24 Aug 2015
تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) }
تفسير
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ
وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا
وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) )
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({يا
أيّها الّذين آمنوا إنّ من أزواجكم وأولادكم عدوًّا لكم فاحذروهم وإن
تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإنّ اللّه غفورٌ رحيمٌ (14) إنّما أموالكم وأولادكم
فتنةٌ واللّه عنده أجرٌ عظيمٌ (15) فاتّقوا اللّه ما استطعتم واسمعوا
وأطيعوا وأنفقوا خيرًا لأنفسكم ومن يوق شحّ نفسه فأولئك هم المفلحون (16)
إن تقرضوا اللّه قرضًا حسنًا يضاعفه لكم ويغفر لكم واللّه شكورٌ حليمٌ (17)
عالم الغيب والشّهادة العزيز الحكيم (18) }
يقول تعالى مخبرًا عن الأزواج والأولاد: إنّ منهم من هو عدوّ الزّوج والوالد، بمعنى: أنّه يلتهى به عن العمل الصّالح، كقوله: {يا أيّها الّذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر اللّه ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون} [المنافقون: 9]؛ ولهذا قال هاهنا: {فاحذروهم} قال ابن زيدٍ: يعني على دينكم.
وقال مجاهدٌ: {إنّ من أزواجكم وأولادكم عدوًّا لكم}
قال: يحمل الرّجل على قطيعة الرّحم أو معصية ربّه، فلا يستطيع الرّجل مع
حبّه إلّا أن يطيعه. وقال ابن أبي حاتمٍ، حدّثنا أبي، حدّثنا محمّد بن خلفٍ
العسقلانيّ حدّثنا الفريابيّ، حدّثنا إسرائيل، حدّثنا سماك بن حربٍ، عن
عكرمة، عن ابن عبّاسٍ -وسأله رجلٌ عن هذه الآية: {يا أيّها الّذين آمنوا إنّ من أزواجكم وأولادكم عدوًّا لكم فاحذروهم}
-قال: فهؤلاء رجالٌ أسلموا من مكّة، فأرادوا أن يأتوا رسول اللّه صلّى
اللّه عليه وسلّم، فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم، فلمّا أتوا رسول اللّه
صلّى اللّه عليه وسلّم رأوا الناس قد فقهوا في الدّين، فهمّوا أن
يعاقبوهم، فأنزل اللّه هذه الآية: {وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإنّ اللّه غفورٌ رحيمٌ}
وكذا رواه التّرمذيّ عن محمّد بن يحيى، عن الفريابيّ -وهو محمّد بن يوسف-به
وقال حسنٌ صحيحٌ. ورواه ابن جريرٍ والطّبرانيّ، من حديث إسرائيل، به وروي
من طريق العوفيّ، عن ابن عبّاسٍ، نحوه، وهكذا قال عكرمة مولاه سواءً).[تفسير القرآن العظيم: 8/138-139]
قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ نَاصِرٍ السّعْدِيُّ (ت: 1376هـ) : ({يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ
عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا
فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ
وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ *}.
(14-15) هذا
تَحْذِيرٌ مِن اللَّهِ للمُؤْمنِينَ عن الاغترارِ بالأزواجِ والأولادِ؛
فإنَّ بعضَهم عَدُوٌّ لكُمْ، والعدُوُّ هو الذي يُريدُ لك الشرَّ،
فوَظيفتُكَ الحذَرُ ممَّن هذه صِفَتُه، والنفْسُ مَجبولةٌ على مَحَبَّةِ
الأزواجِ والأولادِ، فنَصَحَ تعالى عِبادَه أنْ تُوجِبَ لهم هذه المحبَّةُ
الانقيادَ لِمَطالِبِ الأزواجِ والأولادِ، التي فيها مَحذورٌ شَرعيٌّ،
وَرَغَّبَهم في امتثالِ أوامِرِه وتقديمِ مَرضاتِه بما عندَه مِن الأجْرِ
العظيمِ، المشتَمِلِ على الْمَطالِبِ العاليةِ والْمَحَابِّ الغاليةِ، وأنْ
يُؤْثِروا الآخِرَةَ على الدنيا الفانيةِ الْمُنْقَضِيَةِ.
ولَمَّا كانَ النَّهْيُ عن طاعةِ الأزواجِ
والأولادِ فيما هو ضَرَرٌ على العبْدِ والتحذيرُ مِن ذلكَ قدْ يُوهِمُ
الغِلْظةَ عليهم وعِقابَهم، أمَرَ تعالى بالحذَرِ مِنهم والصَّفْحِ عنهم
والعفْوِ؛ فإنَّ في ذلك مِن الْمَصالِحِ ما لا يُمْكِنُ حَصْرُه، فقالَ: {وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}؛
لأنَّ الجزاءَ مِن جِنْسِ العمَلِ، فمَن عَفَا عفَا اللَّهُ عنه، ومَن
صَفَحَ صَفَحَ اللَّهُ عنه، ومَن عامَلَ اللَّهَ تعالى فيما يُحِبُّ
وعامَلَ عِبادَه بما يُحِبُّونَ ويَنْفَعُهم، نالَ مَحَبَّةَ اللَّهِ
ومَحَبَّةَ عِبادِه واسْتَوْسَقَ له أَمْرُه). [تيسير الكريم الرحمن: 868]
قالَ مُحَمَّدُ سُلَيْمَان الأَشْقَرُ (1430هـ) : (14- {عَدُوًّا لَكُمْ}
يَعنِي أنهم يَشغَلونَكم عن الخيْرِ. سببُ النزولِ أنَّ رِجالاً مِن مكةَ
أسْلَمُوا وأرادوا أنْ يُهاجِروا، فلم يَدَعْهم أزواجُهم وأولادُهم. وقالَ
مجاهِدٌ: واللهِ ما عَادَوْهُمْ في الدنيا ولكنْ حَمَلَتْهُم مَوَدَّتُهم
على أنِ اتَّخَذُوا لهم الحرامَ فأَعْطَوْهُم إيَّاه.
{فَاحْذَرُوهُمْ}
أي: احْذَرُوا الأزواجَ والأولادَ أنْ تُؤْثِرُوا حُبَّكُم لهم وشَفَقَتَكم
عليهم على طاعةِ اللهِ، ولا يَحْمِلْكُم ما تَرغبونَه لهم مِن الخيْرِ على
أنْ تَكْسِبُوا لهم رِزقاً بِمَعصيةِ اللهِ.
{وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا} أيْ:تَعفُوا عن ذُنوبِهم التي ارْتَكَبُوها، وتَتركوا التثريبَ عليها، وتَسْتُرُوها.
{فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}
لكم ولهم, قِيلَ: كان الرجُلُ الذي ثَبَّطَه أزواجُه وأولادُه عن الهجرةِ
إذا رأى الناسَ سَبَقُوه إليها وفَقِهُوا في الدِّينِ هَمَّ أنْ يُعاقِبَ
أزواجَه وأولادَه). [زبدة التفسير: 557]
تفسير قوله تعالى: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) )
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله: {إنّما أموالكم وأولادكم فتنةٌ واللّه عنده أجرٌ عظيمٌ} يقول تعالى: إنّما الأموال والأولاد فتنةٌ، أي: اختبارٌ وابتلاءٌ من اللّه لخلقه. ليعلم من يطيعه ممّن يعصيه.
وقوله: {واللّه عنده} أي: يوم القيامة {أجرٌ عظيمٌ} كما قال: {زيّن
للنّاس حبّ الشّهوات من النّساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذّهب
والفضّة والخيل المسوّمة والأنعام والحرث+ [ذلك متاع الحياة الدّنيا واللّه
عنده حسن المآب} والّتي بعدها] [آل عمران: 14، 15]
وقال الإمام أحمد: حدّثنا زيد بن الحباب، حدّثني حسين بن واقدٍ، حدّثني عبد
اللّه بن بريدة، سمعت أبي بريدة يقول: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه
وسلّم يخطب، فجاء الحسن والحسين، رضي اللّه عنهما، عليهما قميصان أحمران
يمشيان ويعثران، فنزل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من المنبر فحملهما
فوضعهما بين يديه، ثمّ قال: "صدق اللّه ورسوله، إنّما أموالكم وأولادكم
فتنةٌ، نظرت إلى هذين الصّبيّين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتّى قطعت حديثي
ورفعتهما".
ورواه أهل السّنن من حديث حسين بن واقدٍ، به وقال التّرمذيّ: حسنٌ غريبٌ، إنّما نعرفه من حديثه.
وقال الإمام أحمد: حدّثنا سريج بن النّعمان، حدّثنا هشيم، أخبرنا مجالدٌ،
عن الشّعبيّ، حدّثنا الأشعث بن قيسٍ قال: قدمت على رسول اللّه صلّى اللّه
عليه وسلّم في وفد كندة، فقال لي: "هل لك من ولدٍ؟ " قلت: غلامٌ ولد لي في
مخرجي إليك من ابنة جمدٍ، ولوددت أنّ بمكانه: شبع القوم. قال: "لا تقولنّ
ذلك، فإنّ فيهم قرّة عينٍ، وأجرًا إذا قبضوا"، ثمّ قال: "ولئن قلت ذاك:
إنّهم لمجبنةٌ محزنة" تفرّد به أحمد رحمه اللّه تعالى.
وقال الحافظ أبو بكرٍ البزّار: حدّثنا محمود بن بكرٍ، حدّثنا أبي، عن عيسى
[بن أبي وائلٍ] عن ابن أبي ليلى، عن عطيّة، عن أبي سعيدٍ قال: قال رسول
اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "الولد ثمرة القلوب، وإنّهم مجبنة مبخلة
محزنةٌ" ثمّ قال: لا يعرف إلّا بهذا الإسناد
وقال الطّبرانيّ: حدّثنا هاشم بن مرثدٍ حدّثنا محمّد بن إسماعيل بن عيّاشٍ،
حدّثني أبي، حدّثني ضمضم بن زرعة، عن شريح بن عبيدٍ، عن أبي مالكٍ
الأشعريّ؛ أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "ليس عدوّك الّذي إن
قتلته كان فوزًا لك، وإن قتلك دخلت الجنّة، ولكنّ الّذي لعلّه عدوٌّ لك
ولدك الّذي خرج من صلبك، ثمّ أعدى عدوٍّ لك مالك الّذي ملكت يمينك").[تفسير القرآن العظيم: 8/139-140]
قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ نَاصِرٍ السّعْدِيُّ (ت: 1376هـ) : ({يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ
عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا
فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ
وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ *}.
(14-15) هذا
تَحْذِيرٌ مِن اللَّهِ للمُؤْمنِينَ عن الاغترارِ بالأزواجِ والأولادِ؛
فإنَّ بعضَهم عَدُوٌّ لكُمْ، والعدُوُّ هو الذي يُريدُ لك الشرَّ،
فوَظيفتُكَ الحذَرُ ممَّن هذه صِفَتُه، والنفْسُ مَجبولةٌ على مَحَبَّةِ
الأزواجِ والأولادِ، فنَصَحَ تعالى عِبادَه أنْ تُوجِبَ لهم هذه المحبَّةُ
الانقيادَ لِمَطالِبِ الأزواجِ والأولادِ، التي فيها مَحذورٌ شَرعيٌّ،
وَرَغَّبَهم في امتثالِ أوامِرِه وتقديمِ مَرضاتِه بما عندَه مِن الأجْرِ
العظيمِ، المشتَمِلِ على الْمَطالِبِ العاليةِ والْمَحَابِّ الغاليةِ، وأنْ
يُؤْثِروا الآخِرَةَ على الدنيا الفانيةِ الْمُنْقَضِيَةِ.
ولَمَّا كانَ النَّهْيُ عن طاعةِ الأزواجِ
والأولادِ فيما هو ضَرَرٌ على العبْدِ والتحذيرُ مِن ذلكَ قدْ يُوهِمُ
الغِلْظةَ عليهم وعِقابَهم، أمَرَ تعالى بالحذَرِ مِنهم والصَّفْحِ عنهم
والعفْوِ؛ فإنَّ في ذلك مِن الْمَصالِحِ ما لا يُمْكِنُ حَصْرُه، فقالَ: {وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}؛
لأنَّ الجزاءَ مِن جِنْسِ العمَلِ، فمَن عَفَا عفَا اللَّهُ عنه، ومَن
صَفَحَ صَفَحَ اللَّهُ عنه، ومَن عامَلَ اللَّهَ تعالى فيما يُحِبُّ
وعامَلَ عِبادَه بما يُحِبُّونَ ويَنْفَعُهم، نالَ مَحَبَّةَ اللَّهِ
ومَحَبَّةَ عِبادِه واسْتَوْسَقَ له أَمْرُه). [تيسير الكريم الرحمن: 868] (م)
قالَ مُحَمَّدُ سُلَيْمَان الأَشْقَرُ (1430هـ) : (15- {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} أيْ: بلاءٌ واختبارٌ ومِحْنَةٌ، يَحمِلُونَكم على كَسْبِ الحرامِ، ومنْعِ حقِّ اللهِ.
{وَاللهُ عِنْدَهُ أجْرٌ عَظِيمٌ}لِمَنْ آثَرَ طاعةَ اللهِ وتَرْكَ مَعصيتِه في مَحَبَّةِ مالِه ووَلَدِه). [زبدة التفسير: 557]
تفسير
قوله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا
وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ
نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) )
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله تعالى: {فاتّقوا الله ما استطعتم}
أي: جهدكم وطاقتكم. كما ثبت في الصّحيحين عن أبي هريرة، رضي اللّه عنه،
قال: قال رسول اللّه صلّى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمرٍ فائتوا منه ما
استطعتم، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه"
وقد قال بعض المفسّرين -كما رواه مالكٌ، عن زيد بن أسلم-إنّ هذه الآية
العظيمة ناسخةٌ للّتي في "آل عمران" وهي قوله:} يا أيّها الّذين آمنوا
اتّقوا اللّه حقّ تقاته ولا تموتنّ إلا وأنتم مسلمون} [آل عمران: 102]
قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبو زرعة، حدّثني يحيى بن عبد اللّه بن بكير،
حدّثني ابن لهيعة، حدّثني عطاءٌ -هو ابن دينارٍ-عن سعيد بن جبيرٍ في قوله: {اتّقوا اللّه حقّ تقاته ولا تموتنّ إلا وأنتم مسلمون} قال: لمّا نزلت الآية اشتدّ على القوم العمل، فقاموا حتّى ورمت عراقيبهم وتقرّحت جباههم، فأنزل اللّه تخفيفًا على المسلمين: {فاتّقوا اللّه ما استطعتم} فنسخت الآية الأولى.
وروي عن أبي العالية، وزيد بن أسلم، وقتادة، والرّبيع بن أنسٍ، والسّدّيّ، ومقاتل بن حيّان، نحو ذلك.
وقوله: {واسمعوا وأطيعوا}
أي: كونوا منقادين لما يأمركم اللّه به ورسوله، ولا تحيدوا عنه يمنةً ولا
يسرةً، ولا تقدّموا بين يدي اللّه ورسوله، ولا تتخلّفوا عمّا به أمرتم، ولا
تركبوا ما عنه زجرتم.
وقوله تعالى: {وأنفقوا خيرًا لأنفسكم}
أي: وابذلوا ممّا رزقكم اللّه على الأقارب والفقراء والمساكين وذوي
الحاجات، وأحسنوا إلى خلق اللّه كما أحسن إليكم، يكن خيرًا لكم في الدّنيا
والآخرة، وإن لا تفعلوا يكن شرًّا لكم في الدّنيا والآخرة.
وقوله: {ومن يوق شحّ نفسه فأولئك هم المفلحون} تقدّم تفسيره في سورة "الحشر" وذكر الأحاديث الواردة في معنى هذه الآية، بما أغنى عن إعادته ها هنا، وللّه الحمد والمنّة).[تفسير القرآن العظيم: 8/140-141]
قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ نَاصِرٍ السّعْدِيُّ (ت: 1376هـ) : ({فَاتَّقُوا
اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً
لأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ * إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ
لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ * عَالِمُ الْغَيْبِ
وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.
(16) يَأْمُرُ تعالى بتَقواهُ التي هي امتثالُ أوامِرِه واجتنابُ نَواهيِهِ، وقَيَّدَ ذلكَ بالاستطاعةِ والقُدْرةِ.
فهذهِ الآيةُ تَدُلُّ على أنَّ كُلَّ واجبٍ
عَجَزَ عنه العَبْدُ يَسقُطُ عنه، وأنَّه إذا قَدَرَ على بعضِ المأمورِ
وعَجَزَ عن بعضِه، فإِنَّه يَأتِي بما يَقْدِرُ عليهِ ويَسْقُطُ عنه ما
يَعْجِزُ عنه؛ كما قالَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ: ((إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ، فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ)).
ويَدخُلُ تحتَ هذهِ القاعدةِ الشرعيَّةِ مِن الفُروعِ ما لا يَدْخُلُ تحتَ الْحَصْرِ.
وقولُه: {وَاسْمَعُوا}؛ أي: اسْمَعُوا ما يَعِظُكُم اللَّهُ به وما يَشْرَعُه لكُمْ مِن الأحكامِ، واعْلَمُوا ذلكَ وانْقَادُوا له.
{وَأَطِيعُوا} اللَّهَ ورسولَه في جميعِ أُمورِكُم.
{وَأَنْفِقُوا} مِن
النَّفَقاتِ الشرعيَّةِ الواجبةِ والْمُسْتَحَبَّةِ، يَكُنْ ذلك الفِعْلُ
منكم خيراً لكم في الدنيا والآخِرَةِ؛ فإنَّ الخيرَ كلَّه في امتثالِ
أوامِرِ اللَّهِ تعالى وقَبُولِ نَصائحِه والانقيادِ لشَرْعِه، والشرَّ
كلَّه في مخالَفَةِ ذلك.
ولَكِنْ ثَمَّ آفَةٌ تَمْنَعُ كثيراً مِن
الناسِ مِن النَّفقةِ المأمورِ بها، وهو الشُّحُّ الْمَجبولةُ عليه أكثَرُ
النفوسِ؛ فإِنَّها تَشُحُّ بالمالِ وتُحِبُّ وُجودَه وتَكْرَهُ خُروجَه مِن
اليَدِ غايةَ الكَراهةِ.
فمَن وَقاهُ اللَّهُ تعالى {شُحَّ نَفْسِهِ} بأنْ سَمَحَتْ نفْسُه بالإنفاقِ النافعِ لها {فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}؛ لأنَّهم أدْرَكُوا المَطْلوبَ ونَجَوْا مِن المَرْهوبِ، بل لعلَّ ذلك شامِلٌ لكلِّ ما أُمِرَ به العبدُ ونُهِيَ عنه.
فإنَّه إنْ كانَتْ نفْسُه شَحيحةً لا تَنْقَادُ
لِمَا أُمِرَتْ به ولا تُخْرِجُ ما قِبَلَها لم يُفْلِحْ، بل خَسِرَ
الدنيا والآخِرَةَ.
وإنْ كانَتْ نفْسُه نفْساً سَمْحَةً
مُطمَئِنَّةً مُنشَرِحَةً لشَرْعِ اللَّهِ، طالبةً لِمَرضاتِه؛ فإِنَّها
ليسَ بينَها وبينَ فِعْلِ ما كُلِّفَتْ به إلاَّ العلْمُ به ووُصولُ
مَعْرِفَتِه إليها، والبصيرةُ بأنَّه مُرْضٍ لِلَّهِ تعالى، وبذلكَ
تُفْلِحُ وتَنْجَحُ وتَفُوزُ كلَّ الفَوْزِ). [تيسير الكريم الرحمن: 868-869]
قالَ مُحَمَّدُ سُلَيْمَان الأَشْقَرُ (1430هـ) : (16- {فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} أيْ: ما أَطَقْتُم وبَلَغَ إليه جُهْدُكم.
{وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا} أي:اسْمَعوا وأَطِيعوا أوامِرَ اللهِ ورسولِه.
{وَأَنفِقُوا خَيْراً لِأَنفُسِكُمْ} أيْ: أَنفِقُوا مِن أموالِكم التي رَزَقَكم اللهُ إيَّاها في وُجوهِ الخيرِ، ولا تَبْخَلُوا بها، وقَدِّمُوا خيراً لأنفُسِكم.
{وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}
أيْ: مَن وَقاهُ اللهُ مِن داءِ البُخْلِ فأَنْفَقَ في سبيلِ اللهِ
وأبوابِ الخيرِ، فأولئكَ هم الظافِرونَ بكلِّ خيرٍ الفائزونَ بكُلِّ
مَطلَبٍ). [زبدة التفسير: 557]
تفسير قوله تعالى: (إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) )
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله: {إن تقرضوا اللّه قرضًا حسنًا يضاعفه لكم ويغفر لكم}
أي: مهما أنفقتم من شيءٍ فهو يخلفه، ومهما تصدّقتم من شيءٍ فعليه جزاؤه،
ونزل ذلك منزلة القرض له، كما ثبت في الصّحيح أنّ اللّه تعالى يقول: "من
يقرض غير ظلومٍ ولا عديمٍ " ولهذا قال: {يضاعفه لكم} كما تقدّم في سورة البقرة: {فيضاعفه له أضعافًا كثيرةً} [البقرة: 245]
{ويغفر لكم} أي: ويكفّر عنكم السّيّئات. ولهذا قال: {واللّه شكورٌ} أي: يجزي على القليل بالكثير {حليمٌ} أي: [يعفو و] يصفح ويغفر ويستر، ويتجاوز عن الذّنوب والزّلّات والخطايا والسّيّئات).[تفسير القرآن العظيم: 8/141]
قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ نَاصِرٍ السّعْدِيُّ (ت: 1376هـ) : ( (17) ثُمَّ رَغَّبَ تعالَى في النَّفَقَةِ فقالَ: {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً}. وهو كُلُّ نَفَقَةٍ كانَتْ مِن الحلالِ إذا قَصَدَ بها العبْدُ وَجْهَ اللَّهِ تعالى ووَضَعَها مَوْضِعَها، {يُضَاعِفْهُ لَكُمْ}؛ النفقَةُ بعَشْرِ أمثالِها إلى سبْعِمائةِ ضِعْفٍ إلى أضعافٍ كثيرةٍ، {وَ} معَ المضاعَفَةِ أيضاً {يَغْفِرْ} اللَّهُ {لَكُمْ}؛بسببِ الإنفاقِ والصدَقَةِ ذُنوبَكم.
فإنَّ الذُّنوبَ يُكَفِّرُها اللَّهُ بالصدَقَاتِ والْحَسَناتِ؛ {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}.
{وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ} لا يُعاجِلُ مَن عَصاهُ، بل يُمْهِلُه ولا يُهْمِلُه، {وَلَوْ
يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا
مِن دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى}.
واللَّهُ تعالى شَكورٌ يَقبَلُ مِن عِبادِه
اليَسيرَ مِن العَمَلِ، ويُجازِيهِم عليه الكثيرَ مِن الأجْرِ، ويَشكُرُ
تعالى لِمَن تَحَمَّلَ مِن أجْلِه الْمَشاقَّ والأثقالَ وأنواعَ التكاليفِ
الثِّقالِ، ومَن تَرَكَ شيئاً للهِ، عَوَّضَه اللَّهُ خيراً منه). [تيسير الكريم الرحمن: 869]
قالَ مُحَمَّدُ سُلَيْمَان الأَشْقَرُ (1430هـ) : (17- {إِن تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً} فتَصْرِفوا أموالَكم في وُجوهِ الخيرِ بإخلاصِ نِيَّةٍ وطِيبِ نفْسٍ.
{يُضَاعِفْهُ لَكُمْ} فيَجعلِ الحسنَةَ بعشْرِ أمثالِها إلى سبعِمائةِ ضِعْفٍ.
{وَيَغْفِرْ لَكُمْ} أيْ: يَضُمُّ لكم إلى تلك الْمُضاعَفَةِ غُفرانَ ذُنوبِكم.
{وَاللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ} يُثيبُ مَن أطاعَه بأضعافٍ مُضاعَفَةٍ، ولا يُعاجِلُ مَن عَصاهُ بالعُقوبةِ). [زبدة التفسير: 557]
تفسير قوله تعالى: (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) )
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {عالم الغيب والشّهادة العزيز الحكيم} تقدّم تفسيره غير مرة).[تفسير القرآن العظيم: 8/141]
قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ نَاصِرٍ السّعْدِيُّ (ت: 1376هـ) : ( (18) {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ}؛ أيْ: ما غابَ مِن العِبادِ مِن الجنودِ التي لا يَعلَمُها إلاَّ هو، وما يُشاهِدُونَه مِن المَخلوقاتِ.
{الْعَزِيزُ} الذي لا يُغالَبُ ولا يُمَانَعُ، الذي قَهَرَ جميعَ الأشياءِ.
{الْحَكِيمُ} في خَلْقِه وأَمْرِه، الذي يَضَعُ الأشياءَ مَواضِعَها.
تَمَّ تفسيرُ السورةِ وللهِ الحمْدُ). [تيسير الكريم الرحمن: 869]
* للاستزادة ينظر: هنا