23 Oct 2016
جمع القرآن في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه
تمهيد:
كان الناس قبل جمع
عثمان كلٌّ يقرأ كما تعلَّم من وجوه القراءات وأحرفها؛ وقد كان النبي صلى
الله عليه وسلم أقرأ بعض الصحابة بأحرف وأقرأ بعضهم بأحرف أخرى، وكان الرجل
منهم ربما أنكر على صاحبه وربما اختصما فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه
وسلم أنكر عليهم الاختلاف في القرآن ونهاهم عنه نهياً شديداً، فتأدَّب
الصحابة رضي الله عنهم بما أدَّبهم به النبي صلى الله عليه وسلم، فكان كلّ
يقرأ كما عُلّم لا ينكر على أخيه ما صحّ من قراءته، ولا يترك الحرف الذي
يقرأ به رغبة عنه.
وقد صحّ في هذا الباب أحاديث كثيرة منها:
1. ما
رواه ابن شهاب الزهري قال: حدثني عروة بن الزبير، أن المسور بن مخرمة وعبد
الرحمن بن عبد القاري، حدثاه أنهما سمعا عمر بن الخطاب، يقول: سمعت هشام
بن حكيم بن حزام، يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فاستمعت لقراءته، فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة، لم يقرئنيها رسول الله صلى
الله عليه وسلم، فكدت أساوره في الصلاة، فتصبرت حتى سلم، فلببته بردائه،
فقلت: من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ؟ قال: أقرأنيها رسول الله صلى
الله عليه وسلم، فقلت: كذبت، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أقرأنيها
على غير ما قرأت، فانطلقت به أقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فقلت: إني سمعت هذا يقرأ بسورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها، فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: «أرسله، اقرأ يا هشام» فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرأ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كذلك أنزلت»، ثم قال: «اقرأ يا عمر» فقرأت القراءة التي أقرأني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كذلك أنزلت إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرءوا ما تيسر منه» رواه البخاري وأحمد والترمذي والنسائي وغيرهم.
وهشام بن حكيم بن
حزام من مسلمة الفتح ، وهذا مما يدلّ أنَّ نزول الأحرف السبعة كان بعد فتح
مكة؛ إذ لو كان قبل ذلك لعرف واشتهر، وسورة الفرقان مكية في الأصل، لكن
نزول الأحرف الأخرى فيها مما تأخر عن نزول أصلها.
2. وقال
شعبة بن الحجاج: حدثنا عبد الملك بن ميسرة، قال: سمعت النزال بن سبرة
الهلالي، عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: سمعت رجلا قرأ آية وسمعت النبي
صلى الله عليه وسلم يقرأ خلافها؛ فجئت به النبيَّ صلى الله عليه وسلم
فأخبرته، فعرفتُ في وجهه الكراهية، وقال: «كلاكما محسن، ولا تختلفوا، فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا» رواه البخاري في صحيحه، ورواه أحمد وابن أبي شيبة والنسائي في السنن الكبرى وغيرهم.
وفي رواية عند ابن أبي شيبة أن ابن مسعود قال: (فعرفت الغضب في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وفي رواية عند أحمد: (فتغيَّر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم).
3.
وقال إسماعيل بن أبي خالد: حدثني عبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي
ليلى، عن جده، عن أبيّ بن كعب، قال: كنت في المسجد، فدخل رجل يصلي، فقرأ
قراءة أنكرتها عليه، ثم دخل آخر فقرأ قراءة سوى قراءة صاحبه، فلما قضينا
الصلاة دخلنا جميعا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: إن هذا قرأ
قراءة أنكرتها عليه، ودخل آخر فقرأ سوى قراءة صاحبه، فأمرهما رسول الله صلى
الله عليه وسلم، فقرآ، فحسَّن النبي صلى الله عليه وسلم شأنهما، فسَقَطَ
في نفسِي من التكذيبِ ولا إذ كنت في الجاهلية، فلمَّا رأى رسولُ الله صلى
الله عليه وسلم ما قد غشيني ضربَ في صدري، ففضتُ عَرَقاً وكأنما أنظر إلى
الله عز وجل فرقاً، فقال لي: «
يا أبي أرسل إلي أن اقرأ القرآن على حرف، فرددت إليه أن هون على أمتي، فرد
إلي الثانية اقرأه على حرفين، فرددت إليه أن هون على أمتي، فرد إلي
الثالثة اقرأه على سبعة أحرف، فلك بكل ردة رددتكها مسألة تسألنيها، فقلت:
اللهم اغفر لأمتي، اللهم اغفر لأمتي، وأخرت الثالثة ليوم يرغب إلي الخلق
كلهم، حتى إبراهيم صلى الله عليه وسلم ». رواه أحمد ومسلم وابن حبان.
4.
وقال همّام بن يحيى: حدثنا قتادة، عن يحيى بن يعمر، عن سليمان بن صرد، عن
أبيّ بن كعب، قال: قرأت آية وقرأ ابن مسعود خلافها، فأتيت النبي صلى الله
عليه وسلم فقلت: ألم تقرئني آية كذا وكذا؟
قال: "بلى "
فقال ابن مسعود: ألم تقرئنيها كذا وكذا؟
فقال: "بلى، كلاكما محسن مجمل "
قال: فقلت له: فضرب صدري،
فقال: "يا أبي بن كعب، إني أقرئت القرآن،
فقلت: على حرفين،
فقال: على حرفين، أو ثلاثة؟
فقال الملك الذي معي: على ثلاثة
فقلت: على ثلاثة، حتى
بلغ سبعة أحرف، ليس منها إلا شاف كاف، إن قلت: غفورا رحيما، أو قلت: سميعا
عليما، أو عليما سميعا فالله كذلك، ما لم تختم آية عذاب برحمة، أو آية
رحمة بعذاب). رواه أحمد
- وهذا الحديث رواه
إسرائيل بن يونس، عن جدّه أبي إسحاق السبيعي ، عن سقير العبدي، عن سليمان
بن صرد، عن أبي بن كعب، قال: سمعت رجلا يقرأ، فقلت: من أقرأك؟ قال: رسول
الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: انطلق إليه، فأتيت النبي صلى الله عليه
وسلم، فقلت: استقرئ هذا، فقال: "اقرأ " فقرأ، فقال: "أحسنت " فقلت له: أولم تقرئني كذا وكذا؟ قال: "بلى، وأنت قد أحسنت " فقلت بيدي: قد أحسنت مرتين، قال: فضرب النبي صلى الله عليه وسلم بيده في صدري، ثم قال: "اللهم أذهب عن أبي الشكَّ " ففضت عرقا، وامتلأ جوفي فرقا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا
أبي، إن ملكين أتياني، فقال أحدهما: اقرأ على حرف، فقال الآخر: زده، فقلت:
زدني، قال: اقرأ على حرفين، فقال الآخر: زده، فقلت: زدني، قال: اقرأ على
ثلاثة، فقال الآخر: زده، فقلت: زدني، قال: اقرأ على أربعة أحرف، قال الآخر:
زده، قلت: زدني، قال: اقرأ على خمسة أحرف، قال الآخر: زده، قلت: زدني،
قال: اقرأ على ستة، قال الآخر: زده، قال: اقرأ على سبعة أحرف، فالقرآن أنزل
على سبعة أحرف). رواه أحمد.
5: وفي حديث شعبة عن عبد الرحمن بن عابس النخعي عن رجل من همدان من أصحاب عبد الله بن مسعود أن ابن مسعود جمعهم وقال: (إن
هذا القرآن أنزل على حروف، والله إن كان الرجلان ليختصمان أشد ما اختصما
في شيء قط، فإذا قال القارئ: هذا أقرأني، قال: "أحسنت"، وإذا قال الآخر،
قال: "كلاكما محسن"). رواه أحمد وغيره وقد تقدم.
وهذه الأحاديث
والآثار تدلّ دلالةً بيّنة على أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قد بيّن
الهدى لأصحابه في شأن هذه الأحرف وما يصنع أحدهم إذا سمع قراءة غير التي
يقرأ بها.
وقد فقه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الأمر أحسن الفقه، وتأدبوا به أحسن الأدب، وعلّموه أصحابهم من التابعين لهم بإحسان.
قال شعيب بن الحبحاب: كان أبو العالية الرياحي إذا قرأ عنده رجل لم يقل: ليس كما تقرأ، ويقول: أما أنا فأقرأ كذا وكذا.
قال شعيب: فذكرت ذلك لإبراهيم [النخعي]؛ فقال: (أرى صاحبك قد سمع أنه من كفر بحرف منه فقد كفر به كله). رواه أبو عبيد وابن جرير.
وأبو العالية الرياحي
من كبار التابعين أسلم في خلافة أبي بكر، وقرأ على عمر وأبيّ بن كعب وزيد
بن ثابت، وتفقه بهم، وكان ابن عباس يحبّه ويكرمه ويرفع من شأنه.
والمقصود أنَّ
الصحابة رضي الله عنهم وفقهاء التابعين لم يكن بينهم اختلاف ولا تنازع في
القراءات بسبب ما عرفوه من الهدى في هذا الباب.
وكان الصحابة رضي الله عنهم يكتبون القرآن في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وبعده، وكان كلٌّ يكتب كما أُقرئ؛ ولما استخلف أبو بكر الصديق رضي الله عنه وجمع القرآن في مصحف لم يمنع الناس من كتابة المصاحف؛ فكانت
المصاحف تُكتب في عهد أبي بكر وعمر وصدر خلافة عثمان على نحو ما يقرأ كلّ
قارئ؛ فكثرت المصاحف وتعددّت، ولم يكن بين الصحابة رضي الله عنهم خلاف ولا
تخاصم فيما تختلف فيه مصاحفهم؛ فكان
اختلافهم في هذا الباب مأمونا لما أدّبهم به النبي صلى الله عليه وسلم،
ولما عقلوا من نهيه عن الاختلاف في القرآن، وأن يقرأ كل واحد منهم كما
عُلّم، وقد ورد في ذلك في الأحاديث المتقدّم ذكرها.
وكان المعوَّل في قراءة القرآن وإقرائه على السماع والتلقّي، وإنما يستعان بالكتابة على تذكّر ما قد ينساه القارئ من حفظه.
أسباب جمع عثمان رضي الله عنه للقرآن:
لما كثرت الفتوحات في
زمن عمر ثم زمن عثمان واتّسعت بلاد المسلمين، وأقبل الناس على قراءة
القرآن وحفظه ظهر الخلاف والتخاصم في القراءات؛ حتى اشتدّ الخلاف في بعض
البلدان، وكفَّر بعض الجهّال بعض من قرأ غير قراءتهم، وكادت أن تكون بينهم
فتنة بسبب ذلك.
فكان بعض الصحابة
يلحظ ذلك وينكره، ويبلغ عثمان أنواع من الخلاف والتنازع؛ فلما تفاقم الأمر،
وجاء حذيفة بخبر الفتنة التي حصلت بسبب هذا الاختلاف؛ خطب عثمان في الناس،
واستشار فقهاء الصحابة وقراءهم، واجتمعت كلمتهم على جَمْعِ مصحفٍ إمامٍ
تستنسخ منه المصاحف، ويلغى ما خالفه.
وقد روى أهل الحديث آثاراً كثيرة تدلّ على تعدّدِ الأسباب التي حملت عثمان رضي الله عنه على الأمر بجمع المصاحف، ومن ذلك:
1. خبر
إبراهيم بن سعد بن عبد الرحمن بن عوف قال: حدثنا ابن شهاب [الزهري] عن أنس
بن مالك رضي الله عنه أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان - وكان يغازي أهل
الشام في فتح إرمينية وأذربيجان مع أهل العراق - فأفزع حذيفة اختلافهم في
القراءة؛ فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن
يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى.
فأرسل عثمان إلى حفصة
أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك فأرسلت بها حفصة
إلى عثمان؛ فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد
الرحمن ابن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف). رواه البخاري والترمذي والنسائي في الكبرى.
- وروى يونس وابن وهب عن ابن شهاب أنه قال: (حدثني
أنس بن مالك رضي الله عنه: أنه اجتمع لغزوة أرمينية وأذربيجان أهل الشام
وأهل العراق، فتذاكروا القرآن فاختلفوا فيه حتى كاد يكون بينهم فتنة). رواه عمر بن شبة وابن أبي داوود.
2.
وروى أبو إسحاق السبيعي عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص أنه قال: قام عثمان
فخطب الناس فقال: " أيها الناس عهدكم بنبيكم منذ ثلاث عشرة وأنتم تمترون في
القرآن، وتقولون قراءة أبيّ وقراءة عبد الله، يقول الرجل: والله ما تقيم
قراءتك فأعزم على كل رجل منكم ما كان معه من كتاب الله شيء لما جاء به...) رواه عمر بن شبة في تاريخ المدينة وابن أبي داوود في كتاب المصاحف.
3. وروى
علقمة بن مرثد الحضرمي، عن العيزار بن جرول الحضرمي عن سويد بن غفلة
الجعفي قال: والله لا أحدثكم إلا بشيء سمعته من علي: سمعته يقول: "
اتقوا الله في عثمان ولا تغلوا فيه، ولا تقولوا حراق المصاحف، فوالله ما
فعل إلا عن ملأ منا أصحاب محمد، دعانا فقال: ما تقولون في هذه القراءة؟ فقد
بلغني أن بعضكم يقول: قراءتي خير من قراءتك، وهذا يكاد يكون كفرا، وإنكم
إن اختلفتم اليوم كان لمن بعدكم أشد اختلافا "،
قلنا: فما ترى؟ قال: «أن أجمع الناس على مصحف واحد فلا تكون فرقة ولا اختلاف» ، قلنا: فنعم ما رأيت، قال: «فأي الناس أقرأ؟» قالوا: زيد بن ثابت،
قال: «فأي الناس أفصح وأعرب؟»
قالوا: سعيد بن العاص، قال: «فليكتب سعيد وليمل زيد» ، قال: فكانت مصاحف بعث بها إلى الأمصار، قال علي: «والله لو وليت لفعلت مثل الذي فعل» رواه عمر بن شبة.
4.
وقال يحيى بن عبد الرحمن الأرحبي: حدثني عبد الله بن عبد الملك الحر، عن
إياد بن لقيط، عن يزيد بن معاوية النخعي قال: إني لفي المسجد زمن الوليد بن
عقبة في حلقة فيها حذيفة قال: وليس إذ ذاك حَجَزَةٌ ولا جَلاوزة، إذ هتف
هاتف: من كان يقرأ على قراءة أبي موسى؛ فليأت الزاوية التي عند أبواب كندة،
ومن كان يقرأ على قراءة عبد الله بن مسعود فليأت هذه الزاوية التي عند دار
عبد الله، واختلفا في آية من سورة البقرة قرأ هذا (وأتموا الحج والعمرة
للبيت) وقرأ هذا: {وأتموا الحج والعمرة لله}
فغضب حذيفة واحمرَّت
عيناه، ثم قام ففزر قميصه في حجزته وهو في المسجد وذاك في زمن عثمان فقال:
إما أن يركب إليَّ أمير المؤمنين وإما أن أركب، فهكذا كان من قبلكم، ثم
أقبل فجلس فقال: «إن الله بعث محمدا فقاتل بمن أقبل
من أدبر حتى أظهر دينه، ثم إن الله قبضه فطعن الناس في الإسلام طعنة جواد
ثم إن الله استخلف أبا بكر فكان ما شاء الله، ثم إن الله قبضه فطعن الناس
في الإسلام طعنة جواد، ثم إن الله استخلف عمر فنزل وسط الإسلام، ثم إن الله
قبضه فطعن الناس في الإسلام طعنة جواد، ثم إن الله استخلف عثمان وايم الله
ليوشكن أن يطعنوا فيه طعنة تخلفونه كله» رواه ابن أبي داوود.
5.
وقال حفص بن عمر الدوري المقرئ: حدثنا إسماعيل بن جعفر أبو إبراهيم
المديني، عن عمارة بن غزية، عن ابن شهاب الزهري، عن خارجة بن زيد، عن زيد
بن ثابت: أن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قدم من غزوة غزاها بفرج أرمينية
فحضرها أهل العراق وأهل الشام، فإذا أهل العراق يقرءون بقراءة عبد الله بن
مسعود، ويأتون بما لم يسمع أهل الشام، ويقرأ أهل الشام، بقراءة أبي بن كعب،
ويأتون بما لم يسمع أهل العراق، فيكفرهم أهل العراق، قال: «فأمرني عثمان رضي الله عنه أن أكتب له مصحفا» فكتبته، فلما فرغت منه عرضه). رواه عمر بن شبة.
6. وقال عبد الله بن وهب: حدثني عمرو بن الحارث أن بكيرا، حدثه: (أن
ناساً كانوا بالعراق يسأل أحدهم عن الآية، فإذا قرأها قال: "فإني أكفر
بهذه"، ففشا ذلك في الناس، واختلفوا في القراءة، فكُلِّمَ عثمانُ بن عفان
رضي الله عنه في ذلك، فأمر بجمع المصاحف فأحرقها، وكتب مصاحف ثم بثَّها في
الأجناد). رواه عمر بن شبة وابن أبي داوود.
7.
وروى هشام بن حسان عن محمد بن سيرين أنه قال: (كان الرجل يقرأ فيقول له
صاحبه: "كفرت بما تقول"، فرُفِعَ ذلك إلى ابن عفان فتعاظم في نفسه، فجمع
اثني عشر رجلا من قريش والأنصار، منهم أبيّ بن كعب، وزيد بن ثابت، وأرسل
إلى الرَّبْعَةِ التي كانت في بيت عمر رضي الله عنه، فيها القرآن "
قال: «وكان يتعاهدهم».
قال ابن سيرين: فحدثني كثير بن أفلح: أنه كان فيمن يكتب لهم، فكانوا كلما اختلفوا في شيء أخَّرُوه.
قلت: لم أخَّرُوه؟
قال: لا أدري
قال محمد: فظننت أنا
فيه ظنا، ولا تجعلوه أنتم يقينا، ظننت أنهم كانوا إذا اختلفوا في الشيء
أخروه حتى ينظروا آخرهم عهدا بالعرضة الأخيرة فكتبوه على قوله). رواه عمر
بن شبة في تاريخ المدينة وابن أبي داوود في كتاب المصاحف.
تصحفت "الرَّبعة" في المطبوع من تاريخ المدينة لابن شبة إلى (الرقعة)، و"الربعة" الصندوق الذي توضع فيه أجزاء المصحف.
8:
وقال يحيى بن آدم: حدثنا عمرو بن ثابت قال: حدثنا حبيب بن أبي ثابت، عن
أبي الشعثاء قال: (كنا جلوسا في المسجد وعبد الله يقرأ فجاء حذيفة فقال: "
قراءة ابن أم عبد وقراءة أبي موسى الأشعري، والله إن بقيت حتى آتي أمير
المؤمنين، يعني عثمان، لأمرته بجعلها قراءة واحدة قال: فغضب عبد الله فقال
لحذيفة كلمة شديدة قال فسكت حذيفة). رواه عمر بن شبة.
وهذا مما يدلّ على أنَّ حذيفة كان يكره هذا الاختلاف من قبل لكنَّه لم يكلّم فيه عثمان حتى رأى بوادر الفتنة.
9. وقال
إسماعيل بن عليّة: حدثنا أيوب، عن أبي قلابة قال: لما كان في خلافة عثمان
جعل المعلم يعلم قراءة الرجل، والمعلم يعلم قراءة الرجل، فجعل الغلمان
يلتقون فيختلفون حتى ارتفع ذلك إلى المعلمين.
قال أيوب: لا أعلمه إلا قال: حتى كفر بعضهم بقراءة بعض، فبلغ ذلك عثمان، فقام خطيبا فقال: «أنتم عندي تختلفون فيه فتلحنون، فمن نأى عني من الأمصار أشد فيه اختلافاً، وأشد لحناً، اجتمعوا يا أصحاب محمد واكتبوا للناس إماماً» رواه ابن أبي داوود في كتاب المصاحف، وهو منقطع.
وهذه
الآثار تدلّ على أن هذه الأسباب اجتمعت وتظافرت؛ وأنَّ جمع القرآن كان عن
إجماع من الصحابة رضي الله عنهم لما رأوه من الاختلاف فجمعوا الناس على
مصحف واحد نصحاً للأمّة ودرءا للاختلاف والتنازع في كتاب الله تعالى، وما
كان من خلاف ابن مسعود في أوّل الأمر فإنّه رجع عنه، وسيأتي بيانه إن شاء
الله.
قال البغوي في شرح
السنة: (إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يقرءون القرآن بعده
على الأحرف السبعة التي أقرأهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بإذن الله عز
وجل، إلى أن وقع الاختلاف بين القراء في زمن عثمان، وعظم الأمر فيه، وكتب
الناس بذلك من الأمصار إلى عثمان، وناشدوه الله تعالى في جمع الكلمة،
وتدارك الناس قبل تفاقم الأمر، وقدم حذيفة بن اليمان من غزوة أرمينية،
فشافهه بذلك، فجمع عثمان عند ذلك المهاجرين والأنصار، وشاورهم في جمع
القرآن في المصاحف على حرف واحد، ليزول بذلك الخلاف، وتتفق الكلمة،
واستصوبوا رأيه، وحضوه عليه، ورأوا أنه من أحوط الأمور للقرآن، فحينئذ أرسل
عثمان إلى حفصة، أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف، فأرسلت إليه،
فأمر زيد بن ثابت، والرهط القرشيين الثلاثة فنسخوها في المصاحف، وبعث بها
إلى الأمصار)ا.هـ.
تنبيه:
-
قال إسماعيل بن عياش الحمصي: حدثنا حبان بن يحيى البهراني، عن أبي محمد
القرشي: أن عثمان بن عفان رضي الله عنه كتب إلى الأمصار: (أما بعد، فإن
نفراً من أهل الأمصار اجتمعوا عندي فتدارسوا القرآن، فاختلفوا اختلافا
شديدا، فقال بعضهم: قرأت على أبي الدرداء، وقال بعضهم: قرأت على حرف عبد
الله بن مسعود، وقال بعضهم: قرأت على حرف عبد الله بن قيس، فلما سمعت
اختلافهم في القرآن - والعهد برسول الله صلى الله عليه وسلم حديث - ورأيت
أمرا منكراً فأشفقت على هذه الأمة من اختلافهم في القرآن، وخشيت أن يختلفوا
في دينهم بعد ذهاب من بقي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين
قرأوا القرآن على عهده وسمعوه من فيه، كما اختلفت النصارى في الإنجيل بعد
ذهاب عيسى ابن مريم، وأحببت أن ندارك من ذلك، فأرسلت إلى عائشة أم المؤمنين
رضي الله عنها أن ترسل إلي بالأُدُم الذي فيه القرآن، الذي كُتب عن فَمِ
رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أوحاه الله إلى جبريل، وأوحاه جبريل إلى
محمد، وأنزله عليه، وإذ القرآن غض، فأمرت زيد بن ثابت أن يقوم على ذلك،
ولم أفرغ لذلك من أجل أمور الناس والقضاء بين الناس، وكان زيد بن ثابت
أحفظنا للقرآن، ثم دعوت نفرا من كُتَّاب أهل المدينة وذوي عقولهم، منهم
نافع بن طريف، وعبد الله بن الوليد الخزاعي، وعبد الرحمن بن أبي لبابة؛
فأمرتهم أن ينسخوا من ذلك الأُدُم أربعةَ مصاحفَ وأن يتحفظوا ). رواه
عمر بن شبة، وهو خبر لا يصحّ، إسناده مظلم، ومتنه منكر، وإنما أوردته
ليُعلم حاله، وليتبيّن ضعف الأقوال التي كان مستندها هذا الأثر.
تأريخ جمع عثمان:
روى إسرائيل وزيد بن
أبي أنيسة عن أبي إسحاق السبيعي عن مصعب بن سعد قال: : جلس عثمان بن عفان
رضي الله عنه على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ( إنما عهدكم بنبيكم صلى الله عليه وسلم منذ ثلاث عشرة سنة..). رواه عمر بن شبة وابن أبي داوود.
وخالفهما غيلان بن جامع المحاربي فروى عن أبي إسحاق عن مصعب أنه قال: سمع عثمان قراءة أبي وعبد الله ومعاذ، فخطب الناس ثم قال: ( إنما قبض نبيكم منذ خمس عشرة سنة، وقد اختلفتم في القرآن..). رواه ابن أبي داوود.
قال الحافظ ابن حجر:
(وكانت هذه القصة في سنة خمس وعشرين في السنة الثالثة أو الثانية من خلافة
عثمان وقد أخرج بن أبي داود من طريق أبي إسحاق عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص
قال: خطب عثمان فقال: "يا أيها الناس إنما قبض نبيكم منذ خمس عشرة سنة وقد اختلفتم في القراءة.."
الحديثَ في جمع القرآن، وكانت خلافة عثمان بعد قتل عمر، وكان قتل عمر في
أواخر ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين من الهجرة بعد وفاة النبي صلى الله عليه
وسلم بثلاث عشرة سنة إلا ثلاثة أشهر؛ فإن كان قوله: "خمس عشرة سنة" أي
كاملة فيكون ذلك بعد مضي سنتين وثلاثة أشهر من خلافته، لكن وقع في رواية
أخرى له "منذ ثلاث عشرة سنة" فيجمع بينهما بإلغاء الكسر في هذه وجبره في
الأولى؛ فيكون ذلك بعد مضي سنة واحدة من خلافته فيكون ذلك في أواخر سنة
أربع وعشرين، وأوائل سنة خمس وعشرين، وهو الوقت الذي ذكر أهل التاريخ أن
أرمينية فتحت فيه، وذلك في أوَّل ولاية الوليد بن عقبة بن أبي مُعيط على
الكوفة من قِبَل عثمان، وغفل بعض من أدركناه فزعم أن ذلك كان في حدود سنة
ثلاثين، ولم يذكر لذلك مستنداً)ا.هـ.
موقف الصحابة رضي الله عنهم من جمع عثمان
أجمع الصحابة رضي
الله عنهم على استحسان ما فعله عثمان رضي الله عنه من جمع الناس على مصحف
إمام، ولم يخالفه منهم أحد على أمر الجمع سوى ما ذكر عن ابن مسعود في أول
الأمر وكان لمعارضته أسباب تخصّه يأتي بيانها إن شاء الله، ثم إنه رجع عن
المعارضة إلى موافقة ما أجمع عليه الصحابة، واستقرّ إجماع المسلمين على
القراءة بما تضمنته المصاحف العثمانية وترك القراءة بما سواها.
1. قال سويد بن غَفَلة: والله لا
أحدثكم إلا شيئاً سمعته من علي بن أبي طالب رضي الله عنه، سمعته يقول:
(يا أيها الناس لا تغلوا في عثمان، ولا تقولوا له إلا خيرا في المصاحف
وإحراق المصاحف؛ فوالله ما فعل الذي فعل في المصاحف إلا عن ملأ منّا
[جميعاً] أصحابَ محمد، دعانا فقال: « ما تقولون في
هذه القراءة؟ فقد بلغني أن بعضكم يقول: قراءتي خير من قراءتك، وهذا يكاد
يكون كفرا، وإنكم إن اختلفتم اليوم كان لمن بعدكم أشد اختلافا »
قلنا: فما ترى؟
قال: «أن أجمع الناس على مصحف واحد؛ فلا تكون فرقة ولا اختلاف»
قلنا: فَنِعْمَ ما رأيت).
قال علي: « والله لو وليت لفعلت مثل الذي فعل».
رواه عمر بن شبة في تاريخ المدينة وابن أبي داوود في كتاب المصاحف من طريق علقمة بن مرثد، عن العيزار بن جرول عن سويد به.
2. وقال أبو إسحاق السبيعي: سمعت مصعب بن سعد يقول: «أدركت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرين فما رأيت أحداً منهم عاب ما صنع عثمان رضي الله عنه في المصاحف» رواه أبو عبيد في فضائل القرآن وعمر بن شبة واللفظ له وابن أبي داوود.
وفي وراية عند ابن شبة
من طريق السدي قال: حدثنا محمد بن سلمة، عن أبي عبد الرحمن، عن زيد بن أبي
أنيسة، عن أبي إسحاق، عن مصعب بن سعد قال: (سمعت رجالاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقولون: لقد أحسن).
3. وروى الأعمش، عن شقيق، قال: (لمَّا شق عثمان رضي الله عنه المصاحف بلغ ذلك عبد الله فقال: «قد علم أصحاب محمد أني أعلمهم بكتاب الله، وما أنا بخيرهم، ولو أعلم أحدا أعلم بكتاب الله مني تبلغنيه الإبل لأتيته» ).
قال أبو وائل: (فقعدت
إلى الخلق لأسمع ما يقولون؛ فما سمعت أحداً من أصحاب محمد صلى الله عليه
وسلم عابَ ذلك عليه). رواه عمر بن شبة.
وكذلك كان موقف كبار التابعين وقرائهم:
- قال ثابت بن عمارة
الحنفي: سمعت غنيم بن قيس المازني قال: (قرأت القرآن على الحرفين جميعاً،
والله ما يسرّني أن عُثمان لم يكتب المصحف وأنه ولد لكل مسلم كلما أصبح
غلاماً؛ فأصبح له مثل ما له.
قال: قلنا له: يا أبا العنبر لم؟
قال: (لو لم يكتب عثمان المصحف لطفق الناس يقرؤون الشعر). رواه ابن أبي داوود في كتاب المصاحف.
وغنيم بن قيس من كبار التابعين وفقهائهم أدرك زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يره، وقرأ على كبار الصحابة رضي الله عنهم.
- وقال محمد بن عبد الله الأنصاري: حدثني عمران بن حدير، عن أبي مجلز قال: «لولا أن عثمان كتب القرآن لألفيت الناس يقرؤون الشعر» رواه ابن أبي داوود في كتاب المصاحف.
وقد طعن بعض أهل
الأهواء على عثمان في شأن المصاحف وحرقه ما سوى المصاحف التي جمع الناس
عليها، وكانت أوّل فتنة ظهرت في هذا فرقة من أهل مصر في زمن عثمان أتوا
ناقمين على عثمان حتى إذا نزلوا بالجحفة أرسل إليهم عليّ بن أبي طالب ،
فقال لهم عليّ: ما الذي نقمتم؟
قالوا: نقمنا أنه محا كتاب الله عز وجل.. وذكروا سائر ما نقموا عليه.
فبيّن لهم الحقّ في كلّ ما نقموا عليه من ذلك، وطفئت تلك الفتنة، ثم ظهرت فتن أخرى.
وفي زمن عليّ بن أبي
طالب ظهرت طائفة في عسكره غلوا في تفضيل عليّ على عثمان حتى تناولوا عثمان
وذمّوه بحرق المصاحف حتى لقّبه بعضهم (حَرَّاق المصاحف) فخطب فيهم علي بن
أبي طالب، وأنكر عليهم غلوَّهم، وبيّن لهم أنه لم يحرق المصاحف إلا عن
إجماع من الصحابة رضي الله عنهم لما رأوا من اختلاف الناس في القرآن.
قال عبد الرحمن بن مهدي: حدثنا يزيد بن زريع، عن عمران بن حدير، عن أبي مجلز، قال: « عابوا على عثمان رضي الله عنه تشقيق المصاحف، وقد آمنوا بما كتب لهم، انظر إلى حمقهم» رواه عمر بن شبة.
ورواه أبو عبيد ولفظه: « ألا تعجب من حمقهم؛ كان مما عابوا على عثمان تمزيقه المصاحف، ثم قبلوا ما نسخ ».
موقف ابن مسعود من جمع عثمان رضي الله عنهما:
كان
ابن مسعود رضي الله عنه من كبار قرّاء الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم،
أخذ من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين سورة، وكان من معلّمي
القرآن على زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
قال مسروق: كنا نأتي
عبد الله بن عمرو، فنتحدث إليه؛ فذكرنا يوما عبد الله بن مسعود؛ فقال: لقد
ذكرتم رجلاً لا أزال أحبّه بعد شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه
وسلم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « خذوا القرآن من أربعة: من ابن أم عبد - فبدأ به - ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب، وسالم مولى أبي حذيفة ». رواه مسلم.
وروى الإمام أحمد وابن
ماجه والنسائي في السنن الكبرى وغيرهم من طرق عن عمر بن الخطاب رضي الله
عنه أنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: « من سره أن يقرأ القرآن غضا كما أنزل؛ فليقرأه على قراءة ابن مسعود »
وعن عيسى بن دينار الخزاعي عن أبي عن عمرو بن الحارث بن المصطلق رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «من سره أن يقرأ القرآن غضّاً كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد» رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد.
وكان الصحابة يعرفون لابن مسعود إمامته وفضله وحسن قراءته، وسابقته في الدين.
قال عبد الرحمن بن يزيد: سألنا حذيفة عن رجلٍ قريب السَّمْتِ والهَدْيِ من النبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم حتى نأخذَ عنه، فقال: « ما أعرفُ أحداً أقربَ سمتاً وهدياً ودلاً بالنبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم من ابن أمِّ عبْدٍ » رواه البخاري.
وبعثه عمر بن الخطاب
إلى الكوفة معلّماً ووزيراً؛ فكان يقرئ الناس في الكوفة مدة خلافة عمر وصدر
خلافة عثمان؛ ونفع الله به به نفعاً مباركاً؛ وكان يقرئهم كما أقرأه
النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أبو موسى الأشعري يقرئ أهل البصرة، وكان
من قرّاء الصحابة رضي الله عنه.
روى أبو الضحى، عن
مسروق قال: كان عبد الله وحذيفة وأبو موسى في منزل أبي موسى، فقال حذيفة:
(أما أنت يا عبد الله بن قيس فبُعثتَ إلى أهل البصرة أميرا ومعلما، وأخذوا
من أدبك ولغتك ومن قراءتك، وأما أنت يا عبد الله بن مسعود فبُعثت إلى أهل
الكوفة معلما؛ فأخذوا من أدبك ولغتك ومن قراءتك؛ فقال عبد الله: أما إني
إذا لم أضلَّهم، وما من كتاب الله آية إلا أعلم حيث نزلت، وفيم نزلت، ولو
أعلم أحدا أعلم بكتاب الله مني، تبلغنيه الإبل لرحلت إليه). رواه ابن أبي
داوود.
وفي رواية عند عمر بن شبّة أن حذيفة قال لهما: «أما إنكما إن شئتما أقمتما هذا الكتاب على حرف واحد، فإني قد خشيت أن يتهوَّن الناس فيه تهوُّنَ أهل الكتاب»
فكان حذيفة يرى اختلاف
الناس في القراءة وتنازعهم، ويخشى أن تقع بينهم فتنة وتفرّق بسبب اختلافهم
وتنازعهم، وكان شديد التوقي من الفتن، عظيم النصح للأمّة، مسموع الكلمة
عند الخلفاء الراشدين، ولعله رأى تكرر الاختلاف فعاود النصيحة.
قال أبو الشعثاء: كنا
جلوسا في المسجدِ وعبد الله يقرأ؛ فجاء حذيفة فقال: (قراءة ابن أم عبْد
وقراءة أبي موسى الأشعري!! والله إن بقيت حتى آتي أمير المؤمنين، يعني
عثمان، لأمرته بجعلها قراءة واحدة.
قال: فغضب عبد الله؛ فقال لحذيفة كلمة شديدة.
قال: فسكت حذيفة). رواه ابن أبي داوود في المصاحف.
فلما تفاقم الأمر ووقعت الخصومة وكادت أن تحدث فتنة واختلاف؛ لم يجد حذيفة بدّا من رفع الأمر إلى عثمان؛ كما سبق ذكره.
قال ابن فضيل: حدثنا
حصين، عن مرة قال: ذُكر لي أن عبد الله وحذيفة وأبا موسى فوق بيت أبي موسى
فأتيتهم، فقال عبد الله لحذيفة: (أما إنه قد بلغني أنك صاحب الحديث قال:
أجل، كرهت أن يقال: قراءة فلان وقراءة فلان؛ فيختلفون كما اختلف أهل
الكتاب.
قال: وأقيمت الصلاة، فقيل لعبد الله: تقدم صلّ، فأبى، فقيل لحذيفة: تقدم، فأبى، فقيل لأبي موسى: تقدم فإنَّك رب البيت). رواه ابن أبي داوود.
وقد كان ابن مسعود رضي
الله عنه يأمر المتعلّمين أن يقرأ كلٌّ منهم كما عُلّم، وأن لا ينكر على
من قرأ قراءة صحيحة؛ بل ربما اشتدّ على من يسأل عن الأحرف مخافة أن يضرب
السائل بعض القراءات ببعض، ويصرف نظره إلى التدبّر والتفكر والعمل.
قال أبو وائل شقيق بن
سلمة: جاء رجل يقال له نهيك بن سنان إلى عبد الله، فقال: يا أبا عبد الرحمن
كيف تقرأ هذا الحرف؟ ألفا تجده أم ياء {من ماء غير أسن}، أو [من ماء غير ياسن]؟
قال: فقال عبد الله: وكلَّ القرآن قد أحصيتَ غير هذا؟!!
قال: إني لأقرأ المفصَّلَ في ركعة!
فقال عبد الله: «هذّا كهذّ الشِّعر! إنَّ أقواماً يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه نفع »رواه مسلم.
وكان يسير في تعليم الناس القرآن على الطريقة التي تعلّمها من النبي صلى الله عليه وسلم.
لكنَّ أمر الخلاف تفاقم، ولم يسع الصحابة رضي الله عنهم إلا جمع الناس على مصحف واحد.
فلما اجتمع رأيهم على
ذلك بالمدينة، وكان ابن مسعود نائياً في العراق، وكان عثمان قد اختار زيد
بن ثابت لعلمه بالكتابة والخطّ، وكان أكتبَ الناسِ في زمانه، وجعل معه من
جعل من القراء والكتبة والمملين، ولم يجعل ابن مسعود منهم شقّ ذلك على ابن
مسعود لأنَّ ذلك يفضي إلى ترك بعض الأحرف التي قرأ بها وتلقاها من رسول
الله صلى الله عليه وسلم، وأن يختار القراءة التي جمع عثمان عليها الناس،
ولم يكن غضبُه لمجرّد أنه لم يوكل إليه جمع القرآن كما يغضب المرء على فوات
منصب أو نهزة شرف، كما توهَّمه من لم يقدر فضل ابن مسعود وعلمه وزهده في
المنصب وما يحرص عليه أهل الدنيا.
لكنَّه رأى أنه لو جُعل
مع النفر الذين أوكل إليهم جمع القرآن وتوحيد رسمه لكان أدعى لحفظ الحروف
التي يقرأ بها مما تلقّاه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وغضب أن تُرك
مع أنه كان من المعلّمين على زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك
الزمان، وهو نحو ثلاثين سنة أو تزيد، وكان مقدَّما في إقراء القرآن
وتعليمه، فلمّا اجتمع الناس لكتابة المصاحف لم يكن ممن يُستدعى لهذا الأمر
الجلل، ويؤخذ من علمه فيه.
وقد سبق ذكر الحديث الذي فيه اختلاف بعض الأحرف التي قرأ بها ابن مسعود عن الأحرف التي قرأ بها أبيّ.
وكان أبيّ ممن يَرجع
إليه النفر الذين كلّفهم عثمان كتابة المصاحف، وكان من ضرورة التنظيم الذي
رسمه عثمان رضي الله عنه أن يختلف اختيار أولئك القراء في بعض الأحرف عما
يقرأ به ابن مسعود، وأن تجتمع كلمة المسلمين على ذلك الاختيار، ولذلك شقّ
هذا الأمر جداً على ابن مسعود رضي الله عنه، ولم يشقّ على أبيّ؛ فإنَّ
أُبيّا دفع مصحفه الذي كتبه بخطّ يده إلى عثمان طيبة به نفسه لما اطمأنّ
إلى صحة الجمع وجودة مراجعته؛ فأحرقه عثمان فيما أحرق من المصاحف.
وأمّا ابن مسعود فقام
في الناس خطيباً واستنكر هذا الجمع أوّل الأمر لمّا بلغه، ثمّ إنه لمّا
تبيّن له أن المصير إليه هو الحقّ رضي ما رضيه عثمان وسائر الصحابة واجتمعت
عليه كلمة المسلمين.
- قال عبدة بن سليمان: حدثنا الأعمش عن شقيق عن عبد الله أنه قال: {ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة }، ثم قال: (على
قراءة من تأمروني أن أقرأ؟!! فلقد قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم
بضعاً وسبعين سورة، ولقد علم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أني
أعلمهم بكتاب الله، ولو أعلم أنَّ أحداً أعلم مني لرحلتُ إليه).
قال شقيق: (فجلست في حلق أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فما سمعت أحدا يرد ذلك عليه ولا يعيبه). رواه مسلم
- ورواه النسائي من طريق أبي شهاب الحناط، قال: حدثنا الأعمش، عن أبي وائل قال: خطبنا ابن مسعود فقال: «كيف
تأمروني أقرأ على قراءة زيد بن ثابت بعد ما قرأت من في رسول الله صلى الله
عليه وسلم بضعا وسبعين سورة، وإن زيدا مع الغلمان له ذؤابتان».
- ورواه ابن أبي داوود من هذا الطريق بسياق أتمّ عن أبي وائل أنه قال: خطبنا ابن مسعود على المنبر فقال: « {ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة} غُلُّوا
مصاحفكم، وكيف تأمروني أن أقرأ على قراءة زيد بن ثابت، وقد قرأت من في
رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعاً وسبعين سورة، وإن زيد بن ثابت ليأتي
مع الغلمان له ذؤابتان، والله ما أنزل من القرآن إلا وأنا أعلم في أي شيء
نزل، ما أحد أعلم بكتاب الله مني، وما أنا بخيركم، ولو أعلم مكانا تبلغه
الإبل أعلم بكتاب الله مني لأتيته».
قال أبو وائل: (فلما نزل عن المنبر جلست في الحلق فما أحد ينكر ما قال).
- وروى أبو الضحى، عن مسروق أنه قال: قال عبد الله حين صُنِعَ بالمصاحف ما صنع: «والذي
لا إله غيره ما أنزلت من سورة إلا أعلم حيث أنزلت، وما من آية إلا أعلم
فيما أنزلت، ولو أني أعلم أحدا أعلم بكتاب الله مني تبلغنيه الإبل لأتيته»
رواه ابن أبي داوود.
- روى إسرائيل، عن جدّه أبي إسحاق السبيعي، عن خُمَير بن مالك قال: ( لما أمر بالمصاحف تغير ساء ذلك عبد الله بن مسعود؛ فقال: (من استطاع منكم أن يغلَّ مصحفه فليغله، فإن من غلَّ شيئاً جاء به يوم القيامة)
ثم قال: (قرأتُ من فمِ رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين سورة [وزيد صبي]؛ أفأترك ما أخذتُ من في رسول الله صلى الله عليه وسلم؟).
رواه أحمد وعمر بن شبة والطبراني وابن أبي داوود، وما بين المعكوفين
عندهم ما عدا أحمد، ورواه أبو داوود الطيالسي من طريق عمرو بن ثابت عن أبي
إسحاق السبيعي به.
-
وقال عبد الله بن عون: حدثني عمرو بن قيس، عن عمرو بن شرحبيل أبي ميسرة
الهمداني، قال: أتى عليَّ رجل وأنا أصلي، فقال: (ألا أراك تصلي وقد أمر
بكتاب الله أن يُمزَّق)
قال: فتجوَّزت في صلاتي وكنت لا أُحبَس، فدخلتُ
الدَّار ولم أُحبس، ورَقَيت فلم أُحبَس، فإذا أنا بالأشعري، وإذا حذيفة
وابن مسعود يتقاولان، وحذيفة يقول لابن مسعود: « ادفع إليهم المصحف »
فقال: « والله لا أدفعه ».
فقال: « ادفعه إليهم، فإنَّهم لا يألون أمة محمد إلا خيراً »
قال: « والله لا أدفعه إليهم، أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعاً وسبعين سورة وأدفعه إليهم؟!! والله لا أدفعه إليهم » رواه أبو عبيد القاسم بن سلام في فضائل القرآن، والطبراني في الكبير والحاكم في المستدرك.
ثمّ إنّ موقفه هذا قد كرهه جماعة من كبار الصحابة وقرائهم وأنكروه.
- قال ابن شهاب الزهري: (بلغني أن كَرِهَ من مقالة ابن مسعود رجال أفاضل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم). رواه أبو عبيد في فضائل القرآن، والترمذي في سننه، وأبو يعلى في مسنده.
- وروى الأعمش عن إبراهيم النخعي عن علقمة أنه قال: قدمت الشام فلقيت أبا الدرداء فقال: «كُنَّا نَعُدّ عبدَ الله حَنَّانا فما بالُه يواثِبُ الأمراء» رواه ابن أبي داوود في كتاب المصاحف ومن طريقه ابن عساكر في تاريخ دمشق.
ثمّ إنّ ابن مسعود رضي الله عنه قد رجع عن موقفه هذا إلى موافقة ما اجتمعت عليه كلمة الصحابة رضي الله عنهم.
قال كثير بن هشام
الكلابي: حدثنا جعفر بن برقان، قال: حدثنا عبد الأعلى بن الحكم الكلابي:
أتيت دار أبي موسى الأشعري، فإذا حذيفة بن اليمان، وعبد الله بن مسعود،
وأبو موسى الأشعري فوق إجَّار لهم، فقلت: هؤلاء والله الذين أريد فأخذت
أرتقي إليهم، فإذا غلام على الدرجة فمنعني فنازعته فالتفت إليَّ بعضهم قال:
خلِّ عن الرجل فأتيتهم حتى جلستُ إليهم، فإذا عندهم مصحف أرسل به عثمان،
وأمرهم أن يقيموا مصاحفهم عليه؛ فقال أبو موسى: (ما وجدتم في مصحفي هذا من زيادة فلا تنقصوها، وما وجدتم من نقصان فاكتبوه)
فقال حذيفة: كيف بما
صنعنا؟!! والله ما أحد من أهل هذا البلد يرغب عن قراءة هذا الشيخ، يعني ابن
مسعود، ولا أحد من أهل اليمن يرغب عن قراءة هذا الشيخ، يعني أبا موسى
الأشعري).
قال عبد الأعلى: (وكان
حذيفة هو الذي أشار على عثمان رضي الله عنه بجمع المصاحف على مصحف واحد،
ثم إن الصلاة حضرت؛ فقالوا لأبي موسى الأشعري: تقدم فإنا في دارك، فقال:
لا أتقدم بين يدي ابن مسعود، فتنازعوا ساعة، وكان ابن مسعود بين حذيفة
وأبي موسى فدفعاه حتى تقدَّم فصلَّى بهم). رواه عمر بن شبة وابن أبي داوود.
وكان ابن مسعود بعد ذلك يسكّن الناسَ في أمر الاختلاف في القراءات،
ويخبرهم أن اختلاف الأحرف ليس باختلاف في معاني القرآن، وأنّ كلّ حرف منها
كافٍ شافٍ، وأنّ من قرأ على قراءة فليثبت عليها ولا يشكنّ فيها ولا
يدعنّها رغبة عنها.
قال فلفلة الجعفي:
فَزعتُ فيمن فزع إلى عبد الله في المصاحف، فدخلنا عليه، فقال رجل من القوم:
إنا لم نأتك زائرين، ولكنا جئنا حين راعنا هذا الخبر، فقال: «إن القرآن أنزل على نبيكم من سبعة أبواب على سبعة أحرف، وإن الكتاب قبلكم كان ينزل من باب واحد على حرف واحد، معناهما واحد». رواه ابن أبي داوود.
- روى الأعمش، عن أبي وائل، عن عبد الله بن مسعود أنه قال: (قد سمعت القراء، فوجدتهم مقاربين، فاقرأوا كما علمتم، وإياكم والتنطع والاختلاف، فإنما هو كقول أحدكم: هلم وتعال). رواه عمر بن شبة.
- وروى عبد الرحمن بن
عابس النخعي عن رجل من همدان من أصحاب ابن مسعود رضي الله عنه أنه اجتمع
إلى ابن مسعود ناسٌ من أهل الكوفة فقرأ عليهم السلام، وأمرهم بتقوى الله،
وألا يختلفوا في القرآن ولا يتنازعوا فيه فإنه لا يختلف ولا يتشانّ ولا
يَتْفَه لكثرة الردّ..
وقال لهم: (ألا ترون أن
شريعة الإسلام فيه واحدة حدودها وفرائضها وأَمْرَ اللهِ فيها، فلو كان
شيء من الحرفين يأمر بشيء وينهى عنه الآخر كان ذلك الاختلاف، ولكنه جامع
ذلك كله). رواه عمر بن شبة.
وفي رواية عند أحمد:
(إن هذا القرآن لا يختلف ولا يستشنّ ولا يتفه لكثرة الرد، فمن قرأه على
حرف فلا يدعه رغبة عنه، ومن قرأه على شيء من تلك الحروف التي علم رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - فلا يدعه رغبة عنه، فإنه من يجحد بآية منه
يجحد به كله، فإنما هو كقول أحدكم لصاحبه: اعجل، وحيَّ هلا).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (لا نزاع بين المسلمين أن الحروف السبعة التي
أنزل القرآن عليها لا تتضمن تناقض المعنى وتضاده، بل قد يكون معناها متفقا
أو متقاربا كما قال عبد الله بن مسعود: "إنما هو كقول أحدكم: أقبل، وهلم،
وتعال".
وقد يكون معنى أحدها ليس هو معنى الآخر، لكن كلا المعنيين حق، وهذا اختلاف تنوع وتغاير لا اختلاف تضاد وتناقض)ا.هـ.