الدروس
course cover
الدرس السابع: كتابة المصاحف العثمانية
23 Oct 2016
23 Oct 2016

6326

0

0

course cover
جمع القرآن

القسم الثاني

الدرس السابع: كتابة المصاحف العثمانية
23 Oct 2016
23 Oct 2016

23 Oct 2016

6326

0

0


0

0

0

0

0

كتابة المصاحف العثمانية


روى أهل الحديث والأثر في شأن كتابة المصاحف التي أمر الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه بكتابتها جملة من الآثار الصحيحة والحسنة، ورويت روايات أخرى في بعضها نكارة.


والذي تلخص لي من مجموع الروايات المقبولة في هذه القضية ما يلي:

- أن عثمان رضي الله عنه لما عزم على جمع الناس على مصحفٍ إمامٍ قام في الناس خطيباً؛ فذكر لهم ما رآه وما بلغه من اختلاف الناس في شأن القراءات، وما يحذره على الأمّة من الفتنة والخصومة والتفرق؛ فاجتمعت كلمتهم على ما رآه عثمان وما أُشيرَ به عليه.

- فعزم عثمان على كلّ من بيده صحيفة أو مصحف كُتب فيه قرآن أن يأتي به؛ فاستجابوا له كلُّهم، ولم يُذكر عن أحد منهم أنه امتنع إلا ما كان من ابنِ مسعود في أوّل الأمر ولم يكن بالمدينة في ذلك الوقت، ثم إنه قد رجع عن رأيه.

- طلب عثمان البيّنة على كلّ واحد بصحّة كتابته وأنها من إملاء رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه.

- أرسل عثمان إلى حفصة لِتُرسل إليه المصحف الذي كُتب على عهد أبي بكر رضي الله عنه.

- أخذ الصحفَ التي قامت البيّنة بصحتها، والمصحفَ الذي جُمع على عهد أبي بكر، ووكّل زيد بن ثابت ومن معه بجمع تلك الصحف في مُصحف واحد.

- تولّى زيد بن ثابت عملَ الجمعِ، وكان الذي يُملي عليه سعيد بن العاص، وكان معه كَتَبَةٌ آخرون اختلف في عددهم على ما سيأتي بيانه إن شاء الله.

- ما اتّفق من تلك الصُّحف كتبوه على الاتفاق، وما كان فيها من اختلاف أخَّروه، حتى يُرفع إلى عثمان.

- اجتهد عثمان ومن معه من قرّاء الصحابة في الاختيار بين الأحرف المختلفة بما يوافق لسان قريش والعرضة الأخيرة.

- لما فرغوا من المصحف الإمام عُرض مرة أخرى على عثمان، وكان ربما بعث إلى أبيّ بن كعب يسأله عن بعض الأحرف فيكتب له ما يختار منها.

- كان عثمان يتعاهدهم في جميع مراحل عملهم، وهو الذي نظّم لهم العمل ورسم لهم طريقته.

- لما تمّ جمع النسخة الأولى من المصحف من مجموع تلك الصحف عُرض مرّة أخرى على عثمان فلم يجدوا فيه شيئاً من الاختلاف لم يحسم أمره، وكانوا قبل ذلك قد اختلفوا في (التابوت) فكان قراء الأنصار يقرؤونها (التابوه) وقراء المهاجرين يقرؤونها (التابوت).

- لما طابت نفسُ عثمان بصحة ما جمع في نسخة الأصل، أمر بنسخ مصاحف أخرى من المصحف الإمام، واختلف في عددها على ما سيأتي بيانه.

- لما تمّ نسخ المصاحف أمر عثمان بإعادة مصحف أبي بكر إلى حفصة، ثم أمر ببقية المصاحف أن تُحرّق، وكان ذلك بإجماع الصحابة رضي الله عنهم على ما سيأتي بيانه إن شاء الله.


والملخص السابق مستفاد من مجموع الآثار التي ترجّح لي صحتها أو حسنها، وقد وقع في بعضها إجمال وفي بعضها تفصيل، ومن تلك الآثار:

1. ما رواه الزهري عن أنس بن مالك رضي الله عنه، وفيه أنه قال: (فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك فأرسلت بها حفصة إلى عثمان؛ فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن ابن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف.

وقال عثمانُ للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيءٍ من القرآن فاكتبوه بلسان قريش؛ فإنما نزل بلسانهم، ففعلوا، حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كل أفقٍ بمصحفٍ مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق). رواه البخاري والترمذي والنسائي في الكبرى وابن حبان والبيهقي.


2. وما رواه الزهري عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه رضي الله عنه أنه قال: (نسخت الصحف في المصاحف، ففقدت آية من سورة الأحزاب كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها، فلم أجدها إلا مع خزيمة بن ثابت الأنصاري الذي جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته شهادة رجلين» وهو قوله: {من المؤمنين، رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر} فألحقناها في سورتها في المصحف). رواه البخاري في صحيحه.

ورواه الترمذي وابن حبان والبيهقي وزادوا: (قال الزهري: فاختلفوا يومئذ في التابوت والتابوه، فقال القرشيون: التابوت، وقال زيد: التابوه، فرفع اختلافهم إلى عثمان، فقال: اكتبوه التابوت؛ فإنه نزل بلسان قريش).

ورواية الزهري ههنا في الخلاف في التابوت مرسلة، ورواها الطحاوي في شرح مشكل الآثار موصولة بسياق آخر فقال: حدثنا يونس قال: حدثنا نعيم بن حماد قال: حدثنا عبد العزيز بن محمد، عن عمارة بن غزية، عن ابن شهاب، عن خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبيه فذكر الحديث، وفيه:

قال زيد: (فأمرني عثمان أن أكتب له مصحفا، وقال: إني جاعل معك رجلا لبيبا فصيحا، فما اجتمعتما فيه فاكتباه، وما اختلفتما فيه فارفعاه إلي؛ فجعل معه أبان بن سعيد بن العاص فلما بلغ: {إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت}

قال زيد: فقلت أنا: التابوه، وقال أبان: {التابوت}، فرفعنا ذلك إلى عثمان فكتب: التابوت، ثم عرضته، يعني المصحف، عرضة أخرى فلم أجد فيه شيئا، وأرسل عثمان إلى حفصة أن تعطيه الصحيفة وحلف لها ليردنها إليها، فأعطته؛ فعرضت المصحف عليها فلم يختلفا في شيء؛ فردها عليها وطابت نفسه، وأمر الناس أن يكتبوا المصاحف).

ونعيم بن حماد ثقة يخطئ كثيراً، وعبد العزيز بن محمد الدراوردي ثقة من رجال مسلم لكنه انتُقد فيما يحدّث به من حفظه، ولذلك فما في هذا الأثر مما يخالف ما صحّ من الآثار فلا يقبل.


3. وفي رواية زيد بن أبي أنيسة عن أبي إسحاق السبيعي ، عن مصعب بن سعد، أنَّ عثمان عزم على كل من كان عنده شيء من القرآن إلا جاء به، قال: فجاء الناس بما عندهم، فجعل يسألهم عليه البينة أنهم سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم). رواه عمر بن شبة.


4. وفي رواية إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن مصعب بن سعد أن عثمان قال في خطبته: (فأعزم على كل رجل منكم ما كان معه من كتاب الله شيء لما جاء به) وكان الرجل يجيء بالورقة والأديم فيه القرآن، حتى جمع من ذلك كثرةً، ثم دخل عثمان فدعاهم رجلاً رجلاً فناشدهم لسمعتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أملاه عليك؟

فيقول: نعم، فلما فرغ من ذلك عثمان قال: (من أَكْتَبُ الناسِ؟)

قالوا: كاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت.

قال: (فأيّ الناسِ أعرب؟)

قالوا: سعيد بن العاص.

قال عثمان: (فليملَّ سعيدٌ وليكتب زيد) فكتب زيد، وكتب مصاحف ففرقها في الناس، فسمعت بعض أصحاب محمد يقول: قد أحسن). رواه ابن أبي داوود.


5. وروى علقمة بن مرثد عن العيزار بن جرول عن سويد بن غفلة عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن عثمان قال في خبر جمع المصاحف: «فأي الناس أقرأ؟»

قالوا: زيد بن ثابت.

قال: «فأي الناس أفصح وأعرب؟»

قالوا: سعيد بن العاص.

قال: «فليكتب سعيد وليمل زيد»

قال: فكانت مصاحف بعث بها إلى الأمصار، قال علي: «والله لو وليت لفعلت مثل الذي فعل» رواه عمر بن شبة.

وهذا قَلْبٌ من الرواي أو خطأ من الناسخ، والصواب: (فليكتب زيد، وليملّ سعيد).


6. وروى ابن شهاب الزهري عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه أنه قال: «فأمرني عثمان رضي الله عنه أن أكتب له مصحفا؛ فكتبته، فلما فرغت منه عرضه ». رواه عمر بن شبة.


7. وروى هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن كثير بن أفلح أنه قال: (لما أراد عثمان أن يكتب المصاحف، جمع له اثني عشر رجلا من قريش والأنصار، فيهم أبي بن كعب، وزيد بن ثابت قال فبعثوا إلى الربعة التي في بيت عمر، فجيء بها.

قال: وكان عثمان يتعاهدهم، فكانوا إذا تدارءوا في شيء أخروه.

قال محمد: فقلت لكثير - وكان فيهم فيمن يكتب -: هل تدرون: لم كانوا يؤخرونه؟

قال: لا

قال محمد: فظننت ظناً، إنما كانوا يؤخرونها لينظروا أحدثهم عهدا بالعرضة الآخرة فيكتبونها على قوله). رواه ابن أبي داوود في كتاب المصاحف واللفظ له، وعمر بن شبة في تاريخ المدينة.


8. قال عبد الله بن المبارك: حدثني أبو وائل شيخ من أهل اليمن، عن هانئ البربري مولى عثمان قال: كنت عند عثمان وهم يعرضون المصاحف، فأرسلني بكتف شاة إلى أبيّ بن كعب، فيها «لم يتسن» ، وفيها «لا تبديل للخلق» ، وفيها «فأمهل الكافرين» .

قال: فدعا بالدواة فمحا إحدى اللامين، وكتب {لخلق الله}، ومحا «فأمهل»، وكتب {فمهّل}، وكتب {لم يتسنَّه} ألحق فيها الهاء). رواه أبو عبيد القاسم بن سلام في فضائل القرآن، وابن جرير الطبري.

وأبو وائل هو عبد الله بن بحير بن ريسان المرادي قاصّ أهل صنعاء، وثّقه يحيى بن معين وابن حبان.

وقال علي ابن المديني: سمعتُ هشام بن يوسف وسئل عن عبد الله بن بحير القاصّ الذي روى عن هانئ مولى عثمان، فقال: (كان يُتقن ما سمع).


تنبيه:

قول أنس بن مالك فيما رواه البخاري: ((فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك فأرسلت بها حفصة إلى عثمان؛ فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن ابن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف).

يشعر أن مصحف أبي بكر جُعل أصلاً لتنسخ منه المصاحف، وهو أثر صحيح الإسناد.

وقول زيد بن ثابت فيما رواه الطحاوي: (وأرسل عثمان إلى حفصة أن تعطيه الصحيفة وحلف لها ليردنها إليها، فأعطته؛ فعرضت المصحف عليها فلم يختلفا في شيء؛ فردها عليها وطابت نفسه، وأمر الناس أن يكتبوا المصاحف).

يشعر أن زيد بن ثابت ومن معه كتبوا المصحف الأصل أولاً ثم عرضوه على ما كتب في عهد أبي بكر، ولو صحّ عن زيد لكان مقدماً على قول أنس لأن زيداً هو صاحب الشأن وأدرى بتفصيله، لكن الإسناد إليه لا يعتمد عليه مع ما فيه من المخالفة.


تنبيه آخر:

قال إبراهيم بن يوسف السعدي: حدثني أبو المحياة، عن بعض أهل طلحة بن مصرف قال: (دفن عثمان المصاحفَ بين القبر والمنبر) رواه ابن أبي داوود في كتاب المصاحف.

وهذا الخبر ضعيف الإسناد لجهالة شيخ أبي المحياة.

والصحيح الثابت أنه أحرقها كما تقدم من غير وجه، ولو صحّ هذا الخبر لأمكن أن يُحمل على دفنها بعد حرقها.


عدد المصاحف العثمانية

اختلف العلماء في عدد المصاحف التي أمر عثمان بكتابتها، وأصحّ ما روي في هذا الباب ما رواه البخاري في صحيحه من طريق الزهري عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنَّ عثمان "أرسل إلى كل أفقٍ بمصحفٍ مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق".

وهذا مشعر بالكثرة من غير تحديد، ولا يلزم منه أن يكون الإرسال دُفعةً واحدةً.


وأقلّ ما قيل في عددها أنها كانت أربعة مصاحف: أبقى واحداً منها في المدينة، وبعث إلى الشام مصحفاً وإلى الكوفة والبصرة مصحفاً مصحفاً.

- وروى ابن أبي داوود عن عبد الأعلى بن الحكم الكلابي أنه دخل على حذيفة وابن مسعود وأبي موسى الأشعري؛ فإذا عندهم مصحف أرسل به عثمان وأمرهم أن يقيموا مصاحفهم عليه).

والذي يظهر أنّ اجتماعهم كان في البصرة لما ذُكر في الأثر أنهم لما حضرتهم الصلاة قدّموا أبا موسى ليصلي بهم لأنهم في داره، وكان أبو موسى أمير البصرة.

- وقال إبراهيم النخعي: (قال رجل من أهل الشام: مصحفنا ومصحف أهل البصرة أحفظ من مصحف أهل الكوفة). فذكر الخبر، وهو في كتاب المصاحف لابن أبي داوود من طريق جرير عن مغيرة عن إبراهيم.

- وروى إبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أنه قال: «إنَّ أول مَن جمع القرآن في مصحف وكتبه عثمانُ بن عفان، ثم وضعه في المسجد فأمر به يُقرأ كلَّ غداة» رواه عمر بن شبة.

وفي الصحيحين من حديث يزيد بن أبي عبيد قال: كنت آتي مع سلمة بن الأكوع فيصلي عند الأسطوانة التي عند المصحف.

فقلت: يا أبا مسلم، أراك تتحرى الصلاة عند هذه الأسطوانة!

قال: « فإني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتحرى الصلاة عندها».


وهذه الأسطوانة كانت تسمّى أسطوانة المهاجرين لأنهم كانوا يجلسون إليها ويتحدثون عندها.

وذكر ابنُ رجب في شرحه على صحيح البخاري أنها متوسطة في الروضة الشريفة؛ فهي الأسطوانة الثالثة من القبر الشريف، والثالثة من المنبر، والثالثة من القبلة.

وقال ابن حجر: (قوله: (التي عند المصحف) هذا دالٌّ على أنه كان للمصحف موضع خاص به، ووقع عند مسلم بلفظ "يصلي وراءَ الصندوق" وكأنه كان للمصحف صندوق يوضع فيه)ا.هـ.

قلت: وهذا الصندوق كان يُسمَّى "الرَّبْعة".


والمقصود أن هذه الآثار أفادت الخبر عن أربعة مصاحف: مصحف المسجد النبوي بالمدينة، ومصحف الشام، ومصحف الكوفة، ومصحف البصرة.


- قال حمزة الزيات القارئ: (كتب عثمان أربعةَ مصاحف، فبعث بمصحف منها إلى الكوفة، فوُضِعَ عند رجل من مُراد، فبقي حتى كتبتُ مصحفي عليه). رواه ابن أبي داوود.

- وقال ابن حجر في فتح الباري: (واختلفوا في عدة المصاحف التي أرسل بها عثمان إلى الآفاق فالمشهور أنها خمسة).

فيكون خامسها المصحف الذي أمسكه لنفسه، وهو الذي يُدعى المصحف الإمام.

- وقال ابن أبي داوود: سمعت أبا حاتم السجستاني قال: (لما كتب عثمان المصاحف حين جمع القرآن، كتب سبعة مصاحف، فبعث واحدا إلى مكة، وآخر إلى الشام، وآخر إلى اليمن، وآخر إلى البحرين، وآخر إلى البصرة، وآخر إلى الكوفة، وحبس بالمدينة واحدا).

- وقال أبو عمرو الداني: (أكثر العلماء على أن عثمان بن عفان رضي الله عنه لما كتب المصحف جعله على أربع نسخ، وبعث إلى كل ناحية من النواحي بواحدة منهن؛ فوجّه إلى الكوفة إحداهن، وإلى البصرة أخرى، وإلى الشام الثالثة، وأمسك عند نفسه واحدة، وقد قيل إنه جعله سبع نسخ، ووجّهَ من ذلك أيضاً نسخة إلى مكة، ونسخة إلى اليمن، ونسخة إلى البحرين، والأوَّلُ أصحّ وعليه الأئمة)ا.هـ.

- وقال ابن الجزري في النشر: (فكتب منها عدة مصاحف، فوجه بمصحف إلى البصرةِ، ومصحف إلى الكوفةِ، ومصحف إلى الشامِ، وترك مصحفاً بالمدينة، وأمسك لنفسه مصحفاً الذي يقال له: "الإمام"، ووجَّهَ بمصحف إلى مكة، وبمصحف إلى اليمن، وبمصحف إلى البحرين)ا.هـ.

فهذه ثمانية مصاحف.


وأيَّا ما كان عدد تلك المصاحف التي كُتبت في أوَّل الأمر؛ فإنّ القراء في كلّ أُفُقٍ قد استنتسخوا منها نسخاً كثيرة، وأقبلَ الناس على كتابة المصاحفِ حتى كثر عددها، وانتشرت في البلدان.

وقد روى ابن وهب عن عمرو بن الحارث بن يعقوب عن بكير بن عبد الله بن الأشج(ت:117هـ): أنَّ عثمان رضي الله عنه أمر بجمع المصاحف فأحرقها ثم بثَّ في الأجناد التي كتب.

وهذا الأثرُ وإن كان منقطعاً من جهة أنَّ بكيراً لم يدرك عثمان إلا أنَّ هذا الخبر مما استفاض العلمُ به لديهم، وغير بعيد أن يكون بكيرٌ قد أدرك بعض الكَتبةِ، وبكير بن الأشج من العلماء الأثبات، قال فيه علي بن المديني: (لم يكن بالمدينة بعد كبار التابعين أعلم من ابن شهاب، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وبكير بن عبد الله بن الأشج).


مصير مصحف عثمان

قال ابن وهب: سألتُ مالكاً عن مصحف عثمان رضي الله عنه فقال لي: «ذهب» رواه ابن أبي داود.

وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: (رأيت في الإمامِ مصحفِ عثمانَ بن عفان - استُخرج لي من بعض خزائن الأمراء ورأيت فيه دمه - في سورة البقرة " خطيكم " بحرف واحد والتي في الأعراف " خطيئتكم " بحرفين). رواه أبو عمرو الداني في المقنع.

وذكر نور الدين السمهودي (ت:911هـ) في كتابه "الوفاء بأخبار دار المصطفى" أن هذا النصّ في كتاب "القراءات" لأبي عبيد، وهو مفقود اليوم.

وقال ابن الجزري في النشر في مسألة رسم (ولات حين): (رأيتها مكتوبة في المصحف الذي يقال له: "الإمام" مصحف عثمان رضي الله عنه (لا) مقطوعة والتاء موصولة بحين، ورأيت به أثر الدم، وتبعت فيه ما ذكره أبو عبيد؛ فرأيته كذلك، وهذا المصحف هو اليوم بالمدرسة الفاضلية من القاهرة المحروسة)ا.هـ.


قال السمهودي في تعقيبه على كلام أبي عبيد: (وردَّه أبو جعفر النحاس بما تقدم من كلام مالك.

قال الشاطبي: وأباه المنصفون لأنه ليس في قول مالك «تغيّب» ما يدل على عدم المصحف بالكلية بحيث لا يوجد؛ لأن ما تغيَّب يُرجى ظهوره).

قال السمهودي: (قلت: فيحتمل أنه بعد ظهوره نقل إلى المدينة، وجُعل بالمسجد النبوي.

لكن يوهن هذا الاحتمال أن بالقاهرة مصحفا عليه أثر الدم عند قوله تعالى: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ} الآية كما هو بالمصحف الشريف الموجود اليوم بالمدينة، ويذكرون أنه المصحف العثماني، وكذلك بمكة، والمصحف الإمام الذي قتل عثمان رضي الله عنه وهو بين يديه لم يكن إلا واحداً، والذي يظهر أنَّ بعضهم وضعَ خَلُوقاً على تلك الآية تشبيهاً بالمصحف الإمام)ا.هـ.


ويؤيّد ما ذهب إليه السمهودي ما رواه عمر بن شبّة في تاريخ المدينة عن محرز بن ثابت مولى مسلمة بن عبد الملك، عن أبيه قال: كنت في حرس الحجاج بن يوسف، فكتب الحجاج المصاحف، ثم بعث بها إلى الأمصار، وبعث بمصحف إلى المدينة، فكره ذلك آل عثمان، فقيل لهم: أخرجوا مصحف عثمان يُقرأ، فقالوا: أصيب المصحفُ يومَ قتل عثمان رضي الله عنه.

قال محرز: (بلغني أن مصحف عثمان بن عفان صار إلى خالد بن عمرو بن عثمان).

قال: (فلما استُخلِف المهديُّ بعثَ بمصحفٍ إلى المدينة؛ فهو الذي يقرأ فيه اليوم، وعزل مصحف الحجاج، فهو في الصندوق الذي دون المنبر).


أسماء كتبة المصاحف العثمانية

اختُلف في عدد الكَتَبةِ الذين كتبوا المصاحف العثمانية

- ففي صحيح البخاري عن أنس رضي الله عنه أن عثمان أمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوا الصحف التي كانت عند حفصة في المصاحف.

- وفي كتاب المصاحف من حديث ابن سيرين عن كثير بن أفلح أن عثمان جمع اثني عشر رجلاً من قريش والأنصار، منهم أبيّ بن كعب وزيد بن ثابت.

- وذكر ابن سيرين أن كثير بن أفلح مولى أبي أيّوب الأنصاري كان من كتاب المصاحف.

- وروى ابن أبي داوود في كتاب المصاحف من طريق عمارة بن غزية عن خارجة بن زيد أن الذي كان يملي على زيد هو أبان بن سعيد بن العاص، وهو وهم، والصواب أنه سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أبي أمية، وهو معدود في صغار الصحابة رضي الله عنهم، وأبان بن سعيد عمّه قتل يوم أجنادين في أوّل خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

قال الحافظ في الفتح: (قال الخطيب: ووهم عمارة في ذلك لأن أبانَ قتل بالشام في خلافة عمر، ولا مدخل له في هذه القصة، والذي أقامه عثمان في ذلك هو سعيد بن العاص ابن أخي أبان المذكور).ا.هـ.


وقد عُدّ منهم مالك بن أبي عامر الأصبحي الحميري(ت:74هـ) جدّ الإمام مالك بن أنس، وكان من القراء زمن عثمان بن عفان، وهو من أمدادِ حِمْيَر ليس معدوداً من المهاجرين ولا من الأنصار.

قال الإمام مالك في الموطأ: «ولا بأس بالحلية للمصحف، وإنَّ عندي مصحفا كتبه جَدّي إذْ كَتَب عثمان رضي الله عنه المصاحف، عليهِ فِضَّةٌ كثيرة».

وهذا ليس بنصٍّ على أنه كان من كُتّاب المصاحف العثمانية، وإنما يدلّ على أنَّه كتبه في ذلك الزمان؛ ويدلّ لذلك أنَّ هذا المصحف بقي في ملكه حتى ورثه حفيدُه الإمام مالك، ولو كان من المصاحف التي أُمر بكتابتها لمصلحة المسلمين لما كان له أن يتملَّكه.

وقد كَثُرَ استنساخُ المصاحف بعد أن جمع عثمان رضي الله عنه الناس على مصحف إمام؛ فالأظهر أن مراد الإمام مالك أن جدّه كتب ذلك المصحف لنفسه في ذلك الوقت.


قال ابن حجر: (ووقع من تسمية بقية من كتب أو أملى عند بن أبي داود مفرقا جماعة:

- منهم: مالك بن أبي عامر جدّ مالك بن أنس من روايته، ومن رواية أبي قلابة عنه.

- ومنهم: كثير بن أفلح كما تقدَّم.

- ومنهم أبيّ بن كعب كما ذكرنا.

- ومنهم أنس بن مالك، وعبد الله بن عباس وقع ذلك في رواية إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع عن ابن شهاب في أصل حديث الباب.

فهولاء تسعة عرفنا تسميتهم من الاثني عشر.

وقد أخرج بن أبي داود من طريق عبد الله بن مغفل وجابر بن سمرة قال: قال عمر بن الخطاب: (لا يملين في مصاحفنا إلا غلمان قريش وثقيف) وليس في الذين سميناهم أحد من ثقيف، بل كلهم إمَّا قريشى أو أنصاري، وكأن ابتداء الأمر كان لزيد وسعيد للمعنى المذكور فيهما في رواية مصعب، ثم احتاجوا إلى من يساعد في الكتابة بحسب الحاجة إلى عدد المصاحف التي تُرسل إلى الآفاق؛ فأضافوا إلى زيد مَن ذُكِرَ ثم استظهروا بأبيّ بن كعب في الإملاء)ا.هـ.


قلت: تقدّم ما يتعلّق بجدّ الإمام مالك، وأما عدّ ابن عباس وأنس بن مالك فإن كان مستنده إنما هو ما رواه إبراهيم بن إسماعيل بن مجمّع الأنصاري عن الزهريّ؛ فلا يصحّ؛ لأنه متروك الحديث لكثرة وهمه وضعف سَمْعِه، وقد قال فيه البخاري: (كثيرُ الوهم في الزهري).


الجمع العثماني والأحرف السبعة

كانت المصاحف قبل جمع عثمان رضي الله عنه تكتب بحسب ما بلغ كاتبيها من القراءة التي تعلّموها؛ فيكتب كل واحد منهم مصحفه أو بعض السور على نحو ما أُقرئ، وكان القرآن يُقرأ على أحرف كما صحّت بذلك الأحاديث، وقد تقدّم بعضها.

فكانت مصاحف الصحابة والتابعين قبل جمع عثمان على وجوه من الأحرف السبعة؛

وكان ما أنزل الله من القرآن على الأحرف السبعة توسعة على الناس ورحمة بهم؛ فإنّ العرب كانت على قبائل مختلفة اللهجات وطرائق النطق، وحَمْل أهل كلّ لسان منهم على ما يخالف سجيتهم فيه مشقّة بالغة، ولا تستطيعه ألسنتهم إلا برياضة شديدة ومِرَان طويل، فكان من رحمة الله أن نزل القرآن على سبعة أحرف وكان الاختلاف في الأحرف السبعة على نوعين:

النوع الأول: اختلاف في طريقة نطق الحروف والكلمات كقراءة {الصراط} بالسين والصاد والزاي وبإشمام الزاي بالصاد؛ وهذه راجعة في الأصل إلى طريقةِ أهلِ كل لغةٍ من العرب في نطق هذه الكلمات.

والنوع الثاني: اختلاف في بعض الكلمات؛ كقوله تعالى: {وأتموا الحجّ والعمرة لله} وفي بعض الأحرف: [وأقيموا الحجّ والعمرة للبيت] ، وقوله تعالى: {وما خلق الذكر والأنثى} وفي قراءة أخرى: [والذكر والأنثى]، وقوله تعالى: {وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} وفي قراءة أخرى [وما أوتوا من العلم إلا قليلا]

وهذا النوع من الاختلاف منه ما نُسخت تلاوته، ومنه ما بقي حتى اجتمع الصحابة في عهد عثمان على جمع الناس على رسم واحد.


وأما النوع الأول من الاختلاف فقد قلَّ أثرُه بعد انتشار الإسلام وتداخل القبائل، واشتراك رجال تلك القبائل في الجهاد والغزوات، وفي سكنى بعض البلدان التي أنشئت بعد الفتوحات كالكوفة والبصرة وبعض حواضر الشام، وارتحل بعضهم لطلب العلم، وبعضهم للتجارة وطلب الرزق آمناً في بلاد المسلمين؛ وكثر ذلك منهم، حتى نشأ جيل ارتاضت ألسنتهم على التلاوة بلسان قريش، فلم يكن في جمع الناس على لسان قريش حرجٌ بعد ذلك.

وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأمر بالإقراء بلغة قريش.

قال محمد بن الصباح البزاز: حدثنا هشيم، عن عبد الرحمن بن عبد الملك يعني ابن كعب بن عجرة، عن أبيه، عن جده، قال: كنت عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقرأ رجل من سورة يوسف (عتا حين) ، فقال عمر رضي الله عنه: «من أقرأك هكذا؟» قال: ابن مسعود.

فكتب عمر رضي الله عنه إلى ابن مسعود: «أما بعد، فإن الله أنزل هذا القرآن بلسان قريش، وجعله بلسان عربي مبين، فأقرئ الناس بلغة قريش، ولا تقرئهم بلغة هذيل، والسلام» رواه عمر بن شبة.

وقد اختار عثمان لإملاء المصاحف أعرب قريش لساناً وأفصحهم بياناً سعيد بن العاص، وكان فيما يذكرونَ عنه أشبهَ الناسِ لهجةً برسول الله صلى الله عليه وسلم، واختار لكتابة المصاحف أعلمَ الصحابة بالكتابة والخطّ زيد بن ثابت؛ فكان يكتب على نحو ما يُملي سعيد بن العاص في طريقة نُطْقِه وأَدائِه.


والعلاقة بين الجمع العثماني والأحرف السبعة من دقيق مسائل جمع القرآن، وفيها خلاف كثير بين أهل العلم.

1. فذهب الحارث المحاسبي وابن جرير الطبري وابن القيّم وجماعة من أهل العلم إلى أن عثمان حمل الناس على حرف واحد من تلك الأحرف السبعة.

قال ابن جرير: (وجمعهم [أي:عثمان] على مصحف واحد، وحرف واحد، وخَرَّق ما عدا المصحف الذي جمعهم عليه، وعزم على كل من كان عنده مُصحفٌ مخالفٌ المصحفَ الذي جمعهم عليه أن يخرقه؛ فاستوسقتْ له الأمة على ذلك بالطاعة، ورأت أنّ فيما فعلَ من ذلك الرشدَ والهداية، فتركت القراءة بالأحرف الستة التي عزم عليها إمامُها العادلُ في تركها، طاعةً منها له، ونظرًا منها لأنفسها ولمن بعدَها من سائر أهل ملتها، حتى دَرَست من الأمة معرفتها، وتعفت آثارها، فلا سبيلَ لأحد اليوم إلى القراءة بها، لدثورها وعُفُوِّ آثارها، وتتابعِ المسلمين على رفض القراءة بها، من غير جحود منها صحتَها وصحةَ شيء منها، ولكن نظرًا منها لأنفسها ولسائر أهل دينها؛ فلا قراءة للمسلمين اليوم إلا بالحرف الواحد الذي اختاره لهم إمامهم الشفيقُ الناصحُ، دون ما عداه من الأحرف الستة الباقية)ا.هـ.

وهذا القول لا يصحّ لأنَّ المصاحف العثمانية لم تكن منقوطة ولا مشكولة وقد وقع بينها اختلاف في بعض المواضع في الرسم، وكان القراء يقرؤون من قراءاتهم بما وافق الرسم، ويدعون ما خالف الرسم، فقرؤوا من الأحرف السبعة ما وافق الرسم، وبذلك نشأت القراءات المعروفة.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (ليست هذه القراءات السبعة هي مجموع حرف واحد من الأحرف السبعة التي أنزل القرآن عليها باتفاق العلماء المعتبرين).

وقال الشيخ عبد الرحمن المعلمي: (كُتب القرآن بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم في قِطَعٍ من الجريد وغيره، تكون في القطعة الآية والآيتان وأكثر، وكان رسم الخطّ يومئذ يحتمل - والله أعلم - غالب الاختلافات التي في الأحرف السبعة، إذ لم يكن له شَكْل ولا نَقْط، وكانت تحذف فيه كثير من الألفات ونحو ذلك كما تراه في رسم المصحف، وبذاك الرسم عينه نُقِل ما في تلك القطع إلى صحف في عهد أبي بكر، وبه كتبت المصاحف في عهد عثمان، ثم صار على الناس أن يضبطوا قراءتهم، بأن يجتمع فيها الأمران: النقل الثابت بالسماع من النبي - صلى الله عليه وسلم -، واحتمال رسم المصاحف العثمانية.

وبذلك خرجت من القراءات الصحيحة تلك التغييرات التي كان يترخَّص بها بعض الناس، وبقي من الأحرف الستة المخالفة للحرف الأصلي ما احتمله الرسم)ا.هـ.


2. وذهب بعض أهل العلم إلى أنّ جمع عثمان يحتمل الأحرف السبعة كلها، وهو بعيد مخالف لمقصود جمع عثمان رضي الله عنه.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (ذهب طوائف من الفقهاء والقراء وأهل الكلام إلى أن هذا المصحف مشتمل على الأحرف السبعة وقرر ذلك طوائف من أهل الكلام كالقاضي أبي بكر الباقلاني وغيره؛ بناء على أنه لا يجوز على الأمة أن تهمل نقل شيء من الأحرف السبعة)ا.هـ.

وقال الحافظ ابن الجزري في النشر: (ذهب جماعات من الفقهاء والقرّاء والمتكلمين إلى أن المصاحف العثمانية مشتملة على جميع الأحرف السبعة، وبنوا ذلك على أنه لا يجوز على الأمة أن تهمل نقل شيء من الحروف السبعة التي نزل القرآن بها)ا.هـ.

وهذا كما تراه استناد على غير الأثر.

وقال ابن الجزري في منجد المقرئين: (إذا قلنا: إنَّ المصاحف العثمانية محتوية على جميع الأحرف السبعة التي أنزلها الله تعالى كان ما خالف الرسم يقطع بأنه ليس من الأحرف السبعة، وهذا قول محظور لأن كثيرا مما خالف الرسم قد صح عن الصحابة رضي الله عنهم، وعن النبي صلى الله عليه وسلم).

وقال أيضاً: (نحن نقطع بأن كثيراً من الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يقرؤون بما خالف رسم المصحف العثماني قبل الإجماع عليه من زيادة كلمة وأكثر، وإبدال أخرى بأخرى، ونقص بعض الكلمات كما ثبت في الصحيحين وغيرهما، ونحن اليوم نمنع من يقرأ بها في الصلاة وغيرها منع تحريم لا منع كراهة، ولا إشكال في ذلك، ومن نظر أقوال الأولين علم حقيقة الأمر، وذلك أن المصاحف العثمانية لم تكن محتوية على جميع الأحرف السبعة التي أبيحت بها قراءة القرآن كما قال جماعة من أهل الكلام وغيرهم بناء منهم على أنَّه لا يجوز على الأمة أن تُهمل نقل شيء من الأحرف السبعة)ا.هـ.


3. والراجح أن عثمان اختار من الأحرف السبعة ما وافق لغة قريش والعرضة الأخيرة وقراءة العامّة، وبقي الرسم العثماني محتملاً لبعض ما في الأحرف الأخرى.

قال مكيّ بن أبي طالب القيسي(ت:437هـ): (فالمصحف كتب على حرف واحد، وخطه محتمل لأكثر من حرف إذ لم يكن منقوطاً ولا مضبوطاً).

وقال في موضع آخر: (إن هذه القراءات كلها التي يقرأ بها الناس اليوم، وصحت روايتها عن الأئمة، إنما هي جزء من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن، ووافق اللفظ بها خط المصحف، مصحف عثمان الذي أجمع الصحابة فمن بعدهم عليه، واطرح ما سواه مما يخالف خطه).

وقال أحمد بن عمار المقرئ(ت:440هـ): (أصحُّ ما عليه الحذاق من أهل النظر في معنى ذلك إنما نحن عليه في وقتنا هذا من هذه القراءات هو بعض الحروف السبعة التي نزل عليها القرآن). نقله أبو شامة في المرشد الوجيز.

وقال ابن الجزري: (وذهب جماهير العلماء من السلف والخلف وأئمة المسلمين إلى أن هذه المصاحف العثمانية مشتملة على ما يحتمله رسمها من الأحرف السبعة فقط، جامعة للعرضة الأخيرة التي عرضها النبي صلى الله عليه وسلم على جبرائيل عليه السلام - متضمنة لها لم تترك حرفا منها).

قال: (وهذا القول هو الذي يظهر صوابه؛ لأن الأحاديث الصحيحة والآثار المشهورة المستفيضة تدلُّ عليه وتشهد له).

وقال الحافظ ابن حجر: (والحق أن الذي جُمع في المصحف هو المتفق على إنزاله المقطوع به المكتوب بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه بعض ما اختلف فيه الأحرف السبعة لا جميعها، كما وقع في المصحف المكي {تجري من تحتها الأنهار} في آخر براءة وفي غيره بحذف من، وكذا ما وقع من اختلاف مصاحف الأمصار من عدة واوات ثابتة في بعضها دون بعض، وعدة هاءات، وعدة لامات، ونحو ذلك، وهو محمول على أنه نزل بالأمرين معاً)ا.هـ.


ومما ينبغي أن يُعلم أنَّ المعوَّل في القراءة والإقراء على السماع، وإنما يُستفاد من الكتابة في أمرين:

الأمر الأول: أن يستعين القارئ بالمصحف على تذكّر ما قد ينساه؛ فيقرأه على نحو ما أُقرئ سماعاً.

والأمر الثاني: أن يُقرئ القرّاءُ في ذلك الزمان الناسَ بما وافق الرسم العثماني، وأن يدعوا الإقراء بما خالفه وإن كان صحيحاً.


ومن هنا نشأت القراءات المعروفة لأنّ القراء التزموا القراءة بالرسم العثماني، لكن بقي من الاختلاف في القراءات أربعة أنواع احتملهما الرسم في المصاحف العثمانية:

النوع الأول: الاختلاف في طرائق نطق بعض الحروف والكلمات؛ ويدخل في ذلك الاختلاف في الهمز والتسهيل والإبدال والإشمام والإمالة والإدغام والمدّ والقصر وغيرها، ومن هذا النوع الاختلاف في نطق الصاد في قوله تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم} مع اتحاد رسمها في المصاحف بالصاد، والأصل في الكلمة (السراط) بالسين لأنها مشتقة من السَّرط، وقد نقل أبو منصور الأزهري عن بعض علماء اللغة أن السراط إنما سمّي سراطاً لأنّه يسترط المارّة؛ فعدول الصحابة إلى كتابة هذه الكلمة ونحوها بالصاد دون السين لا بد أن يكون له غرض، وقد اجتهد العلماء في تلمّس ذلك الغرض؛ فقال ابن الجزري: (انظر كيف كتبوا الصراط والمصيطرون بالصاد المبدلة من السين، وعدلوا عن السين التي هي الأصل لتكون قراءة السين وإن خالفت الرسم من وجه قد أتت على الأصل فيعتدلان، وتكون قراءة الإشمام محتملة، ولو كتب ذلك بالسين على الأصل لفات ذلك، وعُدَّت قراءة غير السين مخالفة للرَّسم والأصل).


والنوع الثاني: الاختلاف في ضبط بعض الكلمات وهو على قسمين:

- قسم لا يتغيّر به المعنى كالاختلاف في {ضَعْف} و{ضُعف} قرأ عاصم وحمزة بفتح الضاد والباقون بضمها، و{ميسَرة} قرأها نافع {ميسُرة} بضمّ السين، والباقون بفتحها، وقوله تعالى: {بنُصْبٍ وعذاب} قرأها أبو جعفر {بنُصُبٍ} وقرأها يعقوب {بنَصَبٍ}، وقوله تعالى: {الرُّشْد} قرأه حمزة والكسائي [الرَّشَد] بفتح الرَّاء والشين، وهما لغتان، وغير ذلك كثير.

- وقسم يتغيّر به المعنى كالاختلاف في قوله تعالى: {يَطْهُرن} قرأه حمزة والكسائي: {يطَّهَّرن} والاختلاف في قوله: {فعدَلَك} قرأه الكوفيون بالتخفيف، والباقون بالتشديد {فعدَّلك}، وقوله: {بل عجبتَ ويسخرون} قرأه حمزة والكسائي بضمّ التاء {بل عجبتُ} والباقون بفتحها.

- وقريب من هذا القسم الاختلاف في نطق الأحرف المتقاربة مع اتحاد الرسم كالاختلاف في قوله: {ظنين} و{ضنين}، وقد يختلف الرسم اختلافاً يسيراً كما في قوله تعالى: {ونزل الملائكة تنزيلا} بنون واحدة في أكثر المصاحف، وفي المصحف المكي بنونين: [ونُنْزِل الملائكة] وهي قراءة ابن كثير المكّي.


والنوع الثالث: الاختلاف الذي يكون سببه عدم النقط؛ فإنَّ الكتابة في ذلك الوقت لم تكون منقوطة ولا مشكولة، ولذلك احتمل الرسم أن يقرأ نحو قول الله تعالى: {وما الله بغافل عما يعملون} بالياء وبالتاء، وقوله: {فتبينوا} قرئ: {فتثبتوا} إذ كان كلّ ذلك من الأحرف التي قرئ بها القرآن، والرسم يحتملها لعدم النقط في زمن الجمع العثماني.


والنوع الرابع: ما اختلف فيه الرسم بين المصاحف العثمانية، وهي أحرف يسيرة نقلها الرواة، ومن أمثلتها ما كتب في بعض المصاحف في سورة الحديد: {فإن الله هو الغني الحميد} وفي المصحف المدني والشامي [فإنّ الله الغني الحميد] بغير (هو) وهي قراءة نافع المدني وابن عامر الشامي، وقوله تعالى في سورة التوبة {تجري تحتها الأنهار} وفي المصحف المكّي وقراءة ابن كثير: {تجري من تحتها الأنهار}.

وهذا النوع قليل في رسم المصاحف، وهو مما تحتمله الأحرف السبعة؛ إذ كان المعوّل على ما ثبتت القراءة به سماعاً من أفواه القرَّاء.


وقد اختلف العلماء في أسباب اختلاف الرسم بين المصاحف العثمانية، فمِن زاعمٍ أنَّ عثمان أراد أن يجمع الأحرف السبعة كلَّها وهذا بعيد، لثبوت ترك القراءة ببعض الأحرف التي كان يُقرأ بها.

وذهب بعضهم إلى أنهم أرادوا الإشارة إلى اختلاف الأحرف، وجمع ما يستطاع من ذلك، وهذا يردّه أمران:

أحدهما: أنه خلاف المقصود من الجمع العثماني.

والثاني: أنهم لو أرادوا ذلك لكتبوا سائر الأحرف التي تُركت القراءة بها بهذه الطريقة؛ فكتبوا في بعض المصاحف [وأقيموا الحج والعمرة للبيت] وفي بعضها: {وأتموا الحجّ والعمرة لله} وهكذا في سائر الأحرف التي كان يقرأ بها قبل جمع عثمان.


أمثلة لما تُرك من الأحرف السبعة:

قال الإمام الشافعي: أخبرنا سفيان عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال: (ما سمعت عمر يقرؤها قط إلا قال: [فامضوا إلى ذكر الله]).

وهذا إسناد غاية في الصحة على شرط الشيخين.

ورواه عبد الرزاق من طريق معمر وغيره عن ابن شهاب الزهري عن سالم عن ابن عمر قال: (لقد توفي عمر وما يقرأ هذه الآية التي في سورة الجمعة إلا [فامضوا إلى ذكر الله]).

وصحّ عن إبراهيم النخعي وقتادة أنّ ابن مسعود كان يقرأها كذلك.


وقد ذكر مكيّ بن أبي طالب القيسي في كتابه "الإبانة عن معاني القراءات" أمثلة لما بلغه من الأحرف الأخرى في سورة الفاتحة ليبيّن كثرة الاختلاف الذي سبق جمع عثمان؛ فقال: (ذكر اختلاف الأئمة المشهورين، غير السبعة في سورة الحمد مما يخالف خط المصحف، فلا يُقرأ به اليوم:

- قرأ أبو هريرة: [مليك يوم الدين] بياء بين اللام والكاف، وهو معنى حسن؛ لأنه بناء للمبالغة.

- قرأ ابن السوار الغنوي: [هياك نعبد وهياك نستعين] بالهاء في موضع الهمزة، وهي لغة قليلة، أكثر ما تقع في الشعر.

- روى الأصمعي عن أبي عمرو أنه قرأ: [الزراط] بزاي خالصة، وهو حسن في العربية.

- قرأ الحسن البصري: [اهدنا صراطاً مستقيما] منونتين من غير ألف ولام فيهما، وبذلك قرأ الضحاك، وهو معنى حسن لولا مخالفته للمصحف.

- قرأ جعفر بن محمد: [اهدنا صراط المستقيم] بإضافة الصراط إلى المستقيم من غير ألف ولام في الصراط، وهو جائز في العربية كدار الآخرة.

- قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه: [صراط مَن أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم وغير الضالين]، فجعل "من" في موضع "الذين" و"غير" في موضع "لا"، وهو في المعنى حسن كالذي قرأ الجماعة في المعنى. وهو مروي أيضا عن أبي بكر رضي الله عنهما.

- قرأ ابن مسعود: [أرشدنا الصراط] في موضع "اهدنا"، والمعنى واحد.

- قرأ ثابت البناني: [بصرنا الصراط] في موضع اهدنا والمعنى واحد.

- قرأ ابن الزبير: [صراط مَن أنعمت عليهم] مثل قراءة عمر في هذا الحرف وحده)ا.ه.

ثم قال: (وهذا الاختلاف الذي يخالف خطَّ المصحف، وما جاء منه مما هو زيادة على خطِّ المصحف، أو نقصان من خط المصحف، وتبديل لخط المصحف، وذلك كثير جدا: هو الذي سمع حذيفة في المغازي، وسمع ردّ الناس بعضهم على بعض، ونكير بعضهم لبعض، فجرَّأه ذلك على إعلام عثمان رضي الله عنه، وهو الذي حدا عثمان على جمع الناس على مصحف واحد، ليزول ذلك الاختلاف فافهمْه).

قال: (فهذا المثال من الاختلاف الثالث، هو الذي سقط العمل به من الأحرف السبعة، التي نص عليها النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الأكثر في القرآن من الاختلاف، وإنما قرئ بهذه الحروف التي تخالف المصحف قبل جمع عثمان رضي الله عنه الناسَ على المصحف، فبقي ذلك محفوظا في النقل غير معمول به عند الأكثر، لمخالفته للخطّ المجمع عليه).

ثم قال: (فإنما مثَّلت لك ذلك لتقف عليه، وتعرف قدر الاختلاف في هذه السورة على قلة حروفها، فكيف يظن الاختلاف فيما طال من السور؟!

فتعلم بذلك كله المثالات التي اختلف القراء فيها، وما يجوز أن يقرأ به، وما لا يجوز، وما زاد من الاختلاف على قراءة السبعة المشهورين، وأن قراءتهم لم تحتو على الأحرف السبعة، التي نص النبي "صلى الله عليه وسلم" عليها، وأنها ليست بحرف واحد، كما ذكرنا من قول الطبري أنَّ ما زاد على قراءة في كل حرف فهو من السبعة الأحرف، قرئ به لموافقته لخط المصحف على ما قدمنا وبيَّنَّا، وبالله التوفيق)ا.هـ.


وقال ابن الجزري في النشر: (قراءة عبد الله بن مسعود وأبي الدرداء: [والذكر والأنثى] في {وما خلق الذكر والأنثى} وقراءة ابن عباس [وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصبا وأما الغلام فكان كافرا] ونحو ذلك مما ثبت بروايات الثقات، واختلف العلماء في جواز القراءة بذلك في الصلاة، فأجازها بعضهم لأن الصحابة والتابعين كانوا يقرءون بهذه الحروف في الصلاة، وهذا أحد القولين لأصحاب الشافعي وأبي حنيفة وإحدى الروايتين عن مالك وأحمد.

وأكثر العلماء على عدم الجواز؛ لأن هذه القراءات لم تثبت متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإن ثبتت بالنقل فإنها منسوخة بالعرضة الأخيرة أو بإجماع الصحابة على المصحف العثماني...).