الدروس
course cover
تفسير القرآن بلغة العرب | النوع الثامن: الاشتقاق
9 May 2016
9 May 2016

11466

0

0

course cover
طرق التفسير

القسم الثالث

تفسير القرآن بلغة العرب | النوع الثامن: الاشتقاق
9 May 2016
9 May 2016

9 May 2016

11466

0

0


0

0

0

0

0

تفسير القرآن بلغة العرب


النوع الثامن: الاشتقاق

الاشتقاق هو انتزاع لفظة من لفظة أخرى تشاركها في أصل المعنى والحروف الأصلية؛ وتخالفها باختلاف الصيغة.
وهو من دلائل اتّساع كلام العرب، وكثرة تصاريف ألفاظه على أوجه متنوّعة من الاشتقاق والنقل والقلب والإبدال.
وعلم الاشتقاق من العلوم المهمّة للمفسّر، إذ يعرف به الأصول التي ترجع إليها كثير من الكلمات العربية، فيتبيّنُ أصلَ معناها، ويدرك التناسب في المعنى بين الكلمات التي ترجع إلى أصل واحد.

والاشتقاق له أصل في النصوص، وقد استدلّ له بعض العلماء بما في مسند الإمام أحمد وغيره من حديث عبد الرحمن بن عوف وأبي هريرة رضي الله عنهما أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((قال الله عز وجل أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها من اسمي فمن يصلها أصله ومن يقطعها أقطعه)).

ومما روي من شعر حسان بن ثابت رضي الله عنه قوله في مدح النبي صلى الله عليه وسلم:
وضمَّ الإلهُ اسمَ النبيّ إلى اسمه ... إذا قال في الخمسِ المؤذنُ أشهدُ
وشقَّ له من اسمه ليجلَّه ... فذو العرش محمود وهذا محمد


وقد نُقل عن العرب من الأخبار والأشعار ما يدلّ على عنايتهم بالاشتقاق، وإدراكهم لتصرّف كثير من كلماتهم من أصول تُشتقّ منها، ومن ذلك أسماؤهم وأسماء بلدانهم ومنازلهم ووقائعهم؛ إذ يجد الناظر فيها أنّها مشتقّة من أصول لها معانٍ معروفة في لسانهم.
وقد ذهب جمهور أهل اللغة إلى أنّ أكثر كلام العرب مشتقّ.
وقال ابن فارس(ت:395هـ): (أجمع أهل اللغة إلا من شذَّ عنهم أنَّ للغة العرب قياساً، وأنَّ العربَ تشتقُّ بعضَ الكلامِ من بعض، وأنَّ اسم الجنّ مشتق من الاجتنان، وأنَّ الجيم والنون تدُلاَّن أبداً عَلَى السَّتر، تقول العرب للدّرع: "جُنَّة"، و:"أجَنَّهُ الليلُ"، و:"هذا جنين"، أي هو فِي بطن أمّه أَوْ مقبور.
وأن الإنس من الظهور، يقولون: آنَسْت الشيء: أبصرته.
وَعَلَى هَذَا سائرُ كلام العَرَب، عَلم ذَلِكَ من عَلِم، وجَهِلَه من جهل)ا.هـ.
وقد بنى ابن فارس مُعجَمه الذي سماه "معجم مقاييس اللغة" على إرجاع المفردات العربية إلى أصول تُشتقّ منها، وتتناسب معانيها.

تفاوت ظهور الاشتقاق
اشتقاق الكلام بعضه من بعض قد يكون ظاهراً غير مُشْكِل، كاشتقاق اسم "محمّد" من الحمد، واشتقاق "الحُسام" من الحَسْم، وهو من أسماء السيف.
- وقد يكون الاشتقاق خفيا لغرابة اللفظ فيحتاج الناظرُ إلى تفسيره ليعرف اشتقاقه، كما قال الأصمعي في كتابه "اشتقاق الأسماء" : ("دُجَانة": اشتقّ من الدَّجن، والدَّجْن ظلمة الغيم وإلباسُه)ا.هـ.
فكأنّ المولود المسمّى بهذا الاسم قد وُلد في يومِ دَجْنٍ، وكان من عادة بعض العرب أنهم يسمّون أولادهم بأوّل ما يظهر لهم بأدنى مناسبة؛ حتى إنّ منهم من إذا ولدت امرأته غلاماً ورأى ثعلباً سمّى ولده ثعلباً.
وقال الأصمعي أيضاً: ("مِرْداس" اشتقّ من الرَّدس، وهو ضربُ الجبل بالمعوَل والصخرة العظيمة)ا.هـ.
فإذا عرف معنى اللفظة وما اشتقّت منه تبيّنت المناسبة بينهما.
- وقد يكون الاشتقاق لمناسبة لطيفة لا يدركها كثير من الناظرين؛ كما اشتقّ "أمس" من المساء، و"غد" من الغُدوة؛ باعتبار أقرب الأوقات إلى يومك الحاضر.
قال ابن القيّم رحمه الله في "بدائع الفوائد": (اعلم أن أقرب الأيام إليك يومك الذي أنت فيه؛ فيقال: فعلت اليوم، فذكر الاسم العام ثم عرف بأداة العهد ولا شيء أعرف من يومك الحاضر؛ فانصرف إليه، ونظيره الآن من آن، وأما "أمس" و"غد" فلما كان كل واحد منهما متصلا بيومك اشتق له اسم من أقرب ساعة إليه؛ فاشتق لليوم الماضي "أمس" الملاقي للمساء، وهو أقرب إلى يومك من صباحه أعني صباح غد؛ فقالوا: أمس، وكذلك "غد" فقد اشتق الاسم من "الغدوة" وهو أقرب إلى يومك من مسائه أعني مساء غد)ا.هـ.

- وقد يقع الخلاف في أصل اشتقاق الكلمة وتتجاذبها أصول متشابهة في أوجه من المعاني؛ فيجتهد العلماء في الاختيار منها والترجيح بينها، كما اختلفوا في اشتقاق لفظ "القرآن" على أقوال:
أحدها: أنه مشتق من القراءة التي هي بمعنى التلاوة، تقول: قرأت قراءة وقرآنا، قال الله تعالى: {فإذا قرأناه فاتّبع قرآنه}.
وقال حسان بن ثابت في رثاء عثمان بن عفان:
ضحّوا بأشمط عنوان السجود به ... يقطّع الليل تسبيحا وقرآنا
أي قراءة، وهذا القول قال به ابن جرير الطبري، وأسند معناه إلى ابن عباس، ورجّحه ابن عطية.
وعلى هذا القول يكون القرآن بمعنى المقروء، تسمية للمفعول بمصدره.
والقول الثاني: أنه مشتقّ من "القَرْء" بمعنى الجمْعِ، وهو مروي عن قتادة، وقال به أبو عبيدة والزجاج وجماعة من العلماء، واحتجوا بقول عمرو بن كلثوم:
ذراعي عيطل أدماء بكر ... هجان اللون لم تقرأ جنينا
قالوا: أي: لم تضمّ في رحمها ولداً.
قال أبو عبيدة: (وإنما سمّى قرآنا لأنه يجمع السور فيضمها).
والقول الثالث: أنه مشتق من "القَرْء" بمعنى الإظهار والبيان، وأن القِرَاءة إنما سمّيت قراءة لما فيها من إظهار الحروف، وبيان ما في الكتاب، وقد قال بهذا القول قطرب، وفسّر قول عمرو بن كلثوم: (لم تقرأ جنينا) بالولادة؛ أي لم تُلْقِ من رحمها ولداً، وأرجع المعنى إلى أصل الإظهار والبيان.
قال قطرب فيما ذكره عنه أبو منصور الأزهري في الزاهر: (إنما سُمي القرآن قرآناً، لأن القارئ يُظهره ويبيّنه، ويلقيه من فيه).

وذهب الشافعي وجماعة من العلماء إلى أنّ "القران" جامد غير مشتق، وكان الشافعي ينطق اسم القرآن بغير همز "القُران" وهي قراءة ابن كثير المكّي.
وقد روى ابن عبد الحكم عن الشافعي أنه كان يقول: (القُرَان اسم وليس بمهموز، ولم يؤخذ من قرأت، ولكنه اسم لكتاب الله، مثل التوراة والإنجيل).
والقُرآن والقُرَان بمعنى واحد، وإنما هما لغتان إحداهما بالهمز، والأخرى بالنقل والتسهيل.
قال ابن عاشور: (اتفق أكثر القراء على قراءة لفظ "قرآن" مهموزاً حيثما وقع في التنزيل، ولم يخالفهم إلا ابن كثير قرأه بفتح الراء بعدها ألف على لغة تخفيف المهموز، وهي لغة حجازية، والأصل توافق القراءات في مدلول اللفظ المختلف في قراءته)ا.هـ.
وذهب علم الدين السخاوي إلى أنّ "القران" بالتسهيل مشتقّ من "قَرَنت" بمعنى الضمّ والاقتران.

وأرجح الأقوال أنه مشتق من القراءة، وأنه سمّي قرآنا لأنّه كتابٌ اتُّخذَ للقراءة الكثيرة التي لا يبلغها كتاب غيره، ويدلّ على ذلك بناء الاسم على صيغة "فُعْلان" التي تدلّ على بلوغ الغاية، كسُبحان وحُسبان وغُفران وشُكران، مع ما دلّ عليه قول الله تعالى: {حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3)}
وقال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ}.
وكان بعض السلف يُسمّون الغناء "قرآن الشيطان" وقد روي في ذلك حديث مرفوع لا يصح، وإنما سمّي بذلك لكثرة ما يَقرأ المغنون من الأغاني التي تُلهي عن ذكر الله.

ما لا يدخله الاشتقاق:
ومن الكلمات المستعملة في لسان العرب ما ليس بمشتقّ ، كالحروف، والأسماء الأعجمية، وبعض أسماء الذوات والمعاني التي لم يؤخذ معناها من غيرها؛ كالحجر والشجر والصبر والرضا.
وقد تكلموا في اشتقاق بعض الأسماء الأعجمية التي تقارب العربية في نطقها كإبراهيم ويوسف وأيّوب؛ فمن أهل العلم من ذهب إلى أنّها جامدة بناء على الأصل، ومنهم من ذهب إلى أنّها مما تتقارب فيه اللغات مع اختلاف يسير في النطق بحسب كلّ لغة، فما كان كذلك فيرجع إلى أصله العربي فيكون مشتقاً.
- فأمّا إبراهيم فأرجعه بعضهم إلى البرهمة، وهي إدامة النظر، ذكره أبو الحسن الماوردي والكرماني وغيرهم، وهذا مأخوذ من قول بعض أهل اللغة في معنى البرهمة.
قال الخليل بن أحمد: بَرْهَم الرجل إذا فتح عينيه وحدّد النظر قال:
يمزجن بالناصع لوناً مُسْهَما ... ونَظَراً هَوْنَ الهوينا بَرْهَما)ا.هـ.
والبيت للعجاج بن رؤبة.
وقال الأصمعي: (بَرْهم إذا أدام النظر).
وليس في كلام هؤلاء الأعلام أنّ اسم "إبراهيم" مشتق من البرهمة، وإنما هو معنى أخذه بعض المفسّرين لأجل تشابه الألفاظ، وهو خطأ.
وقال جماعة من المفسّرين: هو اسم سرياني، معناه في السريانية "أب رحيم"، ذكر ذلك مقاتل بن سليمان وأبو الحسن الماوردي، واحتجّ له ابن القيّم في جلاء الأفهام بأنّ إبراهيم هو الأب الثالث للعالم بعد آدم ونوح.
وهذا القول غير مستبعد لأن اللغات العائدة إلى أصول واحدة قد تتشابه في نطق بعض الكلمات مع اتحاد المعنى، لكن هذا خارج عن حدّ الاشتقاق.
- وأمّا يوسف فأرجعه بعضهم إلى الأسف وهو الحزن؛ ذكره أبو جعفر الرعيني(ت:779هـ) في كتابه "تحفة الأقران فيما قرئ بالتثليث من حروف القرآن" ثمّ ردّه بقوله: (وفي هذا الاشتقاق ما ترى من التكلّف وإساءة الأدب).
- وأمّا "أيّوب" فأرجعه بعضهم إلى الأوب، فقيل: هو فيعول، وقيل: فَعُّول من الأوب، ذكره الزبيدي في تاج العروس.
والقول ما قاله ابن الأنباري في الأضداد إذ قال:("أيوب" يكون أعجميا مجهول الاشتقاق، ويكون عربيا مجرى في حال التعريف والتنكير؛ لأنه يجري مجرى قيوم، من قام يقوم، ويكون فيعولا من آب يؤوب، إذا رجع، قال عبيد بن الأبرص:
وكل ذي غيبة يؤوب ... وغائب الموت لا يؤوب)ا.هـ.

والأسماء الأعجمية المحضة غير مشتقة.

نشأة علم الاشتقاق:

علم الاشتقاق من أخصّ علوم العرب، وألطفها، وإن لم يدوّنوا فيه كتاباً، ولم يجمعوا له أصولاً وأنواعاً على طرائق مصنفي الكتب ممّن أتى بعدهم؛ إذ كانت العرب أمّة أميّة لا تكتب.
وقد روي من من أخبارهم وأشعارهم ما يدلّ دلالة بيّنة على عنايتهم بالاشتقاق، والتفنن في تصريف الكلام وردّ بعضه إلى بعض، وإدراك مآخذ التسميات ومقاصدها، يعينهم على ذلك ما عُرفوا به من حسن البيان، وجودة القريحة، ولطافة الذهن.

ومن ذلك قول دريد بن الصمّة القشيري بعد أن ظفر بفزارة وهم قبيلة من غطفان، وقتل منهم من قتل ثأراً بمقتل أخيه عبد الله وجماعة من فرسان بني قشير:
قتلتُ بعبد الله خير لِدَاتِه ... ذؤابَ بنَ أسماءَ بنِ زيدِ بنِ قارِبِ
فلليوم سُمّيتم فزارة فاصبروا ... لِوَقْع القَنا تَنزُونَ نَزْو الجنادب


أي في مثل هذا اليوم يظهر معنى اسمكم "فزارة"، يشير إلى أنّ اسم فزارة مشتقّ من الفَزْر، وهو القطع والشقّ والتصدّع.
يقال: تفزّر الثوب، وتفزّر الحائط إذا تشقّق، وفزرتُ الجلَّة إذا فتّتّها.
يريد دريد: إنّا فزرناكم بسيوفنا ورماحنا حتى مزّقناكم كلّ ممزّق.
وفي صحيح مسلم من حديث سماك بن حرب عن مصعب بن سعد في خبر نزول تحريم الخمر أنّ رجلاً شرب ثم أخذ لحي بعير
فضرب به أنف سعد ففَزَره، وكان أنف سعد مفزورا، أي مشقوقاً.

قال ابن فارس في معجم المقاييس: ("فزر" الفاء والزاء والراء أُصيل يدلّ على انفراج وانصداع، من ذلك الطريق الفازر: وهو المنفرج الواسع، والفزر: القطيع من الغنم، يقال فزرت الشيء: صدعته، والأفزر: الذي يتطامن ظهره، والقياس واحد، كأنه ينفرق لحمتا ظهره. والله أعلم)ا.هـ.
ونقل أبو منصور الأزهري عن شمر بن حمدويه أنه قال: (كنت بالبادية فرأيت قباباً مضروبة فقلت لأعرابي: لمن هذه القباب؟ فقال: لبني فزارة فَزَر الله ظهورهم؛ فقلت: ما تعني به؟ فقال: كسر الله)ا.هـ.

وبيت دريد بن الصمّة فيه تلطّف في صرف المعنى إلى اشتقاق غير مراد، وهو ما يسمّى في علم البلاغة "حسن التعليل"، وإلا فإنّ فزارة اسم رجل وهو فزارة بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان، وإليه ينتسب بنو فزارة ، وهم من أكثر قبائل غطفان عدداً.
ولم يكن الرجل ليسمّى ولده بما أراده دريدُ بن الصمّة، وإنما سمّي بذلك على معنى اسم الفاعل "فازر" كما سُمّى "فَضَالَة" بمعنى "المُفْضِل"، و"سلامة" بمعنى "السالم"؛ فصرف دريد اسم "فزارة" إلى معنى اسم المفعول "مفزور" إذ كانت الصيغة محتملة.
ومن شأن العرب في الهجاء أو المدح صرف اللفظ إلى معنى غير مراد من الاشتقاق أو إلى اشتقاق بعيد غير مراد تشنيعاً أو مبالغة في المدح.

ومن دلائل إدراك عامّة العرب اشتقاق الأسماء ما ذكره أبو بكر الزبيدي في طبقات النحويين عن يونس بن حبيب الضبّيّ أنه قال: (سُئل أبو عمرو بن العلاء عن اشتقاق الخيل، فلم يعرف، فمرَّ أعرابيٌّ مُحْرِم، فأراد السائلُ سؤال الأعرابي، فقال له أبو عمرو: دَعْنِي، فأنا ألطف بسؤاله وأعرف؛ فسأله؛ فقال الأعرابي: اشتقاق الاسم من فعل المسمّى؛ فلم يعرف من حضر ما أراد الأعرابي، فسألوا أبا عمرو عن ذلك، فقال: ذهب إلى الخُيلاء التي في الخيل والعُجْب؛ ألا تراها تمشي العِرَضْنة خُيلاءً وتكبُّرًا!)ا.هـ.

وشواهد معرفة العرب لاشتقاق الكلام بعضه من بعض كثيرة، وفيما ذكر من التمثيل كفاية.

عناية أصحاب المعاجم اللغوية بالاشتقاق
ظهرت العناية بالكتابة في الاشتقاق مبكّراً؛ فنبّه الخليل بن أحمد في معجمه إلى كثير من مسائل الاشتقاق، وتضمّن كتاب سيبويه مسائل كثيرة في الاشتقاق، ثم تتابع أصحاب المعاجم اللغوية على العناية بالاشتقاق، وكان من أكثرهم عناية به:
1. أبو بكر ابن دريد(ت:321هـ) في معجمه "جمهرة اللغة".
2. وأبو منصور الأزهري(ت:370هـ) في معجمه "تهذيب اللغة" ، وهو من أجلّ المعاجم اللغوية وأصحّها.
3. وابن فارس الرازي(ت:395هـ) في معجمه القيّم المسمى "مقاييس اللغة"، وقد بناه على إرجاع الكلمات التي يفسّرها إلى أصول جامعة تشترك في معنى كليّ يجتهد في استخراجه.
4. وابن سيده الأندسي(ت:458هـ) في كتابيه "المحكَم" و"المخصَّص" ، وقد عني فيهما بالاشتقاق عناية ظاهرة.
5. وابن منظور الأفريقي(ت:711هـ) وهو من ذريّة رويفع بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه، في معجمه المشهور "لسان العرب"
6. والمرتضى الزبيدي(ت:1205هـ) في كتابه الحافل "تاج العروس".
وفي هذه المعاجم اللغوية من العناية بالاشتقاق في تفسير معاني الكلمات ما هو ظاهر بيّن في كثير من المسائل.

ولبعض العلماء الذين ليست لهم معاجم لغوية عناية بالاشتقاق في بعض كتبهم، ومنهم: أبو علي الفارسي، وأبو الفتح ابن جني، وابن تيمية، وابن القيم.

المؤلفات المفردة في علم الاشتقاق
وقد أفرد التأليف في الاشتقاق جماعة من علماء اللغة:
منهم: المفضل الضبي وقطرب والأخفش الأوسط، والأصمعي، وأبو نصر الباهلي، وابن قطن المهري، وابن قتيبة، وابن طيفور، والمبرّد، والمفضّل بن سلمة الضبي، وأبو إسحاق الزجاج، وابن السرّاج، وابن دريد، وابن درستويه، وأبو جعفر النحاس، وابن خالويه، وأبو الحسن الرمّاني، وأبو القاسم الزجاجي، وأبو عبيد البكري، وحجة الأفاضل الخوارزمي، وأسامة بن منقذ، وغيرهم، وهؤلاء أكثر كتبهم مفقودة، وقد طبع منها:
1: كتاب اشتقاق الأسماء للأصمعي.
2: وكتاب الاشتقاق لابن دريد.
3: وكتاب "المعاني والاشتقاق" لأسامة بن منقذ.
وكثرة التأليف المفرد في الاشتقاق من دلائل عناية العلماء به.

وفي القرون المتأخرة كتب في الاشتقاق جماعة من العلماء منهم:
- أبو إسحاق الشاطبي(ت:790هـ) وهو صاحب الموافقات، وله كتاب "عنوان الاتفاق في علم الاشتقاق"
- ولعبد الرحيم المقدسي نزيل القسطنطينية(ت:1104هـ) كتاب بعنوان"خلاصة الاشتقاق"
- ولابن الجوهري(ت:1215هـ) كتاب بعنوان"إتحاق الرفاق ببيان أقسام الاشتقاق"
وكتبهم مفقودة.


ثم كتب في الاشتقاق بعدهم جماعة من أهل العلم، وكتبهم مطبوعة متداولة، ومنها:
1: نزهة الأحداق في علم الاشتقاق، للقاضي محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ).
2: العلم الخفاق من علم الاشتقاق، صديق حسن خان القنوجي(ت:1307هـ).
3: الاشتقاق والتعريب، عبد القادر المغربي(ت:1375هـ).
4: بلغة المشتاق إلى علم الاشتقاق، محمد ياسين بن عيسى الفاداني(ت:1410هـ) وهو كتاب تعليمي مرتب على الأسئلة والأجوبة في علم الاشتقاق.
5: وكتاب الاشتقاق، للأستاذ عبد الله أمين.
6: وكتاب "علم الاشتقاق نظرياً وتطبيقياً" للأستاذ محمد حسن حسن جبل.

وفي هذا العصر ظهرت بوادر التأليف المفرد في اشتقاق المفردات القرآنية؛ فكتب الأستاذ الجليل محمد حسن حسن جبل (ت:1436هـ) كتابه الكبير "المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم" وقد بنى كتابه هذا على فكرتَي "المعنى المحوري" و"الفصل المعجمي"، وقد شرح المراد بهما في مقدّمة كتابه هذا.

فائدة علم الاشتقاق للمفسّر:
الاشتقاق مما تدرك به معاني الألفاظ، ويعرف به أصلها وأوجه تصريفها، وقد استعمله الصحابة والتابعون لهم بإحسان ، ومن بعدهم من مفسّري السلف وأئمة الدين.
- قال مجاهد بن جبر: (كان ابن عباس لا يدري ما {فاطر السموات} حتى جاءه أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما: يا أبا عباس بئري أنا فطرتها، فقال: خذها يا مجاهد {فاطر السموات}). رواه الدولابي في الكنى واللفظ له، ورواه ابن جرير والبيهقي.
- وقال إبراهيم النخعي في قوله تعالى: {اتخذوا هذا القرآن مهجورا} قال: (يعني قالوا فيه غير الحق ألا ترى أن المريض إذا تكلم بغير عَقْلٍ قيل: إنه لَيَهْجُر). رواه ابن إسحاق الهمذاني وابن أبي حاتم، وروى ابن جرير نحوه.
وهذا أحد الأقوال في تفسير هذه الآية، ذهب فيه إبراهيم النخعي إلى أنّ الكفار اتّخذوا هذا القرآن غرضاً لأقوالهم السيئة؛ فقالوا: هو سحر، وقالوا: إفك مفترى، وقالوا: أساطير الأولين، إلى غير ذلك.
وهذا القول مبني على اشتقاق المهجور من هُجْر القول، وهو هذيانه وسيّئه.
قال الشماخ:
كما جَدةِ الأَعْراقِ قال ابنُ ضَرَّةٍ ... عليها كلاماً جارَ فيهِ وأَهْجَرا
وقد رُوي عن مجاهد نحو هذا القول، وفي هذه الآية أقوال أخرى، والمراد هنا التنبيه على أنّ استعمال الاشتقاق في التفسير واستخراج المعاني من أنواع التفسير اللغوي الذي عني به السلف وعلماء اللغة.

أنواع مسائل الاشتقاق في التفسير:
ومسائل الاشتقاق التي يذكرها المفسّرون في تفاسيرهم على نوعين:
النوع الأول: ما لا أثر له على المعنى، وهذا يكون في كثير من الألفاظ التي تنوسي اشتقاقها وصارت أشبه بالأعلام المرتجلة؛
ومن أمثلة هذا النوع: الخلاف في اشتقاق لفظ "المدينة"
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (قوله تعالى: {وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} هي جمع مدينة وفيها قولان:
أحدهما: أنها فَعيلة واشتقاقها من مدن وعلى هذا فتهمز لأنها فعائل كعقائل وظرائف وبابه.
الثاني: أنها مَفْعِلة واشتقاقها من "دان يدين" وأصلها مديونة مفعولة من "دَانَ" أي مملوكة مذللة لملكها منقادة له وفعل بها ما فعل بمبيوع حتى صار مبيعا..) إلى آخر ما ذكر رحمه الله.
والقول الأول أظهر؛ لأن الأفصح في الجمع على القول الثاني أن يقال: "مَداين" لا "مدائن"، والهمز خطّأه بعضهم، والصواب أنّه قد سمع نظيره كما في "معيشة" و"معائش" وقد قرئ بها في قوله تعالى: {وجعلنا لكم فيها معايش}، وسيبويه يخرّج المسموع من ذلك مما يخالف القياس على التوهّم، كما قال في "مصيبة" و"مصائب" توهّموها "فعيلة" كما في "صحيفة" و"صحائف".
قال سيبويه: ( فأما قولهم مصائب فإنه غلطٌ منهم، وذلك أنهم توهموا أن مصيبة فعيلةٌ وإنما هي مفعلةٌ)ا.هـ.

وسواء أكان اشتقاق لفظ "المدينة" من "مدن" بالمكان أي: أقام، أو من "دان" فإنّ لفظ "المدينة" صار اسم جنس للبلد المأهول بالبناء والساكنين، وُتنوسي أصل الاشتقاق، ولذلك قال أبو منصور الأزهري: ("مدن" فعلٌ مُمَات).
وهذا النوع إنما يبحثه اللغويون، ويقلّ بحثه عند المفسّرين.

والنوع الآخر: ما له أثر على المعنى، ويفيد في بيان معنى اللفظ، وترجيح بعض الأقوال على بعض؛ أو الجمع بينها؛ فهذا مما ينبغي للمفسّر أن يعتني به ويضبط مسائله.

- فمن أمثلة فوائده في البيان ما نقله ابن الجوزي عن ابن الأنباري في تفسير قول الله تعالى: ({ واهجرني ملياً } قال: (واشتقاق {نملي لهم} من الملوة، وهي المدة من الزمان ، يقال: مَلوة من الدهر، ومِلوة، ومُلوة، ومَلاوة، ومِلاوة، ومُلاوة، بمعنى واحد، ومنه قولهم: البس جديداً وتملّ حبيباً ، أي : لتطل أيامك معه، قال متمم بن نويرة:
بودِّيَ لو أني تملَّيت عُمرَه ... بماليَ من مالٍ طريفٍ وتالد)ا.هـ.

ومن أمثلة فوائده في الجمع والترجيح بين أقوال المفسّرين:
ما وقع من اختلاف المفسرين في معنى "المسحَّرين" في قول الله تعالى: {قالوا إنما أنت من المسحّرين}
فإنّهم اختلفوا فيه على أقوال كثيرة:
القول الأول: من المخلوقين، رواه ابن جرير والخطيب البغدادي كلاهما من طريق موسى بن عمير القرشي عن أبي صالح عن ابن عباس، وموسى بن عمير متروك الحديث.
وقال بهذا القول: الخليل بن أحمد، وجماعة من أهل اللغة.
القول الثاني: المسحورين، وهو قول مجاهد رواه عنه ابن جرير.
القول الثالث: الساحرين، وهو قول قتادة رواه عنه عبد الرزاق وابن أبي حاتم.
والقول الرابع: من المخدوعين، وهو رواية عن مجاهد أخرجها ابن الأنباري في "إيضاح الوقف والابتداء" من طريق الكلبي عن أبي صالح وعبد الوهاب عن مجاهد.
والقول الخامس: المسحَّر المجوَّف، وهو قول الفراء.
والقول السادس: المسحَّر الذي ليس له شَيء ولا مُلك، وهو تفسير الكلبي فيما ذكره يحيى بن سلام.
والقول السابع: المسحَّرون المرزوقون الذين لا بدّ لهم من الغذاء، ذكره ابن دريد في الجمهرة، وفي مجاز القرآن لأبي عبيدة نحوه.
قال أبو عبيدة: (كل من أكل من إنس أو دابة فهو مسحّر).
والقول الثامن: من المعلَّلين بالطعام والشراب، وهو قول ابن قتيبة.
والقول التاسع: ممن له سَحْر أي: رئة، والمقصد إنما أنت بشر مثلنا، وهذا قول الزجاج.
وقد حكى الماوردي أقوالاً أخرى لا أعلم لها أصلاً.

وهذه الأقوال المذكورة ترجع إلى معنيين في الاشتقاق:
المعنى الأول: أن يكون لفظ "المسحّرين" مشتقّا من السِّحْر، بكسر السين.
والمعنى الثاني: أن يكون مشتقّا من "السَّحْر" بفتح السين، لكن اختلف فيه على قولين:
القول الأول: أنّ المراد السَّحْر الذي بمعنى التغذية، وهو قول الخليل بن أحمد.
والقول الثاني: أن المراد السَّحْر الذي هو الرئة، وهو قول الفراء وأبي عبيدة والزجاج.

والذي يظهر لي أنّ هذين المعنيين يرجعان إلى اشتقاق واحد وهو الصَّرف، وأنّ المسحَّر هو المصروف عن شأنه وما ينفعه.
ومنه قوله تعالى: {فأنّى تُسحرون} أي "تُصرفون" في قول جمهور المفسّرين.
قال لبيد بن ربيعة:
فإن تسألينا فيم نحن فإننا ... عصافير من هذا الأنام المسَحَّر
عبيد لِحَيَّيْ حميرٍ إن تملَّكوا ... وتظلمنا عُمَّالُ كسرى وقيصرِ
نحلُّ بلاداً كلّها حُلَّ قبلَنا ... ونرجو الفلاحَ بعد عادٍ وحِمْيَرِ


يقول نحن أمّة ضعيفة مستضعفة كالعصافير في ضعفها واشتغالها بطلب المأكل والمشرب حتى استذلّتنا الأمم الأخرى كملوك حِمير من الجنوب، والمناذرة الذي هم وكلاء كسرى على من يليهم من العرب من جهة المشرق، والغساسنة الذين هم وكلاء قيصر على من يليهم من العرب من جهة الشمال.
يقول: فلم نهتدِ لما ننجو به من هذا الذلّ، ولم نفق من سكرتنا بطلب المأكل والمشرب، وغفلنا عن مصيرنا وقد علمنا هلاك الأمم قبلنا؛ فكأنّنا مسحَّرون أي: مصروفون عن شأننا وسبيل عزّتنا، مقيمون على ضعفنا واشتغالنا بما نُلهى به مما لا ينفع.
وهذا من شعر لبيد في الجاهلية.

وقال لبيد أيضاً:
وإنا قد يُرى ما نحن فيه ... ونُسحر بالشراب وبالطعام
كما سُحرت به إرم وعاد ... فأضحوا مثل أحلام النيام


وقال امرؤ القيس بن حجر الكندي:
أرانا موضِعين لأمرِ غيبٍ ... وَنُسْحَرُ بالطعامِ وَبالشرابِ
عَصافيرٌ وَذُبَّانٌ وَدُودٌ ... وأجْرأُ مِنْ مُجَلِّحَةِ الذِّئابِ

يقول: نحن في ضعفنا وقعودنا عن طلب العزّة كالمخلوقات الضعيفة من العصافير والذبّان والدود، وفي الشرّ والمآثم وقطيعة الأرحام أجرأ من الذئاب الضارية.

والمقصود من هذه الشواهد أنّ "المسحَّر" هو المصروف عن شأنه وما ينفعه، المشتغل بما يُلهى به عما يراد له.
والتعبير بالتسحير فيه معنى زائد عن مجرّد الصرف؛ فهو صرف مصحوب بأمرين:
- غفلة عما أمامه من كيد يراد له أو عاقبة لم يستعدّ لها.

- واشتغال بما لا ينفع، وهذا المشتغَلُ به قد يُذكر وقد يُحذف احتقاراً له أو لعدم فائدة ذكره.


ومن هذا الاشتقاق سمّي السِّحْر سحراً؛ لأنّ المسحور مصروف عما ينفعه ويصلح شأنه مشتغل بما لا ينفعه.
قال أبو منصور الأزهري: ( والسحر سمي سحرا: لأنه صرف الشيء عن جهته، فكأن الساحر لما أرى الباطل في صورة الحق، وخيل الشيء على غير حقيقته، فقد سحر الشيء عن وجهه أي صرفه)ا.هـ.

وتقرير معنى الآية على هذا - والله تعالى أعلم - أنّهم أرادوا بقولهم: "إنما أنت من المسحَّرين" أي من المصروفين عن شأنهم وما ينفعهم، المتعلّلين بما زُيّن لهم مما التهوا به وشغلهم.
وفيه تكذيب بالرسالة، واتهام رسولهم بأنّ ما يدعوا إليه إنما هو لهوٌ تعلّل به فخُدع به وصرفه عما يرونه من صلاح الشأن الذي يزعمون أنهم يبصرون فيه سبيل الرشاد، وأنّ رسولهم مُسحَّرٌ عنه، ولتأكيد هذا المعنى قالوا: {ما أنت إلا بشر مثلنا} وفي الموضع الآخر: {وما أنت إلا بشر مثلنا}.

وبذلك يظهر أن لفظ "المسحَّرين" ينتظم أكثر الأقوال المذكورة في تفسيره؛ فكلٌّ قد عبّر ببعض المعنى ، وبعض تلك الأقوال لها علل يحسن التنبيه عليها.
1. فأما القول بأنّ "المسحّرين" هم المخلوقون؛ فنسبته إلى ابن عباس لا تصحّ من جهة الإسناد، وهو قول صحيح من جهة المعنى؛ لكنّه تفسير باللازم.
2. وأما القول بأنّ المسحّرين هم المسحورون الذي سُحروا مرّة بعد مرّة، فهو قول له وجهه في اللغة، من جهة أنّ مُفعَّلا يأتي لتأكيد معنى المفعولية في "مفعول" ، كما في "مغلوب" و"مُغلَّب" ؛ فالمغلوب يقع على من غُلب مرة واحدة، والمُغلَّب الذي يُغلب مراراً؛ فلا يكاد يُغالب إلا غُلب.
قال عمرو بن كلثوم:
فإنْ نَغلب فغلابون قدما وإنْ نُغلب فغير مُغَلَّبينا
ولذلك قال بعض أهل اللغة في تقريب هذا القول: المُسَحَّر المسحور مرّة بعد مرّة.
وهذا القول رواه ابن جرير من طرق عن مجاهد.

3. وأما القول بأنّ "المسحَّرين" هم الساحرون، فرواه عبد الرزاق في تفسيره عن معمر عن قتادة، ومن طريقه أخرجه ابن أبي حاتم.
وقد روى هذا القول ابن جرير في تفسيره من هذا الطريق لكن قال: (من المسحورين) وقرنه بقول مجاهد، ولعلّ الصواب من جهة الرواية ما في تفسير عبد الرزاق.


ولهذا القول تخريجان لغويان مقبولان:
أحدهما: أنّ المُسحَّر هو الذي عُلّم السِّحْرَ حتى صار ساحراً؛ فهو وإن كان اسم مفعول إلا أنّه يؤول إلى معنى اسم الفاعل كما في "مُسلَّم" و"سالم" و"مخلَّد" و"خالد"، و"ومغلَّب" و"غالب".
والآخر: أن يكون المسحَّر بمعنى المتَّهم بالسحر؛ كالمكذَّب المتَّهم بالكذب، و"المبخَّل" الموصوف بالبخل.

4. وأما تفسير "المسحّرين" بالمخدوعين، فلا يصحّ عن مجاهد من حيث الإسناد، لكنّه تفسير صحيح قائم على المعنى المتقدّم تقريره بشواهده.
5. وأما تفسير الفراء للمسَحَّر بالمجوَّف؛ فهذا مأخوذ من لازم التعليل بالطعام والشراب، والشارب والطاعم له جوف؛ لكن لا يقصر المعنى عليه.
6. وأما تفسير المسحَّر بالذي ليس له شَيء ولا مُلك، فهو تفسير صحيح باعتبار اللازم على المعنى المتقدم ذكره.
7. وأما تفسير المسحَّر بالمرزوق الذين لا بدّ له من الغذاء، فهو تفسير ببعض المعنى على ما تقدّم ذكره.
8. وأما تفسير المسحَّر بالمعلل بالطعام والشراب؛ فهو مأخوذ من الشواهد الشعرية عن لبيد وامرئ القيس لكن قصر المعنى عليه لا يصح، لأنّ هذا الوصف له مقصد.
9. وأما تفسير الزجاج للمسحَّر بالذي له سَحر وهو الرئة فهو تفسير أراد به التنبيه على اشتقاق اللفظ، وهو أحد الأقوال في الاشتقاق كما تقدّم، والأظهر خلافه
وقد ردّ ابن القيّم هذا القول في بدائع الفوائد فأحسن.

أنواع الاشتقاق:
النوع الأول: الاشتقاق الصغير، وهو النوع المعروف عند العلماء المتقدّمين، وهو ما تقدّم ذكره؛ كاشتقاق "المسحَّر" من السَّحر" واشتقاق "مرداس" من الردس، وهكذا، ويلحظ فيها الاتفاق في ترتيب حروف الأصل مع اختلاف الصيغتين، وهذا النوع يسميه بعضهم "الاشتقاق الأصغر".

والنوع الثاني: الاشتقاق الكبير، وهو أن يكون بين الجذرين تناسب في المعنى مع اختلاف ترتيب الحروف، كما في "فسر" و"سفر"، و"فقر" و"قفر"
وهذا النوع سماه ابن جني وبعض أهل العلم "الاشتقاق الأكبر"، واستقرّت تسميته فيما بعد بالكبير.
وسمّاه شيخ الإسلام ابن تيمية "الاشتقاق الأوسط" وعرَّفه بقوله: (وهو: اتفاق اللفظين في الحروف لا في ترتيبها).
قال أبو الفتح ابن جني في الخصائص: (وأمَّا الاشتقاق الأكبر فهو أن تأخذ أصلًا من الأصول الثلاثية، فتعقد عليه وعلى تقاليبه الستة معنًى واحدًا، تجتمع التراكيب الستة وما يتصرف من كل واحد منها عليه، وإن تباعد شيء من ذلك عنه رُدَّ بلطف الصنعة والتأويل إليه، كما يفعل الاشتقاقيون ذلك في التركيب الواحد)ا.هـ.
وهذا النوع فيه لطائف، لكن ادّعاء اطراده في جميع تقليبات الجذر متعذّر أو متعسّر، ويدخله التكلف، ومن أوّل من عرفت عنه العناية بهذا النوع أبو الفتح ابن جنّي (ت:392هـ).
- فالألفاظ التي تعود إلى جذر ثلاثي ينتج عنها ستّة جذور بناء على تقليب ترتيب الحروف كما في: " ق ول", "ق ل و ", " وق ل " , "ول ق " , " ل ق و ", "ل وق ".
- والألفاظ التي تعود إلى جذر رباعي يمكن تقليبها إلى أربعة وعشرين جذراً.
- والخماسية إلى مائة وعشرين جذراً، ويتعذّر الإحاطة بها، وقد يكون كثير منها غير مستعمل.
والمقصود أنّ الاشتقاق الكبير قائم على النظر في استعمالات تقليبات الجذر ثم محاولة استخراج معنى كليّ يجمعها، كما قال ابن جني: ( إن معنى " ق ول " أين وجدت وكيف وقعت، من تقدّم بعض حروفها على بعض وتأخره عنه إنما هو للخفّة والحركة).
ثم شرع في شرح استعمالات كل جذر وشواهده ومحاولة إيجاد المناسبة بينه وبين المعنى الكلي الذي استخرجه.
وهذه الطريقة إذا أخذت بهذا التفصيل تعسّرت ودخلها التكلّف، ولا تتعلّق بها حاجة للمفسّر، وإن اقتصر فيها على ما يظهر فيه التناسب كان ذلك حسناً، وقد استعمله بعض المفسّرين استئناساً لا اعتماداً.
قال ابن القيم: (التفسير أصله: الظهور والبيان، ويقابله في الاشتقاق الأكبر: الإسفار ومنه أسفر الفجر إذا أضاء ووضح ومنه السفر لبروز المسافر من البيوت وظهوره ومنه السفر الذي يتضمن إظهار ما فيه من العلم وبيانه).
وقال شيخنا ابن عثيمين: (و{الفقراء} جمع فقير؛ و «الفقير» هو المعدم؛ لأن أصل هذه الكلمة مأخوذة من «الفقر» الموافق لـ«القفر» في الاشتقاق الأكبر - الذي يتماثل فيه الحروف دون الترتيب؛ و«القفر» الأرض الخالية، كما قال الشاعر:
وقبرُ حربٍ بمكانٍ قفر وليس قربَ قبرِ حرب قبر وفـ «الفقير» معناه الخالي ذات اليد)ا.هـ.
ومنه التناسب بين: الحَبْرِ والبَحْر، والرَّهَب والهَرَب، الصِّدْق والقَصْد، وغيرها.

والنوع الثالث: الاشتقاق الأكبر، ويسميه بعضهم الكُبار" وهو اتفاق الجذور في ترتيب أكثر الحروف واختلافها في حرف منها.
- وقد يكون الاختلاف في الحرف الأخير نحو: نفذ، ونفث، ونفر، ونفح، ونفخ، ونفج، ونفش، ونفل، وكلها تدلّ على مطلق خروج وانبعاث.
ونحو: هتن، وهتل، وهطل، وهي تدل على نزول شيء.
ومنه يعرف التناسب بين العَمَى والعَمَه وبابها.
- وقد يكون الاختلاف في الحرف الأول، نحو: همز، ولمز، وغمز، وجمز، ورمز، وكلها تدلّ حركة وخفة.
ومنه التناسب بين الهمزة واللمزة وبابها.

- وقد يكون الاختلاف في الحرف الأوسط: نحو: نعق، ونغق، ونهق، ويجمعها أنها تدلّ على تصويت.
ومنه التناسب بين: ينهون وينأون وبابها.
ويقال في هذا النوع ما قيل في الذي قبله من تعسّر القول باطّراده، وقد حاول ذلك بعض أهل اللغة فوقعوا في تكلّف كثير.

- ومن هذا النوع ما يدخله اختلاف اللغات فيحكى في المفردة لغتان عن العرب في نطقها مع اتحاد المعنى كما اختلفوا: في الصاعقة والصاقعة، وجذب وجبذ، ومشوذ ومشمذ وهي العمامة.
- ومنه ما يُختلف في كونه من اختلاف اللغات؛ كما اختلفوا في "مَدَحَ" و"مَدَهَ"
قال رؤبة بن العجاج: لله درَ الغانيات المدَّهِ ... سبَّحن واسترجعن من تألّهي
فذهب المبرد إلى أن المَدْهَ بمعنى المَدْحِ، وأنه لغة لبني سعد بن زيد مناة ولخم ومن قاربها.
وفرّق بينهما الخليل بن أحمد فقال: (المَدْهُ يضارعُ المَدْحَ، إلاّ أنّ المَدْهَ في نعت الجمال والهيئة، والمدح في كل شيء).

والنوع الرابع: الاشتقاق الكُبّار ، وهو اشتقاق لفظة من لفظتين أو أكثر اختصاراً، وهو ما يعرف بالنحت، كاشتقاق البسملة من قول "بسم الله" ، والحوقلة من "لا حول ولا قوة إلا بالله".

والخلاصة أنّ علم الاشتقاق من العلوم المهمة للمفسّر، وأنّ التمكن منه يفتح للمفسّر أبواباً من استخراج المعاني، والتخريج اللغوي لأقوال المفسرين، والجمع والترجيح، والنقد والإعلال.