24 Aug 2015
تفسير قوله تعالى: {أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13) لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16) فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (17) }
قالَ مُحَمَّدُ سُلَيْمَان الأَشْقَرُ (1430هـ) : (11- {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا}
هم عبدُ اللهِ بنُ أُبَيٍّ وأصحابُه، بَعَثُوا إلى بني النَّضِيرِ: أنِ
اثْبُتُوا وتَمَنَّعُوا فإننا لا نُسْلِمُكم، وإنْ قُوتِلْتُم قاتَلْنا
معكم، وإنْ أُخْرِجْتم {لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ} أيْ: لنَخْرُجَنَّ مِن دِيارِنا في صُحبَتِكم.
{وَلاَ نُطِيعُ فِيكُمْ} أيْ: في شَأْنِكم ومِن أجْلِكم.
{أَحَداً} ممن يُريدُ أنْ يَمنَعَنَا مِن الخروجِ معكم.
{أَبَداً} وإنْ طالَ الزمانُ.
{وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ} على عَدُوِّكُم, ثم كَذَّبَهم سُبحانَه، فقالَ: {وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} فيما وَعَدُوهُم به مِن الخروجِ معهم والنُّصرةِ لهم). [زبدة التفسير: 547] قالَ مُحَمَّدُ سُلَيْمَان الأَشْقَرُ (1430هـ) : (12- {لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لَا يَنصُرُونَهُمْ}
وقد كان الأمرُ كذلك، فإنَّ المنافقينَ لم يَخْرُجوا مع مَن أُخْرِجَ مِن
اليهودِ، وهم بنو النَّضيرِ ومَن معهم، ولم يَنْصُروا مَن قُوتِلَ مِن
اليهودِ وهم بنو قُريظةَ وأهْلُ خَيبرَ.
{وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ} مُنهزمينَ.
{ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ}: لا يَصيرُ المنافقونَ مَنصورينَ بعدَ ذلك، بل يُذِلُّهم اللهُ ولا يَنفعُهم نِفاقُهم). [زبدة التفسير: 547] قالَ مُحَمَّدُ سُلَيْمَان الأَشْقَرُ (1430هـ) : (13- {لَأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ } أيْ: لأَنْتُمْ يا مَعاشِرَ المسلمينَ أشَدُّ خَوفاً وخَشيةً في صُدورِ المنافقينَ أو صُدورِ اليهودِ مِن رَهبةِ اللهِ.
{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ} ولو كانَ لهم فِقهٌ لعَلِموا أنَّ اللهَ سُبحانَه هو الذي سَلَّطَكم عليهم، فهو أحَقُّ بالرهبةِ مِنكم). [زبدة التفسير: 547] قالَ مُحَمَّدُ سُلَيْمَان الأَشْقَرُ (1430هـ) : (14- {لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً}: مُجتمعينَ لقِتالِكُم.
{إِلاَّ فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ} أيْ: في الدُّروبِ والدُّورِ {أَوْ مِن وَرَاءِ جُدُرٍ} أيْ: مِن خلْفِ الْحِيطانِ التي يَستَتِرونَ بها؛ لِجُبْنِهم ورَهبتِهم.
{بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ} أيْ: بَعْضُهم غليظٌ فَظٌّ على بعضٍ.
{تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} أيْ: إنَّ اجتماعَهم إنما هو في الظاهِرِ مع تَخالُفِ قُلوبِهم في الباطِنِ، مُختلِفَةٌ آراؤُهم مُختلِفَةٌ أهواؤُهم.
{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ}: ولو عَقَلوا لعَرَفوا الحقَّ واتَّبَعُوه فتَوَحَّدُوا ولم يَختَلِفوا). [زبدة التفسير: 547] قالَ مُحَمَّدُ سُلَيْمَان الأَشْقَرُ (1430هـ) : (15- {كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} مِن كُفَّارِ الْمُشرِكينَ.
{قَرِيبًا} يَعنِي في زَمانٍ قَريبٍ.
{ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ} أيْ: سُوءَ عَاقبةِ كُفْرِهم في الدنيا بقَتْلِهم يومَ بَدْرٍ، وكان ذلك قبلَ غَزوةِ بني النَّضيرِ بسِتَّةِ أشْهُرٍ). [زبدة التفسير: 547] قالَ مُحَمَّدُ سُلَيْمَان الأَشْقَرُ (1430هـ) : (16- {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ} أيْ: مَثَلُهم في تَخَاذُلِهم وعَدَمِ تَناصُرِهم كمَثَلِ الشيطانِ للإنسانِ، أَغراهُ بالكفْرِ، وزَيَّنَه له، وحَمَلَه عليه.
{فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ} أيْ: فلَمَّا كفَرَ الإنسانُ مُطاوعةً للشيطانِ، وقَبولاً لتَزيينِه، قالَ الشيطانُ: {إنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} هذا مِن قولِ الشيطانِ على وجْهِ التَّبَرِّي مِن الإنسانِ). [زبدة التفسير: 547-548]
تفسير
قوله تعالى: (أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ
لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ
أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا
أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ
إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) )
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (يخبر تعالى عن المنافقين كعبد اللّه بن أبيٍّ وأضرابه، حين بعثوا إلى يهود بني النّضير يعدونهم النّصر من أنفسهم، فقال تعالى: {ألم
تر إلى الّذين نافقوا يقولون لإخوانهم الّذين كفروا من أهل الكتاب لئن
أخرجتم لنخرجنّ معكم ولا نطيع فيكم أحدًا أبدًا وإن قوتلتم لننصرنّكم} قال اللّه تعالى: {واللّه يشهد إنّهم لكاذبون}
أي: لكاذبون فيما وعدوهم به إمّا أنّهم قالوا لهم قولًا من نيّتهم ألّا
يفوا لهم به، وإمّا أنّهم لا يقع منهم الّذي قالوه؛ ولهذا قال: {ولئن قوتلوا لا ينصرونهم}).[تفسير القرآن العظيم: 8/74]
قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ نَاصِرٍ السّعْدِيُّ (ت: 1376هـ) : (
(11) ثم تَعَجَّبَ تعالَى مِن حالِ المُنافقِينَ، الذينَ طَمَّعُوا
إخوانَهم مِن أهلِ الكتابِ في نُصرتِهم ومُوالاتِهم على المُؤمنِينَ،
وأنَّهم يَقولُونَ لهم: {لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً}؛ أي: لا نُطِيعُ في عَدَمِ نُصرتِكم أحَداً يَعْذِلُنا أو يُخَوِّفُنا.
{وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}
في هذا الوعْدُ الذي غَرُّوا به إخوانَهم، ولا يُستَكْثَرُ هذا عليهم؛
فإنَّ الكَذِبَ وَصْفُهم، والغُرورَ والخِدَاعَ مُقارِنُهم، والنِّفاقَ
والْجُبْنَ يَصْحَبُهم). [تيسير الكريم الرحمن: 852]
تفسير
قوله تعالى: (لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ
قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ
الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12) )
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {ولئن قوتلوا لا ينصرونهم} أي: لا يقاتلون معهم، {ولئن نصروهم} أي: قاتلوا معهم {ليولّنّ الأدبار ثمّ لا ينصرون} وهذه بشارةٌ مستقلّةٌ بنفسها).[تفسير القرآن العظيم: 8/74] (م)
قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ نَاصِرٍ السّعْدِيُّ (ت: 1376هـ) : ( (12) ولهذا كَذَّبَهم اللَّهُ بقولِه الذي وُجِدَ مُخْبَرُه كما أَخْبَرَ به، ووَقَعَ طِبْقَ ما قالَ، فقالَ: {لَئِنْ أُخْرِجُوا}؛ أيْ: مِن دِيارِهم جَلاءً ونَفياً {لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ}؛ لِمَحَبَّتِهم للأوطانِ، وعَدَمِ صَبْرِهم على القتالِ، وعدَمِ وَفائِهم بالوَعْدِ.
{وَلَئِنْ قُوتِلُوا لاَ يَنْصُرُونَهُمْ} بل يَستولِي عليهم الْجُبْنُ ويَمْلِكُهم الفَشَلُ، ويَخْذُلُونَ إخوانَهم أحْوَجَ ما كانوا إليهم.
{وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ} على الفَرْضِ والتقديرِ، {لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنْصَرُونَ}؛ أيْ: سيَحصُلُ منهم الإدبارُ عن القِتالِ والنُّصْرةِ، ولا يَحْصُلُ لهم نَصْرٌ مِن اللَّهِ). [تيسير الكريم الرحمن: 852]
تفسير قوله تعالى: (لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13) )
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (ثمّ قال تعالى: {لأنتم أشدّ رهبةً في صدورهم من اللّه} أي: يخافون منكم أكثر من خوفهم من اللّه، كقوله: {إذا فريقٌ منهم يخشون النّاس كخشية اللّه أو أشدّ خشيةً} [النّساء: 77]؛ ولهذا قال: {ذلك بأنّهم قومٌ لا يفقهون} ).[تفسير القرآن العظيم: 8/74]
قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ نَاصِرٍ السّعْدِيُّ (ت: 1376هـ) : ( (13) والسَّبَبُ الذي حَمَلَهم على ذلكَ أنَّكم أيُّها المؤمنونَ {أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ}،
فخَافُوا مِنكم أعْظَمَ مِمَّا يَخافُونَ اللَّهَ، وقَدَّمُوا مَخافةَ
المخلوقِ - الذي لا يَمْلِكُ لنفْسِه ولا لغيرِه نَفْعاً ولا ضَرًّا - على
مَخافةِ الخالِقِ الذي بيَدِه الضُّرُّ والنفْعُ والعطاءُ والْمَنْعُ.
{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَفْقَهُونَ} مَراتِبَ الأُمورِ، ولا يَعْرِفونَ حَقائقَ الأشياءِ، ولا يَتصوَّرونَ العَواقِبَ.
وإِنَّما الفِقْهُ كلُّ الفِقْهِ أنْ يَكُونَ خوفُ الخالقِ ورَجاؤُه ومَحبَّتُه مُقدَّمَةً على غيرِها، وغيرُها تَبَعاً لها). [تيسير الكريم الرحمن: 852]
تفسير
قوله تعالى: (لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ
أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ
جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ
(14) )
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (ثمّ قال: {لا يقاتلونكم جميعًا إلا في قرًى محصّنةٍ أو من وراء جدرٍ}
يعني: أنّهم من جبنهم وهلعهم لا يقدرون على مواجهة جيش الإسلام بالمبارزة
والمقابلة بل إمّا في حصونٍ أو من وراء جدرٍ محاصرين، فيقاتلون للدفع عنهم
ضرورة.
ثمّ قال {بأسهم بينهم شديدٌ} أي: عداوتهم [فيما] بينهم شديدةٌ، كما قال: {ويذيق بعضكم بأس بعضٍ} [الأنعام: 65]؛ ولهذا قال: {تحسبهم جميعًا وقلوبهم شتّى} أي: تراهم مجتمعين فتحسبهم مؤتلفين، وهم مختلفون غاية الاختلاف.
قال: إبراهيم النّخعيّ: يعني: أهل الكتاب والمنافقين {ذلك بأنّهم قومٌ لا يعقلون} ).[تفسير القرآن العظيم: 8/74-75]
قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ نَاصِرٍ السّعْدِيُّ (ت: 1376هـ) : ( (14) {لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً}؛ أيْ: في حالِ الاجتماعِ، {إِلاَّ فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ}؛
أيْ: لا يَثْبُتُونَ على قِتالِكم ولا يَعْزِمونَ عليهِ إلاَّ إذا كانوا
مُتَحَصِّنينَ في القُرَى أو مِن وَراءِ الْجُدُرِ والأسوارِ؛ فإِنَّهم إذْ
ذاكَ رُبَّما يَحْصُلُ مِنهم امْتِناعٌ؛ اعتماداً على حُصونِهم وجُدُرِهم،
لا شَجاعةً بأنْفُسِهم، وهذا مِن أعْظَمِ الذمِّ.
{بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ}؛
أيْ: بَأْسُهم فيما بينَهم شديدٌ، لا آفةَ في أبدانِهم ولا في قُوَّتِهم،
وإنَّما الآفةُ في ضَعْفِ إِيمانِهم وعَدَمِ اجتماعِ كَلِمَتِهم.
ولهذا قالَ: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً} حينَ تَراهُمْ مُجتمعِينَ ومُتظاهرِينَ، {وَ} لكنْ {قُلُوبُهُمْ شَتَّى}؛ أيْ: مُتباغِضَةٌ متَفَرِّقَةٌ متَشَتِّتَةٌ.
{ذَلِكَ} الذي أوْجَبَ لهم اتِّصافَهم بما ذُكِرَ, {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْقِلُونَ}؛
أيْ: لا عَقْلَ عندَهم ولا لُبَّ؛ فإِنَّهم لو كانَتْ لهم عُقولٌ لآثَرُوا
الفاضلَ على المَفْضولِ، ولَمَا رَضَوْا لأنفُسِهم بأَبْخَسِ
الْخُطَّتَيْنِ، ولكانَتْ كلِمَتُهم مُجتمِعَةً وقُلوبُهم مُؤْتَلِفَةً؛
فبذلكَ يَتناصَرُونَ ويَتعاضَدُونَ ويَتعاونونَ على مَصالِحِهم ومَنافِعِهم
الدِّينيَّةِ والدُّنيويَّةِ.
مَثَلُ هؤلاءِ الْمَخذولِينَ مِن أهلِ الكتابِ،
الذينَ انتَصَرَ اللَّهُ لرسولِه مِنهم، وأَذاقَهم الْخِزْيَ في الحياةِ
الدنيا، وعدَمَ نَصْرِ مَن وَعَدَهم بالْمُعاوَنَةِ). [تيسير الكريم الرحمن: 852-853]
تفسير قوله تعالى: (كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (15) )
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (ثمّ قال: {كمثل الّذين من قبلهم قريبًا ذاقوا وبال أمرهم ولهم عذابٌ أليمٌ} قال مجاهدٌ، والسّدّيّ، ومقاتل بن حيّان: [يعني] كمثل ما أصاب كفّار قريشٍ يوم بدرٍ.
وقال ابن عبّاسٍ: {كمثل الّذين من قبلهم} يعني: يهود بني قينقاع. وكذا قال قتادة، ومحمد ابن إسحاق.
وهذا القول أشبه بالصّواب، فإنّ يهود بني قينقاع كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قد أجلاهم قبل هذا).[تفسير القرآن العظيم: 8/75]
قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ نَاصِرٍ السّعْدِيُّ (ت: 1376هـ) : ( (15) {كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً}: وهم كُفَّارُ قُريشٍ، الذينَ {زَيَّنَ
لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ
مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ
نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا
لاَ تَرَوْنَ}؛ فغَرَّتْهُم أَنْفُسُهم،
وغَرَّهُم مَن غَرَّهم، الذينَ لم يَنْفَعُوهم ولم يَدْفَعُوا عنهم
العذابَ، حتى أَتَوْا بَدْراً بفَخْرِهم وخُيَلائِهم، ظانِّينَ أنَّهم
مُدْرِكونَ برسولِ اللَّهِ والمُؤمنِينَ أمَانِيَّهم، فنَصَرَ اللَّهُ
رسولَه والمُؤْمنِينَ عليهم، فَقَتَلُوا كِبارَهم وصَنادِيدَهم، وأَسَرُوا
مَن أسَرُوا مِنهم، وفَرَّ مَن فَرَّ، وذاقُوا بذلك وَبالَ أمْرِهم
وعَاقبةَ شِرْكِهم وبَغْيِهم.
هذا في الدنيا، {وَلَهُمْ} في الآخرةِ عذابُ النارِ). [تيسير الكريم الرحمن: 853]
تفسير
قوله تعالى: (كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ
فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ
الْعَالَمِينَ (16) )
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله: {كمثل الشّيطان إذ قال للإنسان اكفر فلمّا كفر قال إنّي بريءٌ منك} يعني: مثل هؤلاء اليهود في اغترارهم بالّذين وعدوهم النّصر من المنافقين، وقول المنافقين لهم: {وإن قوتلتم لننصرنّكم}
ثمّ لمّا حقّت الحقائق وجدّ بهم الحصار والقتال، تخلّوا عنهم وأسلموهم
للهلكة، مثالهم في هذا كمثل الشّيطان إذ سوّل للإنسان -والعياذ
باللّه-الكفر، فإذا دخل فيما سوّله تبرّأ منه وتنصّل، وقال: {إنّي أخاف اللّه ربّ العالمين}
وقد ذكر بعضهم هاهنا قصّةً لبعض عبّاد بني إسرائيل هي كالمثال لهذا المثل،
لا أنّها المرادة وحدها بالمثل، بل هي منه مع غيرها من الوقائع المشاكلة
لها، فقال ابن جريرٍ:
حدّثنا خلّاد بن أسلم، أخبرنا النّضر بن شميل، أخبرنا شعبة، عن أبي إسحاق،
سمعت عبد اللّه بن نهيك قال: سمعت عليًّا، رضي اللّه عنه، يقول: إن راهبًا
تعبّد ستّين سنةً، وإنّ الشّيطان أراده فأعياه، فعمد إلى امرأةٍ فأجنّها
ولها إخوةٌ، فقال لإخوتها: عليكم بهذا القسّ فيداويها. قال: فجاءوا بها
إليه فداواها، وكانت عنده، فبينما هو يومًا عندها إذ أعجبته، فأتاها فحملت،
فعمد إليها فقتلها، فجاء إخوتها، فقال الشّيطان للرّاهب: أنا صاحبك، إنّك
أعييتني، أنا صنعت هذا بك فأطعني أنجّك ممّا صنعت بك، فاسجد لي سجدةً. فسجد
له، فلمّا سجد له قال: إنّي بريءٌ منك، إنّي أخاف اللّه ربّ العالمين،
فذلك قوله: {كمثل الشّيطان إذ قال للإنسان اكفر فلمّا كفر قال إنّي بريءٌ منك إنّي أخاف اللّه ربّ العالمين}.
وقال ابن جريرٍ: حدّثني يحيى بن إبراهيم المسعوديّ، حدّثنا أبي، عن أبيه،
عن جدّه، عن الأعمش، عن عمارة، عن عبد الرّحمن بن يزيد، عن عبد اللّه بن
مسعودٍ في هذه الآية: {كمثل الشّيطان إذ قال للإنسان اكفر فلمّا كفر قال إنّي بريءٌ منك إنّي أخاف اللّه ربّ العالمين}
قال: كانت امرأةٌ ترعى الغنم، وكان لها أربعة إخوةٍ، وكانت تأوي باللّيل
إلى صومعة راهبٍ. قال: فنزل الرّاهب ففجر بها، فحملت، فأتاه الشّيطان فقال
له: اقتلها ثمّ ادفنها، فإنّك رجلٌ مصدّق يسمع قولك. فقتلها ثم دفتها. قال:
فأتى الشيطان إخوتها في المنام فقال لهم: إنّ الرّاهب صاحب الصّومعة فجر
بأختكم، فلمّا أحبلها قتلها ثمّ دفنها في مكان كذا وكذا. فلمّا أصبحوا قال
رجلٌ منهم: واللّه لقد رأيت البارحة رؤيا ما أدري أقصّها عليكم أم أترك؟
قالوا: لا بل قصّها علينا. قال: فقصّها، فقال الآخر: وأنا واللّه لقد رأيت
ذلك، فقال الآخر: وأنا واللّه لقد رأيت ذلك. فقالوا: فواللّه ما هذا إلّا
لشيءٍ. قال: فانطلقوا فاستعدوا ملكهم على ذلك الرّاهب، فأتوه فأنزلوه ثمّ
انطلقوا به فلقيه الشّيطان فقال: إنّي أنا الّذي أوقعتك في هذا، ولن ينجيك
منه غيري، فاسجد لي سجدةً واحدةً وأنجيك ممّا أوقعتك فيه. قال: فسجد له،
فلمّا أتوا به ملكهم تبرأ منه، وأخذ فقتل.
وكذا روي عن ابن عبّاسٍ، وطاوسٍ، ومقاتل بن حيّان، نحو ذلك. واشتهر عند
كثيرٍ من النّاس أنّ هذا العابد هو برصيصا، واللّه أعلم. وهذه القصّة
مخالفةٌ لقصّة جريج العابد، فإنّ جريجًا اتّهمته امرأةٌ بغي بنفسها، وادّعت
أنّ حملها منه، ورفعت أمره إلى وليّ الأمر، فأمر به فأنزل من صومعته وخربت
صومعته وهو يقول: ما لكم؟ ما لكم؟ فقالوا: يا عدوّ اللّه، فعلت بهذه
المرأة كذا وكذا. فقال: جريجٌ: اصبروا. ثمّ أخذ ابنها وهو صغيرٌ جدًّا ثمّ
قال: يا غلام، من أبوك؟ قال أبي الرّاعي -وكانت قد أمكنته من نفسها فحملت
منه-فلمّا رأى بنو إسرائيل ذلك عظّموه كلّهم تعظيمًا بليغًا وقالوا: نعيد
صومعتك من ذهبٍ. قال: لا بل أعيدوها من طينٍ، كما كانت).[تفسير القرآن العظيم: 8/75-76]
قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ نَاصِرٍ السّعْدِيُّ (ت: 1376هـ) : ( (16) ومَثَلُ هؤلاءِ المُنافقِينَ الذينَ غَرُّوا إخوانَهم مِن أهلِ الكتابِ {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنْسَانِ اكْفُرْ}؛
أيْ: زَيَّنَ له الكُفْرَ وحَسَّنَه ودَعاهُ إليه، فلَمَّا اغْتَرَّ به
وكَفَرَ وحَصَلَ له الشَّقاءُ لم يَنفَعْه الشيطانُ الذي تَوَلاَّه ودَعاه
إلى ما دَعاهُ إليه، بل تَبَرَّأَ منه {قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ}؛ أي: ليسَ لي قُدْرَةٌ على دَفْعِ العذابِ عنكَ، ولسْتُ بِمُغْنٍ عنكَ مِثقالَ ذَرَّةٍ مِن الخيرِ). [تيسير الكريم الرحمن: 853]
تفسير قوله تعالى: (فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (17) )
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله: {فكان عاقبتهما أنّهما في النّار خالدين فيها} أي: فكانت عاقبة الآمر بالكفر والفاعل له، وتصيّرهما إلى نار جهنّم خالدين فيها، {وذلك جزاء الظّالمين} أي: جزاء كلّ ظالمٍ).[تفسير القرآن العظيم: 8/76]
قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ نَاصِرٍ السّعْدِيُّ (ت: 1376هـ) : ( (17) {فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا}؛ أي: الداعِي الذي هو الشيطانُ، والمدْعُوِّ الذي هو الإنسانُ حِينَ أطَاعَه، {أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا}؛ كما قالَ تعالى: {إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ}.
{وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ}
الذينَ اشْتَرَكُوا في الظُّلْمِ والكُفْرِ، وإنِ اخْتَلَفُوا في شِدَّةِ
العذابِ وقُوَّتِه، وهذا دَأْبُ الشَّيْطانِ معَ كُلِّ أوليائِه؛ فإنَّه
يَدْعُوهم ويُدَلِّيهِمْ بغُرورٍ إلى ما يَضُرُّهم، حتى إذا وَقَعُوا في
الشِّبَاكِ، وحاقَ بهم أسبابُ الهلاكِ؛ تَبَرَّأَ مِنهم وتَخَلَّى عنهم.
واللَّوْمُ كلُّ اللَّوْمِ على مَن أطاعَه؛
فإنَّ اللَّهَ قدْ حَذَّرَ منه وأَنْذَرَ، وأَخْبَرَ بِمَقاصِدِه وغايتِه
ونِهايتِه، فالْمُقْدِمُ على طاعتِه عاصٍ على بَصيرةٍ، لا عُذْرَ له). [تيسير الكريم الرحمن: 853]
* للاستزادة ينظر: هنا