10 Nov 2016
الفرق بين جمع أبي بكر وجمع عثمان رضي الله عنهما
مبحث الفرق بين جمع أبي بكر وجمع عثمان من
أدقّ مباحث جمع القرآن، وقد كثر النزاع في تفصيل الفروق بين الجمعين في
القرون المتأخرة، ولم يؤثر عن السلف في هذا المبحث خلاف، وكان أصل مبعث الخلاف لدى المتأخرين ما عرض لبعضهم من الإشكالات بسبب اختلافهم في فهم بعض الآثار المروية في هذا الباب، وضعف بعضها، والتزام ما لا يلزم؛ فأدّت بهم محاولات الخروج من تلك الإشكالات إلى دعاوى لا تصحّ، وذكر احتمالات لا يقتضيها الاستدلال الصحيح، ولا يوقف على حقيقتها.
وسلك المحققون من أهل العلم مسلك التمحيص والتدقيق، وتمييز صحيح الآثار من ضعيفها، ومقبولها من مردودها، وتعرّفوا علل الآثار المروية بأسانيد ظاهرها الصحة، وفي متونها ما يستنكر، وفرَّقوا بين ما يلزم وما لا يلزم؛ فتبيّن لهم من العلم الصحيح ما تزول به الإشكالات وتندفع به الاعتراضات، وظهر لهم خطأ كثير من تلك الدعاوى المتأخرة التي لا نجد لها أثراً في القرون الفاضلة.
وكلام الأئمة المحققين في هذا المبحث متفرّق في كتب القراءات، وعلوم
القرآن، وكتب العقيدة، وشروح الحديث، والرسائل المفردة؛ فحرصت على جمع ذلك
في موضع واحدٍ وترتيبه وتلخيصه؛ وشرح ما يحسن شرحه، فكان هذا المبحث في
المسائل التالية: المسألة الأولى: هل كان جمع أبي بكر الصديق في مُصحَف أو صحف غير مرتبة السور؟ المسألة الثانية: هل كان مصحف أبي بكر جامعاً للأحرف السبعة؟ المسألة الثالثة: هل كلّ ما خالف المصاحف العثمانية منسوخ بالعرضة الأخيرة؟ المسألة الرابعة: هل كان المصحف الذي جمعه عثمان نسخةً مطابقة لمصحف أبي بكر حرفاً بحرف؟ المسألة الخامسة: الخلاصة في الفرق بين جمع أبي بكر وجمع عثمان رضي الله عنهما. المسألة الأولى: هل كان جمع أبي بكر الصديق في مُصحَف أو صحف غير مرتبة السور؟ ذهب عبد الواحد بن عمر الصفاقسي المعروف بابن التين (ت:611هـ) في شرحه على
صحيح البخاري فيما نقله عنه ابن حجر في فتح الباري إلى أنّ ما جمعه أبو بكر
كان في صحائف متفرقة، وأن آيات كلّ سورة فيه مرتبة، غير أنّه لم يكن
مرتباً على السور، وأنّ عثمان هو الذي جمع القرآن في مصحف واحد ورتّبه على
السور. وهذا القول لم يتعقّبه ابن حجر، ونقله السيوطي أيضاً في الإتقان ولم
يتعقّبه؛ فاشتهر في كتب علوم القرآن، وهو خطأ بيّن فقد صحّ أن أبا بكر رضي
الله عنه قد جمع القرآن بين دفّتين. وقد تقدّم قول عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: (رحم الله أبا بكر، كان أعظم الناس أجرا في القرآن، هو أول من جمعه بين اللوحين). رواه ابن أبي شيبة وأبو نعيم وابن أبي داوود وغيرهم. وقال صعصعة بن صوحان العبدي وكان من القراء في زمن عثمان: «أول من جمع بين اللوحين، وورَّث الكلالةَ أبو بكر» رواه ابن أبي شيبة. ومن ضرورة جمعه بين لوحين أن يكون له ترتيب، وإن لم نقف على تعيينه. وأما الآثار التي فيها أنَّ أبا بكر جمع القرآن في قراطيس أو صحف فينبغي أن
تفهم بما يوافق هذه الآثار ولا يخالفها؛ فهي في قراطيس مجموعة في مصحف
واحد، وفي صحف بين لوحين. والكلام في ترتيب السور يأتي في الباب القادم إن شاء الله تعالى. المسألة الثانية: هل كان مصحف أبي بكر جامعاً للأحرف السبعة؟ القولُ بأنّ مصحف أبي بكر رضي الله عنه كان جامعاً للأحرف السبعة لم يكن
معروفاً في القرون الأولى، وفي نشأة هذا القول خطأ والتباس ينبغي توضيحه. وأصل ذلك أنَّ أبا الحسن الأشعري (ت:324هـ) زعم أنّ حفظ القرآن شامل لحفظ
الأحرف السبعة، وحكى الإجماع على أنه لا يجوز منع القراءات بالأحرف التي
نزل بها القرآن، وهذه مصادَمةٌ لإجماع الصحابة رضي الله عنهم على ترك
القراءة بما خالف المصحف الإمام من الأحرف الأخرى. قال بدر الدين العيني في عمدة القارئ: (قال الشيخ أبو الحسن الأشعري: أجمع
المسلمون على أنه لا يجوز حظر ما وسَّعه الله تعالى من القراءات بالأحرف
التي أنزلها الله تعالى، ولا يسوغ للأمة أن تمنع ما يطلقه الله تعالى، بل
هي موجودة في قراءتنا، وهي مفرقة في القرآن غير معلومة بأعيانها)ا.هـ. وأبو الحسن الأشعري عفا الله عنه له أقوال كثيرة في القرآن مخالفة لاعتقاد
أهل السنة والجماعة، وكان الأولى بهذا القول أن يُردَّ ويبيَّن خَطؤه. لكن أتى تلميذُ تلاميذه القاضي أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني المالكي
(ت:403هـ) فنصر هذا القول في كتابه "الانتصار" وأظهره في مظهر الانتصار
لحفظ القرآن؛ فذهب إلى أن جميعَ هذه الأحرف السبعة قد كانت ظهرت واستفاضت
عن الرسول صلى الله عليه وسلم وضبطتها الأمة عنه، وأن عثمان والجماعة قد
أثبتت جميع تلك الأحرف في المصاحف، وأخبرت بصحتها. وزعم أنّ ما تركه عثمان إنما هي أحرف غير معروفة ولا ثابتة، وأنها كانت
منقولة عن الرسول صلى الله عليه وسلم نقل الآحاد التي لا يجوزُ إثبات قرآن
وقراءات بها، وأنّ المصاحف التي أحرقها عثمان إنما أحرقها لما فيها من
التخليط والفساد في الضبط..) إلى آخر ما قال. وهذه الجُمَل فيها أخطاء بيّنة، ومخالَفة لما صحّ من الآثار عن الصحابة رضي
الله عنهم، وهي مبنية على أصل التلازم بين حفظ القرآن وحفظ الأحرف السبعة،
فأدّاه هذا التلازم إلى القول بأنّ جمع عثمان مشتمل على الأحرف السبعة،
وأنّ ما خالفه غير ثابت؛ فهو - عنده- إمَّا منقول بخبر الآحاد أو منسوخ، أو
مغيَّر بسبب سوء الضبط. وأبو بكر الباقلاني من كبار نُظَّار الأشاعرة ومتكلّميهم أخذ علم الكلام عن
ابن مجاهد الطائي صاحب أبي الحسن الأشعري، وإليه انتهت رئاسة المالكيين في
زمانه، لكنه كان غير متمكّن في علم القراءات، وكان الأولى أن يُردّ قولُه
ويُبيّن خطؤه. لكن أتى بعده تلميذه أبو عمرو الداني، وهو على جلالة قدره في علم القراءات
وحرصه على توخّي السنّة إلا أنّه ابتلي بالتتلمذ على بعض الأشاعرة، ومن
أشهرهم: شيخه أبو بكر الباقلاني، وأبو عمران الفاسي، وأبو الحسن القابسي،
وأخذ أيضاً عن بعض أئمة أهل السنة كابن أبي زمنين وغيره، وله عناية ظاهرة
بتعظيم السنة والتحذير من البدع. وكان يُجِلُّ أبا بكر الباقلاني ويعظّمه مع مخالفته له في كثير من المسائل،
لكنه تابعه في جملة منها، وله رسالة في العقيدة مطبوعة باسم "الرسالة
الواعية" وطبعت أيضاً باسم "الرسالة الوافية" هذّب فيها كثيراً مما ذكره
القاضي أبو بكر الباقلاني في كتابه "الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز
الجهل به في علم الكلام" ولذلك لا تعدّ تلك الرسالة من الرسائل الخالصة في وصف اعتقاد أهل السنة، ولا من الرسائل المعدودة في عقائد الأشاعرة. وهو من أهل السنة من حيث الجملة إلا أنّه لا يُتابع على ما وافق فيه
الأشاعرة من المسائل التي ذكرها في رسائله في الاعتقاد وفي علوم القرآن. ومسألتنا التي نبحث فيها كان أصل بحثها عَقَدياً لما تقدّم شرحه، ولما كان
لها تعلّق بجمع القرآن ورسم المصاحف ذكرها أبو عمرو الداني في كتابه
"المقنع في رسم مصاحف الأمصار" لكنّه هذّب قول الباقلاني المتقدّم، فقال: (فإن
قال قائل: فإذْ قد أَوضحتَ ما سُئلتَ عنه من تأوّل هذين الخبرين؛ فعرّفنا
بالسبب الذي دعا عثمان رضي الله عنه إلى جمع القرآن في المصاحف، وقد كان
مجموعا في الصحف عَلَى ما رويته لنا في حديث زيد بن ثابت المتقدم؟ قلت: السبب في ذلك بيّن؛ فذلك الخبر على قول بعض العلماء وهو أنَّ أبا بكر
رضي الله عنه كان قد جمعه أَولاً عَلى السبعة الأحرف التي أَذِن الله عزَّ
وجلَّ للأمّة في التلاوة بها، ولم يخصَّ حرفا بعينه؛ فلمَّا كان زمان عثمان
ووقع الاختلاف بين أهل العراق وأهل الشام في القراءة وأَعلمه حذيفةُ بذلك
رأَى هو ومن بالحضرة من الصحابة أن يُجمع الناس على حرف واحد من تلك
الأحرف، وأن يسقط ما سواه؛ فيكون ذلك مما يرتفع به الاختلاف ويوجب الاتفاق،
إذ كانت الأمّة لم تؤمر بحفظ الأحرف السبعة، وإنما خُيّرت في أيّها شاءت
لزمته وأجزأها؛ كتخييرها في كفارة اليمين بالله بين الإطعام والكسوة
والعتق، لا أن يجمع ذلك كله فكذلك السبعة الأحرف. وقيل: إنما جمع الصحف في مصحف واحد لما في ذلك من حياطة القرآن وصيانته
وجعل المصاحف المختلفة مصحفا واحداً متفقا عليه وأسقط ما لا يصحّ من
القراءات ولا يثبت من اللغات، وذلك من مناقبه وفضائله رضي الله عنه)ا.هـ. وهذا كما ترى فيه ردٌّ لكثير مما ذهب إليه الباقلاني مما يخالف ما هو متقرر
لدى أهل القراءات، لكنَّه نقلَ دعوى جمع الأحرف السبعة من مصحف عثمان إلى
مصحف أبي بكر. ومصحف أبي بكر مفقود لا يمكن الوقوف عليه، ولم يُنقل خَبَرُ ما فيه على التحقيق، ولذلك قال: (فذلك الخبر على قول بعض العلماء، وهو أنَّ أبا بكرٍ رضي الله عنه كان قد جمعه أَولاً عَلى السبعة الأحرف) وهذا القول ليس مما ثبت لديه بنقل صحيح، وقد علم القُرّاء أنَّ رَسْمَ مصحف
أبي بكر ليسَ له إسناد يُنقل به علم ما فيه، كما تنقل أحرف القراءات،
ومسائل الرسم العثماني، وعدّ الآي، وغيرها من علوم القراءات والمصاحف. وإنما هو اجتهاد في محاولة الجمع بين ما قرَّرَه شيخُه أبو بكر الباقلانيّ
وبين ما هو متقرر لدى أهل القراءات لإيجاد جوابٍ عن سؤال الفرق بين جمع أبي
بكر وجمع عثمان؛ فخرج بهذا الاحتمال المبني على فرض التسليم بصحة هذا
القول. وأبو عمرو الداني من علماء القراءات الكبار؛ وقد ذكر هذه المسألة في كتابه "المقنع في رسم مصاحف الأمصار"؛
فلذلك حَمَل عنه هذا القول من لم يعرف علَّته، بل تلقّاه بعض العلماء على
أنّه صحيح متقرر، وهو إنما ذكره احتمالاً، وقولاً من قولين فيهما نظر. وهذه العلّة كانت فيما يظهر لي هي منشأ شهرة هذا القول؛ وذلك لشهرة كتاب "المقنع" لأبي عمرو الداني وكثرة الناقلين عنه. ثمّ أتى بعده أبو القاسم الشاطبي(ت:590هـ) فنظم المقنع في منظومته التي سماها "عقيلة أتراب القصائد في أسنى المقاصد في علم رسم المصاحف" وكان مما قال فيها: إن اليمامة أهواها مسيلمة الـ ... ـكذاب في زمن الصديق إذ خسرا وبعد بأس شديد حان مصرعه ... وكان بأساً على القراء مستعرا نادى أبا بكرٍ الفاروقُ: خفتُ على الـْ ... ـقراء فادرك القرآن مستطرا فأجمعوا جمعه في الصحْف واعتمدوا ... زيدَ بن ثابتٍ العدلَ الرضا نظرا فقام فيه بعون الله يجمعه ... بالنصح والجدّ والحزم الذي بهرا من كل أوجهه حتى استتمّ له ... بالأحرف السبعة العليا كما اشتهرا). وهذا كما ترى إنما هو نظم لما في المقنع، وقد صرّح بنظم المقنع في منظومته فقال: وهاك نظم الذي في "مقنعٍ" عن أبي ... عمروٍ وفيه زياداتٌ فَطِبْ عُمُرا وقد أثنى في منظومته على أبي بكر الباقلاني وكتابيه "الانتصار للقرآن" و"إعجاز القرآن" بقوله: لله درّ الذي تأليف "معجزه" ... و"الانتصار" له قد أوضح الغُررا ثمّ أتى بعده تلميذه علم الدين السخاوي (ت:643هـ) شيخ القراء بدمشق؛ فشرح هذه المنظومة في كتابه "الوسيلة إلى كشف العقيلة" فقال في شرح تلك الأبيات المتقدّمة: (فإن قيل: فقد زعمتم أن زيداً كان جامعاً للقرآن؛ فما هذا التتبع والطلب لشيء يحفظه ويعلمه؟!! فالجواب: أنه كان يتتبع وجوهه وقراءاته، ويسأل عنها غيره ليحيط بالسبعة
التي نزل بها القرآن، وكذلك نظره في الرقاع والعسب واللخاف التي قد عرف
كتابتها وتيقّن أمرها. قال: ويجوز أن تكون تلك الرقاع والعسب واللخاف والأكتاف مما كُتب بين يدي
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الظاهر، وعليه يُحمل قوله: (فوجدت
آخر سورة براءة مع خزيمة) يعني الصحيفة التي فيها الآية. وإذا كانت مما كتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا بدّ من النظر
فيها، وإن كان حافظاً ليستظهر بذلك، وليعلم هل فيها قراءة غير قراءته أم
لا؟).ا.هـ. فجعل هذا القول احتمالاً من احتمالين، وجعل الثاني هو الظاهر، ولم يبنِ
الاحتمال الأوّل على دليل يُعتمد عليه، وإنما هو حكاية لقول قيل في هذه
المسألة، وقد علمتَ أصلَ نشأته وعلّته. ومن أخذ هذه النقول غير مرتّبة ترتيباً يَكشِفُ عِلَّتها ربما قُذف في نفسه
أنها مستندة على حُجّة يُعتمد عليها، وهي دعوى كبيرة لا يمكن قبولها إلا
بنقل ثابت. وهذه الدعوى يلزم منها القول بأن مصحف أبي بكر قد كُتب سبع مرات أو أن تكون
كتابة المصحف بالجمع بين الأحرف السبعة في الرسم في المصحف الواحد وهو أمر
غير ممكن؛ إذ يلزم منه أن تكرر كتابة الكلمة أو الآية التي فيها اختلاف
ضبط أو اختلاف تقديم وتأخير، وهذه دعوى محدثة. ولا حاجة إلى هذه الدعوى للجواب عن سؤال الفرق بين الجمعين، فإنَّ أبا بكر
قد جمع المصحف بين اللوحين نسخة واحدة، وليس نسخاً متعددة لكل حرف نسخة،
ولم يُؤثر أن جمعها كان فيه تكرار لكتابة بعض الكلمات على عدد الأحرف
المقروءة بها، ولم يكونوا يقرءون بالجمع بين القراءات، وإنّما كان يقرأ كلّ
قارئ منهم كما عُلّم، وكلّ قراءة منها كافية شافية، وبأيّ حرف منها كُتب
المصحف فهو صحيح كافٍ فيما كُتب لأجله. وكان مستند القراءة على السماع لا على الرسم، وقد كتب الصحابة بعد ذلك
مصاحف بحسب ما قرأ كاتبوها؛ فكان لابن مسعود مصحف، ولأبيّ بن كعب مصحف،
ولأبي موسى الأشعري مصحف، وكان بين هذه المصاحف اختلاف في بعض الأحرف من
زيادة بعضها على بعض، وتقديم وتأخير، وإبدال كلمة بأخرى، واختلاف ضبط، مما
يكون مستندهم فيه أصلاً السماع، ويكتبون مصاحفهم بحسب ما أُقرئوا، وكان
منها صُحُفٌ من إملاءِ النبي صلى الله عليه وسلم. وقد بَقيت تلك المصاحف والصحف حتى جمع عثمان الناس على رسم واحد في الجملة، وأحرق ما خالفه من المصاحف. والقول بأنّ جمع أبي بكر كان حاوياً للأحرف السبعة لا يصحّ عن أحد من السلف. وقال ابن عبد البرّ (ت:463هـ) في التمهيد: (وأمّا جمع
أبي بكرٍ للقرآن فهو أوّل من جمع ما بين اللّوحين، وجمع عليّ بن أبي طالبٍ
للقرآن أيضًا عند موت النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وولاية أبي بكرٍ
فإنّما كلّ ذلك على حسب الحروف السّبعة لا كجمع عثمان على حرفٍ واحدٍ، حرف
زيد بن ثابتٍ وهو الّذي بأيدي النّاس بين لوحي المصحف اليوم)ا.هـ. وهذا كما ترى فيه إجمال من جهة الحروف السبعة، وفيه خطأ في مواضع أخرى. فإنّ قوله: (فإنّما كلّ ذلك على حسب الحروف السبعة)
كلام مجمل وأولى ما يحمل عليه أن يقال: إنّ مراده أن جمع أبي بكر كان على
وجوه من الأحرف السبعة لم يتقيّد فيها بلسان قريش، ولا باختيار حرف بعينه. وقد يُفهم منه أنه أراد أنّ جمع أبي بكر وجمع عليّ بن أبي طالب كان مشتملا على الأحرف السبعة. وهذا – إن كان هو مراده – فلعله فَهِم من جمع عثمان الناسَ على حرف واحد
أنّ جمع أبي بكر كان على الأحرف السبعة، وأنّ جمع عليّ بن أبي طالب كان
كذلك، وكلا الأمرين غيرُ لازمين. فإنّ مصحف أبي بكر لم يكن شائعاً في الناس، ولم يكنِ القُرَّاءُ كابن مسعود
وأبي موسى وأبي الدرداء وأبيّ بن كعب - وهم أشهر قراء الأمصار في زمانهم -
لم يكونوا يعتمدونه في الإقراء، وإنما كان يقرأ كلّ واحد منهم كما أقرأه
النبي صلى الله عليه وسلم، ويقرئ الناس بذلك، حتى حصل من الاختلاف في أوّل
عهد عثمان ما حصل. وكذلك جمع عليّ بن أبي طالب إنما أراد به جمعه في صدره كما هو ظاهر المراد
بقولهم: جمع فلان القرآن، وفلان لم يجمعه، وفلان جمعه إلا سوراً يسيرة،
ونحو ذلك مما يراد به حفظ الصدر. وقول عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه عن أبي بكر: إنّه "أوّل من جمع القرآن بين لوحين" يدلّ على ذلك. ولو كان جمعه متقدماً على جمع أبي بكر لبيّن ذلك؛ كما بيّن سعة علمه بنزول كلّ آية من القرآن ومعرفة مكان نزولها وفيم أنزلت. وقد كان عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه يقرأ كما عُلّم، وهو أحد رواة حديث: ((اقرؤوا كما عُلّمتم)). وربما كتب مصحفاً خاصاً به كما كتب غيره من الصحابة، بحسب ما عُلّم، وأما
دعوى أنّ عليّ بن أبي طالب كتب مصحفاً مشتملاً على الأحرف السبعة فهذه دعوى
عريضة لا أصل لها، ولو كان الأمر كذلك لعلمه خواصّ أصحابه، ولنقل واشتهر؛
فإنّه من أعظم الأمور التي تشتد الرغبة في السؤال عنها وذكرها ونشرها ولا
سيّما من القراء لو كان ذلك حقيقة، وقد اجتهدوا في نقل دقائق من أحوال
القراء وأخبارهم؛ فكيف يغفلون عن نقل هذا الأمر العظيم في شأن القرآن وجمع
حروفه. وربما كان قول ابن عبد البرّ – إذا حُمل على المعنى الثاني- مستفاداً من
كلام أبي عمرو الداني أو كلام شيخه الباقلاني؛ فابن عبد البرّ وأبو عمرو
قرينان قارئان مالكيان أندلسيان قد اشتركا في عدد من الشيوخ والتلاميذ،
ولابن عبد البرّ كتاب مفقود في القراءات، لكن غالب عناية ابن عبد البر
بالحديث والفقه، وغالب عناية أبي عمرو الداني بالقراءات وعلوم القرآن. ولابن الجزري كلام حسن دقيق في هذه المسألة، وهو أجود ما قيل فيها، إذ قال في كتابه "منجد المقرئين": (والحق
ما تحرَّرَ من كلام الإمام محمد بن جرير الطبري وأبي عمر بن عبد البر وأبي
العباس المهدوي ومكي بن أبي طالب القيسي وأبي القاسم الشاطبي وابن تيمية
وغيرهم، وذلك أن المصاحف التي كتبت في زمن أبي بكر رضي الله عنه كانت
محتوية على جميع الأحرف السبعة). وهذا الكلام صحيح لكنّه منصرف إلى المصاحف والصحف التي كانت موجودة في زمن أبي بكر لا إلى المصحف الذي جمعه أبو بكر وحده. وقد تقدّم أنّ مصحف ابن مسعود كان فيه ما يخالف مصحف أبي موسى، وكان في
مصاحفهما ما يخالف مصحف زيد ومصاحف أهل الشام من أصحاب أبي الدرداء. ولم نجد في الآثار المروية في جمع أبي بكر ما يدلّ على أنّه جمعه بالأحرف السبعة لا جمعاً ولا تكراراً. وقول ابن الجزري: (والحق
ما تحرر من كلام الإمام محمد بن جرير الطبري وأبي عمر بن عبد البر وأبي
العباس المهدوي ومكي بن أبي طالب القيسي وأبي القاسم الشاطبي وابن تيمية
وغيرهم..). ربما فُهم منه أنّ ما خرج به هو منصوص أقوالهم، وأنهم اتفقوا عليه، وليس
الأمر كذلك، فإنّ الخلاف بينهم ظاهر، ومن تأمّل كلامهم في كتبهم ظهر له من
الخلاف بينهم ما لا يمكن التئامه على قول واحد. وإنما مراد ابن الجزري أنّ هذا القول هو ما تحرَّرَ له بَعد نَظره في كلامهم، وتفكُّرِه فيه، لا أنّه قول اتّفقوا عليه. وما خرج به ابنُ الجزري قولٌ صحيح لكن أسيء فهمه من وجهين: أحدهما: دعوى أن مصحف أبي بكر كان جامعاً للأحرف السبعة. والآخر: أنّ هذا القول هو ما اتفق عليه العلماء الذين ذكر أسماءهم. وكلام ابن جرير وأبي العباس المهدوي ومكي بن أبي طالب وابن تيمية ليس فيه
هذه الدعوى؛ فبقي كلام ابن عبد البرّ والشاطبي وقد علمتَ أصلَ قولِهما في
هذه المسألة. ثم جاء بعد ابن الجزري بدرُ الدين العيني فقال في شرح صحيح البخاري: (لو
قيل: إن زيداً كان جامعاً للقرآن فما معنى هذا التتبع والطلب لشيء إنما هو
ليحفظه ويعلمه؟!! أجيب: أنه كان يتتبع وجوهه وقراءاته ويسأل عنهما غيره ليحيط بالأحرف السبعة
التي نزل بها الكتاب العزيز، ويعلم القراءات التي هي غير قراءته)ا.هـ. وهذا النقل مستفاد من كلام عَلَم الدين السخاوي المتقدّم في "الوسيلة". وقال في موضع آخر: (غرض أبي بكر كان جمع
القرآن بجميع حروفه ووجوهه الّتي نزل بها وهي على لغة قريش وغيرها، وكان
غرض عثمان تجريد لغة قريش من تلك القراءات). وهذا القول مع ما قبله من الأقوال من أسباب شيوع القول بأنّ مصحف أبي بكر
كان جامعاً للأحرف السبعة، وهو كما ترى قول محدث لا يسنده أثر، وإنما هو
فهم تحصَّل من محاولات الخروج من إشكالات واردة، والتزام ما لا يلزم، وأصل
المسألة عقديّ ثمّ نقل إلى كتب علوم القرآن. وقول مروان بن الحكم لابن عمر لما أراد إتلاف مصحف أبي بكر أنه يخشى أن
يكون فيه ما يخالف مصحف عثمان فيه دلالة على أنّه لم يكن جامعاً للأحرف
السبعة، إذ لو كان كذلك لكان مشهوراً معروفاً، ولما احتاج إلى التعبير
بالخشية مع التحقق بأنّه كان جامعاً للأحرف السبعة، وكانت حجته أظهر في
إتلافه لو كان كذلك. ومن الأدلة على خطأ هذا القول أيضاً أنّ مصحف أبي بكر لو كان جامعاً للأحرف
السبعة لما احتاج عثمان إلى التوثّق من الصحابة في صحفهم التي قبضها منهم
أنها من إملاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يكفيه أن يجمعها
ويتلفها، وينسخ من مصحف أبي بكر، لكنّه أراد أن يجمع من مجموع مصاحف
الصحابة وصحفهم المتفرقة مصحفاً واحداً يجتمعون عليه. ولذلك ربما ترك بعض ما في مصحف أبي بكر ترجيحاً منه لبعض الأحرف التي في
المصاحف الأخرى، ويدلّ على ذلك صراحة الآثار المروية في المراسلات التي
كانت بين زيد بن ثابت وعثمان في رسم بعض الكلمات وقد تقدّم ذكرها. المسألة الثالثة: هل كلّ ما خالف المصاحف العثمانية منسوخ بالعرضة الأخيرة؟ ذهب الزرقاني في مناهل العرفان إلى أنّ ما خالف المصاحف العثمانية فهو منسوخ بالعرضة الأخيرة؛ فقال: (ما لا يوافق رسم المصحف بحال من الأحوال نحو قوله سبحانه: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} وقرأ ابن عباس هكذا [يأخذ كل سفينة صالحة غصبا]
بزيادة كلمة صالحة فإنَّ هذه الكلمة لم تثبت في مصحف من المصاحف العثمانية
فهي مخالفة لخطّ المصحف، وذلك لأنَّ هذه القراءة وما شاكلها منسوخة
بالعرضة الأخيرة، أي عرض القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم على جبريل آخر
حياته الشريفة، ويدل على هذا النسخ إجماع الأمة على ما في المصاحف)ا.هـ. وهذه الدعوى لا تصحّ؛ فإنّه من المقطوع به أنّ الصحابة كانوا يقرءون قبل
جمع عثمان على أحرف مختلفة غير منسوخة، وكانوا يصلون بها في الجمع
والجماعات ويتلونها في المجامع وحلق التعليم، ولو كان أحد منهم يقرأ
بالمنسوخ لأُنكِرَ عليه. - والقراءة بالمنسوخ قد تُتَصوّر من الرجل والرجلين في أحرف يسيرة،
وأما ما يحمله العدد الكثير من القراء، ويشتهر ذكره ولا ينكر فلا. - وقد كان في حِلَقِ ابن مسعود في الكوفة العدد الكثير، وكان يدور
على تلك الحِلَق، ويُشرف على قراءة كلّ حلقة ومقرئها، وروي أنّ في حِلَق
أبي الدرداء نحو ألف رجل، لكل عشرة منهم ملقّن، وأنّ أبا الدرداء كان يطوف
عليهم قائماً؛ فإذا أحكمَ الرجلُ منهم تحوَّل إلى أبي الدرداء يعرض عليه. - ثمّ إنّ الصحابة رضي الله عنهم إنما حملهم على الجمع في زمن عثمان
اختلافُ الناس في الأحرف، لا أنّ أحداً من القرّاء كان مصرّا على الإقراء
بالمنسوخ، واعتراضُ ابن مسعود رضي الله عنه يدلّ دلالة بيّنة على أنّ
قراءته تخالف قراءة زيد في بعض الأحرف التي لم تكن منسوخة قطعاً، وقد بيّن
أنّه لا يعلم أحداً في زمانه ذلك أعلم منه بكتاب الله، وأنه يعلم أين نزلت
كلّ آية ومتى نزلت، وأنّه عارض النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن مرتين في
العام الذي قبض فيه. - وقد شهد ابنُ عباس لابن مسعود أن قراءته هي الأخيرة، كما تقدّم،
وزيد بن ثابت ممن عرض على النبي صلى الله عليه وسلم في العام الذي قبض فيه،
فكلاهما قد شهد العرضة الأخيرة، واختلفت قراءتاهما في بعض الأحرف لا أنّ
أحدهما يقرأ بما هو منسوخ، وكلاهما أقرأ الناسَ زمناً طويلاً بعد النبي صلى
الله عليه وسلم، من غير إنكار، وابن عباس قرأ على زيد بن ثابت وروي أنه
أخذ بعض الأحرف من قراءة ابن مسعود، ولم ينكر على أحد منهما أنه يقرئ
بالمنسوخ. قال هارون بن موسى الأزدي: حدثنا صاحبٌ لنا، عن أبي روق، عن إبراهيم التيمي، عن ابن عباس قال: (قراءتي قراءة زيد، وأنا آخذ ببضعة عشر حرفاً من قراءة ابن مسعود، هذا أحدها [من بقلها وقثائها وثومها وعدسها وبصلها] ). رواه ابن أبي داوود في المصاحف، وقد رويت هذه القراءة عن ابن مسعود من طرق أخرى. - وكان حذيفة عالماً باختلاف القرَّاء، ولو كان أحدهم يُقرئ بالمنسوخ
لأَنكر عليه، ولما احتاج الجمعُ إلى أكثر من الإنكار على من يُقرئ
بالمنسوخ. - ولمّا تكلّم أئمة
القراء في ردّ دعوى احتواء المصاحف العثمانية للأحرف السبعة كان من أدلّتهم
أنه يلزم من ذلك القول بنسخ ما لا يوافق رسم المصاحف العثمانية من الأحرف
الأخرى، وذكروا أنه قول باطل، وهذا مما يدلّ على تقرر بطلان هذه الدعوى. قال ابن الجزري: (إذا قلنا إن المصاحف
العثمانية محتوية على جميع الأحرف السبعة التي أنزلها الله تعالى كان ما
خالف الرسم يُقطع بأنه ليس من الأحرف السبعة، وهذا قول محظور لأن كثيرا مما
خالف الرسم قد صح عن الصحابة رضي الله عنهم، وعن النبي صلى الله عليه
وسلم)ا.هـ وقال مكي بن أبي طالب القيسي: (ولو كانت هي
السبعة كلها، وهي موافقة للمصحف لكان المصحف قد كتب على سبع قراءات، ولكان
عثمان رضي الله عنه، قد أبقى الاختلاف الذي كرهه، وإنما جمع الناس على
المصحف، ليزول الاختلاف)ا.هـ. فهذا كلّه مما يدلّ دلالة بيّنة على خطأ هذه الدعوى، وقد تفكّرت في منشأ
هذه الدعوى؛ فوجدت كلاماً لشيخ الإسلام ابن تيمية في فتواه في الأحرف
السبعة وآخر لابن الجزري رحمه الله في كتابه النشر وفيهما ما يستدعي
التوضيح لإزالة اللبس. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وأما القراءة الشاذة الخارجة عن رسم المصحف
العثماني مثل قراءة ابن مسعود وأبي الدرداء رضي الله عنهما [والليل إذا
يغشى . والنهار إذا تجلى . والذكر والأنثى] كما قد ثبت ذلك في الصحيحين،
ومثل قراءة عبد الله: [فصيام ثلاثة أيام متتابعات]. وكقراءته: [إن كانت إلا
زقية واحدة] . ونحو ذلك؛ فهذه إذا ثبتت عن بعض الصحابة فهل يجوز أن يقرأ
بها في الصلاة؟ على قولين للعلماء: هما روايتان مشهورتان عن الإمام أحمد وروايتان عن مالك: إحداهما: يجوز ذلك لأن الصحابة والتابعين كانوا يقرءون بهذه الحروف في الصلاة. والثانية: لا يجوز ذلك وهو قول أكثر العلماء،
لأن هذه القراءات لم تثبت متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإن ثبت
فإنها منسوخة بالعرضة الآخرة، فإنه قد ثبت في الصحاح عن عائشة وابن عباس
رضي الله عنهم أن جبريل عليه السلام كان يعارض النبي صلى الله عليه وسلم
في كل عام مرة، فلما كان العام الذي قبض فيه عارضه به مرتين. والعرضة الأخيرة هي قراءة زيد بن ثابت وغيره، وهي التي أمر الخلفاء
الراشدون: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي بكتابتها في المصاحف، وكتبها أبو
بكر، وعمر في خلافة أبي بكر في صحف أمر زيد بن ثابت بكتابتها، ثم أمر عثمان
في خلافته بكتابتها في المصاحف وإرسالها إلى الأمصار وجمع الناس عليها
باتفاق من الصحابة علي وغيره)ا.هـ. وهذا القول استدرك عليه ابن الجزري في النشر وهذّبه تهذيباً حسناً فقال:
(قراءة عبد الله بن مسعود وأبي الدرداء: [والذكر والأنثى] في {وما خلق الذكر والأنثى}
وقراءة ابن عباس [وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصبا وأما الغلام
فكان كافرا] ونحو ذلك مما ثبت بروايات الثقات، واختلف العلماء في جواز
القراءة بذلك في الصلاة، فأجازها بعضهم لأن الصحابة والتابعين كانوا يقرءون
بهذه الحروف في الصلاة، وهذا أحد القولين لأصحاب الشافعي وأبي حنيفة وإحدى
الروايتين عن مالك وأحمد. وأكثر العلماء على عدم الجواز؛ لأن هذه القراءات لم تثبت متواترة عن النبي
صلى الله عليه وسلم، وإن ثبتت بالنقل فإنها منسوخة بالعرضة الأخيرة أو
بإجماع الصحابة على المصحف العثماني أو أنها لم تنقل إلينا نقلا يثبت بمثله
القرآن أو أنها لم تكن من الأحرف السبعة، كل هذه مآخذ للمانعين)ا.هـ فابن الجزري رحمه الله جمع أجوبة العلماء في منع الإقراء بما ثبت مما يخالف
رسم المصاحف العثمانية، وبيَّن أنّ ما خالف رسم المصحف منه ما يكون من
المنسوخ تلاوة، ومنه ما يكون مما أجمع الصحابة على ترك القراءة به بعد جمع
عثمان، ولذلك فإنّ الإجماع على ترك القراءة بما خالف رسم المصحف لا يقتضي
القول بالنسخ مطلقاً. والقول بأنّ كلّ ما خالف رسم المصحف فهو منسوخ قد تقدّم عن بعض المتكلمين
كأبي الحسن الأشعري وأبي بكر الباقلاني وغيره، لكنّهم زعموا أنّ رسم المصحف
مشتمل على الأحرف السبعة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (ومن هؤلاء من
يقول بأن الترخيص في الأحرف السبعة كان في أول الإسلام لما في المحافظة على
حرف واحد من المشقة عليهم أولا، فلما تذللت ألسنتهم بالقراءة، وكان
اتفاقهم على حرف واحد يسيرا عليهم وهو أوفق لهم، أجمعوا على الحرف الذي كان
في العرضة الآخرة، ويقولون إنه نسخ ما سوى ذلك. وهؤلاء يوافق قولهم قول من يقول إن حروف أبي بن كعب وابن مسعود وغيرهما مما يخالف رسم هذا المصحف منسوخة)ا.هـ. وهذا حكاية لأقوال المتكلمين في الأحرف السبعة. المسألة الرابعة: هل كان المصحف الذي جمعه عثمان نسخةً مطابقةً لمصحف أبي بكر حرفاً بحرف؟ ذهب بعض العلماء إلى أنّ مصحف عثمان كان نسخة مطابقة لمصحف أبي بكر حرفاً
بحرف لا اختلاف بينهما، وأنّ مصحف أبي بكر كان على العرضة الأخيرة. وهذا القول فيه صواب وخطأ - فأما صوابه: فالقول بأنّ مصحف أبي بكر كان على العرضة الأخيرة، لكن العرضة الأخيرة لا تقتضي أن تكون على حرف واحد. وقد تقدّم البيان بأن ابن مسعود وزيد بن ثابت قد عرضا القرآن على النبي صلى
الله عليه وسلم في العام الذي قبض عليه مرتين، وبينهما من الاختلاف في بعض
الأحرف ما هو معلوم. - وأما خطؤه: فلأنّه يلزم منه أنّ كل ما خالف مصحف أبي بكر فهو على غير
العرضة الأخيرة، وهذا يقتضي أن يكون ابن مسعود وأبو موسى وأبو الدرداء
وجماعة من الصحابة كانوا يقرئونَ الناسَ بالمنسوخ، وهذا قول محظور. - ولو كان الأمر كذلك لما احتاج عثمان إلى أن يأخذ البيّنة على أصحاب الصحف
أنها من إملاء رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم، ولما احتاج إلى
مقابلتها على مصحف أبي بكر، ولا إلى الاجتهاد في الاختيار بين الأحرف
المختلف فيها. - ومن تأمّل الآثار المروية في جمع عثمان تبيّن له اجتهاد عثمان ومن معه من
قرّاء الصحابة اجتهاداً بالغاً في كلّ ما تقدّم، وأن من ضرورة ذلك
الاجتهاد أن يكون في جمع عثمان اختيارٌ يخالف بعض الأحرف التي كانت في مصحف
أبي بكر. قال عبد الله بن المبارك: حدثني أبو وائل شيخ من أهل اليمن، عن هانئ
البربري مولى عثمان قال: كنت عند عثمان وهم يعرضون المصاحف، فأرسلني بكتف
شاة إلى أبيّ بن كعب، فيها «لم يتسن» ، وفيها «لا تبديل للخلق» ، وفيها «فأمهل الكافرين». قال: فدعا بالدواة فمحا إحدى اللامين، وكتب {لخلق الله}، ومحا «فأمهل»، وكتب {فمهّل}، وكتب {لم يتسنه} ألحق فيها الهاء). رواه أبو عبيد القاسم بن سلام في فضائل القرآن، وابن جرير الطبري. - ولو كان جمعهم لا اختيار فيه بين الأحرف لكان يكفيهم أن يكتبوه على ما في مصحف أبي بكر، ولما احتاجوا إلى سؤال أبيّ عن هذه الأحرف. - وكذلك ما ثبت من الاختلاف بين المصاحف العثمانية في بعض الأحرف دليل على أنّ مثل هذا الاختلاف ممكن بينها وبين مصحف أبي بكر. - ولو كانت المصاحف العثمانية نسخة مطابقة لمصحف أبي بكر حرفاً بحرف لما
احتاج مروان بن الحكم إلى إتلاف هذا المصحف، ولما أقرّه ابن عمر على دعواه
بأنه يخشى أن يكون فيه ما يخالف المصاحف العثمانية. - وهذه الدعوى مقابلة لدعوى من زعم أن مصحف أبي بكر كان حاوياً للأحرف السبعة. المسألة الخامسة: الخلاصة في بيان الفرق بين جمع أبي بكر وجمع عثمان رضي الله عنهما. تلخيص الفرق بين جمع أبي بكر وجمع عثمان أنّ جمع أبي بكر كان سببُه الحاجة
إلى حفظ نسخة مكتوبة من القرآن بعد موت كثير من حفظة القرآن في حروب
الردّة، وجمع عثمان كان سببه ما وقع من الفتنة والاختلاف في الأحرف. واختلاف الأسباب والمقاصد مؤثر في منهج العمل، فأمّا جمع أبي بكر فكان يكفي
فيه أن تكتب نسخة منه على أيّ حرف من الأحرف السبعة إذ كلها كافٍ شافٍ،
ولم يكن بين الصحابة تنازع في أحرف القراءات، بل كان كلّ منهم يقرأ كما
عُلّم، ولا ينازِع غيره فيما أُقرئوا، ولا ينازعونه فيما أقرئَ، لما أدّبهم
به النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدّم. وأمّا جمع عثمان فكان لا بدّ فيه من الاجتهاد في اختيار حرف واحد من مجموع
الأحرف السبعة، ولذلك اجتهدوا اجتهاداً بالغاً في الموازنة بين الأحرف
المختلف فيها، وكتبوا المصاحف على ما ارتضوه من الاختيار بما يوافق لسان
قريش، ولا يخالف العرضة الأخيرة، ثم انعقد إجماع الصحابة والتابعين في ذلك
الوقت على الرضا بذلك الاختيار، وترك القراءة بما يخالفه، وأجمعت عليه
الأمّة بعد ذلك إلى وقتنا الحاضر. والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم.