24 Aug 2015
تفسير
قوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ
ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ
وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ
يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4) ذَلِكَ أَمْرُ
اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ
سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5) أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ
سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا
عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى
يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ
وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ
لَهُ أُخْرَى (6) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ
عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ
اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ
يُسْرًا (7) }
قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ نَاصِرٍ السّعْدِيُّ (ت: 1376هـ) : ({وَاللاَّئِي
يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ
فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاَتُ
الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ
يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً * ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ
إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ
وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً *}.
(4) لَمَّا ذَكَرَ تعالى أنَّ الطلاقَ المأمورَ به يَكُونُ لعِدَّةِ النساءِ، ذَكَرَ العِدَّةَ، فقالَ: {وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ}:
بأنْ كُنَّ يَحِضْنَ ثم ارْتفَعَ حَيْضُهُنَّ لكِبَرٍ أو غيرِه ولم يُرْجَ
رُجوعُه؛ فإنَّ عِدَّتَها ثلاثةُ أشْهُرٍ، جعَلَ كلَّ شَهْرٍ مقابَلَةَ
حَيْضَةٍ.
{وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ}؛
أي: الصِّغارُ اللائِي لم يَأتِهِنَّ الحَيْضُ بعدُ، أو البالغاتُ اللاتِي
لم يَأتِهِنَّ حيْضٌ بالكُلِّيَّةِ، فإنَّهنَّ كالآيِساتِ، عدَّتُهُنَّ
ثَلاثةُ أشْهُرٍ.
وأمَّا اللائِي يَحِضْنَ، فذكَرَ اللَّهُ عِدَّتَهُنَّ في قولِه: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ}.
وقولُه: {وَأُولاَتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ}؛ أيْ: عِدَّتُهُنَّ, {أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}؛ أيْ: جميعَ ما في بُطُونِهِنَّ مِن واحدٍ ومُتَعَدِّدٍ، ولا عِبرةَ حينَئذٍ بالأشْهُرِ ولا غيرِها.
{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً}؛ أي: مَنِ اتَّقَى اللَّهَ يَسَّرَ له الأمورَ، وسَهَّلَ عليه كُلَّ عَسيرٍ). [تيسير الكريم الرحمن: 871]
قالَ مُحَمَّدُ سُلَيْمَان الأَشْقَرُ (1430هـ) : (4- {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ} وهُنَّ الكِبارُ اللاتي قد انقَطَعَ حَيْضُهُنَّ وأَيِسْنَ منه.
{إِنِ ارْتَبْتُمْ} أيْ: شَكَكْتُم وجَهِلْتُم كيف عِدَّتُهُنَّ.
{فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} لصِغَرِهِنَّ، وعدَمِ بلُوغِهِنَّ سِنَّ الْمَحيضِ، أيْ: فعِدَّتُهُنَّ ثلاثةُ أشْهُرٍ.
{وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} أيْ: إنَّ انتهاءَ عِدَّتِهِنَّ يَتِمُّ بوضْعِ الحمْلِ.
{وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} قالَ الضحَّاكُ: مَن يَتَّقِ اللهَ فيُطَلِّقْ للسنَّةِ، يَجعَلْ له مِن أمْرِه يُسراً في الرَّجعةِ). [زبدة التفسير: 558] قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ نَاصِرٍ السّعْدِيُّ (ت: 1376هـ) : ({ذَلِكَ}؛ أي: الحُكْمُ الذي بَيَّنَه اللَّهُ لكُمْ {أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ}؛ لتَمْشُوا عليهِ وتَأْتَمُّوا به وتُعَظِّمُوهُ.
{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً}؛ أيْ: يَندفِعْ عنه المحذورُ ويَحْصُلْ له المطلوبُ). [تيسير الكريم الرحمن: 871]
قالَ مُحَمَّدُ سُلَيْمَان الأَشْقَرُ (1430هـ) : (5- {وَيُعْظِمْ لَهُأَجْراً} أيْ: يُعْطِه مِن الأجْرِ في الآخِرَةِ أَجْراً عَظيماً وهو الجنَّةُ). [زبدة التفسير: 558] قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ نَاصِرٍ السّعْدِيُّ (ت: 1376هـ) : ({أَسْكِنُوهُنَّ
مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلاَ تُضَارُّوهُنَّ
لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاَتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا
عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ
فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ
تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى * لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ
سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ
اللَّهُ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ
اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً *}.
(6) تَقَدَّمَ أنَّ اللَّهَ نَهَى عن إخراجِ
الْمُطَلَّقَاتِ عن البُيوتِ، وهنا أمَرَ بإسكانِهِنَّ وَقَدَّرَ
إسكانَهُنَّ بالمعروفِ، وهو البيتُ الذي يَسكُنُه مِثلُه ومِثلُها، بحَسَبِ
وُجْدِ الزوجِ وعُسْرِه.
{وَلاَ تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ}؛
أيْ: لا تُضَارُّوهُنَّ عندَ سُكناهُنَّ بالقولِ أو الفعْلِ، لأجْلِ أنْ
يَمْلَلْنَ فيَخْرُجْنَ مِن البيوتِ قبلَ تَمامِ العِدَّةِ، فتَكونوا أنتُم
الْمُخْرِجِينَ لَهُنَّ.
وحاصِلُ هذا أنَّه نَهَى عن إخراجِهنَّ،
ونَهاهُنَّ عن الخروجِ، وأَمَرَ بسُكناهُنَّ على وجهٍ لا يَحصُلُ عليهنَّ
ضَرَرٌ ولا مَشَقَّةٌ، وذلكَ راجعٌ إلى العُرْفِ.
{وَإِنْ كُنَّ}؛ أي: الْمُطَلَّقَاتُ {أُولاَتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}؛
وذلك لأجْلِ الحَمْلِ الذي في بَطْنِها إنْ كانَتْ بائِناً، ولها
ولِحَمْلِها إنْ كانَتْ رَجعِيَّةً، ومُنْتَهَى النفقَةِ إلى وضْعِ
الحمْلِ. قالَ مُحَمَّدُ سُلَيْمَان الأَشْقَرُ (1430هـ) : (6- {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم} هذا بيانُ ما يَجِبُ للمُطَلَّقاتِ مِن السُّكْنَى، أيْ: أَسْكِنُوهُنَّ في بعضِ مَكانِ سُكناكُم.
{مِن وُجْدِكُمْ}
أيْ: مِن سَعَتِكم وطَاقَتِكم، وهذا في الْمُطَلَّقَةِ الرَّجعِيَّةِ,
أمَّا التي طُلِّقَتِ الثالثةَ فإنها لا نَفقةَ لها ولا سُكْنَى.
{وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} في الْمَسكنِ أو النفَقَةِ.
{وَإِن كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}.
ولا خِلافَ بينَ العُلماءِ في وُجوبِ النَّفَقَةِ والسُّكْنَى للحامِلِ الْمُطَلَّقَةِ.
{فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ} أيْ: أَرْضَعْنَ أولادَكم بعدَ ذلك.
{فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} أيْ: أُجورَ إرضاعِهِنَّ.
{وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ}
هو خِطابٌ للأزواجِ والزوجاتِ الذينَ وَقَعَ بينَهم الفِراقُ بالطلاقِ،
أيْ: تَشاوَرُوا بينَكم بما هو معروفٌ غيرُ مُنْكَرٍ، ولْيَقْبَلْ بعضُكم
مِن بعضٍ المعروفَ والجميلَ في شأنِ الولَدِ، وهذا كما قالَ اللهُ تعالى في
الآيةِ (233) مِن سورةِ البَقرةِ: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا}.
{وَإِن تَعَاسَرْتُمْ}
أيْ: في أجْرِ الرَّضاعِ فأَبَى الزوجُ أنْ يُعطيَ الأمَّ الأجْرَ الذي
تُريدُ، وأَبَتِ الأمُّ أنْ تُرضِعَه إلا بما تُريدُ مِن الأجْرِ.
{فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} أيْ: يَستأجِرُ مُرضِعَةًأُخرى تُرْضِعُ وَلدَه). [زبدة التفسير: 558-559] قالَ مُحَمَّدُ سُلَيْمَان الأَشْقَرُ (1430هـ) : (7- {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ} فيه الأمرُ لأهلِ السَّعَةِ بأنْ يُوَسِّعُوا على الْمُرْضِعات مِن نسائِهم على قدْرِ سَعَتِهم.
{وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} أيْ: كان مُضَيَّقاً عليه في الرزْقِ فَقيراً.
{فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} أيْ: مما أَعطاهُ اللهُ مِن الرزْقِ، ليس عليه غيرُ ذلك.
{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} أيْ: ما أَعطَاها مِن الرزْقِ، فلا يُكَلِّفُ الفقيرَ بأنْ يُنفِقَ ما ليس في وُسْعِه كنَفقةِ الغَنِيِّ.
{سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} أيْ: بعدَ ضِيقٍ وشِدَّةٍ سَعةً وغِنًى). [زبدة التفسير: 559]
تفسير
قوله تعالى: (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ
ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ
وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ
يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4) )
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {واللّائي
يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدّتهنّ ثلاثة أشهرٍ واللّائي لم
يحضن وأولات الأحمال أجلهنّ أن يضعن حملهنّ ومن يتّق اللّه يجعل له من أمره
يسرًا (4) ذلك أمر اللّه أنزله إليكم ومن يتّق اللّه يكفّر عنه سيّئاته
ويعظم له أجرًا (5) }
يقول تعالى مبيّنًا لعدّة الآيسة -وهي الّتي قد انقطع عنها الحيض لكبرها-:
أنّها ثلاثة أشهرٍ، عوضًا عن الثّلاثة قروءٍ في حقّ من تحيض، كما دلّت على
ذلك آية "البقرة" وكذا الصّغار اللّائي لم يبلغن سنّ الحيض أنّ عدّتهنّ
كعدّة الآيسة ثلاثة أشهرٍ؛ ولهذا قال: {واللائي لم يحضن}
وقوله: {إن ارتبتم} فيه قولان:
أحدهما -وهو قول طائفةٍ من السّلف، كمجاهدٍ، والزّهريّ، وابن زيدٍ-: أي إن رأين دمًا وشككتم في كونه حيضًا أو استحاضةً، وارتبتم فيه.
والقول الثّاني: إن ارتبتم في حكم عدّتهنّ، ولم تعرفوه فهو ثلاث أشهرٍ.
وهذا مرويٌّ، عن سعيد بن جبيرٍ. وهو اختيار ابن جريرٍ، وهو أظهر في المعنى،
واحتجّ عليه بما رواه عن أبي كريب وأبي السّائب قالا حدّثنا ابن إدريس،
أخبرنا مطرّفٌ، عن عمرو بن سالمٍ قال: قال أبيّ بن كعبٍ: يا رسول اللّه،
إنّ عددًا من عدد النّساء لم تذكر في الكتاب: الصّغار والكبار وأولات
الأحمال قال: فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدّتهنّ ثلاثة أشهرٍ واللائي لم يحضن وأولات الأحمال أجلهنّ أن يضعن حملهنّ}
ورواه ابن أبي حاتمٍ بأبسط من هذا السّياق فقال: حدّثنا أبي، حدّثنا يحيى
بن المغيرة، أخبرنا جريرٌ، عن مطرّف، عن عمر بن سالمٍ، عن أبيّ بن كعبٍ
قال: قلت لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: إن ناسًا من أهل المدينة لمّا
أنزلت هذه الآية الّتي في "البقرة" في عدّة النّساء قالوا: لقد بقي من
عدّة النّساء عددٌ لم يذكرن في القرآن: الصّغار والكبار اللّائي قد انقطع
عنهنّ الحيض، وذوات الحمل. قال: فأنزلت الّتي في النّساء القصرى: {واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدّتهنّ ثلاثة أشهرٍ واللائي لم يحضن}
وقوله: {وأولات الأحمال أجلهنّ أن يضعن حملهنّ}
يقول تعالى: ومن كانت حاملًا فعدّتها بوضعه، ولو كان بعد الطّلاق أو الموت
بفواق ناقةٍ في قول جمهور العلماء من السّلف والخلف، كما هو نصّ هذه الآية
الكريمة، وكما وردت به السّنّة النّبويّة. وقد روي عن عليٍّ، وابن عبّاسٍ،
رضي اللّه عنهم أنّهما ذهبا في المتوفّى عنها زوجها أنّها تعتدّ بأبعد
الأجلين من الوضع أو الأشهر، عملًا بهذه الآية الكريمة، والّتي في سورة
"البقرة". وقد قال البخاريّ:
حدّثنا سعد بن حفصٍ، حدّثنا شيبان، عن يحيى قال: أخبرني أبو سلمة قال: جاء
رجلٌ إلى ابن عبّاسٍ -وأبو هريرة جالسٌ-فقال: أفتني في امرأةٍ ولدت بعد
زوجها بأربعين ليلةً. فقال: ابن عبّاسٍ آخر الأجلين. قلت أنا: {وأولات الأحمال أجلهنّ أن يضعن حملهنّ}
قال أبو هريرة: أنا مع ابن أخي -يعني أبا سلمة-فأرسل ابن عبّاسٍ غلامه
كريبًا إلى أمّ سلمة يسألها، فقالت: قتل زوج سبيعة الأسلميّة وهي حبلى،
فوضعت بعد موته بأربعين ليلةً، فخطبت، فأنكحها رسول اللّه صلّى اللّه عليه
وسلّم، وكان أبو السّنابل فيمن خطبها
هكذا أورد البخاري هذا الحديث هاهنا مختصرًا. وقد رواه هو ومسلمٌ وأصحاب الكتب مطوّلًا من وجوهٍ أخر وقال الإمام أحمد:
حدّثنا حمّاد بن أسامة، أخبرنا هشامٌ، عن أبيه، عن المسور بن مخرمة؛ أنّ
سبيعة الأسلميّة توفي عنها زوجها وهي حاملٌ، فلم تمكث إلّا ليالي حتّى
وضعت، فلمّا تعلّت من نفاسها خطبت، فاستأذنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه
وسلّم في النّكاح، فأذن لها أن تنكح فنكحت.
ورواه البخاريّ في صحيحه، ومسلمٌ، وأبو داود، والنّسائيّ، وابن ماجه من طرقٍ عنها كما قال مسلم ابن الحجّاج:
حدّثني أبو الطّاهر، أخبرنا ابن وهبٍ، حدّثني يونس بن يزيد، عن ابن شهابٍ،
حدّثني عبيد اللّه بن عبد اللّه بن عتبة: أنّ أباه كتب إلى عمر بن عبد
اللّه بن الأرقم الزّهريّ يأمره أن يدخل على سبيعة بنت الحارث الأسلميّة
فيسألها عن حديثها وعمّا قال لها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حين
استفتته. فكتب عمر بن عبد اللّه يخبره أنّ سبيعة أخبرته أنّها كانت تحت سعد
بن خولة -وكان ممّن شهد بدرًا-فتوفّي عنها في حجّة الوداع وهي حاملٌ، فلم
تنشب أن وضعت حملها بعد وفاته، فلمّا تعلّت من نفاسها تجمّلت للخطّاب، فدخل
عليها أبو السّنابل بن بعكك فقال لها: مالي أراك متجمّلةً؟ لعلّك ترجين
النّكاح، إنّك واللّه ما أنت بناكحٍ حتّى تمر عليك أربعة أشهرٍ وعشرٌ. قالت
سبيعة: فلمّا قال لي ذلك جمعت عليّ ثيابي حين أمسيت فأتيت رسول اللّه صلّى
اللّه عليه وسلّم فسألته عن ذلك، فأفتاني بأنّي قد حللت حين وضعت حملي،
وأمرني بالتّزويج إن بدا لي.
هذا لفظ مسلمٍ. ورواه البخاريّ مختصرًا ثمّ قال البخاريّ بعد [ذلك، أي: بعد] رواية الحديث الأوّل عند هذه الآية:
وقال سليمان بن حربٍ وأبو النّعمان: حدّثنا حمّاد بن زيدٍ، عن أيّوب، عن
محمّدٍ -هو ابن سيرين-قال: كنت في حلقةٍ فيها عبد الرّحمن بن أبي ليلى،
رحمه اللّه، وكان أصحابه يعظّمونه، فذكر آخر الأجلين، فحدّثت بحديث سبيعة
بنت الحارث عن عبد اللّه بن عتبة، قال: فضمّزلي بعض أصحابه، وقال محمّدٌ:
ففطنت له فقلت: له إنّي لجريءٌ أن أكذب على عبد اللّه وهو في ناحية الكوفة.
قال: فاستحيا وقال: لكنّ عمّه لم يقل ذلك. فلقيت أبا عطيّة مالك بن عامرٍ
فسألته، فذهب يحدّثني بحديث سبيعة، فقلت: هل سمعت عن عبد اللّه شيئًا؟
فقال: كنّا عند عبد اللّه فقال: أتجعلون عليها التّغليظ، ولا تجعلون عليها
الرّخصة؟ نزلت سورة النّساء القصرى بعد الطّولى: {وأولات الأحمال أجلهنّ أن يضعن حملهنّ}
ورواه ابن جريرٍ، من طريق سفيان بن عيينة وإسماعيل بن عليّة، عن أيّوب به
مختصرًا ورواه النّسائيّ في التّفسير عن محمّد بن عبد الأعلى، عن خالدٍ بن
الحارث، عن ابن عونٍ، عن محمّد بن سيرين، فذكره
وقال ابن جريرٍ: حدّثني زكريّا بن يحيى بن أبانٍ المصريّ، حدّثنا سعيد بن
أبي مريم، حدّثنا محمّد بن جعفر، حدّثني ابن شبرمة الكوفيّ، عن إبراهيم، عن
علقمة بن قيسٍ؛ أنّ عبد اللّه بن مسعودٍ قال: من شاء لاعنته، ما نزلت: {وأولات الأحمال أجلهنّ أن يضعن حملهنّ} إلّا بعد آية المتوفّى عنها زوجها. قال: وإذا وضعت المتوفّى عنها زوجها فقد حلّت. يريد بآية المتوفّى عنها زوجها {والّذين يتوفّون منكم ويذرون أزواجًا يتربّصن بأنفسهنّ أربعة أشهرٍ وعشرًا} [البقرة: 234]
وقد رواه النّسائيّ من حديث سعيد بن أبي مريم، به ثمّ قال ابن جريرٍ:
حدّثنا أحمد بن منيع، حدّثنا محمّد بن عبيدٍ، حدّثنا إسماعيل بن أبي خالدٍ،
عن الشّعبيّ قال: ذكر عند ابن مسعودٍ آخر الأجلين، فقال: من شاء قاسمته
باللّه إنّ هذه الآية الّتي في النّساء القصرى نزلت بعد الأربعة الأشهر
والعشر ثمّ قال أجل الحامل أن تضع ما في بطنها.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أحمد بن سنانٍ الواسطيّ، حدّثنا عبد الرّحمن بن
مهديٍّ، عن سفيان، عن الأعمش، عن أبي الضّحى، عن مسروقٍ قال: بلغ ابن
مسعودٍ أنّ عليًّا، رضي اللّه عنه، يقول: آخر الأجلين. فقال: من شاء
لاعنته، إنّ الّتي في النّساء القصرى نزلت بعد البقرة: {وأولات الأحمال أجلهنّ أن يضعن حملهنّ}
ورواه أبو داود وابن ماجه، من حديث أبي معاوية، عن الأعمش
وقال عبد اللّه ابن الإمام أحمد: حدّثني محمّد بن أبي بكرٍ المقدّميّ،
أخبرنا عبد الوهّاب الثّقفيّ، حدّثنا المثنّى، عن عمرو بن شعيبٍ، عن أبيه،
عن عبد اللّه بن عمرٍو، عن أبيّ بن كعبٍ قال: قلت للنّبيّ صلّى اللّه عليه
وسلّم: {وأولات الأحمال أجلهنّ أن يضعن حملهنّ} المطلقة ثلاثا أو المتوفى عنها ؟ فقال: "هي المطلّقة ثلاثًا والمتوفّى عنها"
هذا حديثٌ غريبٌ جدًّا، بل منكرٌ؛ لأنّ في إسناده المثنّى بن الصّبّاح، وهو
متروك الحديث بمرّة ولكن رواه ابن أبي حاتمٍ بسندٍ آخر، فقال:
حدّثنا محمّد بن داود السّمناني، حدّثنا عمرو بن خالدٍ -يعني:
الحرّانيّ-حدّثنا ابن لهيعة، عن عمرو بن شعيبٍ، عن سعيد بن المسيّب، عن
أبيّ بن كعبٍ، أنّه لمّا نزلت هذه الآية قال لرسول اللّه صلّى اللّه عليه
وسلّم: لا أدري أمشتركةٌ أم مبهمةٌ، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم:
"أيّة آيةٍ؟ ". قال: {أجلهنّ أن يضعن حملهنّ} المتوفّى عنها والمطلّقة؟ قال: "نعم".
وكذا رواه ابن جريرٍ، عن أبي كريب، عن موسى بن داود، عن ابن لهيعة، به. ثمّ
رواه عن أبي كريبٍ أيضًا، عن مالك بن إسماعيل، عن ابن عيينة، عن عبد
الكريم بن أبي المخارق أنّه حدّث عن أبيّ بن كعبٍ قال: سألت رسول اللّه
صلّى اللّه عليه وسلّم عن: {وأولات الأحمال أجلهنّ أن يضعن حملهنّ} قال: "أجل، كلّ حاملٍ أن تضع ما في بطنها"
عبد الكريم هذا ضعيفٌ، ولم يدرك أبيّا.
وقوله: {ومن يتّق اللّه يجعل له من أمره يسرًا} أي: يسهّل له أمره، وييسّره عليه، ويجعل له فرجًا قريبًا ومخرجًا عاجلًا).[تفسير القرآن العظيم: 8/148-152]
تفسير
قوله تعالى: (ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ
اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5) )
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (ثمّ قال: {ذلك أمر اللّه أنزله إليكم} أي: حكمه وشرعه أنزله إليكم بواسطة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، {ومن يتّق اللّه يكفّر عنه سيّئاته ويعظم له أجرًا} أي: يذهب عنه المحذور، ويجزل له الثواب على العمل اليسير).[تفسير القرآن العظيم: 8/152]
تفسير
قوله تعالى: (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ
وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ
حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ
أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ
بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6) )
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({أسكنوهنّ
من حيث سكنتم من وجدكم ولا تضارّوهنّ لتضيّقوا عليهنّ وإن كنّ أولات حملٍ
فأنفقوا عليهنّ حتّى يضعن حملهنّ فإن أرضعن لكم فآتوهنّ أجورهنّ وأتمروا
بينكم بمعروفٍ وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى (6) لينفق ذو سعةٍ من سعته ومن
قدر عليه رزقه فلينفق ممّا آتاه اللّه لا يكلّف اللّه نفسًا إلّا ما آتاها
سيجعل اللّه بعد عسرٍ يسرًا (7) }
يقول تعالى آمرًا عباده إذا طلّق أحدهم المرأة أن يسكنها في منزلٍ حتّى تنقضي عدّتها، فقال: {أسكنوهنّ من حيث سكنتم} أي: عندكم، {من وجدكم} قال ابن عبّاسٍ، ومجاهدٌ، وغير واحدٍ: يعني سعتكم. حتّى قال قتادة: إن لم تجد إلّا جنب بيتك فأسكنها فيه.
وقوله: {ولا تضارّوهنّ لتضيّقوا عليهنّ} قال مقاتل بن حيّان: يعني يضاجرها لتفتدي منه بمالها أو تخرج من مسكنه.
وقال الثّوريّ، عن منصورٍ، عن أبي الضّحى: {ولا تضارّوهنّ لتضيّقوا عليهنّ} قال: يطلّقها، فإذا بقي يومان راجعها.
وقوله: {وإن كنّ أولات حملٍ فأنفقوا عليهنّ حتّى يضعن حملهنّ}
قال كثيرٌ من العلماء منهم ابن عبّاسٍ، وطائفةٌ من السّلف، وجماعاتٌ من
الخلف: هذه في البائن، إن كانت حاملًا أنفق عليها حتّى تضع حملها، قالوا:
بدليل أنّ الرّجعيّة تجب نفقتها، سواءٌ كانت حاملًا أو حائلًا.
وقال آخرون: بل السّياق كلّه في الرّجعيّات، وإنّما نصّ على الإنفاق على
الحامل وإن كانت رجعيّةً؛ لأنّ الحمل تطول مدّته غالبًا، فاحتيج إلى النّصّ
على وجوب الإنفاق إلى الوضع؛ لئلّا يتوهّم أنّه إنّما تجب النّفقة بمقدار
مدّة العدّة.
واختلف العلماء: هل النّفقة لها بواسطة الحمل، أم للحمل وحده؟ على قولين
منصوصين عن الشّافعيّ وغيره، ويتفرّع عليها مسائل مذكورةٌ في علم الفروع.
وقوله: {فإن أرضعن لكم}
أي: إذا وضعن حملهنّ وهنّ طوالق، فقد بنّ بانقضاء عدّتهنّ، ولها حينئذٍ أن
ترضع الولد، ولها أن تمتنع منه، ولكن بعد أن تغذّيه باللبّأ -وهو باكورة
اللّبن الّذي لا قوام للولد غالبًا إلّا به-فإن أرضعت استحقّت أجر مثلها،
ولها أن تعاقد أباه أو وليّه على ما يتّفقان عليه من أجرةٍ؛ ولهذا قال
تعالى: {فإن أرضعن لكم فآتوهنّ أجورهنّ} وقوله: {وأتمروا بينكم بمعروفٍ} أي: ولتكن أموركم فيما بينكم بالمعروف، من غير إضرارٍ ولا مضارّةٍ، كما قال تعالى في سورة "البقرة": {لا تضارّ والدةٌ بولدها ولا مولودٌ له بولده} [البقرة: 233]
وقوله: {وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى}
أي: وإن اختلف الرّجل والمرأة، فطلبت المرأة أجرة الرّضاع كثيرًا ولم
يجبها الرّجل إلى ذلك، أو بذل الرّجل قليلًا ولم توافقه عليه، فليسترضع له
غيرها. فلو رضيت الأمّ بما استؤجرت عليه الأجنبيّة فهي أحقّ بولدها).[تفسير القرآن العظيم: 8/152-153]
{وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ}؛
أي: ليَأْمُرْ كلُّ واحدٍ مِن الزوجَيْنِ وغيرِهما الآخَرَ بالمعروفِ، وهو
كلُّ ما فيه مَنفَعَةٌ ومَصلحةٌ في الدنيا والآخِرَةِ؛ فإنَّ الغَفْلَةَ
عن الائتمارِ بالمعروفِ يَحْصُلُ فيها مِن الضَّررِ والشرِّ ما لا يَعلَمُه
إلاَّ اللَّهُ، وفي الائتمارِ تَعاوُنٌ على البِرِّ والتَّقوَى.
ومِمَّا يُناسِبُ هذا المَقامَ أنَّ الزوجَيْنِ
عندَ الفِراقِ وقتَ العِدَّةِ ـ خُصوصاً إذا وُلِدَ بينَهما وَلَدٌ ـ في
الغالِبِ يَحصُلُ مِن التنازُعِ والتشاجُرِ لأجْلِ النفَقَةِ عليها وعلى
الولَدِ معَ الفِراقِ الذي لا يَحصُلُ في الغالبِ إلاَّ مَقْرُوناً
بالبُغْضِ، فيَتأثَّرُ مِن ذلكَ شيءٌ كثيرٌ، فكلٌّ منهما يُؤْمَرُ
بالمعروفِ والمُعاشَرَةِ الحَسَنَةِ وعدَمِ الْمُشَاقَّةِ والمنازَعَةِ،
ويُنصَحُ على ذلك.
{وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ} بأنْ لم يَتَّفِقِ الزوجانِ على إرضاعِها لوَلَدِها, {فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} غيرُها، و {لاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ}.
وهذا حيثُ كانَ الولَدُ يَقبَلُ ثَدْيَ غيرِ
أُمِّهِ، فإنْ لم يَقْبَلْ إلاَّ ثَدْيَ أُمِّه تَعَيَّنَتْ لإرضاعِه،
ووَجَبَ عليها، وأُجْبِرَتْ إنِ امتَنَعَتْ، وكانَ لها أُجْرَةُ الْمِثلِ
إنْ لم يَتَّفِقَا على مُسمًّى.
وهذا مأخوذٌ مِن الآيةِ الكريمةِ مِن حيثُ
المعنَى، فإنَّ الولَدَ لَمَّا كانَ في بطْنِ أُمِّه مُدَّةَ الحَمْلِ لا
خُروجَ له منه، عَيَّنَ تعالى على وَلِيِّهِ النفقَةَ، فلَمَّا وُلِدَ
وكانَ يَتمكَّنُ أنْ يَتَقَوَّتَ مِن أُمِّه ومِن غيرِها، أباحَ تعالى
الأَمْرَيْنِ.
فإذا كانَ بحالةٍ لا يُمْكِنُ أنْ يَتقوَّتَ إلاَّ مِن أُمِّه، كانَ بِمَنزِلَةِ الحمْلِ وتَعيَّنَتْ أُمُّه طَريقاً لقُوتِه). [تيسير الكريم الرحمن: 871-872]
تفسير
قوله تعالى: (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ
رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ
نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7)
)
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله: {لينفق ذو سعةٍ من سعته} أي: لينفق على المولود والده، أو وليّه، بحسب قدرته، {ومن قدر عليه رزقه فلينفق ممّا آتاه اللّه لا يكلّف اللّه نفسًا إلا ما آتاها} كقوله: {لا يكلّف اللّه نفسًا إلا وسعها} [البقرة: 286].
روى ابن جريرٍ: حدّثنا ابن حميدٍ، حدّثنا حكّام، عن أبي سنانٍ قال: سأل عمر
بن الخطّاب عن أبي عبيدة، فقيل: إنّه يلبس الغليظ من الثّياب، ويأكل أخشن
الطّعام، فبعث إليه بألف دينارٍ، وقال للرّسول: انظر ما يصنع بها إذا هو
أخذها: فما لبث أن لبس اللّيّن من الثّياب، وأكل أطيب الطّعام، فجاءه
الرّسول فأخبره، فقال: رحمه اللّه، تأوّل هذه الآية: {لينفق ذو سعةٍ من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق ممّا آتاه اللّه}
وقال الحافظ أبو القاسم الطّبرانيّ في معجمه الكبير: حدّثنا هاشم بن مرثدٍ
الطّبرانيّ، حدّثنا محمّد بن إسماعيل بن عيّاشٍ، أخبرني أبي، أخبرني ضمضم
بن زرعة، عن شريح بن عبيدٍ، عن أبي مالكٍ الأشعريّ -واسمه الحارث-قال: قال
رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "ثلاثة نفرٍ، كان لأحدهم عشرة دنانير،
فتصدّق منها بدينارٍ. وكان لآخر عشر أواقٍ، فتصدّق منها بأوقيّةٍ. وكان
لآخر مائة أوقيّةٍ، فتصدّق منها بعشر أواقٍ". فقال رسول اللّه صلّى اللّه
عليه وسلّم: "هم في الأجر سواءٌ، كلٌّ قد تصدّق بعشر ماله، قال اللّه
تعالى: {لينفق ذو سعةٍ من سعته}
هذا حديثٌ غريبٌ من هذا الوجه.
وقوله: {سيجعل اللّه بعد عسرٍ يسرًا} وعدٌ منه تعالى، ووعده حقٌّ، لا يخلفه، وهذه كقوله تعالى: {فإنّ مع العسر يسرًا إنّ مع العسر يسرًا} [الشّرح: 5، 6]
وقد روى الإمام أحمد حديثًا يحسن أن نذكره ها هنا، فقال: حدّثنا هاشم بن
القاسم، حدّثنا عبد الحميد بن بهرام، حدّثنا شهر بن حوشب قال: قال أبو
هريرة: بينما رجلٌ وامرأةٌ له في السّلف الخالي لا يقدران على شيءٍ، فجاء
الرّجل من سفره، فدخل على امرأته جائعًا قد أصاب مسغبةً شديدةً، فقال
لامرأته: عندك شيءٌ؟ قالت: نعم، أبشر، أتاك رزق اللّه، فاستحثّها، فقال:
ويحك! ابتغي إن كان عندك شيءٌ. قالت نعم، هنيهة -ترجو رحمة اللّه-حتّى إذا
طال عليه الطّوى قال: ويحك! قومي فابتغي إن كان عندك شيءٌ فائتيني به، فإني
قد بلغت وجهدت. فقال: نعم، الآن ينضح التّنّور فلا تعجل. فلمّا أن سكت
عنها ساعةً وتحيّنت أن يقول لها، قالت من عند نفسها: لو قمت فنظرت إلى
تنّوري؟ فقامت فنظرت إلى تنورها ملآن من جنوب الغنم، ورحييها تطحنان. فقامت
إلى الرّحى فنفضتها، واستخرجت ما في تنّورها من جنوب الغنم.
قال أبو هريرة: فوالّذي نفس أبي القاسم بيده، هو قول محمّدٍ صلّى اللّه
عليه وسلّم: "لو أخذت ما في رحييها ولم تنفضها لطحنتا إلى يوم القيامة"
وقال في موضعٍ آخر: حدّثنا أبو عامرٍ، حدّثنا أبو بكرٍ، عن هشامٍ، عن
محمّدٍ -وهو ابن سيرين-عن أبي هريرة قال: دخل رجلٌ على أهله، فلمّا رأى ما
بهم من الحاجة خرج إلى البريّة، فلمّا رأت امرأته قامت إلى الرّحى فوضعتها،
وإلى التّنّور فسجرته، ثمّ قالت: اللّهمّ ارزقنا. فنظرت، فإذا الجفنة قد
امتلأت، قال: وذهبت إلى التّنّور فوجدته ممتلئًا، قال: فرجع الزّوج قال:
أصبتم بعدي شيئًا؟ قالت امرأته: نعم، من ربّنا. قام إلى الرّحى، فذكر ذلك
للنّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، فقال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: "أما
إنّه لو لم ترفعها، لم تزل تدور إلى يوم القيامة").[تفسير القرآن العظيم: 8/153-154]
قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ نَاصِرٍ السّعْدِيُّ (ت: 1376هـ) : ( (7) ثُمَّ قَدَّرَ تعالى النفقَةَ بحسَبِ حالِ الزوجِ، فقالَ: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ}؛ أيْ: لِيُنْفِقِ الغَنِيُّ مِن غِناهُ، فلا يُنفِقْ نَفقةَ الفقراءِ.
{وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ}؛ أيْ: ضُيِّقَ عليهِ، {فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} مِن الرِّزْقِ، {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا}؛
وهذا مُناسِبٌ للحِكْمةِ والرحمةِ الإلهيَّةِ، حيثُ جَعَلَ كُلاًّ
بحَسَبِه، وخَفَّفَ عن الْمُعْسِرِ، وأنَّه لا يُكَلِّفُه إلاَّ ما آتَاهُ،
فلا يُكَلِّفُ اللَّهُ نفْساً إلاَّ وُسْعَهَا في بابِ النفقةِ وغيرِها.
{سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً}
وهذه بِشارةٌ للمُعْسِرينَ أنَّ اللَّهَ تعالى سَيُزِيلُ عنهم الشدَّةَ
ويَرفَعُ عنهم المَشَقَّةَ؛ فإنَّ معَ العُسْرِ يُسْراً، إنَّ معَ العُسْرِ
يُسراً). [تيسير الكريم الرحمن: 872]
* للاستزادة ينظر: هنا