصّي المسائل الصرفية في القرآن،
وأبنية الأسماء والأفعال ومعانيها، وقدّم بين يدي كلّ صيغة مقدّمة شرح فيها
معانيها وخلاصة بحثه لمواضع ورودها في القرآن، ونتائج استقرائه، فكان
عملاً كبيراً عظيم النفع للدارسين، وقد أفنى في إعداده سنوات كثيرة من
عمره.
2. والبيان والتعريف بما في القرآن من أحكام التصريف، للدكتور: محمد بن سيدي بن الحبيب الشنقيطي.
3. والصرف التعليمي والتطبيق في القرآن الكريم للدكتور: محمود سليمان ياقوت.
4. ومعجم الأوزان الصرفية لكلمات القرآن الكريم، للدكتور: حمدي بدر الدين إبراهيم.
فائدة علم الصرف للمفسّر:
وعلم التصريف يفيد المفسّر فوائد جليلة:
منها: معرفة أوجه المعاني التي تتصرّف بها الكلمة، وفائدة اختيار تلك التصاريف في القرآن الكريم على غيرها.
ومنها: معرفة التخريج اللغوي لكثير من أقوال السلف في التفسير.
ومنها:
أنّه يكشف عن علل بعض الأقوال الخاطئة في التفسير التي قد يقع فيها بعض
المفسّرين ممن أتوا بعد عصر الاحتجاج، أو مما يروى بأسانيد لا تصحّ عن بعض
الصحابة والتابعين ممن كانوا في عصر الاحتجاج.
قال بدر الدين الزركشي: (وفائدة
التصريف حصول المعاني المختلفة المتشعبة عن معنى واحد فالعلم به أهم من
معرفة النحو في تعرف اللغة لأن التصريف نظر في ذات الكلمة والنحو نظر في
عوراضها وهو من العلوم التي يحتاج إليها المفسر)ا.هـ.
ومسائل الصرف منها
مسائل بيّنة يتّفق عليها الصرفيون، ومنها مسائل يختلفون فيها ؛ كسائر
العلوم التي يقع في مسائلها اتفاق واختلاف، لكن ما اتفقوا عليه فهو حجة
لغوية، يعدّ ما خالفه خطأ.
أمثلة لفائدة علم الصرف للمفسّر:
سأذكر ثلاثة أمثلة
لمسائل تظهر فيها فائدة علم الصرف للمفسّر، آمل أن تنبّه اللبيب على ما
وراءها، وأن تعينه على تصوّر بحث المسائل الصرفية في التفسير، وأن تعرّفه
بأئمة هذا العلم ومصادره، لعلّها تحثّه على العناية بهذا العلم العزيز،
وتعرّف السبيل إلى إتقان معرفته.
المثال الأول: معنى {يتساءلون}
اختلف المفسّرون في معنى {يتساءلون} في قول الله تعالى: {عمّ يتساءلون} على ثلاثة أقوال:
القول الأول: يتساءلون: أي يسأل بعضهم بعضاً، وهذا قول جمهور المفسرين.
القول الثاني: يتساءلون أي يتحدثون، وإن لم يكن من بعضهم لبعض سؤال.
وهذا القول أخذه الرازي
ومن تبعه من المفسّرين من قول أبي زكريا الفراء في معاني القرآن إذ قال:
(ويقال: عم يتحدث به قريش في القرآن. ثم أجاب، فصارت: {عم يتساءلون}، كأنها [في معنى]: لأي شيء يتساءلون عن القرآن)ا.هـ.
وكلام الفراء ليس فيه نصّ على هذا المعنى، لكن استدلّ له الرازي بقوله تعالى:
{وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ . قالَ قَائِلٌ
مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ . يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ
الْمُصَدِّقِينَ}
قال: (فهذا يَدُلُّ على معنى التحَدُّثِ، فيكونُ معنى الكلامِ: عَمَّ يَتحدثونَ)ا.هـ.
وعلى هذا القول يكون
التعبير عن التحدّث بالتساؤل في الآية مبناه على أنّ ذلك التحدّث منهم قائم
مقام السؤال؛ لأنّ كل متحدّث منهم يتطلّب من سامعه تأييداً لقوله أو
مساعدة له على ما يحاول من إيجاد مطعن في القرآن ودعوة النبي صلى الله عليه
وسلم؛ فهو تساؤل في حقيقة الأمر، وإن لم يكن في ألفاظهم سؤال صريح.
القول الثالث: أي أن المشركينَ يتساءلونَ الرَّسولَ والمؤمنينَ؛ فيقدّر أصحاب هذا القول للكلام مفعولاً محذوفاً.
وهذا القول ذكره الزمخشري احتمالاً؛ فقال في الكشّاف: (({يَتَسَاءَلُونَ}:
يَسْأَلُ بعضُهم بعضاً، أو يَتَسَاءَلُونَ غيرَهم مِن رسولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنينَ، نحوَ: يَتَدَاعَوْنَهُم
ويَتَرَاءَوْنَهم)ا.هـ.
ثم ذكره جماعة من المفسّرين بعده، منهم: الرازي، والبيضاوي، والنسفي، وابن عادل الحنبلي وغيرهم.
وأتى بعدهم أبو السعود
الحنفي فنصرَ هذا القول واحتجّ له بما ملخّصه أنّه كمثل قول القائل:
"تراءوا الهلال"، وأنّ المفعول محذوف لظهور العلم به.
قال: (فالمعنى: عنْ أيِّ شيءٍ يَسْأَلُ هؤلاءِ القومُ الرسولَ صَلَّى اللَّهُ عليهِ وسَلَّمَ والمؤمنينَ؟)ا.هـ.
فهذا القول مبناه على
أنّ الفعل "يتساءلون" متعدّ لإفادة تكرر وقوع السؤال منهم، وأنّ المفعول
محذوف تقديره: يتساءلون الرسولَ صلى الله عليه وسلم والمؤمنين.
وقواعد التصريف تدلّ على خطأ هذا القول من وجهين:
الوجه الأول: أنّ "تساءل" على وزن "تفاعَل"، وهذه الصيغة ترد في كلام العرب لمعان إجمالها فيما يلي:
- المعنى الأول: إفادة وقوع الفعل من طرفين على جهة التقابل، ومثاله: تراءى الجمعان، وتقابل الخصمان، وتجادلا، وتناظرا.
- المعنى الثاني: إفادة وقوع الفعل من متعدد في طرف واحد على مفعول واحد، ومثاله: تراءوا الهلالَ.
- المعنى الثالث: إفادة
وقوع الفعل من متقابلين على مفعول مشترك، ومثاله: تنازعا الحديث، وتعاطيا
الكأس، وتقاسما المال، وهو قريب من المعنى الثاني، وبينهما فرق دقيق.
- المعنى الرابع: إفادة قوة وقوع الفعل من الفاعل، مثاله: تعالى الله، تبارك الله.
- المعنى الخامس: إفادة تكرر وقوع الفعل من فاعل واحد، ومثاله: تمارى، تثاءب.
- المعنى السادس: إفادة تدرج وقوع الفعل، ومثاله: تعافى المريض، وتوافد القوم، وتناسى الأمر.
- المعنى السابع: إظهار خلاف الحقيقة، ومثاله: تمارض، وتماوت، وتغافل، وتغابى، وتعاظم، وتجاهل.
- المعنى الثامن: مُطاوَعَةُ "فاعَلَ" الذي بمعنى "أَفْعَلَ"، ومثاله: ناولته فتناول، وباعدته فتباعد، وضاعفت الحساب فتضاعف.
- المعنى التاسع: "تفاعَل" بمعنى "فَعَل"، ويمثّل له بعض الصرفيين بـ "توانى" بمعنى: ونى، و"تبدّى" بمعنى "بدا"،
ومنه قول قيس بن الخطيم:
ولم أرها إلا ثلاثاً على منى ... وعهدي بها عذراء ذات ذوائب
تبدَّت لنا كالشمس تحت غمامة ... بدا حاجب منها وضنت بحاجب
فأوقع "بدا" في تفسير "تبدّى".
وفي هذا المعنى الأخير
خلاف، إذ يفهم منه الإقرار بالترادف، وهو قول يأباه جماعة من أهل اللغة،
ويذكرون بين ما يُدّعى فيه الترادف فروقاً دقيقة؛ منها ما هو صحيح مُسلَّم،
ومنها ما فيه نظر وله احتمال، ومنها ما هو ظاهر التكلّف.
وهذه المعاني مبثوثة في
كتب الصرف، وإنما لخّصتها هنا لتقريب تصوّر أصل المسألة، وإلا فإنّ
المفسّر العالم بالصرف؛ يُفتَرض أن تكون هذه المعاني حاضرة في ذهنه، ولو
على وجه الإجمال والتقريب.
وثمرة هذا المبحث أنّ
التساؤل في الآية علمي لا طلبي، ويدلّ على وجود سائل ومسؤول، وإبهام السائل
والمسؤول من الطرفين يدلّ على جواز وقوعه من أيّ واحد منهما على الآخر على
جهة التقابل؛ فيكون المعنى الأوّل هو المتعيّن حمل الآية عليه.
والوجه الثاني: أنّ
"تساءَل" قبول دخول تاء التفاعل عليها "ساءل"، و"ساءَل" فعلٌ متعدٍّ،
والفعل المتعدّي قبل دخول تاء التفاعل عليه منه ما يتعدّى إلى مفعولين،
ومنه ما يتعدّى إلى مفعول واحد.
1. فإذا دخلت التاء على
المتعدّي إلى مفعولين قصرته على مفعول واحد؛ كما تقول: نازعتُ زيداً
الحديثَ، فالفعل "نازَع" متعدٍّ إلى مفعولين: زيد والحديث ؛ فإذا أدخلتَ
تاء التفاعل عليه قلت: تنازعنا الحديثَ؛ فصار الفعل متعدّياً إلى مفعول
واحد.
2. وإذا دخلت التاء على
المتعدّي إلى مفعول واحد صار لازماً، كما تقول في "ضارَب زيدٌ عمراً":"
تضارب زيدٌ وعمرو"؛ فلما دخلت تاء التفاعل على "ضارب" صيّرته لازماً.
إذا تبيّن ذلك فكلمة "يتساءلون" أصلها ساءل، وهو متعدّ إلى مفعول واحد؛ فيكون لازماً بعد دخول التاء عليه.
فيكون ما ذكره
الزمخشريّ احتمالاً في تفسير الآية، ونصره أبو السعود من أنّ المعنى:
يتساءلون الرسولَ صلى الله عليه وسلم والمؤمنين خطأ مخالف لتصاريف كلام
العرب.
والمعنى الصحيح: يسأل بعضُهم بعضاً، وهو الذي عليه جمهور المفسّرين.
وهذا بخلاف ساءَل التي فيها معنى الطلب؛ كما يقال: ساءل بنو زيد بني عمروٍ أموالهم، ومنه قوله تعالى: {ولا يسألكم أموالكم}
فإنها عند دخول التاء عليها تقصر على مفعول واحدٍ، فيقال: يتساءلون أموالهم، ويقال في الاستفهام: ماذا يتساءلون؟
ولا يقال -عند إرادة هذا المعنى -:عمّ يتساءلون؟
فلمّا كان الاستفهام بـ"عن" تحققنا أن ساءل هنا علمية لا طلبية.
المثال الثاني: معنى {مسنون}
قول ابن عطية الأندلسي(ت:546هـ) في تفسير قول الله تعالى: {من حمأ مسنون} قال: (قال معمر: هو المنتن، وهو من أسن الماء إذا تغير).
ثمّ تعقّبه بقوله: (والتصريف يردّ هذا القول).
يريد أنّه لا يقال في
اسم المفعول من "أسن": "مسنون"؛ لأن "أسن" فعل ثلاثي لازم؛ فلا يصاغ منه
اسم مفعول، وإذا عدَّيته بالهمزة فاسم المفعول منه: "مُؤسَن".
ثمّ قال ابن عطية: (والذي يترتَّب في "مَسْنُونٍ":
- إما أن يكون بمعنى
محكوك؛ محكَم العمل أملس السطح، فيكون من معنى المُسَنّ والسنان، وقولهم:
سَنَنْتُ السّكينَ وسننت الحجر: إذا أحكمت تمليسه، ومن ذلك قول الشاعر:
ثم دافعتها إلى القبة الخضرا ... ء تمشي في مرمر مسنون
أي محكم الإملاس بالسَّنّ
- وإما أن يكون بمعنى
المصبوب، تقول: سننت التراب والماء إذا صببته شيئا بعد شيء، ومنه قول عمرو
بن العاصي لمن حضر دفنه: إذا أدخلتموني في قبري فسنوا علي التراب سنا، ومن
هذا: هو سن الغارة. وقال الزجاج: هو مأخوذ من كونه على سنة الطريق، لأنه
إنما يتغير إذا فارق الماء، فمعنى الآية- على هذا- من حمأ مصبوب موضوع بعضه
فوق بعض على مثال وصورة)ا.هـ.
فذكر قولين صحيحين من
جهة التصريف، ويضاف إليهما قول ثالث ذكره الخليل بن أحمد، وهو أن "المسنون"
بمعنَى "المصوَّر" من قول العرب: سنَّ الشيء إذا صوَّره، والمصوَّر:
مسنون.
ومنه قول عمر بن أبي ربيعة:
سحرتني بجيدها ، وشتيتٍ ، ** وبوجهٍ ذي بهجةٍ مسنونِ
وقول ذي الرمة:
ترِيكَ سُنَّةَ وَجْهٍ غَيْرَ مُقْرِفَةٍ ... مَلْسَاَء لَيْسَ بها خَالٌ ولا نَدَبُ
وقال أبو عبيدة (المسنون: المصبوب على صورة).
فجمع القولين الثاني والثالث.
وقال المبرّد: (المسنون: المصبوب على استواء).
فهذه أقوال أهل اللغة، وللسلف في معنى "مسنون" قولان آخران:
أحدهما: أن المسنون: الرطب، وهذا القول رواه ابن جرير من طريق معاوية بن صالح عن عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس.
وتخريج هذا القول أن يكون المسنون هنا بمعنى الذي سُنَّ عليه الماء؛ فهو رطب لذلك.
والآخر: أنّ المسنون المتغيّر، وهذا قول ابن جرير، استخرجه من أثر رواه عن قتادة، واختلف أهل اللغة في تخريج هذا القول:
فذهب الفراء إلى أنّ المسنون لا يكون إلا متغيّراً؛ فتفسير المسنون بالمتغيّر تفسير بلازم المعنى لا بدلالته اللفظية.
وذهب أبو عمرو الشيباني إلى أنّه مأخوذ من تَسَنَّنَ الطعامُ إذا تغيّر، ومنه قوله تعالى: {لم يتسنّه} والهاء مبدلة من النون.
قال أبو عبيدة: (وليستْ من الأَسِن المتغير، ولو كانت منها لكانت ولم يتأسن).
وذهب أبو منصور الأزهري إلى أنّه مأخوذ من السَّنَة، أي: مضت عليه سنون حتى تغيّر.
فانظر في هذه المفردة كيف اتّسع النظر فيها بسبب بحث تصاريفها.
والتحقيق: أنّ الأقوال الثلاثة الأولى صحيحة، واللفظ يحتملها من غير تعارض، وقول الفراء أقرب الأقوال في تخريج القول المروي عن بعض السلف.
المثال الثالث: معنى {قُبلا}
ومن فوائد علم التصريف أنه يُعرف به تخريج بعض أقوال السلف في التفسير من جهة اللغة.
ومن أمثلة ذلك: أقوال السلف في تفسير قول الله تعالى: {وحشرنا عليهم كلّ شيء قُبُلا}
فروي عنهم في معنى {قبلا} ثلاثة أقوال:
القول الأول: {قُبُلا} أي : معاينة، وهذا القول رواه ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس من طريق معاوية بن صالح عن عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس.
والقول الثاني: {قبلا} أي: أفواجاً ، رواه ابن جرير عن مجاهد.
والقول الثالث: {قُبلا} أي: كفلاء، وهذا القول اختاره الفراء.
فهذه ثلاثة أقوال في هذه المسألة:
- فأمّا القول الأول فتخريجه أنّ القُبُل بمعنى المقابِل ؛ والمقابل معاين لمن قابله، كما تقول: لقيتُه قُبُلاً: أي: مواجهة ، ومنه قوله تعالى: {قُدّ من قُبُل}، وقوله تعالى: {أو يأتيهم العذاب قُبُلا}.
ويرجّح هذا المعنى قراءة من قرأ: {وحشرنا عليهم كلّ شيء قِبَلا}.
- وأما القول الثاني فتخريجه أنَّ {قبلا} جمع قبيل، كرغيف ورُغُف، والقبيل: الجماعة الكثيرة من صنف واحد، أي ُحشروا عليهم أفواجاً كل فوج قبيل.
قال ابن كثير: (أي: تُعرَض عليهم كلّ أمّةٍ بعد أمة فتخبرهم بصدق الرسل فيما جاؤوهم به {ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء اللّه}).
- وأما القول الثالث فتخريجه أنَّ {قبلا} جمع قبيل بمعنى كفيل، ومنه قوله تعالى: {أو يأتي بالله والملائكة قبيلا} أي: كفلاء وضمناء.
والتحقيق أنّ هذه المعاني كلّها صحيحة، ودلالة الآية تسعها كلها.
فانظر
فائدة علم التصريف في معرفة التخريج اللغوي لأقوال السلف، وقد كان عامّتهم
عرباً فصحاء من أهل عصر الاحتجاج، يفسّرون القرآن بما يعرفون من لسانهم
العربيّ، وقد تقدّم أنّ تفسيرهم حجّة لغوية إذا صحّ الإسناد إليهم وأُمن
لحن الرواة.