الدروس
course cover
الدرس العاشر: مصاحف الصحابة رضي الله عنهم
30 Dec 2016
30 Dec 2016

5740

0

0

course cover
جمع القرآن

القسم الثالث

الدرس العاشر: مصاحف الصحابة رضي الله عنهم
30 Dec 2016
30 Dec 2016

30 Dec 2016

5740

0

0


0

0

0

0

0

الدرس العاشر: مصاحف الصحابة رضي الله عنهم



من المسائل المتّصلة بجمع القرآن ما يتعلق بمصاحف الصحابة رضي الله عنهم قبل الجمع العثماني وبعده، ومعرفة أحوال تلك المصاحف وتحرير أحكام ما يُنسب إليها مما يعين على معرفة الجواب عن الإشكالات التي تثار في هذا الباب، وكشف شبهات الطاعنين في جمع القرآن من الرافضة والمستشرقين والزنادقة.


وقد عُلم مما تقدّم أن الصحابة رضي الله عنهم لم يكن لهم مصحفٌ جامع في حياة النبي صلى الله عليه وسلم لما سبق ذكره من أنّ الوحي لم يكن قد انقطع؛ وكان القرآن يزيد الله فيه ما يشاء وينسخ على ما تقتضيه حكمته.


وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر كتّاب الوحي أن يكتبوا له، وأذن للصحابة رضي الله عنهم أن يكتبوا عنه القرآن، بل كان ينهى عن كتابة غير القرآن لئلا يلتبس عليهم بغيره كما في صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه، وحدثوا عني ولا حرج، ومن كذب عليَّ متعمداً فليتبوَّأ مقعده من النار).

ثمّ إنّ النبي صلى الله عليه وسلم أذن لعبد الله بن عمرو بن العاص أن يكتب عنه كلامه صلى الله عليه وسلم؛ فكانت عنده صحيفة تسمّى "الصادقة"، وأذن لبعض أصحابه بالكتابة لمّا أُمنت فتنة التباس القرآن بغيره، وكَثُر حملة القرآن من أصحابه رضي الله عنهم وأرضاهم.


فكان من الصحابة رضي الله عنهم من يكتب لنفسه بعض السور والآيات، وبعض أؤلئك كانت كتابتهم من إملاء رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم، كما في كتاب المصاحف لابن أبي داوود من رواية إسرائيل بن يونس، عن جدّه أبي إسحاق السبيعي، عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص أن عثمان قال في خطبته: (فأعزمُ على كلِّ رجل منكم ما كان معه من كتاب الله شيء لما جاء به)

قال مصعب: وكان الرجل يجيء بالورقة والأديم فيه القرآن، حتى جمع من ذلك كثرةً، ثم دخل عثمان فدعاهم رجلاً رجلاً فناشدهم: (لسمعتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أملاه عليك؟)

فيقول: نعم..). ثم ساق الخبر.

ورواه عمر بن شبة من طريق زيد بن أبي أنيسة عن أبي إسحاق السبيعي ، عن مصعب بن سعد أنَّ عثمان عزم على كلِّ مَن كان عنده شيء من القرآن إلا جاء به، قال: (فجاء الناس بما عندهم، فجعل يسألهم عليه البينة أنهم سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم).


وكانوا يكتبون في العسب واللخاف والأكتاف والأدُم كما تقدّم بيانه؛ فلمّا مات رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من أعظم أوجه عناية الصحابة رضي الله عنهم بالقرآن استكمال جمعه والتفقّه في معانيه وتدارسه، ومنهم من حبس نفسه لذلك.


قال يزيد بن هارون: أخبرنا ابن عونٍ، عن محمّد [بن سيرين]، قال: لمّا استُخلف أبو بكرٍ قعد عليٌّ في بيته؛ فقيل لأبي بكرٍ؛ فأرسل إليه: (أكرهت خلافتي؟)

قال: لا، لم أكره خلافتك، ولكن كان القرآنُ يزاد فيه، فلمّا قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم جعلتُ عليّ أن لا أرتدي إلاّ لصلاةٍ حتّى أجمعه للنّاس، فقال أبو بكرٍ: (نعم ما رأيتَ). رواه ابن أبي شيبة.

وهذا مرسل جيد رجاله أئمة ثقات، غير أنّ محمّد بن سيرين لم يدرك عليّ بن أبي طالب.

وقد رواه ابن الضريس من طريق هوذة بن خليفة قال: (حدثنا عوف، عن محمد بن سيرين، عن عكرمة فيما أحسب..) فذكره بنحوه.

ورواه أيضا من طريق النضر بن شميل عن عوف عن ابن سيرين عن عكرمة (من غير شك).

وقد ورى نحو هذا الأثر عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن عكرمة قال: (لما بويع لأبي بكر تخلَّف عليٌّ في بيته فلقيَه عمر فقال: "تخلفت عن بيعة أبي بكر؟"

فقال: "إني آليتُ بيمين حين قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أرتدي برداء إلا إلى الصلاة المكتوبة حتى أجمع القرآن؛ فإنّي خشيتُ أن يتفلَّت القرآن" ثم خرج فبايعه).


وهذا الخبر استشكله بعض أهل العلم حتى ضعّفه ابن حجر في الفتح لانقطاعه، لما تبادر منه أنه أراد جمع القرآن مكتوباً للناس، وهذا من المعلوم أنه مخالف لقول علي بأنّ أبا بكر هو أوّل من جمع القرآن بين دفّتين.

والصواب أنّ الجمعَ المراد في الأثر المرويّ عن عليّ جمع الحفظ في صدره، ولا يمنع أن يكون كتب سوراً كثيرة في صحف، وأما جمعُ أبي بكر فكان كان مكتوباً في مصحف جامع بين لوحين.


وقد اختلف في المراد من كون زيد بن ثابت لم يجد آخر آيتين من براءة مكتوبة إلا عند أبي خزيمة على قولين:

أحدهما: حمله على ظاهره، وهو أنهما لم توجدا مكتوبتين إلا عنده.

والآخر: أن الصحابة اشترطوا في اعتبار الكتابة أن تكون من إملاء رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه، وأنّهم لم يجدوهما على هذا الشرط إلا عند أبي خزيمة.


ولمّا تيسّر للصحابة من أدوات الكتابة في زمن الخلفاء الراشدين ما تيسّر كثر فيهم اتّخاذ المصاحف، فمنها ما كتب قبل الجمع العثماني ومنها ما كتب بعده، واعتنوا بتعليم القرآن وعرض المصاحف، حتى إنّ منهم من كان يخصص موضعاً في مسجده لعرض المصاحف كما سيأتي بيانه إن شاء الله.

وذكر ابن عبد البر في التمهيد عن الإمام مالك أنه قال: (قد كان الناس ولهم مصاحف، والستَّةُ الذين أوصى إليهم عمر بن الخطاب كانت لهم مصاحف).

يريد بالستة: عثمان، وعلي، والزبير، وطلحة، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم أجمعين.

وكان لبعض أمهات المؤمنين مصاحف صحّ ذلك عن عائشة وحفصة وأم سلمة.

وممن روي أن لهم مصاحف: أبيّ بن كعب، وابن مسعود، وأبو موسى الأشعري، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، وابن عباس.


هل كتب أحد من الصحابة مصحفاً على ترتيب النزول؟

قال ابن عبد البرّ: حدثنا خلف بن القاسم رحمه الله قال: حدثنا أبو جعفر عبد الله بن عمر بن إسحاق الجوهري بمصر، قال: حدثنا أحمد بن محمد بن الحجاج بن رشدين، قال: حدثنا يحيى بن سليمان الجعفي، قال: حدثنا إسماعيل ابن علية، قال: حدثنا أيوب السختياني، عن محمد بن سيرين، قال: (لما بويع أبو بكر أبطأ علي عن بيعته فجلس في بيته؛ فبعث إليه أبو بكر ما بطأك عني أكرهت إمرتي؟!).

فقال علي: (ما كرهت إمارتك، ولكني آليت أن لا أرتدي ردائي إلا إلى صلاة حتى أجمع المصحف)

قال ابن سيرين: (وبلغني أنه كتبه على تنزيله، ولو أصيب ذلك الكتاب لوجد فيه علم كثير).

قال ابن عبد البر: (أجمع أهل العلم بالحديث أن ابن سيرين أصح التابعين مراسل، وأنه كان لا يروي ولا يأخذ إلا عن ثقة وأن مراسله صحاح كلها ليس كالحسن وعطاء في ذلك والله أعلم)ا.هـ.


وهذا الأثر سبق ذكره من غير زيادة قوله: (وبلغني أنه كتبه على تنزيله..) فهذه الزيادة منكرة، لا تصحّ عن ابن سيرين، وفي إسنادها ابن رشدين، كذَّبه الحافظ أحمد بن صالح المصري، وقال ابن عديّ: له مناكير.

وقد روى هذا الأثرَ ابنُ الضريس في فضائل القرآن من طريق هوذة بن خليفة والنضر بن شميل عن عوف عن ابن سيرين أنه قال: فقلت لعكرمة: ألَّفوه كما أُنزل، الأوَّلَ فالأوَّلَ؟

قال: (لو اجتمعت الإنس والجن على أن يؤلفوه ذلك التأليف ما استطاعوا !!).

قال محمد: (أراه صادقاً).

وفي طريق هوذة شكّ في شيخ ابن سيرين هل هو عكرمة أو غيره.

فدعوى أنّ أحداً من الصحابة رتّب المصحف على ترتيب النزول دعوى باطلة.

وكذلك لفظة (حتى أجمع المصحف) منكرة لما تقدّم بيانه، وهي مبدلة من قوله: (حتى أجمع القرآن)، وكانت هذه الزيادة مما أُنكر على أشعث بن سَوَّار الكندي؛ فإنّه قد روى هذا الخبر عن ابن سيرين وفيه أنه قال: (لما توفي النبيُّ صلى الله عليه وسلم أقسم علي أن لا يرتدي برداء إلا لجمعة حتى يجمع القرآن في مصحف؛ ففعل؛ فأرسل إليه أبو بكر بعد أيام: « أكرهت إمارتي يا أبا الحسن؟»

قال: «لا والله إلا أني أقسمت أن لا أرتدي برداء إلا لجمعة » فبايعَه ثم رجع»). رواه ابن أبي داوود في كتاب المصاحف وتعقَّبَه بقوله: (لم يذكر المصحفَ أحدٌ إلا أشعث، وهو ليّن الحديث، وإنما رووا «حتى أجمع القرآن» يعني: أُتمّ حفظه؛ فإنه يقالُ للذي يحفظ القرآن قد جَمَعَ القرآن).


هل ثبت أن الصحابة علّقوا على مصاحفهم شيئاً من التفسير؟

ذكر بعض أهل العلم أنّ بعض الصحابة كانوا يكتبون في مصاحفهم شيئاً من التفسير، وهذه دعوى لا تصحّ، وإنما قاد إليها إرادة الجمع بين الأثر المروي عن عليّ، وما صحّ من أنّ أبا بكر هو أوّل من جمع القرآن.

قال الألوسي في مقدمة تفسيره: (وما شاع أن عليا كرم الله وجه لما توفي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم تخلف لجمعه فبعض طرقه ضعيف، وبعضها موضوع، وما صح؛ فمحمول كما قيل على الجمع في الصدر، وقيل كان جمعا بصورة أخرى لغرض آخر، ويؤيده أنه قد كتب فيه الناسخ والمنسوخ فهو ككتاب علم)ا.هـ.

وهذه الدعوى لا دليل عليها، والصحيح أنه محمول على جمع الصدر كما تقدّم.


مصحف سالم مولى أبي حذيفة رضي الله عنه

رُوي أنّ سالماً مولى أبي حذيفة كان أوّل من جمع القرآن في مصحف، لكنّه خبر معلول المتن والإسناد لا يصحّ.

قال السيوطي: (ومن غريب ما ورد في أول من جمعه ما أخرجه ابن اشته في كتاب المصاحف من طريق كهمس عن ابن بريدة قال: (أول من جمع القرآن في مصحف سالم مولى أبي حذيفة، أقسم لا يرتدي برداء حتى يجمعه ثم ائتمروا ما يسمونه؛ فقال بعضهم: سموه السفر.

قال: ذلك اسم تسميه اليهود، فكرهوه.

فقال: رأيت مثله بالحبشة يسمى المصحف، فاجتمع رأيهم على أن يسموه المصحف).

وقد قُتل سالم يوم اليمامة، ولم يدرك جمع أبي بكر، بل كان موته وموت إخوانه من قراء الصحابة رضي الله عنهم من أسباب جمع أبي بكر رضي الله عنه للقرآن.


وسالم مولى أبي حذيفة من السابقين الأوّلين إلى الإسلام والهجرة، هاجر قبل النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يؤمّ المسلمين في صلاتهم ويقرئهم القرآن.

- قال عبد الله بن عمر: «لما قدم المهاجرون الأوَّلون العُصْبَةَ - موضع بقباء - قَبلَ مَقدَمِ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤمّهم سالم مولى أبي حذيفة، وكان أكثرهم قرآنا» رواه البخاري من طريق عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر.

- وقال عبد الله بن وهب: أخبرني ابن جريج أن نافعاً أخبره أن ابن عمر رضي الله عنهما، أخبره قال: «كان سالم مولى أبي حذيفة يؤم المهاجرين الأولين وأصحابَ النبي صلى الله عليه وسلم في مسجد قباء، فيهم أبو بكر، وعمر، وأبو سلمة، وزيد، وعامر بن ربيعة» رواه البخاري.

وقال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «استقرئوا القرآن من أربعة، من عبد الله بن مسعود - فبدأ به -، وسالم مولى أبي حذيفة، وأبيّ بن كعب، ومعاذ بن جبل» رواه البخاري ومسلم من طرق عن مسروق عن عبد الله بن عمرو.

- وروى عبد الرحمن بن سابط الجمحي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: أَبطأتُ على النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقال: «ما حبسك يا عائشة؟»

قالت: يا رسول الله، إنَّ في المسجد رجلاً ما رأيت أحدا أحسن قراءة منه.

قال: فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو سالم مولى أبي حذيفة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الحمد لله الذي جعل في أمتي مثلك» رواه الإمام أحمد، وله شاهد عند البزار من طريق عبد الله بن أبي مليكة عن عائشة.


مصحف أبي بكر رضي الله عنه

وهو المصحف الذي أمر بجمعه، وكتبه له زيد بن ثابت، وقد بقي محفوظاً عند أبي بكر حتى مات، ثمّ بقي عند عمر حتى استُشهِد، ثم بقي عند حفصة، وأخذه عثمان لما جمع المصاحف حتى نسخه ثمّ ردّه إليها، وبقي عندها حتى ماتت، ثم أرسل مروان بن الحكم وكان أمير المدينة في خلافة معاوية إلى عبد الله بن عمر بعزيمة أن يبعث به إليه؛ فأخذه مروان فأتلفه واختلف في طريقة إتلافه؛ فقيل: حرّقه، وقيل: غسله بالماء، وقد تقدّم ذكر الآثار الواردة في ذلك عند الحديث عن جمع أبي بكر رضي الله عنه.

وكان مصحف أبي بكر مجموعاً بين لوحين على الصحيح، وذهب بعض أهل العلم إلى أنّه كان صحفاً متفرّقة غير مرتب على السور، والأول أصحّ.

وكان على حرف واحد خلافاً لمن زعم أنه كان مشتملاً على الأحرف السبعة.

وقد تقدّم كلّ ذلك عند الحديث عن الفَرْق بين جمع أبي بكر وجمع عثمان رضي الله عنهما، وحشرنا معهما.


مصحف عمر بن الخطاب رضي الله عنه

تقدّم أنّ عمر بن الخطّاب رضي الله عنه كان من كُتّاب الوحي للنبي صلى الله عليه وسلم، وأنّه هو أوّل من أشار على أبي بكر بجمع المصحف فتمّ ذلك بفضل الله ورحمته.


ولم يصحّ أنّ عمر جمع القرآن في مصحف بعد ذلك في خلافته، وقد رُوي في ذلك أخبار منكرة لا تصحّ، منها:

1: ما رواه ابن أبي داوود في كتاب المصاحف من طريق مبارك بن فضالة عن الحسن أن عمر بن الخطاب سأل عن آية من كتاب الله فقيل كانت مع فلان فقتل يوم اليمامة فقال: «إنا لله وأمر بالقرآن فجمع، وكان أول من جمعه في المصحف».

وهذا الخبر ضعيف الإسناد لضعف مبارك بن فضالة وشدة تدليسه، ولأن الحسن لم يدرك عمر بن الخطاب.

وقوله: (وكان أوّل من جمعه في المصحف) لا يصحّ بهذا الإطلاق، لمخالفته ما صحّ من أنّ أوّل من جمع المصحف أبو بكر رضي الله عنه، وأنّ عمر بن الخطاب هو أوّل من أشار بذلك.


2. وما رواه ابن أبي داوود أيضاً من طريق ابن وهب قال: أخبرني عمر بن طلحة الليثي، عن محمد بن عمرو بن علقمة، عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب قال: أراد عمر بن الخطاب أن يجمع القرآن، فقام في الناس فقال: (من كان تلقَّى من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا من القرآن فليأتنا به، وكانوا كتبوا ذلك في الصحف والألواح والعسب، وكان لا يقبل من أحد شيئا حتى يشهد شهيدان فقتل وهو يجمع ذلك إليه؛ فقام عثمان بن عفان فقال: من كان عنده من كتاب الله شيء فليأتنا به وكان لا يقبل من ذلك شيئا حتى يشهد عليه شهيدان، فجاء خزيمة بن ثابت فقال: إني قد رأيتكم تركتم آيتين لم تكتبوهما. قالوا: وما هما؟ قال: تلقيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم} إلى آخر السورة قال عثمان: فأنا أشهد أنهما من عند الله فأين ترى أن نجعلهما؟ قال: اختم بها آخر ما نزل من القرآن فختمت بها براءة).

وهذا الخبر ضعيف الإسناد معلول المتن، محمد بن عمرو بن علقمة متكلّم فيه من جهة خفة ضبطه، ويحيى بن عبد الرحمن لم يدرك عمر، ومتنه مخالف لسياق روايات الثقات المتقدّم ذكرها.


3. وما رواه عمر بن شبة في تاريخ المدينة من طريق يزيد بن عياض الليثي، عن الوليد بن سعيد، عن عروة بن الزبير قال: قدم المصريون فلقوا عثمان رضي الله عنه فقال: «ما الذي تنقمون؟»

قالوا: تمزيق المصاحف.

قال: (إنَّ الناس لما اختلفوا في القراءة خشي عمر رضي الله عنه الفتنة؛ فقال: من أَعْرَبُ الناسِ؟

فقالوا: سعيد بن العاص.

قال: فمن أخطُّهم؟

قالوا: زيد بن ثابت.

فأمر بمصحف فكُتِبَ بإعراب سعيد وخط زيد، فجمع الناس ثم قرأه عليهم بالموسم؛ فلما كان حديثاً كتبَ إليَّ حذيفةُ: إنَّ الرجل يلقي الرجل فيقول: قرآني أفضل من قرآنك حتى يكاد أحدهما يكفّر صاحبَه، فلما رأيت ذلك أَمرتُ الناس بقراءة المصحف الذي كتبه عمر رضي الله عنه، وهو هذا المصحف، وأمرتهم بترك ما سواه، وما صنع الله بكم خيرٌ مما أردتم لأنفسكم).

وهذا الخبر لا يصحّ، يزيد بن عياض متروك الحديث، قال فيه البخاري ومسلم: منكر الحديث، واتّهمه النسائي وغيره بالوضع، والوليد بن سعيد مجهول الحال.


وقال عمر بن شبّة: (يقال: إنّ نافع بن طريف بن عمرو بن نوفل بن عبد مناف كان كتب المصحفَ لِعُمر بن الخطاب رضي الله عنه).

وقد اختلف في ضبط اسمه فقيل: (نافع بن طريف) وقيل: (ابن ظُريب) وعَدّه ابن البر في الاستيعاب من الصحابة، وذكر أنه أسلم يوم الفتح.

وكتابةُ هذا المصحف إن أريد بها أنه كتب مصحفاً إماماً للناس فلا يصحّ، وإن أريد بها أنه كتب مصحفاً خاصّا بعمر؛ فمُحتمَل إلا أننا لم نجد له أثراً في الآثار المروية في مصاحف الصحابة.


وقد رُويت عن عمر أحرف تُركت القراءة بها كقراءة [صراط مَن أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم وغير الضالين] وقراءة [والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار الذين اتبعوهم بإحسان] من غير الواو.

ولا تلازم بين صحّة إسناد بعض الأحرف عن بعض الصحابة وبين كتابتها في مصاحفهم؛ إذ لم تكن الكتابة فرضاً على آحادهم، وقد أخطأ مَنْ عدّ ما روي من الأحرف عن بعض الصحابة مما كُتب في مصاحفهم مطلقاً.


مصحف عثمان بن عفان رضي الله عنه

روى عمر بن شبّة في تاريخ المدينة من طريق ابن شهاب الزهري عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه أنه قال: «فأمرني عثمان رضي الله عنه أن أكتب له مصحفاً فكتبته، فلما فرغتُ منه عرَضَه».

وهذا الخبر مختصرٌ من خبر الجمع العثماني المروي من هذا الطريق، وظاهر هذه الرواية أنّ هذا المصحف مختصّ بعثمان، والأقرب أنّه المصحف الذي يُسمّى "الإمام" وهو الذي استنتخت منه مصاحف الأمصار، وبقي عنده حتى استشهد رضي الله عنه.

وقد تقدّم الحديث عن مصحف عثمان فيما سبق، وأنّ الصحيح أنه فقد مُنذ زمن قديم.

قال ابن وهب: سألتُ مالكاً عن مصحف عثمان رضي الله عنه فقال لي: «ذهب» رواه ابن أبي داود.

وروى عمر بن شبّة أنّ الحجاج بن يوسف بعث إلى آل عثمان أن أخرجوا مصحف عثمان يُقرأ؛ فقالوا: أصيب المصحف يوم قُتل عثمان رضي الله عنه.

وما ذُكر أنه وجد في بعض خزائن الملوك فلم يثبت أنه عين مصحف عثمان، وقد تقدّم الحديث عن ذلك.

- قال ثابت بن العجلان: حدثني سليم أبو عامر قال: كنت حاضراً حين حُصر عثمان؛ فأخذ المصحف يقرأ فيه، فدخل عليه، فضرب فقطرت قطرة من دمه على {فسيكفيكهم الله}). رواه عمر بن شبة .

- وقال أشعث بن سالم العدوي: حدثني أبي، عن عمرة بنت قيس قالت: (رأيت على مصحف عثمان رضي الله عنه {فسيكفيكهم الله} قطرة من دم). رواه عمر بن شبة.

- وروى محمد بن إبراهيم التيمي عن أبي نضرة، عن أبي سعيد قال: لما قدم المصريون دخلوا على عثمان رضي الله عنه؛ فضرب ضربة على يده بالسيف، فقطر من دم يده على المصحف وهو بين يديه يقرأ فيه على {فسيكفيكهم الله}

قال: وشدَّ يده وقال: «إنها لأوَّل يدٍ خطَّتِ المفصَّل» ). رواه عمر بن شبة في تاريخ المدينة.

- وروى ابن شهاب الزهري، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف أنه قال: (لما ضربَ الرَّجلُ يدَ عثمان قال: « إنها لأوَّل يد خطَّتِ المفصَّل » ). رواه الطبراني وابن أبي عاصم.

- قال عثمان بن أبي شيبة: حدَّثنا يونس بن أبي يعفور العبدي، عن أبيه، عن مسلم أبي سعيد مولى عثمان أنَّ عثمان بن عفان أعتق عشرين مملوكاً، ثم دعا بسراويل فشدَّها عليه، ولم يلبسها في الجاهلية ولا في الإسلام ثم قال: (إني رأيت رسول الله صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم البارحة في المنام، ورأيت أبا بكر وعمر، وإنهم قالوا: اصبر فإنَّك تفطر عندنا القابلة)

ثم دعا بمصحف؛ فنشَرَه بين يديه؛ فقُتل وهو بين يديه). رواه أبو يعلى وعبد الله بن الإمام أحمد في مسند أبيه، وقال البوصيري: رواته ثقات.


مصحف عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه

روى ابن أبي داوود في كتاب المصاحف من طريق أشعث بن سوار، عن محمد بن سيرين قال: لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم أقسم عليٌّ أن لا يرتدي برداء إلا لجمعة حتى يجمع القرآن في مصحف؛ ففعل فأرسل إليه أبو بكر بعد أيام: « أكرهتَ إمارتي يا أبا الحسن؟»

قال: «لا والله إلا أني أقسمت أن لا أرتدي برداء إلا لجمعة فبايعه ثم رجع»

قال أبو بكر ابن أبي داوود: (لم يذكر المصحفَ أحدٌ إلا أشعث وهو ليّن الحديث، وإنما رووا "حتى أجمع القرآن" يعني: أتمَّ حفظه؛ فإنه يقال للذي يحفظ القرآن قد جمع القرآن).

قال ابن كثير: (وهذا الذي قاله أبو بكر أظهر، والله أعلم، فإن عليا لم ينقل عنه مصحف على ما قيل ولا غير ذلك، ولكن قد توجد مصاحف على الوضع العثماني، يقال: إنها بخط علي، رضي الله عنه، وفي ذلك نظر، فإنه في بعضها: كتبه علي بن أبي طالب، وهذا لحن من الكلام ؛ وعلي رضي الله عنه من أبعد الناس عن ذلك)ا.هـ.

وقد تقدّم الحديث عن بطلان دعوى كتابة عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه مصحفاً مرتّباً على النزول.


مصحف أبيّ بن كعب رضي الله عنه

قال بكير بن عبد الله بن الأشجّ: حدثني بسر بن سعيد، عن محمد بن أبيّ بن كعب أن ناساً من أهل العراق قدموا إليه؛ فقالوا: إنما تحمَّلنا إليك من العراق، فأخرج لنا مصحف أُبَيّ قال محمد: (قد قبضه عثمان)

قالوا: سبحان الله أخرجْه لنا !

قال: (قد قبضه عثمان) رواه أبو عبيد القاسم بن سلام في فضائل القرآن وابن أبي داوود في كتاب المصاحف، وهذا إسناد صحيح رجاله ثقات.

ويعضده ما تقدّم من غير وجه أنّ عثمان بن عفان رضي الله عنه أمر بجمع المصاحف وإحراقها، وفي صحيح البخاري وغيره من حديث الزهري عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنّ عثمان أرسل إلى كل أفقٍ بمصحفٍ مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق.

فهذا مما يستدلّ به على أنّ مصحف أبيّ بن كعب قد أُتلف.


أصناف ما يُنسب إلى مصحف أبي بن كعب

وما ينسب إلى مصحف أبيّ بن كعب مما يخالف المصاحف العثمانية على ثلاثة أصناف:

الصنف الأول: ما رُوي عمّن رأى مصحف أبيّ قبل أن يقبضه عثمان، وهذا الصنف لا يكاد يصحّ منه إلا النادر فيما وقفتُ عليه.

والصنف الثاني: ما روي عن أبيّ بن كعب من قراءته بما يخالف المصاحف العثمانية، فهذا منه ما لا يصحّ عنه وهو كثير، وما صحّ فهو محمول على أنه أقرأ به قبل جمع عثمان، أو أخبر به إخباراً لا إقراءً؛ ومن تلك الأحرف ما هو منسوخ، ومنها ما تُركت القراءة به لإجماع الصحابة على ترك الإقراء بما خالف المصاحف العثمانية.

وقد تقدّم التنبيه على أنّه لا تلازم بين صحة إسناد القراءة وكونها مكتوبة في مصحف الصحابي.

والصنف الثالث: ما نُسب إلى مُصحفٍ بالعراق يُدَّعى أنه مصحف أبيّ، وقد اختُلف فيه على ثلاثة أقوال:

القول الأول: أنه مصحف أنس بن مالك رضي الله عنه أملاه عليه أبيّ بن كعب.

قال القاضي أبو بكر الباقلاني: (قد رأينا مصحف أنسٍ الذي ذُكر أنه مصحفُ أُبيّ وكان موافقا لمصحفِ الجماعة بغيرِ زيادةٍ ولا نقصان).

ونقل عن أبي الحسن الأشعري أنه قال: (قد رأيتُ أنا مصحف أنسٍ بالبصرة عندَ بعض ولد أنس، فوجدتُه مساويا لمصحفِ الجماعةِ لا يغادرُ منه شيئا"، وكان يُروى عن ولدِ أنسِ عن أنسٍ أنّه خَط أنسٍ وإملاءُ أُبيّ).

وهذا الذي ذكره الباقلاني والأشعري لا يتحقق فيه وصف ما نُقل عن بعض الأئمة أنهم قرؤوه في مصحف أبيّ، ولا يبعد أن تتعدّد المصاحف المنسوبة إلى أبيّ كما تعددت المصاحف المنسوبة إلى عليّ وعثمان وابن مسعود.


والقول الثاني: أنه مصحف مستنسخ من مصحف أبيّ قبل الجمع العثماني، من المصاحف التي بلغت الآفاق ولم تُتلف فيما أتلف من المصاحف.

قال ابن عطية:(وانتشرت في خلال ذلك صحف في الآفاق كتبت عن الصحابة، كمصحف ابن مسعود، وما كتب عن الصحابة بالشام، ومصحف أبيّ، وغير ذلك، وكان في ذلك اختلاف حسب الأحرف السبعة التي أنزل القرآن عليها)

قوله: (في خلال ذلك) أي بعدَ جمع أبي بكر وقبل جمع عثمان.

وهذه المصاحف لم يوقف على طريقة نسخها، ولم يُتحقق من صحّة مراجعتها، وقد وقع الإجماع على ترك القراءة بها، وإنما ينقل منها بعض أهل العلم ما وجدوه من الاختلاف.


وقد تعددت المصاحف المنسوبة إلى أبيّ بن كعب، ولم يُمكن التوثّق من صحّة نسبتها؛ فلذلك هي معدودة من الوجادات الضعيفة المنقطعة، يُستأنس بها ولا يعتمد عليها، وإنما يُعوّل في صحة القراءة على ما ثبت بالتلقي المتصل إسناده عن القراء الثقات.


والقول الثالث: أنه مصحف أبيّ بن كعب نفسه، وهذا القول مبنيّ على ظنّ صحة نسبة تلك المصاحف إلى أبيّ، وهو خطأ بيّن، لما صحّ من أنّ مصحف أبيّ قبضه عثمان، وأنّ عثمان أمر بكلّ مصحف أو صحيفة فيها قرآن أن تحرق، ولم يكن لأبيّ أن يخالف أمر أمير المؤمنين، ولو نازعه في ذلك لاشتهر أمره كما اشتهر أمر منازعة ابن مسعود ثم رجوعه إلى امتثال أمر الخليفة الراشد عثمان بن عفان في ذلك.


ومن أمثلة ما يُنسب إلى مصحف أبيّ:

1. ما رواه ابن أبي داوود قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن زيد، حدثنا حجاج، حدثنا حماد قال: (قرأت في مصحف أبي: [للذين يُقسمون]).

وقال ابن أبي داود: مصحفنا فيه {يؤلون من نسائهم}

وبهذا الإسناد قال حماد: (وجدت في مصحف أبيّ: [فلا جناح عليه ألا يطوف بهما]).

إسحاق بن إبراهيم متكلّم فيه، وهو صدوق في نفسه، لكن له غرائب ومناكير، وحجاج هو ابن منهال الأنماطي من شيوخ البخاري ومسلم، وحماد هو ابن سلمة من طبقة أتباع التابعين؛ فهو متأخر جداً عن زمن الجمع العثماني.

2. وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: حدثنا يزيد، عن سليمان التيمي، عن عزرة، قال: (قرأت في مصحف أبي بن كعب هاتين السورتين: (اللهم نستعينك) و (اللهم إياك نعبد)).

عزرة هو ابن عبد الرحمن الخزاعي لم يدرك زمن الجمع.

3. وقال جرير بن حازم: (قرأتها في مصحف أُبيّ بن كعب [يُوَفِّيهمُ اللهُ الحَقُّ دِينَهُمْ]). رواه ابن جرير.

4. وقال هدبة بن خالد: حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، أن أنس بن النضر تغيب عن قتال بدر، وقال: تغيبت عن أول مشهد شهده النبي صلى الله عليه وسلم، والله لئن أراني الله قتالاً ليرينَّ ما أصنع، فلما كان يوم أحد انهزم أصحابُ النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأقبل سعد بن معاذ يقول: أين أين؟ فوالذي نفسي بيده، إني لأجد ريح الجنة دون أحد، قال: فحمل؛ فقاتل؛ فقُتل فقال سعد: والله يا رسول الله ما أطقت ما أطاق؛ فقالت أخته: والله ما عرفتُ أخي إلا بحسن بنانه؛ فوُجد فيه بضع وثمانون جراحة؛ ضربة سيف، ورمية سهم، وطعنة رمح، فأنزل الله {من المؤمنين رجال صدقوا، ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر، وما بدلوا تبديلا}

قال حماد: (وقرأت في مصحف أبيّ: [ومنهم من بدَّل تبديلا]). رواه ابن حبان.

5. وقال ميمون بن مهران: (قرأت في مصحف أبيّ بن كعب [اللهم نستعينك ونستغفرك] إلى قوله: [بالكافرين ملحق]). رواه أبو عبيد القاسم بن سلام في فضائل القرآن وعمر بن شبة في تاريخ المدينة من طرق عن جعفر بن برقان عن ميمون بن مهران.

ميمون لم يدرك زمان الجمع العثماني الذي قُبض فيه مصحف أبيّ.

6. وقال ابن إسحاق: (وقد قرأتُ في مصحف أبيّ بن كعب بالكتابِ الأول العتيق: {بسم الله الرحمن الرحيم . قل هو الله أحد ... } إلى آخرها

{بسم الله الرحمن الرحيم . قل أعوذ برب الفلق...} إلى آخرها

{بسم الله الرحمن الرحيم . قل أعوذ برب الناس...} إلى آخرها

[بسم الله الرحمن الرحيم . اللهم إنا نستعينك ونستغفرك، ونثني عليك الخير، ولا نكفرك، ونخلع ونترك من يفجرك].

[بسم الله الرحمن الرحيم . إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، نخشى عذابك ونرجو رحمتك إن عذابك بالكفار ملحق].

[بسم الله الرحمن الرحيم . اللهم لا ينزع ما تعطي، ولا ينفع ذا الجد منك الجد، سبحانك وغفرانك وحنانيك إله الحق]). رواه محمد بن نصر المروزي في قيام الليل.


فهذه الآثار وما شابهها مما ذكره المتأخّرون عن زمن الجمع العثماني لا تُحمل على ما في مصحف أبيّ بن كعب الذي كتبه لنفسه؛ فذاك قد قبضه عثمان، وما اطّلعوا عليه إنما هو من مصاحف منسوبة إلى أبيّ بن كعب، ومن دلائل ذلك اختلاف الألفاظ في هاتين السورتين.

فقد روى المروزي نفسه عن سلمة بن خصيف أنه قال: سألت عطاء بن أبي رباح: أي شيء أقول في القنوت؟

قال: (هاتين السورتين اللتين في قراءة أبي: [اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك ونخشى عذابك، إن عذابك بالكفار ملحق، اللهم إنا نستعينك ونستغفرك، ونثني عليك ولا نكفرك، ونخلع ونترك من يفجرك]).

فهي قراءة تروى عن أبيّ مما نُسخ من القرآن، وقد اختُلف في ألفاظها، وفي كتابتها في المصاحف المنسوبة إلى أبيّ، فنسبتها إلى أبيّ نسبة قراءة لا نسبة كتابة، أي أن تلك المصاحف كُتبت على ما يُروى من قراءة أبيّ، ولم يوقف على صحة تلك الروايات، لا أنّ أبيّ بن كعب كتبها أو أملاها بنفسه لما تقدّم شرحه.

ويُحتمل أن تكون مما كتب بعد الجمع العثماني بزمن، ويُحتمل أن تكون مما استنتخ من المصاحف وبلغ الآفاق قبل الجمع العثماني ولم يُتلف فيما أُمر بإتلافه.

ولا حجّة في تلك المصاحف المخالفة للمصاحف العثمانية ولا يعوّل عليها، وإنما يُستدلّ بما صحّت الرواية به في مسائل التفسير واللغة، ولذلك يذكرها بعض المفسّرين في تفاسيرهم.


وأمّا الآثار التي تُروى عمّن أدرك زمن الجمع العثماني ويمكن أنه يكون اطّلع على مصحف أبيّ قبل أن يقبضه عثمان فهو محمول على ما كان في مصحف أبيّ قبل الجمع العثماني من الأحرف التي انعقد الإجماع على ترك الإقراء بها مع ما ترك من الأحرف التي تخالف المصاحف العثمانية، وإن صحّ الإسناد بتلك الأحرف، ومنها ما هو منسوخ التلاوة.


وهذا الصنف كما تقدّم يُروى فيه الصحيح والضعيف، ومما روي من أخبار هذا الصنف:

1. قول عمرو بن دينار: سمعت بجالة التميمي، قال: وجد عمر بن الخطاب مصحفاً في حجر غلام في المسجد فيه: [النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أبوهم] ؛ فقال: «احككها يا غلام»

فقال: والله لا أحكّها وهي في مصحف أبيّ بن كعب؛ فانطلق إلى أبيّ فقال له: «إني شغلني القرآن، وشغلك الصفق بالأسواق إذ تعرض رداءك على عنقك بباب ابن العجماء» رواه عبد الرزاق وعمر بن شبة والبيهقي من طرق عن عمرو بن دينار بألفاظ متقاربة.

وبجالة هو ابن عبدة التميمي كان كاتب جَزْء بن معاوية عمّ الأحنف بن قيس في زمان عمر.

وهذه القراءة منسوخة باتفاق.

وكان أبيّ ربما نازع في بعض المنسوخ في أوّل الأمر لكنّه رجع إلى ما في المصاحف العثمانية، وكان من القرَّاء الذين راجعوا الجمع على الصحيح.

وفي صحيح البخاري من حديث حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال عمر: « أبيّ أقرؤنا، وإنا لندع من لحن أبيّ، وأبيّ يقول: أخذته من في رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا أتركه لشيء ».

وإجماع الصحابة على المصاحف العثمانية يقضي على كلّ خلاف قبله.


2. وقال عبد الأعلى بن عبد الأعلى السامي: حدثنا هشام يعني ابن حسان، عن محمد بن سيرين، أن عمر رضي الله عنه سمع كثير بن الصلت، يقرأ: [لو أنَّ لابن آدم واديين من مال لتمنى واديا ثالثا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب]فقال عمر رضي الله عنه: ما هذا؟

قال: هذا في التنزيل.

فقال عمر رضي الله عنه: (من يعلم ذاك؟ والله لتأتين بمن يعلم ذاك أو لأفعلن كذا وكذا).

قال: أبي بن كعب.

فانطلق إلى أُبيّ فقال: (ما يقول هذا؟)

قال: ما يقول؟

قال: فقرأ عليه.

فقال: صدق، قد كان هذا فيما يُقرأ.

قال: أكتبها في المصحف؟

قال: لا أنهاك.

قال: أتركها؟

قال: لا آمرك). رواه عمر بن شبّة في تاريخ المدينة ورجاله ثقات إلا أنّه منقطع.

وله شاهد من حديث شعبة، عن عاصم بن بهدلة، عن زرّ بن حبيش، عن أبيّ بن كعب، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن)) قال: فقرأ: {لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب} قال: فقرأ فيها: [ولو أن ابن آدم سأل واديا من مال فأعطيه، لسأل ثانياً ولو سأل ثانياً فأعطيه لسأل ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب، وإن ذلك الدين القيم عند الله الحنيفية، غير المشركة ولا اليهودية ولا النصرانية، ومن يفعل خيرا فلن يكفره] ). رواه الإمام أحمد وغيره، واختلاف الألفاظ يدلّ على أنّه مما أُنسي نصّه من القرآن ونُسخ، وأنَّ الرواة إنما رووه بالمعنى.


3. وقال نصر بن عليّ الجهضمي: أخبرنا المعتمر بن سليمان عن عاصم الأحول عن عكرمة قال: (كان ابن عباس يقرأ بقراءة أبيّ، وكان في مصحف أبيّ [إلا أن تفحش عليكم]). رواه القاضي أبو إسحاق المالكي في كتابه أحكام القرآن.

وهو محمول على أنه كان يقرأ بها قبل الجمع العثماني، وأنه أخبرهم بذلك.


4. وقال ابن جرير: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا يحيى بن عيسى، قال: ثنا نصير بن أبي الأشعث، قال: ثني ابن حبيب بن أبي ثابت، عن أبيه، قال: أعطاني ابن عباس مصحفاً؛ فقال: هذا على قراءة أبيّ بن كعب، قال أبو كريب: قال يحيى: رأيت المصحف عند نُصير فيه: «ووصى ربّك» يعني: وقضى ربك). وهذا الخبر رجال إسناده ثقات، وابن حبيب وإن لم يُسمَّ إلا أنّ الدارقطني ذكر في العلل أنّ أبناءه ثلاثة كلّهم ثقات.

لكنَّ هذا الخبر مختصر من خبرٍ أطول منه لم أقف على أصله، وقد قطَّعه ابن جرير في تفسيره، والأخبار المقطّعة قد لا تظهر علّتها إلا بالوقوف على أصلها؛ فإنّ من عادة ابن جرير أن يكرر الإسناد في الأخبار التي يُقطّعها، وقد لا يكون بعض تلك الأجزاء مما يتحقق فيه اتصال ذلك الإسناد.

ثم إن هذا الخبر ليس فيه أنه من كتابة ابن عباس ولا أنّه راجعه وأصلح ما قد يكون من خطأ الكاتب، وإنما هو خبرٌ عن مصحفٍ كُتبَ على قراءة أبيّ، لم يصلنا منه إلا أحرف يسيرة لا إشكال فيها.


عدد السور في مصحف أبيّ بن كعب

قال عبد الأعلى بن عبد الأعلى السامي: حدثنا هشام، عن محمد بن سيرين (أنَّ أبيَّ بن كعب كتبهن في مصحفه خمسَهن: أمَّ الكتاب، والمعوذتين، والسورتين، وتركهنَّ ابنُ مسعود كلَّهن، وكتبَ ابنُ عفان فاتحةَ الكتاب، والمعوذتين، وترك السورتين). رواه عمر بن شبة.

يقصد بالسورتين سورتي الحفد والخلع، وقد تقدّم ذكر خبرهما.

وهذا الخبر صحيح الإسناد إلى ابن سيرين لكنّه لم يدرك أبيّ بن كعب، ولا زمن الجمع العثماني، لكنه كان يروي عن كثير بن أفلح أحد كتبة المصاحف العثمانية، وكان بينهما مصاهرة.

قال جلال الدين السيوطي: (نقل جماعة عن مصحف أبيّ أنه ست عشرة سورة ومائة، والصواب أنه خمس عشرة؛ فإنَّ سورة الفيل وسورة لإيلاف قريش فيه سورة واحدة).

وهذا القول من السيوطي محمولٌ على المصاحف المنسوبة إلى أبيّ، وهو غير متحقّق أنه مصحف أبيّ كما تقدّم.

ومما يدلّ على ذلك ما نُسب إلى مصحف أبيّ بن كعب من تسميات بعض السور كما قال السيوطي: ( {لم يكن}:تُسمّى سورة "أهل الكتب"، كذلك سُمِّيت في مصحف أبيٍّ).

وقال أيضاً: (المجادلة: سُمِّيت في مصحف أبيٍّ الظهار).

وقد عُلم أنّ الصحابةَ رضي الله عنهم كانوا يجرّدون المصاحف من غير القرآن، ولم تُكتب أسماء السور في المصاحف إلا في زمن الحجّاج بن يوسف.

قال النووي في المنهاج: (ما أثبت في المصحف الآن من أسماء السور والأعشار شيء ابتدعه الحجاج في زمنه).

وقال ابن تيمية: (أمر الصحابة والعلماء بتجريد القرآن وأن لا يكتب في المصحف غير القرآن فلا يكتب أسماء السور ولا التخميس والتعشير ولا آمين ولا غير ذلك والمصاحف القديمة كتبها أهل العلم على هذه الصفة).

فهذا مما لا ينبغي أن يظُنّ أنه من فعل أبيّ بن كعب ولا إملائه ولا رضاه.


ترتيب السور في مصحف أبيّ بن كعب

نقل السيوطي في الإتقان عن أبي بكر محمد بن عبد الله المعروف بابن أشته (ت:360هـ) تلميذ ابن مجاهد صاحب «السبعة في القراءات» أنه قال: (أنبأنا محمد بن يعقوب حدثنا أبو داود حدثنا أبو جعفر الكوفي قال: هذا تأليف مصحف أبيّ: الحمد، ثم البقرة، ثم النساء، ثم آل عمران، ثم الأنعام، ثم الأعراف، ثم المائدة، ثم يونس، ثم الأنفال، ثم براءة، ثم هود، ثم مريم، ثم الشعراء، ثم الحج، ثم يوسف، ثم الكهف، ثم النحل، ثم الأحزاب، ثم بني إسرائيل، ثم الزمر أولها حم، ثم طه، ثم الأنبياء، ثم النور، ثم المؤمنون، ثم سبأ، ثم العنكبوت، ثم المؤمن، ثم الرعد، ثم القصص، ثم النمل، ثم الصافات، ثم ص، ثم يس، ثم الحجر، ثم حم عسق، ثم الروم، ثم الحديد، ثم الفتح، ثم القتال، ثم الظهار، ثم تبارك الملك، ثم السجدة، ثم إنا أرسلنا نوحا، ثم الأحقاف، ثم ق، ثم الرحمن، ثم الواقعة، ثم الجن، ثم النجم، ثم سأل سائل، ثم المزمل، ثم المدثر، ثم اقتربت، ثم حم الدخان، ثم لقمان، ثم حم الجاثية، ثم الطور، ثم الذاريات، ثم ن، ثم الحاقة، ثم الحشر، ثم الممتحنة، ثم المرسلات، ثم عم يتساءلون، ثم لا أقسم بيوم القيامة، ثم إذا الشمس كورت، ثم يا أيها إذا طلقتم النساء، ثم النازعات، ثم التغابن، ثم عبس، ثم المطففين، ثم إذا السماء انشقت، ثم والتين والزيتون، ثم اقرأ باسم ربك، ثم الحجرات، ثم المنافقون، ثم الجمعة، ثم لم تحرم، ثم الفجر، ثم لا أقسم بهذا البلد، ثم والليل، ثم إذا السماء انفطرت، ثم والشمس وضحاها، ثم والسماء والطارق، ثم سبح اسم ربك، ثم الغاشية، ثم الصف، ثم سورة أهل الكتاب وهي لم يكن، ثم الضحى، ثم ألم نشرح، ثم القارعة، ثم التكاثر، ثم العصر، ثم سورة الخلع، ثم سورة الحفد، ثم ويل لكل همزة، ثم إذا زلزلت، ثم العاديات، ثم الفيل، ثم لإيلاف، ثم أرأيت، ثم إنا أعطيناك، ثم القدر، ثم الكافرون، ثم إذا جاء نصر الله، ثم تبت، ثم الصمد، ثم الفلق، ثم الناس)ا.هـ.

أبو جعفر الكوفي من شيوخ أبي داوود السجستاني، وما ذكره من الترتيب إنما هو على ما اطّلع عليه من المصاحف المنسوبة إلى أبيّ بن كعب.


مصحف عبد الله بن مسعود رضي الله عنه

عبد الله بن مسعود رضي الله عنه من كبار قرّاء الصحابة رضي الله عنهم وأفاضلهم، وكان من المعلّمين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبقي معلّماً للقرآن بعده حتى مات رضي الله عنه، وقد تقدّم الحديث في فضله وتقدّمه في القراءة والإقراء.

وقد بعثه عمر بن الخطّاب رضي الله عنه إلى الكوفة معلّماً ووزيراً، فكان يعلّمهم القرآن، ويفتيهم، ويأخذون من علمه وأدبه وسمته، وربّما أملى عليهم المصاحف فكتبوا.

روى الأعمش عن إبراهيم النخعي عن علقمة أنه قال: جاء رجل إلى عمر وهو بعرفات؛ فقال: جئت يا أمير المؤمنين من الكوفة، وتركت بها رجلاً يملي المصاحف عن ظهر قلبه!!

فغضب عمر وانتفخ حتى كاد يملأ ما بين شُعبتي الرَّحْل !

فقال: ومن هو ويحك؟!

قال: عبد الله بن مسعود

فما زال يطفأ ويسرَّى عنه الغضب، حتى عاد إلى حاله التي كان عليها، ثم قال: "ويحك والله ما أعلمه بقي من الناس أحد هو أحق بذلك منه"). رواه الإمام أحمد وأبو يعلى وابن خزيمة وغيرهم.

فكان غضبه من خشية أن يكون المتصدّي لهذا الأمر جلل من ليس له بأهل؛ فلمّا علم أنّه ابن مسعود سكن جأشه، وذهب ما في نفسه.

فكان في الكوفة مصاحف كُتبت على ما كان يعلّمهم ابن مسعود من القراءة، وكان منهم من يعرض عليه المصحف فيقيم له فيه ما يكون من الخطأ في الكتابة.

- قال زرّ بن حبيش: كنا نعرض المصاحف على عبد الله فسأله رجل من ثقيف فقال: يا أبا عبد الرحمن، أي الأعمال أفضل؟

قال: «الصلاة، ومن لم يصلّ فلا دين له» رواه ابن أبي شيبة من طريق شريك عن عاصم عن زرّ، وله متابع يأتي ذكره قريباً.

- وقال سحيم بن نوفل: كنا نعرض المصاحف عند عبد الله؛ فجاءت جارية أعرابية إلى رجلٍ من القوم؛ فقالت: اطلب راقياً فإنَّ فلانا قد لقع فرسك بعينه؛ فتركه يدور كأنه فلك!!

قال: فقال عبد الله لا تطلب راقياً اذهب فانفث في منخره الأيمن أربعا وفي الأيسر ثلاثا ثم قل: "بسم الله، لا باس لا باس، أذهب الباس رب الناس، واشف أنت الشافي، لا يذهب بالضر إلا أنت"

قال: فذهب الرجل ثم رجع؛ فقال: فعلت الذي أمرتني؛ فأكل وبال وراث). رواه الطبراني في الدعوات والخرائطي في مكارم الأخلاق من طريق سفيان الثوري عن حصين بن عبد الرحمن عن هلال بن يساف عن سحيم به.


بل كان في مسجده موضع مخصص لعرض المصاحف، كما دلّ عليه ما رواه محمّد بن نصر المروزي في تعظيم قدر الصلاة من طريق شعبة، عن عاصم ابن بهدلة، عن زر بن حبيش، قال: كان عبد الله رضي الله عنه يعجبه أن يقعد حيث تُعرض المصاحف فجاءه ابن الحضارمة رجل من ثقيف فقال: أي درجات الإسلام أفضل؟ قال: «الصلاة على وقتها من ترك الصلاة فلا دين له».


فلمّا كان الجمع العثماني حصل من ابن مسعود من المعارضة في أوّل الأمر ما تقدّم بيانه، وأنّه خطب في الناس وأمرهم أن يغلّوا مصاحفهم ثمّ إنه رجع إلى ما أجمع عليه الصحابة رضي الله عنهم من الاجتماع على حرف واحد ومصحف إمام لا تختلف فيه هذه الأمة.

وتقدّم البيان بأنّه أقام مصحفَه على المصحف الإمام الذي بعث به عثمان إلى الكوفة، وأمر أن يقيموا مصاحفهم عليه، وأن تترك القراءة بما خالفه، وأن تسلّم المصاحف المخالفة للرسم العثماني.

قال كثير بن هشام الكلابي: حدثنا جعفر بن برقان، قال: حدثنا عبد الأعلى بن الحكم الكلابي قال: أتيت دار أبي موسى الأشعري، فإذا حذيفة بن اليمان، وعبد الله بن مسعود، وأبو موسى الأشعري فوق إجَّار لهم، فقلت: هؤلاء والله الذين أريد؛ فأخذت أرتقي إليهم؛ فإذا غلام على الدرجة؛ فمنعني فنازعته؛ فالتفت إليَّ بعضهم، قال: خلِّ عن الرجل؛ فأتيتهم حتى جلستُ إليهم؛ فإذا عندهم مصحف أرسل به عثمان، وأمرهم أن يقيموا مصاحفهم عليه؛ فقال أبو موسى: (ما وجدتم في مصحفي هذا من زيادة فلا تنقصوها، وما وجدتم من نقصان فاكتبوه)

فقال حذيفة: كيف بما صنعنا؟!! والله ما أحدٌ من أهل هذا البلد يرغَب عن قراءة هذا الشيخ، يعني ابنَ مسعود، ولا أحدٌ من أهل اليمن يرغَب عن قراءة هذا الشيخ، يعني أبا موسى الأشعري).

قال عبد الأعلى: (وكان حذيفة هو الذي أشار على عثمان رضي الله عنه بجمع المصاحف على مصحف واحد، ثم إن الصلاة حضرت؛ فقالوا لأبي موسى الأشعري: تقدم فإنا في دارك، فقال: لا أتقدم بين يدي ابن مسعود، فتنازعوا ساعة، وكان ابن مسعود بين حذيفة وأبي موسى فدفعاه حتى تقدَّم فصلَّى بهم). رواه عمر بن شبة وابن أبي داوود.


لكن من الجائز أن يكون بعض تلك المصاحف لم يُتلف فيما أُتلف، وهي مصاحف كتبها أصحابها لم يكن فيها من التوثّق والاحتياط والمراجعة وأَمْنِ الخطأ ما في المصاحف العثمانية.

وهي مصاحف ملغاة إجماعاً، لا يُعتدّ بها في القراءة لإجماع الصحابة رضي الله عنهم على ترك القراءة بما خالف المصحف الإمام.

وقد بقيت مصاحف منسوبة إلى ابن مسعود رضي الله عنه لا يوقف لها على إسناد متّصل إلى ابن مسعود، وهي معدودة من الوجادات الضعيفة، ولا يُؤمن أن تكون إنما نسبت إليه على ما يُظنّ أنها على قراءته وتأليفه، لا على أنه أملاها.


أنواع ما يُنسب إلى مصحف ابن مسعود:

وما يُنسب إلى مصحف ابن مسعود مما يُخالف المصاحف العثمانية على أنواع:

النوع الأول: ما صحّ إسناده إلى مَن قرأ على ابن مسعود قبل الجمع العثماني مما يخالف رسم المصاحف العثمانية.

فهذا النوع يُستدلّ به في التفسير واللغة ولا يُقرأ بما فيه، ويستدلّ بما لم يُنسخ منه في الأحكام، ويُعتقد صحته وأنّه مما تركت القراءة به من الأحرف المخالفة للرسم العثماني.

ومن أمثلة ذلك ما في الصحيحين من حديث علقمة بن قيس النخعي قال: قدمت الشأم فصليت ركعتين، ثم قلت: اللهم يسر لي جليسا صالحا، فأتيت قوما فجلست إليهم، فإذا شيخ قد جاء حتى جلس إلى جنبي، قلت: من هذا؟

قالوا: أبو الدرداء.

فقلت: إني دعوت الله أن ييسر لي جليسا صالحا، فيسَّرَك لي.

قال: ممن أنت؟

قلت: من أهل الكوفة.

قال: أوليس عندكم ابن أمّ عبدٍ صاحب النعلين والوساد والمطهرة؟!! وفيكم الذي أجاره الله من الشيطان - يعني على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم -؟!! أوليس فيكم صاحب سر النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا يعلمه أحد غيره؟!!

ثم قال: كيف يقرأ عبد الله: {والليل إذا يغشى}؟

فقرأتُ عليه: [والليل إذا يغشى. والنهار إذا تجلى . والذكر والأنثى]

قال: «والله لقد أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم من فيه إلى في»

وفي رواية لمسلم: أن علقمة قال: قدمنا الشام فأتانا أبو الدرداء، فقال: «فيكم أحد يقرأ على قراءة عبد الله؟»

فقلت: نعم، أنا.

قال: " فكيف سمعت عبد الله يقرأ هذه الآية {والليل إذا يغشى}؟

قال: سمعته يقرأ: {والليل إذا يغشى} [والذكر والأنثى]، قال: (وأنا والله هكذا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها، ولكن هؤلاء يريدون أن أقرأ {وما خلق} فلا أتابعهم).

يريد بالذي أجاره الله من الشيطان عمّار بن ياسر، وهذه المحاورة بين علقمة وأبي الدرداء كانت في حياة ابن مسعود، وقبل الجمع العثماني، وكان هذا الحرف مما اتفقت فيه قراءة ابن مسعود وأبي الدرداء، وكانوا يُقرئون الناس به، ولا يبعد أن يكون مكتوباً في مصاحف أصحابهم قبل الجمع العثماني.

وقراءة عثمان بن عفان وأبيّ بن كعب وزيد بن ثابت والعامّة {وما خلق الذكر والأنثى} وهي التي اختيرت في الرسم العثماني.


والنوع الثاني: ما روي عمّن لم يقرأ على ابن مسعود زمن الجمع العثماني، وإنما اطّلع على مصاحف منسوبة إلى ابن مسعود؛ فهذا النوع لا يُعتمد عليه في الرواية، ولا يُحتجّ به في الأحكام، وقد يُستفاد منه في التفسير واللغة، ولذلك يعتني بذكره بعض المفسّرين، ومن أمثلة ذلك:

1. قول عبد الله بن وهب: أخبرني جرير بن حازم قال: (قرأت في مصحف عبد الله بن مسعود: {فاذكروا اسم الله عليها} صوافن).

2. قال هشيم بن بشير: أنا داود بن أبي هند، قال: (هي في مصحف عبد الله: [وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بأمهاتهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم]). رواه سعيد بن منصور وابن جرير.

لكن ينبغي أن يُتنبّه إلى أنّ تلك المصاحف غير متحقق صحّة نسبتها إلى ابن مسعود رضي الله عنه، ومن دلائل ذلك ما أضيف إليها من أسماء السور وما وقع بينها من الاختلاف.


ما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان لا يكتب المعوذتين في مصحفه

- قال زرّ بن حبيش: قلت لأبي بن كعب: إنَّ ابن مسعود كان لا يكتب المعوذتين في مصحفه، فقال: "أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرني: "أن جبريل قال له: قل أعوذ برب الفلق، فقلتها، فقال: قل أعوذ برب الناس، فقلتها ". فنحن نقول ما قال النبي صلى الله عليه وسلم). رواه الإمام أحمد من طريق حماد بن سلمة قال: أخبرنا عاصم بن بهدلة عن زرّ به.

- وروى الإمام أحمد من طريق الأعمش، عن أبي إسحاق السبيعي، عن عبد الرحمن بن يزيد النخعي قال: كان عبد الله يحكّ المعوذتين من مصاحفه، ويقول: (إنهما ليستا من كتاب الله).

- وروى الإمام أحمد أيضاً عن سفيان بن عيينة، عن عبدة، وعاصم، عن زر، قال: قلت لأبي: إن أخاك يحكهما من المصحف، قيل لسفيان: ابن مسعود؟ فلم ينكر قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "قيل لي، فقلت " فنحن نقول كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال سفيان: (يحكهما: المعوذتين، وليسا في مصحف ابن مسعود، كان يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوّذ بهما الحسن والحسين، ولم يسمعه يقرؤهما في شيء من صلاته؛ فظن أنهما عوذتان، وأصرَّ على ظنه، وتحقق الباقون كونهما من القرآن، فأودعوهما إياه).

- وهذا الخبر رواه البخاري في صحيحه بالإبهام؛ فقال: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان، حدثنا عبدة بن أبي لبابة، عن زر بن حبيش، ح وحدثنا عاصم، عن زر، قال: سألت أبي بن كعب، قلت: يا أبا المنذر إن أخاك ابن مسعود يقول كذا وكذا، فقال أبيّ: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي: «قيل لي فقلت» قال: فنحن نقول كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم).

- وروى البزار والطبراني من طريق حسان بن إبراهيم، عن الصلت بن بهرام، عن إبراهيم النخعي، عن علقمة، عن عبد الله بن مسعود أنه كان يحكّ المعوذتين من المصحف ويقول: «إنما أُمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يتعوذ بهما» وكان عبد الله لا يقرأ بهما).

قال البزار: (وهذا الكلام لم يتابع عبدَ الله عليه أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ بهما في الصلاة وأثبتتا في المصحف).

- وروى الطبراني في الكبير من طريق عبد الحميد بن الحسن، عن أبي إسحاق السبيعي، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن ابن مسعود، أنه: كان يقول: "لا تخلطوا بالقرآن ما ليس فيه، فإنما هما معوذتان تعوذ بهما النبي صلى الله عليه وسلم: {قل أعوذ برب الفلق}، و{قل أعوذ برب الناس}". وكان عبد الله يمحوهما من المصحف.

- وقال محمد بن سيرين: (كتب أبيّ بن كعب في مصحفه فاتحة الكتاب والمعوذتين، و{اللهم إنا نستعينك}، و{اللهم إياك نعبد}، وتركهنّ ابنُ مسعود، وكتب عثمان منهنَّ فاتحة الكتاب والمعوذتين). رواه أبو عبيد القاسم بن سلام في فضائل القرآن وعمر بن شبّة في تاريخ المدينة.


وقد اختلف أهل العلم فيما نُسب إلى ابن مسعود رضي الله عنه في شأن المعوذتين، والصواب ما قاله سفيان بن عيينة والبزار وغيرهما من أهل الحديث من القول بصحّة ما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه، والتماس العذر له بكونه لم يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بهما في صلاته، وأنّه سمعه يعوّذ بهما؛ فظنّهما عوذتين وليستا سورتين من القرآن، ولم يُنكر أنهما وحي من الله.

وقد صحّت الأحاديث بإثبات أنهما سورتين من القرآن، كما في حديث أبيّ بن كعب المتقدّم.

- وحديث عقبة بن عامر رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: "ألا أعلّمك سورتين من خير سورتين قرأ بهما الناس؟"

قال: قلت: بلى يا رسول الله !

قال: فأقرأني {قل أعوذ برب الفلق} و{قل أعوذ بربّ الناس} ). رواه الإمام أحمد والنسائي وابن خزيمة من طريق الوليد بن مسلم قال: حدثني عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، حدثني القاسم أبو عبد الرحمن، عن عقبة بن عامر، وهذا إسناد صحيح.

- وفي سنن أبي داوود وشرح مشكل الآثار للطحاوي وسنن البيهقي من طريق محمد بن إسحاق، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبيه، عن عقبة بن عامر، قال: بينا أنا أسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الجحفة والأبواء إذ غشيتنا ريح وظلمة شديدة، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ بأعوذ برب الفلق، وأعوذ برب الناس، ويقول: «يا عقبة ! تعوذ بهما؛ فما تعوذ متعوذ بمثلهما»

قال: وسمعته يؤمنا بهما في الصلاة).

- وروى الإمام أحمد والطحاوي في شرح مشكل الآثار من طريق شعبة، عن الجريري، عن يزيد بن عبد الله بن الشخير، عن رجل من قومه أن رسول الله عليه السلام مر به، فقال: (اقرأ في صلاتك بالمعوذتين).

ويزيد بن عبد الله من بني الحريش بطن من بني عامر بن صعصعة، ولذلك فإنّ الصحابيّ الذي روى عنه هذا الحديث غير عقبة بن عامر الجهني.

- وقد روي عن عائشة رضي الله عنها من طرق يشدّ بعضها بعضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوتر بثلاث: يقرأ في أول ركعة بـ{سبح اسم ربك الأعلى} وفي الثانية: {قل يا أيها الكافرون} وفي الثالثة: {قل هو الله أحد} والمعوذتين».


ففي هذه الأحاديث وما في معناها إثبات أنهما سورتان من القرآن، وأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ بهما في الصلاة وخارجها، وأقرأ بهما، وأمر بقرائتهما في الصلاة وخارجها.

وابن مسعود وإن كان من كبار قرّاء الصحابة فهو غير معصوم من الخطأ، ولم يتابعه على ما صنع أحد من الصحابة ولا التابعين.

ومما ينبغي أن يُعلم أن هذه الروايات عن ابن مسعود في شأن المعوذتين كانت قبل الجمع العثماني، وقبل أن يقيم مصحفه على المصحف الإمام الذي أمر به عثمان بن عفان وأجمع الصحابة على اتخاذه مصحفاً إماماً وتركِ القراءة بما خالفه.

ووقوعُ بعض الخطأ من أفرادٍ من القرّاء قبل انعقاد الإجماع على مصحف إمامٍ مشتهرٍ بين الناس جائز الوقوع، ولا عصمة للأفراد ، وإنما العصمة لإجماعهم، وقد يخطئ المخطئ وهو معذور مأجور، إذا كان هذا هو مبلغ اجتهاده، فلا يعاب بمثل هذا الخطأ ابن مسعود ولا غيره من القرّاء.

قال ابن قتيبة: (ولكنّ عبد الله ذهب - فيما يرى أهل النظر - إلى أن المعوذتين كانتا كالعُوذة والرّقية وغيرها، وكان يرى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يعوّذ بهما الحسن والحسين وغيرهما، كما كان يعوّذ بأعوذ بكلمات الله التّامة، وغير ذلك، فظنّ أنهما ليستا من القرآن، وأقام على ظنّه ومخالفة الصحابة جميعاً كما أقام على التّطبيق، وأقام غيره على الفتيا بالمتعة، والصّرف ورأى آخر أكل البرد وهو صائم، ورآى آخر أكل السّحور بعد طلوع الفجر الثاني. في أشباه لهذا كثيرة)ا.هـ.


وقوله: (أقام على ظنّه) مدفوع برجوع ابن مسعود إلى ما أجمع عليه الصحابة، وثبوت القراءة عنه بالأسانيد التي يروي بها القراء عنه ما يوافق قراءة العامة وفيها المعوذتان.


وقد ذهب بعض أهل العلم إلى إنكار صحة ما روي عن ابن مسعود كما فعل الكرجيّ القصاب في تفسيره وابن حزم في المحلّى والنووي في المجموع والرازي في تفسيره وغيرهم.

قال ابن حزم: (كل ما روي عن ابن مسعود من أن المعوذتين وأم القرآن لم تكن في مصحفه فكذب موضوع لا يصح؛ وإنما صحت عنه قراءة عاصم عن زر بن حبيش عن ابن مسعود وفيها أم القرآن والمعوذتين)ا.هـ.

وقال النووي: (وما نقل عن ابن مسعود في الفاتحة والمعوذتين باطل ليس بصحيح عنه).

وقد تعقبهم ابن حجر في الفتح بقوله: (وأما قول النووي في شرح المهذب: "أجمع المسلمون على أن المعوذتين والفاتحة من القرآن، وأن من جحد منهما شيئا كفر، وما نقل عن بن مسعود باطل ليس بصحيح"؛ ففيه نظر وقد سبقه لنحو ذلك أبو محمد بن حزم فقال في أوائل المحلى: "ما نقل عن بن مسعود من إنكار قرآنية المعوذتين فهو كذب باطل" وكذا قال الفخر الرازي في أوائل تفسيره: "الأغلب على الظن أن هذا النقل عن ابن مسعود كذب باطل والطعن في الروايات الصحيحة بغير مستند لا يقبل بل الرواية صحيحة والتأويل محتمل والإجماع الذي نقله إن أراد شموله لكل عصر فهو مخدوش، وإن أراد استقراره فهو مقبول)ا.هـ.


وقد ذهب الكرجي القصاب وأبو بكر الباقلاني إلى أنّ ابن مسعود لم ينكر أنهما من القرآن، وإنما أنكر كتباتهما في المصحف، والروايات الصحيحة تردّ هذا التأويل.

وحكى القرطبي عن بعضهم أنّ ابن مسعود لم يكتب المعوذتين لأنه أمن عليهما من النسيان، ثمّ ردّ عليهم بأنّ ما ذكروه متحقق في سورة الإخلاص والنصر والكافرون وغيرها وكان يكتبها.


والخلاصة أنّ ما روي عن ابن مسعود من أنه كان لا يكتب المعوذتين في المصحف صحيح عنه، لكنّه رجع عنه.

وقد روى ابن أبي شيبة عن إبراهيم النخعي أنه قال: قال: قلت للأسود: من القرآن هما؟ قال: «نعم»، يعني: المعوذتين

والأسود بن يزيد من خاصّة أصحاب ابن مسعود.


ترتيب السور في مصحف ابن مسعود

- روى الأعمش عن أبي وائل شقيق بن سلمة أنه قال: قال عبد الله: «لقد تعلمت النظائر التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرؤهن اثنين اثنين، في كل ركعة»

فقام عبد الله ودخل معه علقمة، وخرج علقمة فسألناه، فقال: عشرون سورة من أول المفصل على تأليف ابن مسعود، آخرهن الحواميم: حم الدخان وعم يتساءلون). رواه البخاري ومسلم.

وهذه الرواية مختصرة، وقد استُشكل فيها عدّ حم الدخان من المفصّل، وهذا الإشكال تدفعه الروايات الأخرى.

- قال مهدي بن ميمون: حدثنا واصل الأحدب، عن أبي وائل، قال: غدونا على عبد الله، فقال رجل: قرأت المفصل البارحة!

فقال: «هذّا كهذّ الشِّعْر إنا قد سمعنا القراءة، وإني لأحفظ القرناء التي كان يقرأ بهن النبي صلى الله عليه وسلم، ثماني عشرة سورة من المفصل، وسورتين من آل حم» رواه البخاري ومسلم.

فأخرج آل حم من المفصّل، ولذلك فقول بعض أهل العلم في الرواية الأولى: (ظاهرُهُ أن الدخان من المفصل) مدفوع بهذه الرواية المبيّنة.


- وروى أبو داوود في سننه من طريق إسرائيل بن يونس عن جده أبي إسحاق السبيعي عن علقمة والأسود قالا: أتى ابنَ مسعود رجلٌ، فقال: إني أقرأ المفصل في ركعة، فقال: أهذا كهذ الشعر، ونثرا كنثر الدقل، «لكن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ النظائر السورتين في ركعة، الرحمن والنجم في ركعة، واقتربت والحاقة في ركعة، والطور والذاريات في ركعة، وإذا وقعت ونون في ركعة، وسأل سائل والنازعات في ركعة، وويل للمطففين وعبس في ركعة، والمدثر والمزمل في ركعة، وهل أتى ولا أقسم بيوم القيامة في ركعة، وعم يتساءلون والمرسلات في ركعة، والدخان وإذا الشمس كورت في ركعة».

قال أبو داود: «هذا تأليف ابن مسعود رحمه الله»

قال ابن رجب: (وليس في هذه الرواية من آل حم سوى سورة الدخان، وهذا يخالف رواية مسلم المتقدمة: وسورتين من آل حم).

ورواية إسرائيل عن جدّه بعد الاختلاط، فلذلك ضعّف بعضُ أهل الحديث ما في هذه الرواية من سرد أسماء السور، لكن روى ابن خزيمة هذا الخبر من طريق أبي خالد عن الأعمش عن أبي وائل، وزاد فيه: قال الأعمش: (وهي عشرون سورة على تأليف عبد الله أوَّلهن: الرحمن وآخرتهن الدخان: الرحمن والنجم، والذاريات والطور، هذه النظائر، واقتربت والحاقة، والواقعة ون، والنازعات وسأل سائل، والمدثر والمزمل، وويل للمطففين وعبس، ولا أقسم وهل أتى، والمرسلات وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت والدخان). رواه ابن خزيمة في صحيحه.


- وقال حصين بن عبد الرحمن: حدثني إبراهيم عن نهيك بن سنان السلمي: أنه أتى عبد الله بن مسعود فقال: قرأت المفصل الليلة في ركعة، فقال: هذّاً مثل هذِّ الشِّعْرِ، أو نثراً مثل نثر الدقل؟!، إنما فُصِّلَ لتفصّلوا، لقد علمت النظائر التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرن عشرين سورة: الرحمن والنجم، على تأليف ابن مسعود، كل سورتين في ركعة، وذكر الدخان وعم يتساءلون في ركعة). رواه الإمام أحمد في مسنده، ورواه الطحاوي في شرح مشكل الآثار وزاد:

فقلت لإبراهيم: أرأيت ما دون ذلك! كيف أصنع؟

قال: ربما قرأتُ أربعاً في ركعة).

قال الطحاوي: (قول ابن مسعود رضي الله عنه بعد ذلك: "إنما سمي المفصل لتفصلوه"؛ فإنَّ ذلك لم يذكره عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد يحتمل أن يكون ذلك من رأيه؛ فإن كان ذلك من رأيه؛ فقد خالفه في ذلك عثمان بن عفان رضي الله عنه لأنه كان يختم القرآن في ركعة)ا.هـ.

وروى الإمام أحمد من طريق حماد بن سلمة قال: حدثنا عاصم عن زر: أن رجلا قال لابن مسعود: كيف تعرف هذا الحرف: "ماء غير" ياسن أم "آسن"؟ فقال: كل القرآن قد قرأت؟، قال: إني لأقرأ المفصل أجمع في ركعة واحدة!، فقال أهذ الشعر لا أبا لك؟!، قد علمت قرائن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي كان يقرن قرينتين قرينتين، من أول المفصل. وكان أول مفصل ابن مسعود. {الرحمن}).

قال بدر الدين العيني: (قوله: (على تأليف ابن مسعود) أراد به أن سورة النجم كان بحذاء سورة الرحمن في مصحف ابن مسعود، بخلاف مصحف عثمان).

- قال منصور بن صقير البغدادي: حدثنا حماد بن سلمة عن عاصم ابن بهدلة عن زر قال: (كان أول مفصل ابن مسعود: الرحمن) رواه الطحاوي في شرح مشكل الآثار، ومنصور هذا قال فيه أبو حاتم الرازي: ليس بقوي، وفي حديثه اضطراب، وقال ابن حبان: لا يحتجّ به إذا انفرد.

وقد تقدّم قول زرّ بن حبيش في ذلك.

وذكر ابن حجر عن الداودي أنّ أوّل مفصّل ابن مسعود الجاثية،

وذكر ابن الملقّن أنّ أوّل مفصّل ابن مسعود القتال.

ولا أعلم لهذين القولين مستندا.

وقال السيوطي: (قال ابن أشتة أيضا: وأخبرنا أبو الحسن بن نافع أن أبا جعفر محمد بن عمرو بن موسى حدثهم قال: حدثنا محمد بن إسماعيل بن سالم حدثنا علي بن مهران الطائي حدثنا جرير بن عبد الحميد قال: تأليف مصحف عبد الله بن مسعود:

طوال البقرة والنساء وآل عمران والأعراف والأنعام والمائدة ويونس.

والمئين: براءة والنحل وهود ويوسف والكهف وبني إسرائيل والأنبياء وطه والمؤمنون والشعراء والصافات.

والمثاني: الأحزاب والحج والقصص وطس النمل والنور والأنفال ومريم والعنكبوت والروم ويس والفرقان والحجر والرعد وسبأ والملائكة وإبراهيم وص والذين كفروا ولقمان والزمر والحواميم حم المؤمن والزخرف والسجدة وحمعسق والأحقاف والجاثية والدخان وإنا فتحنا لك والحشر وتنزيل السجدة والطلاق ون والقلم والحجرات وتبارك والتغابن وإذا جاءك المنافقون والجمعة والصف وقل أوحي وإنا أرسلنا والمجادلة والممتحنة ويا أيها النبي لم تحرم.

والمفصل: الرحمن والنجم والطور والذاريات واقتربت الساعة والواقعة والنازعات وسأل سائل والمدثر والمزمل والمطففين وعبس وهل أتى والمرسلات والقيامة وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت وإذا السماء انفطرت والغاشية وسبح والليل والفجر والبروج وإذا السماء انشقت واقرأ باسم ربك والبلد والضحى والطارق والعاديات وأرأيت والقارعة ولم يكن والشمس وضحاها والتين وويل لكل همزة وألم تر كيف ولإيلاف قريش وألهاكم وإنا أنزلناه وإذا زلزلت والعصر وإذا جاء نصر الله والكوثر وقل يا أيها الكافرون وتبت وقل هو الله أحد وألم نشرح وليس فيه الحمد ولا المعوذتان).

وهذا التأليف كما تقدّم إنما هو في مصاحف منسوبة إلى ابن مسعود غير متحقق صحّة نسبتها.


مصحف أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها

قال ابن جريج: أخبرني يوسف بن ماهك قال: إني عند عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها إذ جاءها عراقي فقال: (أي الكفن خير؟).

قالت: (ويحك وما يضرك؟!)

قال: (يا أم المؤمنين أريني مصحفك)

قالت: ( لِمَ؟)

قال: (لعلي أولّف القرآن عليه فإنه يقرأ غير مؤلف).

قالت: (وما يضرك أيَّه قرأتَ قبل؟!! إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء "لا تشربوا الخمر" لقالوا: لا ندع الخمر أبداً، ولو نزل "لا تزنوا" لقالوا: لا ندع الزنا أبدا، لقد نزل بمكة على محمد صلى الله عليه وسلم وإني لجارية ألعب { بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر } ، وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده).

قال: (فأخرجت له المصحف فأملت عليه آي السور). رواه البخاري في صحيحه.

- وروى ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب، عن القاسم (أن عائشة كانت تقرأ في المصحف فتصلي في رمضان). رواه ابن أبي داوود في كتاب المصاحف.

- وروى شعبة بن الحجاج، عن أم سلمة الأزدية، قالت: (رأيت عائشة رضي الله عنها تقرأ في المصحف، فإذا مرت بسجدة قامت فسجدت). رواه ابن أبي شيبة والبيهقي في شعب الإيمان.

- وروى محمد بن سليمان التيمي عن أبيه (أن عائشة كانت تقرأ في المصحف وهي تصلي). رواه عبد الرزاق.

- وروى وكيع، عن سفيان الثوري، عن منصور بن المعتمر، عن مجاهد، عن عائشةرضي الله عنها أنها «كانت تقرأ في رمضان في المصحف بعد الفجر، فإذا طلعت الشمس نامت» رواه الفريابي في فضائل القرآن، وإسناده صحيح إلى مجاهد، لكنه لم يثبت له سماع من عائشة.

- وروى شعبة عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها، «أنه كان يؤمها غلام لها في المصحف» رواه ابن أبي داود في كتاب المصاحف، ورواه عبد الرزاق من طريق معمر عن أيوب عن عبد الرحمن بن القاسم مختصراً.

- وروى جرير بن حازم، عن أيوب السختياني، عن ابن أبي مليكة «أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤمها غلامها ذكوان في المصحف» رواه ابن وهب في جامعه، ومن طريقه ابن أبي داوود والبيهقي، ورواه أصله عبد الرزاق من طريق معمر عن أيوب عن ابن مليكة قال: ( كان يؤمّ من يدخل عليها إلا أن يدخل عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر فيصلي بها).

قال محمد بن نصر المروزي: (سئل ابن شهاب رحمه الله عن الرجل يؤم الناس في رمضان في المصحف؛ قال: «ما زالوا يفعلون ذلك منذ كان الإسلام، كان خيارنا يقرءون في المصاحف» ).

- وروى زيد بن أسلم عن القعقاع بن حكيم، عن أبي يونس، مولى عائشة، أنه قال: أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفاً، وقالت: إذا بلغت هذه الآية فآذني: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى}؛ فلما بلغتها آذنتها فأملَتْ عليَّ: ( [حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصروقوموا لله قانتين] ، قالت عائشة: سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم). رواه مالك والشافعي وأحمد ومسلم وغيرهم.

وهذا محمول على أنها أرادت أن تكتب ذلك لنفسها لتذكر به القراءة المنسوخة مع علمها بنسخها، ويدلّ لذلك ما رواه ابن أبي داوود في كتاب المصاحف من طريق ابن جريج قال: أخبرني عبد الملك بن عبد الرحمن، عن أمه أم حميدة ابنة عبد الرحمن، أنها سألت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها عن الصلاة الوسطى؛ فقالت: ( كنَّا نقرأ في الحرف الأول: [حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين]). رواه ابن أبي داوود.

- وقال ابن جريج: أخبرني ابن أبي حميد قال: أخبرتني حميدة قالت: (أوصت لنا عائشة رضي الله عنها بمتاعها، فكان في مصحفها: [حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر]). رواه ابن أبي داوود.


مصحف أمّ المؤمنين حفصة رضي الله عنها

- روى زيد بن أسلم، عن عمرو بن رافع أنه قال: كنت أكتب مصحفاً لحفصة أم المؤمنين. فقالت: «إذا بلغت هذه الآية فآذني» {حافظوا على الصلوات، والصلاة الوسطى، وقوموا لله قانتين}؛ فلما بلغتها آذنتها فأملت علي: [حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين] ). رواه مالك في الموطأ وأحمد في مسنده.

- وقال ابن جريج: أخبرني نافع أن حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم دفعت مصحفا إلى مولى لها يكتبه، وقالت: (إذا بلغت هذه الآية {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى} فآذنّيفلما بلغها جاءها، فكتبت بيدها [حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطىوصلاة العصروقوموا لله قانتين] ). رواه مالك في الموطأ وأبو عبيد القاسم بن سلام في فضائل القرآن، وذكر اختلاف الرواة في إثبات الواو وحذفها في قوله: (وصلاة العصر) واستُدلَّ لحذفها بما رواه عبد الملك بن عمير، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبي بن كعب، أنه كان يقرؤها كذلك: [حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر]، ومثله عن ابن عباس، وذكر أنّ الواو في قراءة عبيد بن عمير، فحذف الواو يفيد تفسير الصلاة الوسطى بأنها العصر، وإثباتها يقتضي المغايرة بينهما، وهذا الحرف مما كان يُقرأ به ثمّ نُسخ، ولعلّ حفصة إنما كتبته لخاصّة نفسها.


مصحف أمّ المؤمنين أمّ سلمة رضي الله عنها

- قال داوود بن قيس الفرّاء: حدثني عبد الله بن رافع مولى أم سلمة، قال: أمرتني أم سلمة أن أكتب لها مصحفا وقالت: إذا انتهيت إلى آية الصلاة فأعلمني فأعلمتها، فأملت علي: «حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر» رواه عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي داوود.

وقد اختلف الرواة على داوود بن قيس في إثبات الواو في قوله: [وصلاة العصر] وحَذْفِها:

أ: فروى عبد الرزاق عنه بإثبات الواو في قوله: [وصلاة العصر].

ب: وروى سفيان الثوري عنه بحذف الواو.

ج: ورواه وكيع عن داوود واختلف عليه الرواة كما اختلفوا على داوود.

قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: (لعل أصل ذلك ما في حديث البراء أنها نزلت أولا والعصر ثم نزلت ثانيا بدلها "والصلاة الوسطى" فجمع الراوي بينهما)ا.هـ.


مصحف عبد الله بن عمر بن الخطَّاب رضي الله عنهما

- قال حبيب بن الشهيد: قيل لنافع: ما كان يصنع ابن عمر في منزله؟

قال: (لا تطيقونه، الوضوء لكل صلاة، والمصحف فيما بينهما). رواه ابن سعد.

- وقال ابن وهب في جامعه: حدثني عبد الله بن عمر [العمري] عن نافع قال: كان عبد الله بن عمر يعطيني المصحف فأمسك عليه.

قال: فقلنا له: كيف كان يقرأ هذه الآية في سورة البقرة، قال: كان يقرأها: [فدية طعام مساكين]).

- وقال أبو عبيد القاسم بن سلام في فضائل القرآن: حدثنا أبو معاوية، عن عبد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر أنه كان لا يأخذ المصحف إلا وهو طاهر.


مصحف عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما

- قال أبو معاوية الضرير: حدثنا الأعمش عن خيثمة بن عبد الرحمن الجعفيّ قال: انتهيتُ إلى عبد الله بن عمرو بن العاص وهو يقرأ في المصحف.

قال: فقلت: أي شيء تقرأ؟

قال: (جزئي الذي أقوم به الليلة). رواه ابن سعد في الطبقات، وابن عساكر في تاريخ دمشق.

- وقال أبو بكر بن عيّاشٍ: قدم علينا شعيب بن شعيب بن محمّد بن عبد اللّه بن عمرو بن العاص، فكان الّذي بيني وبينه، فقال يا أبا بكرٍ: (ألا أخرج لك مصحف عبد اللّه بن عمرو بن العاص؟)

فأخرج حروفًا تخالف حروفنا.

قال: وأخرج رايةً سوداء من ثوبٍ خشنٍ، فيه زرّان وعروةٌ، فقال: (هذه راية رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم الّتي كانت مع عمرٍو). رواه ابن أبي داوود في كتاب المصاحف، وفي رواية عنده: عن أبي بكر بن عياش قال: (مصحف جدّه الّذي كتبه هو، وما هو في قراءة عبد اللّه، ولا في قراءة أصحابنا).

ثم قال أبو بكر بن عيّاشٍ: (قرأ قومٌ من أصحاب النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم القرآن فذهبوا، ولم أسمع قراءتهم).

شعيب بن شعيب مجهول الحال، وذكره ابن حبان في الثقات.

وهذا الخبر ليس فيه ما يُستنكر إذ كان عبد الله بن عمرو بن العاص من أهل مصر لما جمع عثمان المصاحف، وقد يكون هذا المصحف مما كتبه عبد الله بن عمرو بن العاص قبل الجمع العثماني ولم يؤمر بتسليمه؛ وقد يكون مما كتبه أولاده يتوخون به ما يعرفون من قراءته.


مصحف عبد الله بن عباس رضي الله عنهما

- قال ابن الضريس: أخبرنا موسى بن إسماعيل، قال: حدثنا قيس، عن حبيب، قال: «رأيت على مصحف ابن عباس مسامير فضة»

حبيب هو ابن أبي ثابت.

- وقد تقدَّم ذِكْرُ ما رواه ابن جرير في تفسيره بإسناده عن حبيب بن أبي ثابت أنه قال: أعطاني ابن عباس مصحفاً؛ فقال: (هذا على قراءة أبيّ بن كعب..). وهذا الأثر إن صحّ فلا يدلّ على أنّ ابن عباس أعطاه مصحفه، ولا أنّه راجع هذا المصحف واستوثق منه، ويبعد أن يخالف ابن عباس أمر عثمان بتسليم المصاحف.

- وقال عبد الله بن المبارك: أنبأنا الأجلح عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه قال: ( في مصحف ابن عباس قراءة أبيّ وأبي موسى: [بسم الله الرحمن الرحيم. اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك الخير ولا نكفرك ونخلع ونترك من يفجرك]. وفيه: [اللهم اياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد نخشى عذابك ونرجو رحمتك إن عذابك بالكفار ملحق]). رواه ابن الضريس في فضائل القرآن.

الأجلح بن عبد الله الكندي ، ضعّفه الإمام أحمد، وقال فيه ابن سعد: ضعيف جداً.


مصحف عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه

- قال ابن يونس المصري (ت:347هـ) في تاريخه: (كان عقبة قارئا، عالما بالفرائض والفقه. وكان فصيح اللسان، شاعرا كاتباً. وكانت له السابقة والهجرة، وهو أحد مَن جمع القرآن، ومصحفه بمصر إلى الآن بخطّه، رأيته عند على بن الحسن بن قديد، على غير التأليف الذي فى مصحف عثمان، وكان فى آخره: "وكتب عقبة بن عامر بيده" ورأيت له خطا جيداً، ولم أزل أسمع شيوخنا، يقولون: إنه مصحف عقبة، لا يشكّون فيه)ا.هـ.

وهذا الخبر إنما نقلته للفائدة، وإلا فهو خبر لا يعتمد على مثله، وبين ابن يونس وعقبة نحو ثلاثة قرون.


مصحف عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه

- حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أبي نضرة قال: أتينا عثمان بن أبي العاص في يوم جمعة لنعرض عليه مصحفاً لنا على مصحفه؛ فلما حضرت الجمعة أمرنا فاغتسلنا؛ ثم أُتينا بطيب فتطيبنا، ثم جئنا المسجد، فجلسنا إلى رجلٍ؛ فحدثنا عن الدجال، ثم جاء عثمان بن أبي العاص فقمنا إليه فجلسنا؛ فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (( يكون للمسلمين ثلاثة أمصار: مصر بملتقى البحرين، ومصر بالحيرة، ومصر بالشام؛ فيفزع الناس ثلاثَ فزعات؛ فيخرج الدجال..). وذكر الحديثَ بطوله، وقد رواه ابن أبي شيبة وأحمد وابن أبي داوود في كتاب المصاحف، ومداره على عليّ بن زيد بن جدعان وهو ضعيف.