الدروس
course cover
الدرس التاسع: ترتيب السور والآيات في المصاحف
10 Nov 2016
10 Nov 2016

7906

0

0

course cover
جمع القرآن

القسم الثالث

الدرس التاسع: ترتيب السور والآيات في المصاحف
10 Nov 2016
10 Nov 2016

10 Nov 2016

7906

0

0


0

0

0

0

0

ترتيب السور والآيات في المصاحف


من المباحث المهمّة في جمع القرآن مبحث "تأليف القرآن" ويراد به ترتيب آياته وسوره في المصاحف، وقد تضمّن هذا المبحث مسائل مهمّة ينبغي لطالب علم التفسير أن يكون على دراية حسنة بها، وأن يعرف أقوال العلماء فيها وأدلّتهم.

وسأرتّب الكلام في هذا الدرس على المسائل التالية:

المسألة الأولى: معنى تأليف القرآن

المسألة الثانية: ترتيب الآيات في السورة الواحدة

المسألة الثالثة: ترتيب السور في المصحف

المسألة الرابعة: الكلام على حديث يزيد الفارسي في خبر سؤال ابن عباس لعثمان عن الأنفال وبراءة.

المسألة الخامسة: الجواب عن اختلاف ترتيب السور في مصاحف الصحابة

المسألة السادسة: الفصل بين السور بالبسملة

المسألة السابعة: سبب ترك كتابة البسملة في أول براءة


المسألة الأولى: معنى تأليف القرآن

التأليف في اللغة مصدر ألّف يؤلّف تأليفاً، وهو الوصل والمتابعة.

قال أبو منصور الأزهري: (أَلَّفْتُ الشيءَ: وَصَلْتُ بعضَه بِبَعْض؛ وَمِنْه: تَأليفُ الكُتب).

ورد لفظ تأليف القرآن في الأحاديث والآثار يراد به ترتيب الآيات في السورة الواحدة تارة، ويراد به ترتيب السور في المصحف تارة أخرى.

- فمن الأول: قولُ زيد بن ثابت رضي الله عنه: بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم نؤلّف القرآن من الرقاع إذ قال: (( طوبى للشام ))

قيل: ولم ذلك يا رسول الله؟

قال: (( إن ملائكة الرحمن باسطة أجنحتها عليها )). رواه الإمام أحمد وابن أبي شيبة والترمذي والبيهقي وغيرهم من طريق يحيى بن أيوب الغافقي عن يزيد بن أبي حبيب عن عبد الرحمن بن شماسة المهري عن زيد بن ثابت.

ويحيى بن أيوب صالحٌ في نفسه معروف بطلب العلم ومحلّه الصدق، وقد وثّقه يحيى بن معين، وقال فيه أحمد بن حنبل: (سيء الحفظ).

وقال أبو حاتم الرازي: (يُكتب حديثه ولا يحتج به).

ولذلك اختُلف في هذا الحديث فضعّفه بعض أهل العلم لسوء حفظ يحيى بن أيوب، وحسّنه بعضهم.

وهذا الحديث لم يتفرّد به يحيى بن أيوب؛ فقد رواه جماعة منهم عبد الله بن وهب عن ابن لهيعة عن يزيد به، ورواية ابن وهب عن ابن لهيعة يصححها بعض أهل العلم.

ورواه أيضاً ابن حبان والطبراني من طريق ابن وهب عن عمرو بن الحارث المصري عن يزيد به.

وبمجموع هذه الطرق صحح الألباني هذا الحديث في السلسلة الصحيحة.

والشاهد فيه ذكر تأليف القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كانت الآيات تنزل متفرقة منجَّمة على مُدَدٍ متفاوتة، وتأليفها جمعها ووصل بعضها ببعض.

قال أبو بكر البيهقي: (وهذا يشبه أن يكون أراد به تأليف ما نزل من الآيات المتفرقة في سورها، وجمعها فيها بإشارة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم كانت مثبتة في الصدور مكتوبة في الرقاع واللخاف والعسب)أ.ه.


ومن الثاني: ما في صحيح البخاري من حديث ابن جريج قال: أخبرني يوسف بن ماهك، قال: إني عند عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، إذ جاءها عراقي، فقال: أي الكفن خير؟

قالت: (ويحك، وما يضرك؟!!)

قال: يا أم المؤمنين، أريني مصحفك؟

قالت: (لم؟)

قال: لَعَلِّي أؤلّف القرآن َعليه، فإنه يقرأ غير مُؤلَّف.

قالت: (وما يضرك أيه قرأت قبل؟)

ثمّ ذكر الحديث إلى أن قال: فأخرجت له المصحف، فأملت عليه آي السور).


وتأليف القرآن بالمعنى الأوّل كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، كما دلّ عليه حديث زيد بن ثابت، لكن هل كان تأليفاً تاماً لجميع آيات السور أو لبعضها؟

اختلف في ذلك أهل العلم على قولين:

القول الأول: أنّه كان جمعاً تاماً لآيات كلّ سورة، وأن جمع أبي بكرٍ كان لاستنساخه في صحف بين لوحين؛ إذ كان قبل ذلك يكتب في الرقاع واللخاف والعسب.

والقول الثاني: أنه لم يكن تأليفاً تاماً بالكتابة كما كان بالحفظ في الصدر، وأنّ جمع أبي بكر رضي الله عنه كان أوّل جمع تامّ لآيات كلّ سورة.

والقول الثاني هو الراجح لدلالة زيد بن ثابت رضي الله عنه في شأن جمع أبي بكر: (فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف، وصدور الرجال، حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع أحد غيره {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم} حتى خاتمة براءة). رواه البخاري في صحيحه.

إذ لو كانت مكتوبة تامة لوجدها عند غيره، وهذا القول هو الذي تدلّ عليه ظواهر الآثار المروية في هذا الباب.


وأصحاب القول الأول على صنفين:

- صنف فهموا من حديث زيد المتقدّم في التأليف وحديث عثمان مرفوعاً: (( ضعوا هذه الآيات فى السورة التي يذكر فيها كذا وكذا ))

دلالة العموم على تأليف جميع الآيات مكتوبة في السطور كما هي محفوظة في الصدور.

- وصنف فهموا من قوله تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} التلازم بين حفظ القرآن في الصدور وحفظه مكتوباً حتى في زمن النبوة، ولذلك ذهب بعضهم إلى أنّ المصحف كان مجموعاً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا القول قال به بعض المتكلمين، وهو قول غير قائم على الأثر الصحيح وإنما مستنده توهّم لزوم ما لا يلزم.


فأمّا أصحاب الصنف الثاني فيُردّ عليهم بنفي التلازم بين الأمرين.

وأما أصحاب الصنف الأول فيورد عليهم أنّ قولهم هذا يلزم منه أن تكون آيات كلّ سورة مجموعة في موضع واحد، وهذا مخالف لواقع الحال في ذلك الزمان، وما فهموه لا تقتضيه دلالة حديثي زيد وعثمان؛ لأن وضع الآيات في موضعها من السورة لا يلزم منه أن تكون السورة كلها مجموعة في موضع واحد، وقد عُلم أن منها سوراً طوالاً، وأنّ الكتابة كانت في رقاع وعسُب وأكتاف.

ولذلك فإنّ الأقرب أن تكون السور ذوات العدد مكتوبة مرتبة آياتها في مواضع بما تيسّر لهم من أدوات الكتابة وما يكتبون فيه، وتلك الصحف والرقاع متفرّقة مع كُتَّاب الوحي من الصحابة رضي الله عنهم إذ لم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم كاتب مستقلّ بكتابة جميع ما يُوحى إليه.

ولذلك احتاج زيد بن ثابت في جمع أبي بكر إلى تتبّع ما تفرّق في الصحف والرقاع والأكتاف والعسب واللخاف وصدور الرجال حتى جمع نسخة تامّة من القرآن في صُحُفٍ بين لوحين.


المسألة الثانية: ترتيب الآيات في السورة الواحدة

ترتيب الآيات في السورة الواحدة لا خلاف في أنه متلقّى من النبي صلى الله عليه وسلم، وأنّ قرّاء الصحابة رضي الله عنهم كانوا يقرَأُون ويقرِئون السور من القرآن على ترتيب الآيات الذي تلقّوه عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وقد صَحّت الأحاديث بما يفيد توقيف ترتيب الآيات وانعقد الإجماع على ذلك.

- قال عبد الله بن أبي مليكة: قال ابن الزبير: قلت لعثمان: هذه الآية التي في البقرة {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا} إلى قوله {غير إخراج} قد نسختها الأخرى، فلم تكتبها؟ قال: «تدعها يا ابن أخي، لا أغيّر شيئاً منه من مكانه». رواه البخاري في صحيحه من حديث يزيد بن زريع عن حبيب بن الشهيد عن ابن أبي مليكة به.

وابن الزبير كان من كَتَبَةِ المصاحف العثمانية.

وهذا الأثر الصحيح صريح الدلالة على أنّ عثمان رضي الله عنه لم يغيّر شيئاً في ترتيب الآيات، وأن ترتيب الآيات لم يكن فيه اختلافٌ بين الصحابة رضي الله عنهم.


وقد وردت جملة من الأحاديث يُفهم منها توقيف ترتيب الآيات، ومن ذلك:

1. حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: ما راجعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء ما راجعته في الكلالة، وما أغلظ لي في شيء ما أغلظ لي فيه، حتى طعن بإصبعه في صدري، وقال: «يا عمر! ألا تكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء » رواه مسلم من حديث قتادة عن سالم بن أبي الجعد عن معدان بن أبي طلحة عن عمر به.


2. وحديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فافتتح البقرة، فقلت: يركع عند المائة، ثم مضى، فقلت: يصلي بها في ركعة، فمضى، فقلت: يركع بها، ثم افتتح النساء، فقرأها، ثم افتتح آل عمران، فقرأها، يقرأ مترسلا، إذا مر بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ، ثم ركع، فجعل يقول: «سبحان ربي العظيم»، فكان ركوعه نحوا من قيامه، ثم قال: «سمع الله لمن حمده»، ثم قام طويلا قريبا مما ركع، ثم سجد، فقال: «سبحان ربي الأعلى»، فكان سجوده قريبا من قيامه). رواه مسلم وأحمد والنسائي من طريق المستورد بن الأحنف، عن صلة بن زفر، عن حذيفة .

وفي رواية عند النسائي: (فافتتح البقرة، فقرأ فقلت: يركع عند المائة فمضى، فقلت: يركع عند المائتين فمضى، فقلت: " يصلي بها في ركعة، فمضى).


3. وحديث زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: (نسخت الصحف في المصاحف، ففقدت آية من سورة الأحزاب كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها، فلم أجدها إلا مع خزيمة بن ثابت الأنصاري الذي جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته شهادة رجلين» وهو قوله: {من المؤمنين، رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر} فألحقناها في سورتها في المصحف). رواه البخاري في صحيحه من طرق عن ابن شهاب الزهري عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه.

وهذا في جمع عثمان، وقصةُ آخر آيتين من سورة التوبة قصة أخرى غير هذه، وتلك كانت في جمع أبي بكر، وقد وقعتا لرجلين وليستا لرجل واحد:

أحدهما: أبو خزيمة الخزرجي

والآخر: خزيمة بن ثابت الأوسي.

- فأما أبو خزيمة فهو ابن أوس بن زيد من بني النجار من الخزرج من قرابة زيد بن ثابت وأبيّ بن كعب وأنس بن مالك، شهد بدراً وما بعدها ومات في خلافة عثمان.

- وأمّا خزيمة بن ثابت فهو من الأوس ويكنى بأبي عمارة وهو الذي أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته بشهادة رجلين، وقد قتل مع عليّ بن أبي طالب في صفين، كان كافّا سلاحه حتى قُتل عمار بن ياسر؛ وكان قد سمع قول النبي صلى الله عليه وسلم (تقتل عماراً الفئة الباغية) فجرّد سيفه وقاتل مع عليّ حتى قُتل.

وقد وقع خلط في بعض الروايات بين الرجلين، ونبّه إلى التفريق بينهما ابن بطّال وأبو شامة وغيرهما.


4. وحديث أبي العالية، عن أبيِّ بن كعب أنهم جمعوا القرآن في مصاحف في خلافة أبي بكر، فكان رجال يكتبون ويملي عليهم أبيُّ بن كعب، فلما انتهوا إلى هذه الآية من سورة براءة: {ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون}؛ فظنوا أن هذا آخر ما أنزل من القرآن، فقال لهم أبي بن كعب: (إنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أقرأني بعدها آيتين: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم} إلى {وهو رب العرش العظيم}). رواه عبد الله بن الإمام أحمد في مسند أبيه وابن أبي داوود في كتاب المصاحف والضياء في المختارة من طريق أبي جعفر الرازي: حدثنا الربيع بن أنس، عن أبي العالية.

وإسناده حسن، ودلالته على توقيف ترتيب الآيات ظاهر؛ فإنَّه عرف موضع الآيتين في سورة التوبة بما أقرأه إيّاه النبيّ صلى الله عليه وسلم.

والأحاديث التي فيها تعيين مواضع بعض الآيات كثيرة يتعسّر تقصّيها، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتلو سور القرآن في الصلوات وغيرها بترتيب الآيات كما أنزله الله، حتى حُفظ عنه ذلك الترتيب، وتواتر النقل به من غير خلاف.

ولمّا جُمع القرآن في عهد أبي بكر وعهد عثمان لم يكن بين الصحابة خلاف في ترتيب الآيات، وإنما كان الاختلاف في بعض الأحرف وفي فواصل بعض الآي، والاختلاف في عدد آيات كلّ سورة كالاختلاف في بعض القراءات لا أثر له على ترتيب الآيات.


وقد روي في ترتيب الآيات حديث لا يصحّ استدلّ به بعض العلماء، وهو ما رواه الإمام أحمد من طريق ليث بن أبي سليم، عن شهر بن حوشب، عن عثمان بن أبي العاص، قال: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً إذ شخص ببصره ثم صوَّبه حتى كاد أن يلزقه بالأرض، قال: ثم شخص ببصره فقال: (أتاني جبريل فأمرني أن أضع هذه الآية بهذا الموضع من هذه السورة: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون} ).

وليث وشهر ضعيفان، وقد اختلف على شهر فيه؛ فرواه عبد الحميد بن بهرام عن شهر عن ابن عباس في خبر إسلام عثمان بن مظعون بسياق آخر من غير ذكر موضع هذه الآية من السورة.

قال ابن كثير: (وهذا إسناد لا بأس به، ولعله عند شهر بن حوشب من الوجهين).

وقال في الأول: (إسناد جيد متصل حسن).

قال الألباني: (أنَّى له الحسْنُ، وفيه شهر؟! وعنه ليث، وقد زاد في متنه ما لم يذكره عبد الحميد في روايته عن شهر).

ولذلك جعله الألباني في السلسة الضعيفة.

وهذا الحديث الضعيف تغني عنه الأحاديث الصحيحة المتقدّمة.

- قال القاضي عياض: (لا خلاف أن تأليف كل سورة وترتيب آياتها توقيف من الله تعالى على ما هى عليه الآن فى المصحف، وعلى ذلك نقلته الأمة عن نبيها عليه السلام).

- وقال ابن حجر: (أما ترتيب الآيات فتوقيفي بلا خلاف).


المسألة الثالثة: ترتيب السور في المصحف

الراجح من أقوال العلماء في هذه المسألة هو قول جمهورهم والمحققين منهم أنّ الصحابة رضي الله عنهم اجتهدوا في ترتيب سور القرآن في المصحف، إلا أنّ هذا الاجتهاد لم يكن مستنده مجرّد الرأي والاستحسان، بل كان قائماً على أصول صحيحة وأدلّة تفصيلية علموها، ولصواب اجتهادهم علامة بيّنة ظاهرة، وهي إجماعهم على هذا الترتيب الذي تلقته الأمّة بالقبول في زمانهم وبعده على مَرِّ القرون.

ولو كان أحد من الصحابة يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أمراً بخلاف هذا الترتيب لقال به، ولو كان الحقّ في غير هذا الترتيب لوجد من يقول به؛ إذ لا بدّ للحقّ من قائم به؛ فلمَّا أجمعوا على هذا الترتيب علمنا أنه صواب وحقّ، وأنّ الأمّة لا تجتمع على ضلالة.

وأما الأصول والأدلة التفصيلية التي اعتمدوا عليها في اجتهادهم فمنها ما يمكن معرفته بدلالة الأحاديث والآثار المروية في هذا الباب، ومنها ما لا نعرفه، لكن نقطع بأنّ مسألة الترتيب من المسائل التي تقتضي ضرورةُ الجمعِ بحثَها ومناقشتَها، وأنّهم خلصوا فيها إلى ما أجمعوا عليه، ولم يُذكر عنهم خلاف صحيح في هذا الترتيب.

ونحن يغنينا إجماعُهم عن تطلّب أدلّتهم في ارتضاء هذا الترتيب.

قال سليمان بن بلال التَّيمي: سمعتُ ربيعةَ يُسأل: لم قُدِّمَت البقرة وآل عمران وقد نزل قبلهما بضع وثمانون سورة بمكة، وإنما نزلتا بالمدينة؟

فقال: «قُدِّمَتا، وأٌلّفَ القرآن على علمٍ ممن ألَّفه به، ومن كان معه فيه، واجتماعهم على علمهم بذلك، فهذا مما يُنتهى إليه، ولا يُسأل عنه» رواه ابن وهب في جامعه كما في جامع بيان العلم لابن عبد البر، ورواه أيضا ابن شبة في تاريخ المدينة.

وربيعة هو ابن أبي عبد الرحمن المدني(ت:136هـ) المعروف بربيعة الرأي، شيخ الإمام مالك، ومفتي أهل المدينة في زمانه، وهو من عداد التابعين من طبقة الزهري، ويحيى بن سعيد الأنصاري.

وفي هذا الأثر التأكيد على أنّ تأليف السور كان على علمٍ من قرّاء الصحابة وعلمائهم، وأن لديهم من العلم ما اقتضى هذا الترتيب، إذ من المقطوع به أنهم ألَّفوه عن علمٍ صحيحٍ يُعتدّ به، وأنهم أصابوا ولم يخطئوا.

وإنما اختلافُ العلماء في نوع هذا العلم؛ هل هو توقيف من النبي صلى الله عليه وسلم؟ أو هو اجتهاد اجتهدوه فأصابوا فيه؟

ومراد ربيعة ظاهرٌ في أنّ هذا العلم مما خفي علينا أصله وعلمنا نتيجته، وأنَّ في إجماعهم على هذا الترتيب غنيةً عن تكلّف العلم بما بنوا عليه هذا الترتيب.

ولو أنَّ هذه المسألة كُفَّ عنها لما وسعنا إلا الكفّ، ولكن لمّا اختلف فيها أهل العلم بعد ذلك وكثر بحث هذه المسألة في كتب علوم القرآن احتاج طالب علم التفسير إلى أن يُلخّص له بحث هذه المسألة حتى يعرف أقوال العلماء فيها وأدلَّتهم والقول الراجح فيها.


قال ابن وهب: سمعت مالكاً يقول: (إنما أُلِّفَ القرآن على ما كانوا يسمعونه من النبى صلى الله عليه وسلم).

وهذا الأثر عن مالك فَهِمَ منه بعضُ أهل العلم أنه أراد التوقيف، ولذلك ذهب أبو عمرو الداني وابن بطال وجماعة من العلماء إلى أنّ ترتيب سور القرآن توقيف من النبي صلى الله عليه وسلم، وقال بهذا القول أبو بكر ابن الأنباري وأبو جعفر النحاس وغيرهما.

قال أبو عمرو الداني: (القول عندنا في تأليف السور وتسميتها وترتيب آيها في الكتابة أن ذلك توقيف من رسول الله وإعلام منه به لتوفر مجيء الأخبار بذلك واقتضاء العادة بكونه كذلك، وتواطؤ الجماعة، واتفاق الأمة عليه، وبالله التوفيق).

وقال ابن بطال: (وأما ما رُوي من اختلاف مصحف أبىّ وعلىّ وعبد الله إنما كان قبل العرض الأخير، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم رتَّب لهم تأليف السور بعد أن لم يكن فعل ذلك، روى يونس عن ابن وهب قال: سمعت مالكًا يقول: "إنما أُلف القرآن على ما كانوا يسمعونه من قراءة رسول الله")ا.هـ.

وهذا ظاهر في أنّه إنما فهم التوقيف من كلام الإمام مالك رحمه الله؛ فأدّاه ذلك إلى حمل اختلاف التأليف في مصاحف الصحابة إلى أنه كان قبل العرضة الأخيرة، ولا يصحّ ذلك؛ فإنّ ابن مسعود رضي الله عنه ممن شهد العرضة الأخيرة وتأليف مصحفه الأوّل كان مختلفاً عن تأليف المصاحف العثمانية.

وقال أبو بكر بن الأنباري فيما نقله الزركشي في البرهان: (أنزل الله القرآن كله إلى سماء الدنيا ثم فرق في بضع وعشرين فكانت السورة تنزل لأمر يحدث والآية جوابا لمستخبر ويقف جبريل النبي صلى الله عليه وسلم على موضع السورة والآية فاتساق السور كاتساق الآيات والحروف كله عن النبي صلى الله عليه وسلم فمن قدم سورة أو أخرها فقد أفسد نظم لآيات).

وقال أبو جعفر النحاس: (المختار أن تأليف السور على هذا الترتيب من رسول الله صلى الله عليه وسلم).

فهؤلاء العلماء ذهبوا إلى أنّ ترتيب السور توقيفي من الرسول صلى الله عليه وسلم.


وذهب القاضي عياض وحكاه عن جمهور أهل العلم والمحققين منهم إلى أنّ الصحابة اجتهدوا في ترتيب السور، وأنهم توخَّوا في الترتيب ما كانوا يعرفونه من النبي صلى الله عليه وسلم في غالب أحوال قراءته.

قال القاضي عياض: (ترتيب السور اجتهاد من المسلمين حين كتبوا المصحف لم يكن ذلك من تحديد النبى عليه السلام، وإنما وكله إلى أمته بعده، وهو قول جمهور العلماء، وهو قول مالك واختيار القاضى أبى بكر الباقلانى وأصح القولين عنده).

وقال في موضع آخر: (قول الحجاج: "ألّفوا القرآن كما ألّفه جبريل عليه السلام: السورة التى يذكر فيها البقرة..." الحديث، ولم ينكر عليه إبراهيم قوله: " ألَّفه جبريل " كما أنكر عليه ما تقدم، فإن كان يريد بقوله تأليف الآي فى كل سورة ونظمها على ما هى عليه فى المصحف الآن؛ فهو إجماع المسلمين، وأن ذلك توقيف من النبى عليه السلام، وإن كان يريد تأليف السور بعضها إثر بعض، فهو قول بعض الفقهاء والقراء، والمحققون على خلافه، وأنه اجتهاد من الأمَّة وليس بتوقيف)ا.هـ.


وهذا القول أقرب إلى الصواب إذ لو كان هذا الترتيب عن توقيفٍ من النبي صلى الله عليه وسلم لما ساغَ أن تختلفَ مصاحفُ الصحابةِ في ترتيبِ السُّوَرِ قبل جَمْعِ عثمان، ولأُنكِر على من خالفَ الترتيب الذي أَمر به النبي صلى الله عليه وسلم، وكان الصحابة أكثر تعظيماً للقرآن، وهم أحسن الأمّة عنايةً به من غير تكلّف، وأشدّ حفظاً لعهد النبي صلى الله عليه وسلّم ووصيته.

فعلمنا بذلك أن الصحابة رضي الله عنهم قد اجتهدوا في ترتيب سور المصحف اجتهاداً بعلمٍ، وقد أرادوا أن يجمعوا الأمّة على مصحف واحد لا يُختلف فيه؛ فاقتضى اجتهادُهم هذا الترتيب الذي أجمعوا عليه.


ومن دلائل توخّيهم موافقة النبي صلى الله عليه وسلم في الترتيب واستنادهم في اجتهادهم إلى أصول ضابطة أنهم قدموا فاتحة الكتاب، ثم السبع الطوال، ثم المئين، ثم المثاني، ثم المفصّل.

وهذا الترتيب العامّ مأثورٌ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في غير ما حديث، ثمّ في كلّ مجموعة من تلك المجموعات أدلّة تفصيلية يفهم منها ما يوافق هذا الترتيب في الجملة، ومنها:

1. الأحاديث المروية في تسمية سورة الفاتحة بفاتحة الكتاب ومنها حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال: بينما جبريل قاعد عند النبي صلى الله عليه وسلم سمع نقيضا من فوقه؛ فرفع رأسه، فقال: ((هذا بابٌ من السماء فُتِحَ اليوم لم يفتح قطّ إلا اليوم؛ فنزل منه مَلَكٌ؛ فقال: هذا مَلَكٌ نزل إلى الأرض لم ينزل قطّ إلا اليوم، فَسَلَّمَ، وقال: "أبشر بنورين أوتيتَهما لم يؤتَهما نبيٌّ قبلَك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته")). رواه مسلم وابن أبي شيبة والنسائي في الكبرى وغيرهم من طريق عمار بن رزيق، عن عبد الله بن عيسى، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس.

وفي هذا الاسم أحاديث أخرى في الصحيحين وغيرهما منها حديث عائشة وعبادة بن الصامت وأبي قتادة وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهم.


2. وحديث النواس بن سمعان الكلابي رضي الله عنه، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: «يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به تقدمه سورة البقرة وآل عمران»، وضرب لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أمثال ما نسيتهن بعد، قال: «كأنهما غمامتان، أو ظلتان سوداوان بينهما شرق، أو كأنهما حِزْقان من طير صواف، تحاجان عن صاحبهما» رواه أحمد ومسلم والترمذي من طريق الوليد بن عبد الرحمن الجرشي، عن جبير بن نفير عن النواس بن سمعان الكلابي.


3. وقال عبد الرحمن بن يزيد النخعي: سمعت ابن مسعودٍ يقول في بني إسرائيل، والكهف، ومريم، وطه، والأنبياء: «إنهن من العتاق الأول، وهنَّ من تلادي» رواه البخاري.

فذكرهنّ على نسق الترتيب الذي هي عليه في المصحف.


4. وحديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم (كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه، ثم نفث فيهما فقرأ فيهما: قل هو الله أحد وقل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس، ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده، يبدأ بهما على رأسه ووجهه وما أقبل من جسده يفعل ذلك ثلاث مرات). رواه البخاري من حديث ابن شهاب الزهري عن عروة عن عائشة.


قال أبو جعفر ابن الزبير: (فكيف ما دار الأمر؛ فمنه صلى الله عليه وسلم عُرِفَ ترتيب السور، وعلى ما سمعوه منه بنوا جليل ذلك النظر، فإذاً إنما الخلاف هل ذلك بتوقيف قولي أو بمجرد استناد فعلي بحيث بقي لهم فيه مجال للنظر؛ فهذا موضع الخلاف)ا.هـ

وقال ابن عطية: (وظاهر الآثار أن السبع الطول والحواميم والمفصل كان مرتباً في زمن النبي عليه السلام، وكان في السور ما لم يرتب، فذلك هو الذي رُتّب وقت الكَتْب).

قال أبو جعفر ابن الزبير معقباً عليه: (وظواهر الآثار شاهدة بصحة ما ذهب إليه في أكثر ما نُص عليه، ثم يبقى بعدُ قليل من السور يمكن فيها جري الخلاف أو يكون وقع، وإذا كان مستند المسألة النقل لم يصعب خلاف غير أهله)ا.هـ.

ونقل السيوطي في الإتقان عن البيهقي في المدخل أنه قال: (كان القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم مرتبا سوره وآياته على هذا الترتيب إلا الأنفال وبراءة لحديث عثمان السابق).

وهو قول فيه نظر لأن اختلاف ترتيب السور في مصاحف الصحابة رضي الله عنهم كان في أكثر من ذلك، ولم أقف على نصّ كلام البيهقي، ولعله نقله بالمعنى، وسيأتي الكلام على حديث عثمان وابن عباس في شأن براءة والأنفال.


وخلاصة القول الراجح في هذه المسألة أن ترتيب السور في المصاحف العثمانية كان باجتهاد من الصحابة رضي الله عنهم لكنّهم لم يكن اجتهاداً مستنَدُه مجرّد الرأي والاستحسان، بل كانوا يتوخّون ما كانوا يسمعونه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وترجيح بعض الأدلة على بعض، وكانوا هم أعلم الأمّة بذلك، وقد أجمعوا على ما انتهوا إليه؛ فصار إجماعهم حجّة قاطعة للنزاع، فلا يجوز أن يُكتب مصحف تامّ يخالف ترتيب السور في المصاحف العثمانية.

ونحن وإن كان قد خفيَ علينا بعضُ أدلَّتهم فإنَّ في النتيجة التي خلصوا إليها وإجماعِهم عليها كفايةً عن تطلُّب تفاصيل أدلّتهم ومآخذ اجتهادهم في الترتيب، وقد تقرَّر أنّ الأمّة لا تجمع على ضلالة، وأنّا مأمورون باتّباع سُنَّة الخلفاء الراشدين، وقد أقرّ هذا الترتيب عثمان بن عفان وعليّ بن أبي طالب رضي الله عنهما، وأقرّه قُرَّاء الصحابة وعلماؤهم؛ فعلمنا أن هذا الترتيب هو الحقّ الذي رضي الله أن يُرتّب به كتابه، وأن تكتب به المصاحف على مرّ القرون وتطاول الأعصر.


المسألة الرابعة: الكلام على حديث يزيد الفارسي عن ابن عباس في شأن سورتي الأنفال وبراءة

قال عوف بن أبي جميلة الأعرابي: حدثنا يزيد الفارسي قال: قال لنا ابن عباس: قلت لعثمان: ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني، وإلى براءة وهي من المئين، فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما سطر "بسم الله الرحمن الرحيم" فوضعتموها في السبع الطوال، فما حملكم على ذلك؟

قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يأتي عليه الزمان وهو ينزل عليه من السور ذوات العدد، فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من يكتب له فيقول: «ضعوا هذه في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا» وإذا أنزلت عليه الآيات قال: «ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا» وإذا أنزلت عليه الآية، قال: «ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا»).

قال: (وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة، وكانت براءة من آخر ما أنزل من القرآن).

قال: (فكانت قصتها شبيها بقصتها، فظننا أنها منها، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها، فمن أجل ذلك قرنت بينهما، ولم أكتب بينهما سطرا: بسم الله الرحمن الرحيم، ووضعتها في السبع الطوال). رواه الإمام أحمد وأبو عبيد وأبو داوود والترمذي والنسائي في الكبرى، ومداره على يزيد الفارسي، وقد اختلف فيه: هل هو يزيد بن هرمز الفارسي أو غيره؟

فذهب الإمام أحمد وعبد الرحمن بن مهدي إلى أنهما واحد.

وذهب يحيى بن سعيد القطان وأبو حاتم الرازي ويحيى بن معين إلى التفريق بينهما.

قال أبو حاتم الرازي: (يزيد بن هرمز هذا ليس بيزيد الفارسي، هو سواه، فأما يزيد بن هرمز فهو والد عبد الله بن يزيد بن هرمز، وكان ابن هرمز من أبناء الفرس الذين كانوا بالمدينة وجالسوا أبا هريرة مثل أبي السائب مولى هشام بن زهرة ونظرائه، وليس هو يزيد الفارسي البصري الذي يروي عن ابن عباس ويروي عنه عوف الأعرابي، إنما روى عن يزيد بن هرمز الحارث بن أبي ذباب وليس بحديثه بأس، وكذلك صاحب ابن عباس لا بأس به)ا.هـ.

وقال ابن الجنيد: (قيل ليحيى بن معين وأنا أسمع: يزيد الفارسي روى عنه أحد غير عوف؟

قال: «لا»

قلت ليحيى: فإنهم يزعمون أن يزيد بن هرمز هو يزيد الفارسي الذي روى عنه الزهري وقيس بن سعد حديث نجدة.

فقال: «باطل، كذب، شيء وضعوه، ليس هو ذاك»).

وذكره البخاري في الضعفاء، وذكر عن يحيى بن سعيد القطان أنه كان مع بعض الأمراء.

وقد روى له ابن أبي داوود خبراً في كِتاب "المصاحف" من طريق عبد الله بن فيروز وفيه أنه كان كاتباً لعبيد الله بن زياد، وأنه كتب له مصحفاً بأمره فيه مخالفة لرسم المصاحف العثمانية.

وروى ابن أبي شيبة وابن شبّة عن عوف الأعرابي أن يزيد الفارسي كان يكتب المصاحف، وأنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وقصّ خبره على ابن عباس فصدّقه في وصفه.

فالذي يظهر أنه غير يزيد بن هرمز، وقول المفرّقين بينهما مقدّم هنا لما معهم من زيادة علم.

ويحيى بن سعيد القطان قد روى هذا الخبر عن عوف عن يزيد الفارسي كما في تاريخ المدينه لابن شبة؛ فهو أخبرُ به، وقد حدّثه عوفٌ به من غير واسطة.


ويزيد الفارسي ممن لا يحتمل تفرّده بمثل هذا الخبر، وقد ضعّفه البخاري، وأما قول أبي حاتم فيه: لا بأس به؛ فإنما تُمشَّى به روايته فيما لا نكارة فيه.

وهذا الخبر مما اختلف في حكمه أهل العلم

- فحسّنه الترمذي وابن حجر في كتابه "موافقة الخُبْر الخبَر".

- وصححه الحاكم بناء على أنّ يزيد هو ابن هرمز.

- وضعّفه أحمد شاكر والألباني وجماعة من المعاصرين.

قال أحمد شاكر: (فهذا يزيد الفارسي الذي انفرد برواية هذا الحديث، يكاد يكون مجهولا، حتى شُبِّهَ على مثل ابن مهدي وأحمد والبخاري أن يكون هو ابن هرمز أو غيره، ويذكره البخاري في الضعفاء، فلا يقبل منه مثل هذا الحديث ينفرد به).

ثمّ ذكر الشيخ أحمد شاكراً كلاماً في نقد المتن فيه نظر، فقال: (وفيه تشكيك في معرفة سور القرآن الثابتة بالتواتر القطعي، قراءةً وسماعاً وكتابةً في المصاحف، وفيه تشكيك في إثبات البسملة في أوائل السور، كأنَّ عثمان كان يثبتها برأيه وينفيها برأيه، وحاشاه من ذلك).

وهذا غير لازم، لأن اجتهاد عثمان ومن معه من الصحابة رضي الله عنهم لم يكن عن مجرّد الرأي والاستحسان، وإنما كان اجتهادهم في الاختيار من الأحرف التي يُقرأ بها.

وسيأتي الكلام على ترك البسملة في أول براءة قريباً إن شاء الله.

والمتن معلول بعلل توجب عدم قبول تفرّد يزيد الفارسي به، وما ذكره الشيخ أحمد شاكر في نقد المتن فيه نظر.

وأمّا الألباني فضعّفه لأجل أن يزيد الفارسي لم تثبت عدالته، ولأنَّ البخاري ذكره في الضعفاء، ولأن في المتن نكارة ولا متابع له عليه.

وهذه العلل كافية في ردّ رواية يزيد الفارسي هذه، وعدم الاعتداد بها.

وقد تبع الشيخين أحمد شاكر والألباني جماعة من المصنفين في علوم القرآن على تضعيف هذا الأثر وإنكاره.

وقد ردّ الشيخ عبد الله الجديع على الشيخ أحمد شاكر تضعيفَه، وذهب إلى تصحيح الأثر ترجيحاً منه بأن يزيد الفارسي هو ابن هرمز، وعلى فرض أنه غيره فدفع عنه الجهالة بقول ابن أبي حاتم فيه: (لا بأس به)، وبأنّ ما ذكره الشيخ أحمد شاكر من نكارة المتن غير لازم، وأنّ أهل الحديث على مرّ القرون كانوا يروونه من غير نكير، وأنّه لم يؤثر عن أحد من الأئمة المتقدمين تضعيف هذا الخبر، وإنما المأثور عنهم تصحيحُه أو تحسينُه.


وقول الشيخ الجديع مُتعقَّب بما ذكره الطحاوي في شرح مشكل الآثار من إعلال بعض العلماء المتقدمين لمتن الأثر؛ إذ قال فيما حكى عنهم: (وأَنِفُوا أنْ يكونَ مثلُ هذا يذهب عن عثمان رضي الله عنه لعنايته بالقرآن قديماً وحديثاً إلى أن توفَّاه الله رضي الله عنه على ذلك).


وما روي عن عثمان أنه قال في هذا الأثر: (فكانت قصتها شبيها بقصتها، فظننا أنها منها، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها، فمن أجل ذلك قرنت بينهما، ولم أكتب بينهما سطرا: بسم الله الرحمن الرحيم).

ففيه علل توجب ردّ هذه الجمل:

منها: أنّه يلزم من ذلك أن يكون قد غاب عن عثمان وجميع قرّاء الصحابة والتابعين في زمان الجمع معرفة كون سورة الأنفال من التوبة أو لا، وأنه لم يكن لدى أحد منهم علم تقوم به الحجّة في هذا الأمر.

ومنها: أنه يلزم من ذلك أن يكون هذا الإشكال قد عرض في جمع أبي بكر ولم يُحسم، وقد كان قراء الصحابة فيه أكثر توافراً.

ومنها: أنه يلزم من ذلك مخالفة الإجماع في ترتيب آيات كلّ سورة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وحفظها في الصدور.

ومنها: أنه يلزم من ذلك أنه قد فات علمُ هذا الأمر على من شهد العرضة الأخيرة من الصحابة رضي الله عنهم.

ومنها: أن هذا الخبر ينقض أوَّلُه آخرَه؛ فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يوقفهم على مواضع الآيات من السور؛ فكيف يظنّ أنه لم يبيّن لهم ما هو أعظم من ذلك وهو أن سورة تزيد على مائة آية لا يدرون هل هي مستقلة أو تابعة لسورة أخرى؟!!

فكيف يقول: ((فكانت قصتها شبيها بقصتها، فظننا أنها منها..).

ومنها: أن يقال: كيف خفي علم هذا الأمر العظيم المتعلق بمسألة من مظانّ ما يعتنى به وتتوافر الهمم على فقهه مدارسة وتقريراً كيف خفي علمه عن خاصة أصحاب ابن عباس وأعلمهم بالتفسير كسعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة وعطاء بن أبي رباح وطاووس بن كيسان وأضرابهم حتى يتفرد بروايته يزيد الفارسي.


والخلاصة أنّ هذا الخبر فيه مواضع منكرة مخالفة لما صحّ من الأحاديث والآثار وهو ما يتعلق بتميّز سورة الأنفال عن سورة التوبة، ودعوى أن عثمان ومن معه كانوا يجهلون هذا الأمر العظيم، وقد علموا دقائق الفروق بين الأحرف السبعة ووازنوا بين القراءات واختاروا منها.

وقد يقال: إنّ سورتي التوبة والأنفال سورة واحدة في بعض الأحرف، وسورتان في أحرف أخرى، كما حُكي في سورتي الفيل وقريش أنّهما سورة واحدة في قراءة أبيّ بن كعب، ويكون الاجتهاد المذكور عن عثمان هو اجتهاد مفاضلة بين الأحرف، إذ لا بدّ من أن يُكتب المصحف على قول واحد مختار، ثم جرى من حكاية الأثر بالمعنى ما أثار بعض الإشكالات التي تزول بالتفصيل والتمحيص.

والنتيجة المتّفق عليها أنّ ما كُتب عليه المصحف واستقرّ عليه الاختيارُ أمرٌ مجمعٌ على صحّته لا يُرتاب في ذلك، وإن خفيت علينا بعض أسباب الخلاف ومآخذ الاختيارات.

وأما ما يتعلّق بترتيب السُّوَرِ وترك كتابة البسملة في أوَّل براءة فهو أمرٌ يدخله الاجتهادُ في المفاضلة بين الأحرف السبعة، ولا نكارة في ذلك كما تقدّم، غير أنّ العمدة في ذلك ليست على خبر يزيد الفارسي.


المسألة الخامسة: الجواب عن اختلاف ترتيب السور في مصاحف الصحابة

مصاحف الصحابة وكبار التابعين منها ما كُتب قبل جمع عثمان، ومنها ما كتب بعده أو بقي بعده لم يتلف في زمن عثمان.

فأما ما كان قبل جمع عثمان فإنّ اختلاف الترتيب فيه راجع إلى اجتهاد كلّ قارئ، ولم يكن ترتيب السور في مصاحفهم واجباً عليهم كما أنه لم يكن من الواجب عليهم في التلاوة ترتيب السور.

لكن لمّا جمع عثمان الناسَ على مصحف واحد بترتيب واحد وانعقد الإجماع عليه لم يسغ لأحد أن يكتب مصحفاً يخالف فيه ترتيب سور المصاحف العثمانية.


وقد كان لبعض الصحابة قبل الجمع العثماني مصاحف وصحف كتبوا فيها عدداً من السور تختلف في ترتيبها عن ترتيب السور في المصاحف العثمانية.

قال شقيق بن سلمة: قال عبد الله بن مسعود: «لقد تعلمت النظائر التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرؤهن اثنين اثنين، في كل ركعة»، فقام عبد الله ودخل معه علقمة، وخرج علقمة فسألناه، فقال: عشرون سورة من أول المفصل على تأليف ابن مسعود، آخرهن الحواميم: حم الدخان وعم يتساءلون). رواه البخاري.

فقوله: (على تأليف ابن مسعود) يدلّ على أنّ لها تأليفاً مختلفاً عما يعهده المخاطبون، وكان ذلك التأليف قبل جمع عثمان.


وكان لابن مسعود مصحف، ولأبيّ بن كعب مصحف، ولأبي موسى الأشعري مصحف، ولأبي الدرداء مصحف، ولغيرهم من الصحابة وكبار التابعين مصاحف قبل جمع عثمان، وسيأتي الحديث عنها في درس "مصاحف الصحابة "، وعامّة هذه المصاحف قد أُتلف بأمر عثمان بن عفان، وبقي عدد قليل تأخّر إتلافُه.

وكان بين تلك المصاحف من الاختلاف في الأحرف وترتيب السور ما استدعى الجمع العثماني، بل نُقل ما هو أشدّ من ذلك وهو تضمّن بعض تلك المصاحف لآيات وسور منسوخة التلاوة كسورتي الخلع والحفد.

قال عبد الأعلى بن عبد الأعلى: حدثنا هشام، عن محمد بن سيرين (أن أبيَّ بن كعب كتبهن في مصحفه خمسَهن، أم الكتاب، والمعوذتين، والسورتين، وتركهن ابن مسعود كلهن، وكتب ابن عفان فاتحة الكتاب، والمعوذتين، وترك السورتين). رواه عمر بن شبة.


فأما كتابة السور والآيات المنسوخة في بعض المصاحف قبل جمع عثمان فهو راجع إلى أحد أمرين:

أولهما: عدم العلم بالنسخ، ولا ريب أن اجتماع القراء في زمن عثمان أدعى لانتفاء هذه العلّة، ولذلك لم يثبت في المصاحف العثمانية ما نُسخت تلاوته.

والثاني: أن بقاءها ليس لتلاوتها كما تتلى سور القرآن غير المنسوخة، ولا لإقرائها، وإنما للعلم بها، ولأنّ تلك المصاحف خاصة بأصحابها.


ولمّا جمع عثمان الناس على مصحف واحد عزم على كلّ من عنده مصحف أو صحف فيها قرآن أن يأتي به؛ فسلّمه الناس مصاحفهم فلمّا نسخ ما فيها وأتمّ جمع المصاحف واطمئنّ الصحابة لصحّة الجمع، أمر بحرق بقية المصاحف؛ وبعث إلى الأمصار بمصاحف وأمر بحرق ما سواها.

فأتلفت عامّة المصاحف بأمر عثمان بن عفان رحمه الله كما سبق بيانه، لكن بقي مما لم يتلف: المصحف الذي جمعه أبو بكر؛ فإنّ عثمان ردّه إلى حفصة وبقي إلى زمن معاوية ثم أتلفه مروان بن الحكم.

وكان ابن مسعود قد خطب في الكوفة وأمر الناس ألا يسلموا مصاحفهم؛ ثمّ إنّه استجاب بعد ذلك وأقام مصحفه على المصحف الذي بعث به عثمان إلى أهل الكوفة.

واستقرّ ترتيب السور في المصاحف على ترتيب المصاحف العثمانية، وأجمعت الأمّة على ذلك، فلا يسوغ أن يُكتب مصحف تامّ على ترتيب يخالف ترتيب المصاحف العثمانية.


لكن بقي بين المصاحف أوجهٌ من الاختلاف في الرسم وفي عدّ الآي كما سبق بيانه.


وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أنّ ما خالف المصاحف العثمانية في الترتيب من مصاحف الصحابة فإنما سببه أنه كان قبل العرضة الأخيرة.

قال ابن بطال: (وأما ما روى من اختلاف مصحف أبىّ وعلىّ وعبد الله إنما كان قبل العرض الأخير، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم رتب لهم تأليف السور بعد أن لم يكن فعل ذلك).

وهذا القول أدّاه إليه قوله بتوقيف ترتيب السور، وهو قول مرجوح كما تقدّم، وقد ثبت اختلاف مصاحف الصحابة في الترتيب، وليس كلّ الاختلاف مرجعه إلى النسخ.


وعلى هذا فكلّ اختلاف قبل جمع عثمان فهو مرفوع بالجمع العثماني الذي استقرّ عليه الأمر.

وما بقي من اختلاف في مصاحف بعض الصحابة أو التابعين فالأظهر أنه من بقايا ما لم يُتلف من تلك المصاحف، ثم لم يبق بعد ذلك منها شيء.

قال ابن جريج: أخبرني يوسف بن ماهك، قال: إني عند عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، إذ جاءها عراقي، فقال: أي الكفن خير؟

قالت: (ويحك، وما يضرك؟)

قال: يا أم المؤمنين، أريني مصحفك؟

قالت: (لمَ؟)

قال: (لعلي أؤلّف القرآنَ عليه، فإنه يُقرأ غير مؤلف).

قالت: (وما يضرّكَ أيَّهُ قرأتَ قبل!! إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل، فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا ندع الخمر أبدا، ولو نزل: لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنا أبدا، لقد نزل بمكة على محمد صلى الله عليه وسلم وإني لـَجاريةٌ أَلعب: {بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر} وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده).

قال: (فأخرجت له المصحف، فأملت عليه آي السور). رواه البخاري.

قال ابن كثير: (كأنَّ هذا قبل أن يبعث أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه إلى الآفاق بالمصاحف الأئمة المؤلفة على هذا الترتيب المشهور اليوم، وقبل الإلزام به).

وتعقّبه ابن حجر بقوله: (كذا قال وفيه نظر؛ فإن يوسف بن ماهك لم يدرك زمان أرسل عثمان المصاحف إلى الآفاق؛ فقد ذكر المزي أن روايته عن أبيّ بن كعب مرسلة، وأبيّ عاش بعد إرسال المصاحف على الصحيح وقد صرَّح يوسف في هذا الحديث أنه كان عند عائشة حين سألها هذا العراقي)ا.هـ.

قلت: يوسف بن ماهك توفّي سنة 113هـ، وبين جمع عثمان ووفاته نحو 88 سنة؛ ولم أجد له رواية متصلة عمّن مات في زمن عثمان؛ فلعله إنما ولد في زمانه أو بعده.


وقد حُمل سؤال هذا السائل العراقي على أحد أمرين:

أحدهما: أن يكون سؤاله عن ترتيب السور، ويشهد له قولها رضي الله عنها: (وما يضرّك أيّه قرأت قبل).

والثاني: أن يكون سؤاله عن عدد الآي، وهو من علوم القرآن التي يُعنى بها القُرّاء، ويشهد لهذا الاحتمال قولُه: (فأملت عليه آي السور).

قال ابن حجر: (كأن تقول له سورة كذا مثلا كذا آية، الأولى كذا، الثانية إلخ، وهذا يرجع إلى اختلاف عدد الآيات، وفيه اختلاف بين المدني والشامي والبصري، وقد اعتنى أئمة القراء بجمع ذلك وبيان الخلاف فيه)ا.هـ.


والاحتمال الأوّل أجاب عنه ابن حجر بقوله: (الذي يظهر لي أن هذا العراقي كان ممن يأخذ بقراءة ابن مسعود، وكان ابن مسعود لما حضر مصحف عثمان إلى الكوفة لم يوافق على الرجوع عن قراءته ولا على إعدام مصحفه...فكان تأليف مصحفه مغايراً لتأليف مصحف عثمان، ولا شكَّ أنَّ تأليف المصحف العثماني أكثر مناسبة من غيره فلهذا أطلق العراقي أنه غير مؤلف وهذا كله على أن السؤال إنما وقع عن ترتيب السور ويدل على ذلك قولها له وما يضرك أيه قرأت قبل)ا.هـ.

قال: (ويحتمل أن يكون السؤال وقع عن الأمرين).

وقد أحسن ابن حجر رحمه الله الجواب عن هذا الأثر.


المسألة السادسة: الفصل بين السور بالبسملة

قال ابن عباس رضي الله عنهما: « كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يعرف فصل السورة حتى تنزل عليه بسم الله الرحمن الرحيم » رواه أبو داوود والحاكم وغيرهما من طرق عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، ولهذا الحديث طرق أخرى بألفاظ مختلفة.

ورواه عبد الرزاق في مصنفه عن ابن جريج قال: أخبرني عمرو بن دينار، أن سعيد بن جبير أخبره (أن المؤمنين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا لا يعلمون انقضاء السورة حتى ينزل: {بسم الله الرحمن الرحيم} فإذا نزل: {بسم الله الرحمن الرحيم} علموا أن قد نزلت السورة، وانقضت الأخرى). هكذا مرسلاً.

وروى البيهقي في شعب الإيمان عن عثمان بن الحجاج العبدي عن عبد الله بن أبي حسين النوفلي ذكر عن ابن مسعود، قال: (كنا لا نعلم فصل ما بين السورتين حتى تنزل {بسم الله الرحمن الرحيم})

عثمان مجهول، وابن أبي حسين لم يدرك ابن مسعود، لكن المعوّل على حديث ابن عباس، وعلى كتابة الصحابة رضي الله عنهم إياها في فواتح السور.


قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (فيه أنها نزلت للفصل، وليس فيه أنها آية منها، و {تبارك الذي بيده الملك} ثلاثون آية بدون البسملة؛ ولأن العادين لآيات القرآن لم يعدّ أحد منهم البسملة من السورة)ا.هـ.

وقال في موضع آخر: (توسّط أكثر فقهاء الحديث كأحمد ومحققي أصحاب أبي حنيفة، فقالوا: كتابتها في المصحف تقتضي أنها من القرآن؛ للعلم بأنهم لم يكتبوا فيه ما ليس بقرآن، لكن لا يقتضي ذلك أنها من السورة، بل تكون آية مفردة أنزلت في أول كل سورة، كما كتبها الصحابة سطرا مفصولا، كما قال ابن عباس: " كان لا يعرف فصل السورة حتى ينزل بسم الله الرحمن الرحيم".

فعند هؤلاء: هي آية من كتاب الله في أول كل سورة كتبت في أولها، وليست من السورة. وهذا هو المنصوص عن أحمد في غير موضع. ولم يوجد عنه نقل صريح بخلاف ذلك. وهو قول عبد الله بن المبارك وغيره. وهو أوسط الأقوال وأعدلها)ا.هـ.


قال عبد الله بن المبارك وأحمد بن حنبل: (من ترك {بسم الله الرحمن الرحيم} في فواتح السور، فقد ترك مائة وثلاث عشرة آية من القرآن). رواه البيهقي في شعب الإيمان عنهما.

وقد مضى بحث مسألة عدّ البسملة آية من السور في تفسير سورة الفاتحة بما أغنى عن إعادته، وإنما المقصود هنا التنبيه على أنّ الصحابة رضي الله عنهم كتبوا البسملة في سطر مفصول في أوّل كل سورة ما عدا سورة براءة، وأنها آية من القرآن.

قالَ أبو بكرٍ البيهقيُّ (ت:458هـ): (لم يختلف أهل العلم في نزول {بسم الله الرحمن الرحيم} قرآنا، وإنما اختلفوا في عدد النزول).

ثم قال: (وفي إثبات الصحابة رسمها حيثُ كتبوها في مصاحفهم دلالةٌ على صحةِ قولِ من ادَّعى نزولَها حيث كُتِبَت، والله أعلم)ا.هـ.


ولا يقدح في الإجماع الذي ذكره البيهقي ما نُقل من شذوذ الأقوال فهي إما غير ثابتة عن أصحابها أو مما أنكره أهل العلم.

قال إبراهيم بن يزيد القرشي: قلت لعمرو بن دينار: (إنَّ الفضلَ الرقاشي زعم أن {بسم الله الرحمن الرحيم} ليس من القرآن!

قال: سبحان الله ما أجرأ هذا الرجل!! سمعت سعيد بن جبير يقول: سمعت ابن عباس يقول: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أنزلت عليه {بسم الله الرحمن الرحيم} علم أن تلك السورة قد ختمت وفتح غيرها). رواه البيهقي في شعب الإيمان.

إبراهيم بن يزيد متروك الحديث، والفضل بن عيسى بن أبان الرقاشي قَدَريٌّ مُنكَر الحديث؛ مُجمَعٌ على تركِه، قال فيه حماد بن زيد: (كان من أخبث الناس قولاً). فلا يلتفت إلى قوله.


المسألة السابعة: سبب ترك كتابة البسملة في أول براءة

قال ابن الجزري: (لا خلاف في حذف البسملة بين الأنفال وبراءة، عن كل من بسمل بين السورتين، وكذلك في الابتداء ببراءة على الصحيح عند أهل الأداء، وممن حكى بالإجماع على ذلك أبو الحسن بن غلبون، وابن القاسم بن الفحام، ومكي، وغيرهم، وهو الذي لا يوجد نصّ بخلافه)ا.هـ.


واختلف بعد ذلك: هل ترك البسملة في أوّل براءة عامّ في الأحرف كلها؟ أو هو خاصّ بما اقتضاه الجمع العثماني؟

فنقل ابن الباذش أن التسميةَ في أوَّل بَراءةَ كانت في مصحف ابن مسعود؛ فإنْ ثبتَ هذا فيكون تركُ التسميةِ في بعض الأحرف دون بعض، ويكون اختيار عثمان ومن معه ترك التسمية في أوّل براءةَ من جنسِ اجتهادِهم في الاختيار بين الأحرف السبعة.

قال ابن الباذش في كتابه "الإقناع في القراءات السبع": (أجمعوا على تركها بين الأنفال وبراءة اتباعاً لمصحف عثمان رضي الله عنه المجمع عليه، إلا أنه رُوي عن يحيى وغيره عن أبي بكر عن عاصم أنه كان يكتب بينهما التسمية، ويُروى ذلك عن زرّ عن عبد الله، وأنه أثبته في مصحفه، ولا يؤخذ بهذا).

قال ابن حجر: (ونقل صاحب الإقناع أن البسملة لبراءة ثابتة في مصحف ابن مسعود، قال: "ولا يؤخذ بهذا")ا.هـ.

قلت: سبب عدم الأخذ بهذا الإجماع على ترك القراءة بما خالف المصاحف العثمانية كما تقدّم.


فالمعوّل في إثبات التسمية وحذفها إنما هو على ما ثبت بالتلقّي عن النبي صلى الله عليه وسلم رواية.

وقد ذكر مكيّ بن أبي طالب في الهداية عن أبيّ بن كعب رضي الله عنه أنه قال: (آخر ما نزل "براءة " وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر في أول كل سورة بـ: {بسم الله الرحمن الرحيم}، ولم يأمر في سورة " براءة " بشيء).

قال: (فلذلك ضُمّت إلى سورة " الأنفال "، وكانت أولى بها لشبهها بها).

ولم أقف عليه مسنداً.


وقال القشيري: (الصّحيح أن البسملة لم تكتب فيها لأن جبريل عليه السّلام ما نزل بها فيها).

قلت: وهذا القول لا يمكن الجزم به في جميع الأحرف.


ثمّ اختلف العلماء بعد ذلك في التماس الحكمة من ترك البسملة في أوّل براءة على أقوال مبناها على الاجتهاد:

القول الأول: لأن براءة نزلت بالسيف والبسملة أمان، وهذا القول رُوي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه بإسناد ضعيف.

قال محمد بن زكريا الغلابي: حدثنا يعقوب بن جعفر بن سليمان الهاشمي، حدثني أبي، عن أبيه، عن علي بن عبد الله بن عباس، قال: سمعت أبي يقول: سألت علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لم لم تكتب في براءة بسم الله الرحمن الرحيم؟ قال: لأن «بسم الله الرحمن الرحيم أمان وبراءة نزلت بالسيف، ليس فيها أمان»). رواه ابن الأعرابي في معجمه، والحاكم في المستدرك، وهو ضعيف الإسناد؛ محمد بن زكريا رماه الدارقطني بالوضع.

وقريب من هذا القول ما رواه الثعلبي عن سفيان بن عيينة.

وقال أبو يزيد حاتم بن محبوب الشامي: سمعت عبد الجبار بن العلاء العطار يقول: سُئل سفيان بن عيينة: لِـمَ لَـمْ يكن في صدر براءة:{بسم الله الرحمن الرحيم} ، فقال: (لأن التسمية رحمة، والرحمة أمان، وهذه السورة نزلت في المنافقين وبالسيف ولا أمان للمنافقين). رواه الثعلبي.

وهذا القول اعتُرض عليه بأنّ من سور القرآن ما نزل في شأن الكفار والمنافقين بل سمّيت السور بذلك كما في سورتي الكافرون والمنافقون وقد بُدئتا بالبسملة.

ويمكن أن يجاب عن هذا الاعتراض بأنّ مقام إعلان البراءة والنذارة مقام خاصّ يناسب معه ترك البدء بالبسملة.

وقال أبو إسحاق الزجاج: (أخبرنا بعض أصحابنا عن صاحبنا أبي العباس محمد بن يزيد المبرّد أنَّه قال: (لم تفتتح بـ{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، لأن "بسم اللَّه" افتتاح للخير، وأوَّل "براءَة" وَعيدٌ ونقض عُهود، فلذلك لم تفتتح بـ{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}).


والقول الثاني: لأنها نسخت مع ما نسخت تلاوته من أوّل سورة براءة، وقد روي أنها كانت تعدل سورة البقرة؛ وهذا القول مروي عن الإمام مالك.

قال القرطبي: (وقال مالك فيما رواه ابن وهب وابن القاسم وابن عبد الحكم: إنه لما سقط أوَّلها سقط {بسم الله الرحمن الرحيم} معه).

وقد تعقّب ابن عاشور نسبة هذا القول إلى الإمام مالك.


والقول الثالث: لأن الصحابة اختلفوا فيها فمنهم من ذهب إلى أن الأنفال والتوبة سورة واحدة، ومنهم من ذهب إلى أنهما سورتان؛ فقرن بينهما، ولم يفصل بينهما ببسملة، وهذا القول ذكره القرطبي عن خارجة وأبي عصمة وغيرهما، ويمكن أن يستدلّ لهذا القول بحديث يزيد الفارسي المتقدّم.

وقال ابن وهب: حدثني ابن لهيعة قال: (يقولون إن براءة من: {يسألونك عن الأنفال}، قالوا: وإنما ترك {بسم الله الرحمن الرحيم} أن يكتب في براءة لأنها من: {يسألونك}).

وروى عبد الرزاق عن معمر وعطاء أنهما ذكرا ذلك.

وقال الزمخشري في تفسيره: (وقد اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم: الأنفال وبراءة سورة واحدة. وقال بعضهم: هما سورتان، فتركت بينهما فرجة لقول من قال: هما سورتان، وتركت بسم الله الرحمن الرحيم لقول من قال: هما سورة واحدة)ا.هـ


والقول الرابع: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما كتب في صلح الحديبية «بسم الله الرحمن الرحيم» ، لم يقبلوها وردُّوها، فما ردَّها الله عليهم، وهذا القول ذكره ابن الجوزي عن عبد العزيز بن يحيى المكي.