16 May 2015
فصل
في أحكام الشرع الفروعية المتنوعة في الصلاة والزكاة
قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ نَاصِرٍ السَّعْدِيُّ (ت: 1376هـ): (فصل
في أحكام الشرع الفروعية المتنوعة في الصلاة والزكاة
مع ما ينضم إليهما من المعاني الأخرى قال تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا - وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 78 - 79]
هذا الأمر من الله لعباده بالصلاة التي أمر بها في آيات متعددة، ويأتي الأمر بها في القرآن بلفظ الإقامة كهذه الآية، ومثل: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [البقرة: 43] ونحوها، وهو أبلغ من قوله: (افعلوها) ، فإن هذا أمر بفعلها، وبتكميل أركانها وشروطها ومكملاتها ظاهرا وباطنا، وبجعلها شريعة ظاهرة قائمة من أعظم شعائر الدين.
وفي هذه الآية زيادة عن بقية الآيات، وهي الأمر بها لأوقاتها الخمسة أو الثلاثة، وهذه هي الفرائض، وإضافتها إلى أوقاتها من باب إضافة الشيء إلى سببه الموجب له فـ {لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] أي: زوالها واندفاعها من المشرق نحو المغرب، فيدخل في هذا صلاة الظهر وهو أول الدلوك، وصلاة العصر وهو آخر الدلوك {إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء: 78] أي: ظلمته؛ فدخل في ذلك صلاة المغرب وهو ابتداء الغسق، وصلاة العشاء الآخرة، وبها يتم الغسق والظلمة، {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء: 78] أي: صلاة الفجر، وسماها قرآنا لمشروعية إطالة القراءة فيها، ولفضل قراءتها لكونها مشهودة، يشهدها الله، وتشهدها ملائكة الليل وملائكة النهار.
* ففي هذه الآية الكريمة فوائد:
منها: ذكر الأوقات الخمسة صريحا؛ ولم يصرح بها في القرآن في غير هذه الآية، وأتت ظاهرة في قوله: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم: 17] وفيها أن هذه المأمورات كلها فرائض، لأن الأمر بها مقيد في أوقاتها، وهذه هي الصلوات الخمس وقد تستتبع ما يتبعها من الرواتب ونحوها.
ومنها: أن الوقت شرط لصحة الصلاة، وسبب لوجوبها؛ ويرجع في مقادير الأوقات إلى تقدير النبي صلى الله عليه وسلم، كما يرجع إليه في تقدير ركعات الصلاة وسجداتها وهيئاتها.
وفيها: أن العصر والظهر يجمعان للعذر، وكذلك المغرب والعشاء، لأن الله جمع وقتهما في وقت واحد للمعذور، ووقتان لغير المعذور.
وفيها: فضيلة صلاة الفجر، وفضيلة إطالة القرآن فيها، وأن القراءة فيها ركن، لأن العبادة إذا سميت ببعض أجزائها دل ذلك على فضيلته وركنيته، وقد عبر الله عن الصلاة بالقراءة وبالركوع وبالسجود وبالقيام، وهذه كلها أركانها المهمة.
قوله: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ} [الإسراء: 79] أي: صل به في أوقاته {نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء: 79] أي: لتكون صلاة الليل زيادة لك في علو المقامات ورفع الدرجات، بخلاف غيرك فإنها تكون كفارة لسيئاته.
ويحتمل أن يكون المعنى أن الصلوات الخمس فرض عليك وعلى المؤمنين، وأما صلاة الليل فإنها فرض عليك وحدك دون المؤمنين لكرامتك على الله، إذ جعل وظيفتك أكثر من غيرك، ومن عليك بالقيام بها؛ ليكثر ثوابك، ويرتفع مقامك، وتنال بذلك المقام المحمود، وهو المقام الذي يحمده فيه الأولون والآخرون؛ مقام الشفاعة العظمى حين يستشفع الخلائق بأكابر الأنبياء، آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى - عليهم السلام -، وكلهم يعتذر ويتأخر عنها حتى يستشفعوا بسيد ولد آدم؛ ليرحمهم الله من هم الموقف وكربه، ويفصل بينهم، فيشفعه الله، ويقيمه مقاما يغبطه به الأولون والآخرون، وتكون له اليد البيضاء على جميع الخلق، صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا، وأدخلنا في شفاعته، ومن علينا بالسعي في أسباب شفاعته التي أهمها إخلاص الأعمال لله، وتحقيق متابعته في هديه وقوله وعمله.
{وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 148] لما أمر الله تعالى رسوله خصوصا والمؤمنين عموما باستقبال بيته الحرام، أخبر أن كل أهل دين لهم وجهة يتوجهون إليها في عباداتهم، وليس الشأن في القبل والوجهات المعينة، فإنها من الشرائع التي تختلف باختلاف الأزمنة، ويدخلها النسخ والنقل من جهة إلى أخرى، ولكن الشأن كل الشأن في امتثال طاعة الله على الإطلاق، والتقرب إليه، وطلب الزلفى عنده.
فهذا هو عنوان السعادة ومنشور الولاية، وهو الذي إذا لم تتصف به النفوس حصلت لها الخسارة في الدنيا والآخرة، كما أنها إذا اتصفت به فهي الرابحة على الحقيقة، وهذا أمر متفق عليه في جميع الشرائع، وهو الذي خلق الله له الخلق وأمرهم به.
والأمر بالاستباق إلى الخيرات قدر زائد على الأمر بفعلها؛ فإن الاستباق إليها يتضمن: الأمر بفعلها، وتكميلها، وإيقاعها على أكمل الأحوال، والمبادرة إليها، ومن سبق في الدنيا إلى الخيرات فهو السابق في الآخرة إلى الجنات، فالسابقون أعلى الخلق درجة، و {الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148] تشمل جميع الفرائض والنوافل من صلاة وصيام وزكاة وصدقة وحج وعمرة وجهاد، ونفع متعد وقاصر.
فهذه الآية تحث على الإتيان بكل ما يكمل هذه العبادات من ركن وواجب وشرط ومستحب، ومكمل ومتمم ظاهرا وباطنا: كالمبادرة في أول الوقت، وفعل السنن المكملات، والمبادرة إلى إبراء الذمم من الواجبات، وفعل جميع الآداب المتعلقة بالعبادات. . . فلله ما أجمعها من آية وأنفعها.
ولما كان أقوى ما يحث النفوس إلى المسارعة إلى الخيرات ما رتب الله عليها من الثواب، وما يخشى بتفويتها من الحرمان والعقاب قال: {أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 148] ؛ فيجمع الله العباد يوم القيامة بقدرته، ويجازيهم بما أسلفوه من الأعمال خيرها وشرها.
{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ - فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 238 - 239] إلى آخر الآية: يأمر تعالى بالمحافظة على الصلوات عموما، وعلى الصلاة الوسطى وهي صلاة العصر خصوصا، لفضلها وشرفها وحضور ملائكة الليل والنهار فيها، ولكونها ختام النهار، والمحافظة على الصلوات عناية العبد بها من جميع الوجوه التي أمر الشارع بها وحث عليها من: مراعاة الوقت، وصلاة الجماعة، والقيام بكل ما به تكمل وتتم، وأن تكون صلاة كاملة تنهى صاحبها عن الفحشاء والمنكر، ويزداد بها إيمانه، وذلك إذا حصل فيها حضور القلب وخشوعه الذي هو لبها وروحها، ولهذا قال: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] أي: مخلصين خاشعين لله، فإن القنوت هو دوام الطاعة مع الخشوع؛ ومن تمام ذلك سكون الأعضاء عن كل كلام لا تعلق له بالصلاة.
وفيها أن القيام في صلاة الفريضة ركن إن كان المراد بالقيام هنا الوقوف، فإن أريد به القيام بأفعال الصلاة عموما دل على الأمر بإقامتها كلها، وأن تكون قائمة تامة غير ناقصة.
{فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239] أي: فصلوا الصلاة رجالا، أي: ماشين على أرجلكم أو ساعين عليها، أو ركبانا على الإبل وغيرها من المركوبات، وحذف المتعلق ليعم الخوف من العدو والسبع، ومن فوات ما يتضرر بفواته أو تفويته، وفي هذه الحال لا يلزمه استقبال القبلة، بل قبلته حيثما كان وجهه.
ومثل ذلك إذا اشتبهت القبلة في السفر، ومثل ذلك صلاة النافلة في السفر على الراحلة، وكل هذا داخل في قوله: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 115] فهذه صلاة المعذور بالخوف، فإذا حصل الأمن صلى صلاة كاملة، ويدخل في قوله: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ} [البقرة: 239] تكميل الصلوات؛ ويدخل فيه أيضا الإكثار من ذكر الله شكرا له على نعمة الأمن، وعلى نعمة التعليم.
وفي الآية الكريمة فضيلة العلم، وأن على من علمه الله ما لم يكن يعلم الإكثار من ذكر الله؛ وفيه تنبيه على أن الإكثار من ذكر الله سبب لنيل علوم أخر لم يكن العبد ليعرفها، فإن الشكر مقرون بالمزيد، وقد ذكر الله صلاة الخوف في سورة النساء في قوله: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ} [النساء: 102] فأمر بها على تلك الصفة تحصيلا للجماعة لها، وقياما للألفة، وجمعا بين القيام بالصلاة والجهاد حسب الإمكان، وبالقيام بالواجبات مع التحرز من شرور الأعداء؛ فسبحان من جعل في كتابه الهدى والنور والرشاد، وإصلاح الأمور كلها). [تيسير اللطيف المنان: 1/70- 75]
فصل
الزكاة وما في إخراجها من الفوائد وأهلها
قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ نَاصِرٍ السَّعْدِيُّ (ت: 1376هـ): (فصل
قال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] وقال: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [التوبة: 103] وقال: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [البقرة: 267] وقال: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141]
قد جمع الله في كتابه في آيات كثيرة بين الأمر بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة؛ لأنهما مشتركتان في أنهما من أهم فروض الدين، ومباني الإسلام العظيمة، والإيمان لا يتم إلا بهما، ومن قام بالصلاة وبالزكاة كان مقيما لدينه، ومن ضيعهما كان لما سواهما من دينه أضيع، فالصلاة فيها الإخلاص التام للمعبود، وهي ميزان الإيمان، والزكاة فيها الإحسان إلى المخلوقين، وهي برهان الإيمان، ولهذا اتفق الصحابة على قتال مانعي الزكاة، وقال أبو بكر رضي الله عنه: " لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة ".
فقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] هذا الأمر موجه للنبي صلى الله عليه وسلم، ومن قام مقامه أن يأخذ من أموال المسلمين صدقة، وهي الزكاة، وهذا شامل لجميع الأموال المتمولة من أنعام وحروث ونقود وعروض، كما صرح به في الآية الأخرى: {مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة: 267] من النقود والعروض والماشية المنماة، {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} [البقرة: 267] من الحبوب والثمار.
وقد وضح النبي صلى الله عليه وسلم النصب في هذه الأنواع كلها، وبين مقدار الواجب منها، وأنها عشر الخارج من الأرض مما يسقى بلا مؤنة، ونصف عشره فيما سقي بمؤنة، وربع العشر من أموال التجارة، وذلك إذا حال الحول في أموال التجارة، وحصل الحصاد والجذاذ وقت حصول الثمار، كما هو صريح الآية المذكورة.
وأمر تعالى بإخراج الوسط، فلا يظلم رب المال فيؤخذ العالي من ماله - إلا أن يختار هو ذلك - ولا يحل له أن يتيمم الخبيث - وهو الرديء من ماله - فيخرجه، ولا تبرأ بذلك ذمته إن كانت فرضا، ولا يتم له الأجر والثواب إن كانت نفلا؛ وبين تعالى الحكمة في ذلك، وأنها حكمة معقولة: فكما أنكم لا ترضون ممن عليه حق لكم أن يعطيكم الرديء من ماله الذي هو دون حقكم إلا أن تقبلوه على وجه الكراهة والإغماض، فكيف ترضون لربكم ولإخوانكم ما لا ترضونه لأنفسكم؟ فليس هذا من الإنصاف والعدل.
وبين تعالى الحكمة في الزكاة وبيان مصالحها العظيمة، فقال: {تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] فهذه كلمة جامعة، يدخل فيها من المنافع للمُعْطِي والْمُعْطَى والمال والأمور العمومية والخصوصية شيء كثير، فقوله: {تُطَهِّرُهُمْ} [التوبة: 103] أي: من الذنوب ومن الأخلاق الرذيلة، فإن من أعظم الذنوب وأكبرها منع الزكاة، وأيضا إعطاؤها سبب لمغفرة ذنوب أخرى، فإنها من أكبر الحسنات، والحسنات يذهبن السيئات.
ومن أشنع الأخلاق الرذيلة البخل، والزكاة تطهره من هذا الخلق الرذيل، ويتصف صاحبها بالرحمة والإحسان، والشفقة على الخلق، وتطهر المال من الأوساخ والآفات، فإن للأموال آفات مثل آفات الأبدان، وأعظم آفاتها أن تخالطها الأموال المحرمة؛ فهي للأموال مثل الجرب تسحته، وتحل به النكبات والنوائب المزعجة، فإخراج الزكاة تطهير له من هذه الآفة المانعة له من البركة والنماء، فيستعد بذلك للنماء والبركة، وتوجيهه للأمور النافعة، وأما قوله: {وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] فالزكاة هي النماء والزيادة، فهي تنمي المؤتي للزكاة، تنمي أخلاقه، وتحل البركة في أعماله، ويزداد بالزكاة ترقيا في مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم؛ وتنمي المال بزوال ما به ضرره وحصول ما فيه خيره، وتحل فيه البركة من الله.
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما نقصت صدقة من مال» ، بل تزيده، وتنمي أيضا المخرج إليه فتسد حاجته، وتقوم المصلحة الدينية التي تصرف فيها الزكاة كالجهاد والعلم والإصلاح بين الناس والتأليف ونحوها، وأيضا تدفع عادية الفقر والفقراء، فإن أرباب الأموال إذا احتكروها واحتجزوها، ولم يؤدوا منها شيئا للفقراء، اضطر الفقراء وهم جمهور الخلق وثاروا بالشر والفساد على أرباب الأموال، وبهذا ونحوه تسلطت البلاشفة على الخلق؛ فالقيام بالدين الإسلامي على وجهه بعقائده وحقائقه وأخلاقه وأداء حقوقه هو السد المانع شرعا وقدرا لهذه الطائفة التي بها فساد الأديان والدنيا والآخرة، وأمر تعالى الآخذ منهم الزكاة أن يصلي عليهم فيدعو لهم بالبركة، فإن في ذلك تطمينا لخواطرهم، وتسكينا لقلوبهم، وتنشيطا لهم، وتشجيعا على هذا العمل الفاضل، وكما أن الإمام والساعي مأمور بالدعاء للمزكي عند أخذها فالفقير المحتاج إذا أعطيها من باب أولى أن يشرع له الدعاء للمعطي تسكينا لقلبه، وفي هذا إعانة على الخير.
ودل تعليل الآية الكريمة أن كل ما أعان على فعل الخير، ونشط عليه، وسكن قلب صاحبه أنه مطلوب ومحبوب لله، وأنه ينبغي للعبد مراعاته وملاحظته في كل شأن من شؤونه، فإن من تفطن له فتح له أبوابا نافعة له ولغيره بلا تعب ولا مشقة، وأنه ينبغي إدخال السرور على المؤمنين.
ولما أمر في آية البقرة بالنفقات قال: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [البقرة: 267] غني بذاته عن جميع المخلوقين، وهو الغني عن نفقات المنفقين وطاعات الطائعين، وإنما أمرهم بها وحثهم عليها لمحض مصلحتهم ونفعهم، وبمحض فضله وكرمه عليهم، إذ تفضل عليهم بالأمر بهذه الأعمال، والتوفيق لفعلها، التي توصل أصحابها إلى أعلى المقامات، وأفضل الكرامات.
ومع كمال غناه وسعة عطاياه فهو الحميد فيما يشرعه لعباده من الأحكام الموصلة لهم إلى دار السلام، وحميد في أفعاله التي لا تخرج عن الفضل والعدل والحكمة، وحميد الأوصاف؛ لأن أوصافه كلها محاسن وكمالات، لا يدرك العباد كنهها، ولا يقدرونها حق قدرها، فلما حثهم على الإنفاق النافع نهاهم عن الإمساك الضار! وبين لهم أنهم بين داعيين: داعي الرحمن يدعوهم إلى الخير، ويعدهم عليه الفضل، والثواب العاجل والآجل، وخلف ما أنفقوا؛ وداعي الشيطان الذي يحثهم على الإمساك، ويخوفهم إن أنفقوا افتقروا؛ فمن كان مجيبا لداعي الرحمن وأنفق مما رزقه الله فليبشر بمغفرة الذنوب، وحصول كل مطلوب؛ ومن كان مجيبا لداعي الشيطان فإنه إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير؛ فليختر العبد أي الأمرين أليق به، وختم الآية بالإخبار بأنه " واسع عليم " أي: واسع الصفات، كثير الهبات، عليم بمن يستحق المضاعفة من العاملين المخلصين الصادقين، وعليم بمن هو أهل لذلك، فيوفقه لفعل الخيرات وترك المنكرات.
{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 60]
المراد بالصدقات هنا الزكاة، فهؤلاء الثمانية هم أهلها، إذا دفعت إلى جهة من هذه الجهات أجزأت ووقعت موقعها، وإن دفعت في غير هذه الجهات لم تجز؛ وهؤلاء المذكورون فيها قسمان: قسم يأخذ لحاجته كالفقراء والمساكين والرقاب وابن السبيل والغارم لنفسه، وقسم يأخذ لنفعه العمومي والحاجة إليه، وهم البقية.
فأما الفقراء والمساكين فهم خلاف الأغنياء، والفقير أشد حاجة من المسكين، لأن الله بدأ به، والأهم مقدم في الذكر غالبا، ولكن الحاجة تجمع الصنفين، {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} [التوبة: 60] وهم السعاة الذين يجبونها ويكتبونها ويحفظونها، ويقسمونها على أهلها، فهم يعطون ولو كانوا أغنياء لأنها بمنزلة الأجرة في حقهم، {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} [التوبة: 60] وهم سادات العشائر والرؤساء الذين إذا أعطوا حصل في إعطائهم مصلحة للإسلام والمسلمين، إما دفع شرهم عن المسلمين، وإما رجاء إسلامهم وإسلام نظرائهم، أو جبايتها ممن لا يعطيها أو يرجى قوة إيمانهم، {وَفِي الرِّقَابِ} [التوبة: 60] أي: في فكها من الرق كإعانة المكاتبين، وكبذلها في شراء الرقاب لعتقها، وفي فك الأسارى من المسلمين عند الأعداء، {وَالْغَارِمِينَ} [التوبة: 60] للإصلاح بين الناس إذا كان الصلح يتوقف على بذل مال، فيعانون على القيام بهذه المهمة والمصلحة العظيمة، وهي الإصلاح بين الناس، ولو أغنياء، ومن الغارمين من ركبتهم ديون للناس وعجزوا عن وفائها، فيعانون من الزكاة لوفائها، {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 60] أي: بذلها في إعانة المجاهدين بالزاد والمزاد والمركوب والسلاح ونحوها مما فيه إعانة المجاهدين، ومن الجهاد التخلي لطلب العلم الشرعي والتجرد للاشتغال به، {وَاِبْنِ السَّبِيلِ} [التوبة: 60] وهو الغريب المنقطع به في غير بلده، فيعان على سفره من الزكاة.
فالله تعالى فرضها لهؤلاء الأصناف بحسب حكمته وعلمه، ووضعه الأشياء مواضعها، فإن سد الكفايات وقيام المصالح العمومية النافعة من الفروض على المسلمين، وهي على أهل الأموال شكر منهم لله تعالى على نعمته بالمال، وتطهير لهم ولها، ونماء وبركة، واتصاف بصفات الأخيار، وسلامة من نعوت الأشرار). [تيسير اللطيف المنان: 1/75-80]
فصل في الطهارة بالماء والتيمم
قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ نَاصِرٍ السَّعْدِيُّ (ت: 1376هـ): (فصل في الطهارة بالماء والتيمم
قال الله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 6]
هذه الآيات جمع الله فيها أحكام طهارة الماء وطهارة التيمم، والتنبيه على شروطهما، وبيان كيفياتهما، وذكر فوائد ذلك، وثمراته الطيبة، فبين فيها الأحكام وحكمها وأسرارها، وهي أحكام كثيرة تستفاد من هذا الموضع.
منها: أن الطهارة من الحدثين شرط لصحة الصلاة؛ لقوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا} [المائدة: 6] إلخ، ومنها: أن ذلك عام للفرائض من الصلوات والنوافل، فكل ما يسمى صلاة فلا بد فيه من هذه الطهارة.
ومنها: اشتراط النية للطهارة؛ لقوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] أي: لأجل الصلاة، فإن المتطهر إما أن ينوي رفع ما عليه من الأحداث، أو ينوي الصلاة ونحوها مما يحتاج إلى الطهارة، أو ينويهما.
ومنها: أن غسل هذه الأعضاء لا بد منه في الحدث الأصغر، فحد الوجه ما يدخل في مسماه، وما تحصل به المواجهة، وذلك من الأذن إلى الأذن عرضا، ومن منابت شعر الرأس إلى ما انحدر من اللحيين والذقن طولا مع مسترسل اللحية، لأن هذا هو الذي تحصل به المواجهة، وأما اليدان فقد حدهما الله إلى المرفقين، فقال العلماء: إن (إِلَى) بمعنى مع المرفقين، وأيدوا هذا بأن النبي صلى الله عليه وسلم أدار الماء على مرفقيه، وكذلك يقال في الرجلين إلى الكعبين، وأما الرأس فإنه يتعين استيعاب مسحه، فإن الله أمر بمسحه، والباء للإلصاق الذي يقتضي إلصاق المسح بهذا الممسوح، وليست للتبعيض.
ومنها: أن الترتيب بين هذه الأعضاء الأربعة شرط، لأن الله رتبها، وأدخل عضوا ممسوحا بين الأعضاء المغسولة، ولا يعلم لهذا فائدة سوى الترتيب وعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «ابدأ بما بدأ الله به» ، فهو وإن كان واردا في الحج فإنه يعم كل شيء، مع أن جميع الواصفين لوضوئه صلى الله عليه وسلم ذكروه مرتبا.
ومنها: أن الموالاة شرط أيضا، ووجه ذلك أن الله تعالى ذكر الوضوء مقترنا بعض الأعضاء ببعض بالواو الدالة على اجتماع هذه العبادة بوقت واحد، فإذا فرقها في وقتين لم تكن عبادة واحدة كما لو فرق الصلاة، وبفعل النبي صلى الله عليه وسلم الدائم الذي كأنك تشاهده أنه كان يوالي بين أعضاء وضوئه، وهذا أولى من استدلال كثير من أهل العلم بقصة صاحب اللمعة الذي أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يعيد الوضوء كله، فهو وإن كان فيه بعض الدلالة على هذه المسألة، لكن يحتمل أن أمره بالإعادة كأمر المسيء في صلاته أن يعيد، لأنه رآه مخلا بوضوئه غير متمم له.
ومنها: بيان الطهارة الكبرى، كيفيتها وذكر سببها، فكيفيتها: أن يطهر العبد جميع ظاهر بدنه بالماء؛ لقوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] فلم يخصه بعضو أو بأعضاء معينة، بل جعل الله التطهير لجميع البدن، فعلى المتطهر أن يعمم التطهير لجميع ظاهر بدنه وما تحت الشعور، خفيفة أو كثيفة، وأن يكون ذلك غسلا لا مسحا.
ومنها: أن طهارة الحدث الأكبر لا ترتيب فيها ولا موالاة.
ومنها: أن من أسبابها الجنابة، والجنابة قد عرفها المسلمون عن نبيهم صلى الله عليه وسلم أنها: إنزال المني يقظة أو مناما - وإن لم يكن جماع -، أو الجماع - وإن لم يحصل إنزال -، أو وجود الأمرين كليهما.
وقد بين الله أيضا في سورة البقرة سببا آخر للاغتسال وهو الحيض في قوله: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 222] فأضاف التطهير فيها إلى البدن كله كالجنابة، ويشمل ذلك النفاس، وأما التطهير من إسلام الكافر وتطهير الميت فإنه يؤخذ من السنة.
ومنها: ما استدل به كثير من أهل العلم في قراءة الجر في قوله: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة: 6] أنها تدل على مسح الخفين الذي بينته السنة وصرحت به، وأما قراءة النصب في (أَرْجُلِكُمْ) فإنها معطوفة على المغسولات.
ومنها: مشروعية التيمم، وأن سببه أحد أمرين: إما عدم الماء لقوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [المائدة: 6] أو التضرر باستعماله لقوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى} [المائدة: 6] فكل ضرر يعتري العبد إذا استعمل الماء فإنه يسوغ له العدول إلى التيمم؛ وأنواع الضرر كثيرة؛ وأما ذكر السفر فلأنه مظنة الحاجة إلى التيمم لفقد الماء كتقييد الرهن في السفر، لا لأن السفر وحده مسوغ للتيمم كما ظنه بعض الناس، وهو مناف لقوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [المائدة: 6]
ومنها: أن التيمم بكل ما تصاعد على وجه الأرض سواء كان له غبار أم لا، إذا كان طيبا غير خبيث، والخبيث هو النجس في هذا الموضع.
ومنها: أن التيمم خاص بعضوين: بالوجه واليدين، وأن اليدين عند الإطلاق وعدم التقييد هما الكفان كما في آية السرقة، وإذا قيدت كما في آية الوضوء إلى المرفقين تقيدت بذلك.
ومنها: التنبيه على ما يوجب الطهارة الصغرى، وهو الإتيان من الغائط، يعني: خروج الخارج من أحد السبيلين، وملامسة النساء لشهوة، والسنة بينت الوضوء من النوم الكثير، ولمس الفرج، وأكل لحوم الإبل على اختلاف من أهل العلم في ذلك.
ومنها: أن التيمم كما أنه مشروع في الحدث الأصغر، فكذلك في الحدث الأكبر؛ لأن الله تعالى ذكره بعد سبب الطهارتين.
ومنها: أنه في طهارة التيمم تستوي فيه الطهارة الصغرى بالكبرى في مسح العضوين فقط.
ومنها: أن الآية الكريمة تدل على أن طهارة التيمم تنوب وتقوم مقام طهارة الماء عند عدمه، أو التضرر باستعماله؛ لأن الله أنابه منابه، وسماه طهارة.
وكذلك الأحاديث الكثيرة تدل على هذا، وبهذا يعرف أن الصحيح أن طهارة التيمم لا تبطل بخروج وقت ولا دخوله، ولا غير ذلك مما قاله كثير من أهل العلم، بل إنها تبطل بأحد أمرين: إما حصول ناقض من نواقض الطهارة، وإما وجود الماء أو زوال الضرر المانع من استعمال الماء.
ومنها: أن الماء المتغير بالطاهرات - ولو تغيرا كثيرا - أنه يجب تقديمه على طهارة التيمم، لأن قوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [المائدة: 6] نكرة في سياق النفي، فيعم أي ماء سوى الماء النجس.
ومنها: ما استدل به كثير من أهل العلم أن من كان في موضع ليس فيه ماء، وهو يشك في وجوده فيما يقاربه أن عليه أن يطلبه، ويفتش فيما حوله قبل أن يعدل إلى التيمم، لأن قوله: {فَلَمْ تَجِدُوا} [المائدة: 6] لا يقال إلا بعد طلب ما يمكن طلبه من دون مشقة، وهو استدلال لطيف.
ومنها: أنه لا بد في الطهارة من النية؛ لقوله في طهارة الماء: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا} [المائدة: 6] ) إلى آخره، وفي طهارة التيمم: {فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: 6] أي: اقصدوا {صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة: 6] ومن لازم ذلك النية.
ومنها: أن هذه الأحكام التي شرعها الله لعباده إنما ذلك رحمة منه بعباده؛ ليقوموا بالعبادات التي تتوقف سعادتهم وفلاحهم عليها، وأنه يريد إتمام نعمته عليهم بالأوامر الشرعية التي لا مشقة فيها ولا حرج؛ لينالوا الفضل العظيم من ربهم، فمنه التفضل على عباده بالسبب والمسبب.
ومنها: أن طهارة التيمم - وإن لم يشاهد فيها نظافة حسية - فإن فيها طهارة معنوية ناشئة عن امتثال العبد لأمر الله ورسوله.
ومنها: القاعدة الكلية في قوله: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [المائدة: 6] وأن الحرج منفي شرعا في جميع ما شرعه الله لعباده، فأصل العبادات في غاية السهولة على المكلفين، ثم إذا عرضت فيها عوارض عجز أو مرض أو تعذر لبعض شروطها فإن الشارع يخففها تخفيفا يناسب ذلك العارض.
ومنها: أن هذه الأحكام وغيرها من محاسن الدين الإسلامي، لما فيها من المنافع للعباد في قلوبهم وأبدانهم وأخلاقهم، والتقرب بها إلى الله، والتوسل بها إلى ثوابه العاجل والآجل، فجميع الأحكام من أكبر الأدلة على حسن دين الإسلام، وأنه الدين الحق الذي فيه الصلاح والإصلاح، وأن سعادة الدنيا والآخرة منوطة به، مترتبة عليه، فتأمل أحكام الله وما فيها من الحكم والأسرار والمنافع ودفع المضار، تجد هذا مشاهدا فيها). [تيسير اللطيف المنان: 1/80- 85]
فصل في صلاة الجمعة والسفر والأذان
قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ نَاصِرٍ السَّعْدِيُّ (ت: 1376هـ): (فصل في صلاة الجمعة والسفر والأذان
قال تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ - فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ - وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الجمعة: 9 - 11]
يأمر تعالى عباده المؤمنين بالحضور لصلاة الجمعة، والمبادرة إليها من حين ينادى لها؛ والمراد بالسعي هنا: الاهتمام بها وعدم الاشتغال بغيرها، لا المراد به العدو الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم عند المضي إلى الصلاة، فالمشي إلى الصلاة بسكينة ووقار هو المراد بالسعي هنا {وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] أي: اتركوه في هذه الحالة التي أمرتم بالمضي فيها إلى الصلاة؛ وإذا أمر بترك البيع الذي ترغب فيه النفوس، وتحرص عليه، فترك غيره من الشواغل من باب أولى، كالصناعات وغيرها.
{ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة: 9] حقائق الأمور وثمراتها، وذلك الخير هو امتثال أمر الله ورسوله، والاشتغال بهذه الفريضة، التي هي من أهم الفرائض، واكتساب خيرها وثوابها، وما رتب الشارع على السعي لها، والمبادرة والتقدم والوسائل، والمتممات لها من الخير والثواب، ولما في ذلك من اكتساب الفضائل، واجتناب الرذائل، فإن من أرذل الخصال الحرص والجشع الذي يحمل العبد على تقديم الكسب الدنيء على الخير الضروري.
ومن الخير أن من قدم أمر الله، وآثر طاعته على هوى نفسه، كان ذلك برهان إيمانه، ودليل رغبته، وإنابته إلى ربه، ومن ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه، ومن قدم هواه على طاعة مولاه فقد خسر دينه، وتبع ذلك خسارة دنياه.
وهذا الأمر بترك البيع مؤقت إلى انقضاء الصلاة {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} [الجمعة: 10] لطلب المكاسب المباحة، {وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10] أي: ينبغي للمؤمن الموفق وقت اشتغاله في مكاسب الدنيا أن يقصد بذلك الاستعانة على قيامه بالواجبات، وأن يكون مستعينا بالله في ذلك، طالبا لفضله جاعلا الرجاء والطمع في فضل الله نصب عينيه، فإن التعلق بالله والطمع في فضله من الإيمان ومن العبادات.
ولما كان الاشتغال بالتجارة مظنة الغفلة عن ذكر الله وطاعته أمر الله بالإكثار من ذكره، فقال: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 10] أي: في حال قيامكم وقعودكم، وفي تصرفاتكم وأحوالكم كلها، فإن ذكر الله طريق الفلاح الذي هو الفوز بالمطلوب، والنجاة من المرهوب، ومن المناسب في هذا أن يجعل المعاملة الحسنة والإحسان إلى الخلق نصب عينيه، فإن هذا من ذكر الله، فكل ما قرب إلى الله فإنه من ذكره، وكل أمر يحتسبه العبد فإنه من ذكره، فإذا نصح في معاملته وترك الغش تقرب في هذه المعاملة إلى الله؛ لأن الله يحبها، ولأنها تمنع العبد من المعاملة الضارة، وكلما سامح أحدا أو حاباه في ثمن أو مثمن أو تيسير أو إنظار أو نحوه فإنه من الإحسان والفضل، وهو من ذكر الله، قال تعالى: {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237]
{وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} [الجمعة: 11] أي: خرجوا من المسجد حرصا على تلك التجارة واللهو، وتركوا ذلك الخير الحاضر، حتى إنهم تركوا النبي صلى الله عليه وسلم قائما يخطب، وذلك لحاجتهم لتلك العير التي قدمت المدينة، وقبل أن يعلموا حق العلم ما في ذلك من الذم وسوء الأدب، فاجتماع الأمرين حملاهم على ما ذكر؛ وإلا فهم رضي الله عنهم كانوا أرغب الناس في الخير، وأعظمهم حرصا على الأخذ عن الرسول، وعلى توقيره وتبجيله.
وحالهم المعلومة في ذلك أكبر شاهد، ولكن لكل جواد كبوة، ثم إن الكبوة التي عوتب عليها العبد، وتاب منها وأناب، وغفرها الله، وأبدل مكانها حسنة، لا يحل لأحد اللوم عليها، قل لمن قدم اللهو والتجارة على الطاعة: ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة، التي وإن حصل منها بعض المقاصد فإن ذلك قليل منغص مفوت لخير الآخرة.
وليس الصبر على طاعة الله مفوتا للرزق؛ فإن الله خير الرازقين، فمن اتقى الله رزقه من حيث لا يحتسب، ومن قدم الاشتغال بالتجارة على طاعة الله لم يبارك له في ذلك، وكان هذا دليلا على خلو قلبه من ابتغاء الفضل من الله، وانقطاع قلبه عن ربه، وتعلقه بالأسباب، وهذا ضرر محض يعقب الخسران.
* وفي هذه الآيات فوائد عديدة:
منها: أن الجمعة فريضة على المؤمنين يجب عليهم السعي لها والاهتمام بشأنها، وأن الخيرات المترتبة عليها لا يقابلها شيء.
ومنها مشروعية الخطبتين، وأنهما فريضتان، وأن المشروع أن يكون الخطيب قائما؛ لأن قوله: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] يشمل السعي إلى الصلاة وإلى الخطبتين، وأيضا فإن الله ذم من ترك استماع الخطبة.
ومنها: مشروعية النداء يوم الجمعة وغيرها، لأن التقييد بيوم الجمعة دليل على أن هناك نداء لبقية الصلوات الخمس، كما قال تعالى: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا} [المائدة: 58]
ومنها: النهي عن البيع والشراء بعد نداء الجمعة، وذلك يدل على التحريم وعدم النفوذ.
ومنها: أن الوسائل لها أحكام المقاصد، فإن البيع في الأصل مباح، ولكن لما كان وسيلة لترك الواجب نهى الله عنه.
ومنها: تحريم الكلام والإمام يخطب، لأنه إذا كان الاشتغال بالبيع ونحوه - ولو كان المشتغل بعيدا عن سماع الخطبة - محرما فمن كان حاضرا تعين عليه أن لا يشتغل بغير الاستماع، كما أيد هذا الاستنباط الأحاديث الكثيرة.
ومنها: أن المشتغل بعبادة الله وطاعته إذا رأى من نفسه الطموح إلى ما يلهيها عن هذا الخير من اللذات الدنيوية والحظوظ النفسية شرع أن يذكرها ما عند الله من الخيرات، وما لمؤثر الدين على الهوى، وما يترتب من الضرر والخسران على ضده.
{وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا} [النساء: 101]
أي: إذا سافرتم في الأرض لتجارة أو عبادة أو غيرهما فقد خفف الله عنكم، ورفع عنكم الجناح، وأباح لكم، بل أحب لكم أن تقصروا الصلاة الرباعية إلى ركعتين، فإن حصل مع ذلك خوف فلا حرج في قصر كيفية الصلوات كلها؛ وهذا والله أعلم الحكمة في تقييد القصر بالخوف؛ لأنه من المعلوم المتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم جواز القصر في السفر، ولو كان ليس فيه خوف، ولكن إذا اجتمع السفر والخوف كان رخصة في قصر العدد للرباعية والهيئة لغيرها، فإن وجد الخوف وحده، ترتب عليه قصر الهيئات على الصفة التي ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإن وجد السفر وحده لم يكن فيه إلا قصر العدد.
ولهذا لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا القيد قال: «صدقة تصدق الله عليكم بها؛ فاقبلوا صدقته» ، أو يقال: هذا القصر المذكور في الآية الكريمة مطلق، والسنة عن النبي صلى الله عليه وسلم تقيده وتبين المراد به.
{وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة: 84]
أي: ولا تصل على أحد مات من المنافقين، ولا تقم على قبره بعد الدفن لتدعو له، فإن الصلاة عليهم والوقوف على قبورهم للدعاء لهم شفاعة لهم، وهم لا تنفع فيهم الشفاعة {إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة: 84] خارجون عن دين الله بالكلية؛ ومن كان كافرا ومات على ذلك فما تنفعه شفاعة الشافعين، وفي ذلك عبرة لغيرهم وزجر ونكال لهم، وهكذا كل من علم منه الكفر والنفاق فإنه لا يصلى عليه، ولا يدعى له بالمغفرة.
وفي هذه الآية مشروعية الصلاة على المؤمنين، والوقوف على قبورهم خصوصا وقت دفنهم للدعاء لهم، وإن هذا كان عادته صلى الله عليه وسلم مع المؤمنين، وقد بينت السنة وجوب تجهيز الميت المسلم بالتغسيل والتكفين والصلاة عليه وحمله ودفنه كما هو معلوم). [تيسير اللطيف المنان: 1/85-90]
فصل في الصيام وتوابعه
قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ نَاصِرٍ السَّعْدِيُّ (ت: 1376هـ): (فصل في الصيام وتوابعه
قال الله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183] إلى قوله: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185]
يخبر تعالى بمنته على عباده المؤمنين بفرضه عليهم الصيام كما فرضه على الأمم السابقة، لأنه من الشرائع الكبار التي هي مصلحة للخلق في كل زمان، وفي هذا حث للأمة أن ينافسوا الأمم في المسارعة إليه وتكميله، وبيان عموم مصلحته، وثمراته التي لا تستغني عنها جميع الأمم؛ ثم ذكر حكمته بقوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183] فإن الصيام من أكبر أسباب التقوى؛ لأن فيه امتثال أمر الله واجتناب نهيه.
فالصيام هو الطريق الأعظم للوصول إلى هذه الغاية التي فيها سعادة العبد في دينه ودنياه وآخرته، فالصائم يتقرب إلى الله بترك المشتهيات؛ تقديما لمحبة ربه على محبة نفسه، ولهذا اختصه الله من بين الأعمال حيث أضافه إلى نفسه في الحديث الصحيح، وهو من أعظم أصول التقوى، فإن الإسلام والإيمان لا يتم بدونه.
وفيه من حصول زيادة الإيمان، والتمرن على الصبر والمشقات المقربة إلى رب العالمين، وأنه سبب لكثرة الطاعات من صلاة وقراءة وذكر وصدقة وغيرها ما يحقق التقوى، وفيه من ردع النفس عن الأمور المحرمة من أقوال وأفعال ما هو من أصول التقوى.
ومنها: أن في الصيام من مراقبة الله بترك ما تهوى نفسه مع قدرته عليه - لعلمه باطلاع ربه عليه - ما ليس في غيره، ولا ريب أن هذا من أعظم عون على التقوى.
ومنها: أن الصيام يضيق مجاري الشيطان «فإنه يجري من ابن آدم مجرى الدم» ، فبالصيام يضعف نفوذه، وتقل معاصي العبد.
ومنها: أن الغني إذا ذاق ألم الجوع أوجب له ذلك، وحمله على مواساة الفقراء المعدمين، وهذا كله من خصال التقوى.
ولما ذكر أنه فرض عليهم الصيام أخبر أنها {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 184] أي: قليلة سهلة، ومن سهولتها أنها في شهر معين يشترك فيه جميع المسلمين؛ ولا ريب أن الاشتراك هذا من المهونات المسهلات، ومن ألطاف المولى ومعونته للصائمين، ثم سهل تسهيلا آخر فقال: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] وذلك للمشقة - غالبا - رخص الله لهما في الفطر.
ولما كان لا بد من تحصيل العبد لمصلحة الصيام أمرهما أن يقضياه في أيام أخر، إذا زال المرض، وانقضى السفر، وحصلت الراحة.
وفي قوله: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] دليل على أنه يقضي عدد أيام رمضان كاملا كان أو ناقصا، وعلى أنه يجوز أن يقضي أياما قصيرة باردة عن أيام طويلة حارة كالعكس.
وبهذا أجبنا عن سؤال ورد علينا: أنه يوجد مسلمون في بعض البلاد التي يكون في بعض الأوقات ليلها نحو أربع ساعات أو تنقص، فيوافق ذلك رمضان، فهل لهم رخصة في الإطعام إذا كانوا يعجزون عن تتميمها؟
فأجبنا: إن العاجز منهم في هذا الوقت يؤخره إلى وقت آخر، يقصر فيه النهار، ويتمكن فيه من الصيام كما أمر الله بذلك المريض، بل هذا أولى، وأن الذي يقدر على الصيام في هذه الأيام الطوال يلزمه ولا يحل له تأخيره إذا كان صحيحا مقيما، هذا حاصل الجواب.
وقوله: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184] قيل: هذا في أول الأمر وفي ابتداء فرض الصيام لما كانوا غير معتادين للصيام، وكان ابتداء فرضه حتما فيه مشقة عليهم، درجهم الرب الحكيم بأسهل ما يكون، وخير المطيق للصوم بين أن يصوم، وهو الأفضل الأكمل، أو يطعم ويجزيه، ثم لما تمرنوا على الصيام، وكان ضروريا على المطيقين فرضه عليهم حتما.
وقيل إن قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} [البقرة: 184] أي: يتكلفون الصيام، ويشق عليهم مشقة لا تحتمل كالكبير والمريض الميئوس من برئه، فدية طعام مسكين عن كل يوم يفطره.
وقوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185] أي: الصوم المفروض عليكم هو شهر رمضان، الشهر العظيم الذي حصل لكم من الله فيه الفضل العظيم، وهو إنزال القرآن الذي فيه هدايتكم لجميع مصالحكم الدينية والدنيوية، وفيه بيان الحق وتوضيحه، والفرقان بين الحق والباطل، والهدى والضلال، وأهل السعادة من أهل الشقاوة، فحقيق بشهر هذا فضله، وهذا إحسان الله العظيم فيه عليكم أن يكون معظما محترما، موسما للعباد مفروضا فيه الصيام.
فلما قرر فرضيته، وبين حكمته في ذلك وفي تخصيصه قال: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] أي: من حضر الشهر وهو قادر تحتم عليه صيامه، {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185] أعاد ذلك تأكيدا له، ولئلا يظن أنه أيضا منسوخ مع ما نسخ من التخيير للقادر.
{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} [البقرة: 185] أي: يريد الله أن ييسر ويسهل عليكم الطرق الموصلة إلى رضوانه أعظم تيسير ليسهل سلوكها، ويعين عليها بكل وسيلة؛ ليرغب فيها العباد، وهذا أصل عظيم من أصول الشريعة، بل كلها تدور على هذا الأصل، فإن جميع الأوامر لا تشق على المكلفين، وإذا حصل بعض المشاق والعجز خفف الشارع من الواجبات بحسب ما يناسب ذلك، فيدخل في هذا جميع التخفيفات في جواز الفطر، وتخفيفات السفر، والأعذار لترك الجمعة والجماعة.
وقوله: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} [البقرة: 185] وذلك لئلا يتوهم متوهم أن صيام رمضان يحصل المقصود ببعضه دفع هذا الوهم بقوله: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} [البقرة: 185] وأمر بشكره على إتمامه؛ لأن من أكبر منن الله على عبده توفيقه لإتمامه وتكميله وتبيين أحكامه للعبيد، {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185] هداية التعليم وهداية التوفيق والإرشاد). [تيسير اللطيف المنان: 1/90-94]
قربه تعالى واستجابته لدعاء الداعي
قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ نَاصِرٍ السَّعْدِيُّ (ت: 1376هـ): ( {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186]
هذا سؤال وجواب، أي: إذا سألك العباد عن ربهم، وبأي طريق يدركون منه مطالبهم، فأجبهم بهذا الجواب الذي يأخذ بمجامع القلوب، ويوجب أن يعلق العبد بربه بكل مطلوب ديني ودنيوي، فأخبرهم أن الله قريب من الداعين، ليس على بابه حجاب ولا بواب، ولا دونه مانع في أي وقت وأي حال، فإذا أتى العبد بالسبب والوسيلة، وهو الدعاء لله المقرون بالاستجابة له بالإيمان به والانقياد لطاعته، فليبشر بالإجابة في دعاء الطلب والمسألة، وبالثواب والأجر والرشد إذا دعا دعاء العبادة، وكل القربات الظاهرة والباطنة تدخل في دعاء العبادة، لأن المتعبد لله طالب بلسان مقاله ولسان حاله من ربه قبول تلك العبادة والإثابة عليها.
وفي هذه الآية تنبيه على الأسباب الموجبة لإجابة الدعاء التي مدارها على الإيمان بالله، وتحقيقه بالانقياد لله امتثالا لأمره واجتنابا لنهيه؛ وتنبيه أيضا على أن موانع الإجابة ترك تحقيق الإيمان وترك الانقياد، فأكل الحرام وعمل المعاصي من موانع الإجابة، وهي تنافي الاستجابة لله، وفيه تنبيه على أن الإيمان بالله والاستجابة له سبب إلى حصول العلم، لأن الرشد هو الهدى التام علما وعملا، ونظير هذا قوله تعالى:
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال: 29] أي: علما تفرقون به بين الحق والباطل، وبين كل ما يحتاج إلى تفصيله.
{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187] إلى قوله: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [البقرة: 187]
كان أول ما فرض الصيام منع المسلمون من الأكل والشرب في الليل إذا ناموا، فحصلت المشقة لكثير منهم، فخفف الله ذلك، وأباح في ليالي الصيام كلها الأكل والشرب والجماع، سواء نام أو لم ينم؛ لكونهم يختانون أنفسهم بترك بعض ما أمروا به لو بقي الأمر على ما كان أولا، فتاب الله عليكم بأن وسع لكم أمرا لولا توسعته لكان داعيا إلى الإثم والإقدام على المعاصي، وعفا عنكم ما سلف من التخون.
{فَالْآنَ} [البقرة: 187] بعد هذه الرخصة والسعة من الله {بَاشِرُوهُنَّ} [البقرة: 187] وطئا وقبلة ولمسا، {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [البقرة: 187] أي: اقصدوا في مباشرتكم لزوجاتكم التقرب إلى الله بذلك، واقصدوا أيضا حصول الذرية وإعفاف الفرج وحصول جميع مقاصد النكاح؛ وابتغوا أيضا ليلة القدر، فإياكم أن تشتغلوا بهذه اللذة وتوابعها وتضيعوا ليلة القدر، وهي مما كتبه الله لهذه الأمة، وفيها من الخير العظيم ما يعد تفويته من أعظم الخسران، فاللذة مدركة، وليلة القدر إذا فاتت لم تدرك، ولم يعوض عنها شيء.
{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] هذا غاية جواز الأكل والشرب والجماع في ليالي الصيام؛ وفيه أن هذه الثلاثة إذا وقعت وصاحبها شاك في طلوع الفجر فلا حرج عليه، ودليل على استحباب السحور، وأنه يستحب تأخيره أخذا من معنى رخصة الله وتسهيله على العباد، ودليل على أنه يجوز أن يدركه الفجر وهو جنب من الجماع قبل أن يغتسل؛ لأن من لازم إباحة الجماع إلى طلوع الفجر أن يدركه الفجر وهو جنب، ولازم الحق حق، ثم إذا طلع الفجر أتموا الصيام، أي: أمسكوا عن المفطرات إلى الليل، وهو غروب الشمس.
ولما كانت إباحة الوطء في ليالي الصيام ليست إباحة عامة لكل أحد، استثنى تعالى المعتكف بقوله: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] أي: وأنتم متصفون بذلك؛ ودلت الآية على مشروعية الاعتكاف؛ وهو لزوم المساجد لطاعة الله، وأن الاعتكاف لا يصح إلا بمسجد؛ ويستفاد من تعريف المساجد بالألف واللام أنها المساجد التي يعرفها المسلمون، وأنها التي تقام فيها الصلوات الخمس.
وفيه أن الوطء من مفسدات الاعتكاف تلك المذكورات، وهي تحريم الأكل والشرب والجماع ونحوها من مفطرات الصيام، وتحريم الوطء على المعتكف، ونحو ذلك من المحرمات التي حدها لعباده، ونهاهم عنها: {فَلَا تَقْرَبُوهَا} [البقرة: 187] أي: لا تفعلوها، ولا تحوموا حولها، وتفعلوا وسائلها، والعبد مأمور بترك المحرمات، والبعد عنها بترك كل وسيلة تدعو إليها.
وأما الأوامر فيقول الله فيها: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا} [البقرة: 187] كما ينهى عن مجاوزتها: {فَلَا تَعْتَدُوهَا} [البقرة: 229] كذلك البيان السابق والتوضيح التام من الله لعباده: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [البقرة: 187] فإن العلم الصحيح سبب للتقوى؛ لأنهم إذا بان لهم الحق اتبعوه، وإذا بان لهم الباطل اجتنبوه، ومن علم الحق فتركه والباطل فاتبعه كان أعظم لجرمه وأشد لإثمه). [تيسير اللطيف المنان: 1/94-97]
فصل في الحج وتوابعه
قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ نَاصِرٍ السَّعْدِيُّ (ت: 1376هـ): (فصل في الحج وتوابعه قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى
النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ
فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97] وقال: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] إلى آخر الآيات المتعلقة بالحج. لما قال الله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ
بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى
لِلْعَالَمِينَ - فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ
دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 96 - 97] وكان في ذلك تنبيه على الحكم والأسرار
والمصالح والبركات المتنوعة المحتوي هذا البيت العظيم عليها، وكان ذلك
داعيا إلى تعظيمه بغاية ما يمكن من التعظيم، أوجب الله على العباد حجه
وقصده لأداء المناسك التي فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلمها
أمته، وأمرهم أن يأخذوا عنه مناسكهم. فأوجبه على من استطاع إليه سبيلا بأن قدر
على الوصول إليه بأي مركوب متيسر، وبزاد يتزوده ويتم به السبيل، وهذا هو
الشرط الأعظم لوجوب الحج، وهذه الآية صريحة في فرضية الحج، وأنه لا يتم
للعبد إسلام ولا إيمان وهو مستطيع إلا بحجه، وأن الله إنما أمر به العباد
رحمة منه بهم، وإيصالا لهم إلى أجل مصالحهم وأعلى مطالبهم، وإلا فالله غني
عن العالمين وطاعتهم، فمن كفر فلم يلتزم لشرع الله فهو كافر، ولن يضر إلا
نفسه. وأما آية البقرة فإن الله أمر فيها بإتمام
الحج والعمرة بأركانهما وشروطهما وجميع متمماتهما؛ ولا فرق في ذلك بين
الفرض والنفل، وبهذا تميز الحج والعمرة عن غيرهما من العبادات؛ وإن من شرع
فيهما وجب عليه إتمامهما لله مخلصا، ويدخل في الأمر بإتمامهما أنه ينبغي
للعبد أن يجتهد غاية الاجتهاد في فعل كل قول وفعل ووصف وحالة بها تمام الحج
والعمرة، وذلك شيء كثير مفصل في كتب أهل العلم، وأن من دخل فيهما فلا يخرج
منهما إلا بإتمامهما والتحلل منهما إلا بما استثناه الله وهو الحصر. ولهذا قال: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ}
[البقرة: 196] أي: منعتم من الوصول إلى البيت، ومن تتميم المناسك بمرض أو
عدو أو ذهاب نفقة أو ضللتم الطريق أو غير ذلك من أنواع الحصر الداخلة في
عموم قوله: {أُحْصِرْتُمْ} [البقرة: 196] فاذبحوا ما تيسر من الهدي وهو شاة
أو سبع بدنة أو سبع بقرة يذبحها المحصر ويحلق رأسه ويحل من إحرامه بسبب
الحصر، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لما صدهم المشركون عن
البيت وهم محرمون عام الحديبية، فإن لم يتيسر الهدي على المحصر فهل يكفيه
الحلق وحده ويحل، كما فعله الصحابة الذين لم يكن معهم هدي - وهو الصحيح -
أو ينوب عن الهدي صيام عشرة أيام قياسا على هدي التمتع كما قاله آخرون ثم
يحل؟ ثم قال تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا
رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] وفي هذا
أن المحرم يحرم عليه إزالة شيء من شعر بدنه تعظيما لهذا النسك، وقاس عليه
أهل العلم إزالة الأظفار بجامع الترفه، ويستمر المنع من ذلك حتى يبلغ الهدي
محله، وهو وقت ذبحه يوم النحر، والأفضل أن يكون الحلق بعد النحر، ويجوز أن
يقدم الحلق على النحر كما رخص في ذلك النبي صلى الله عليه وسلم حين سئل
عمن قدم الحلق أو الرمي أو الذبح أو الطواف بعضها على بعض، فقال: «افعل ولا
حرج» . ويستدل بالآية الكريمة على أن المتمتع
كالقارن والمفرد لا يحل من عمرته إذا كان سائقا للهدي حتى يبلغ الهدي محله،
فقيل: إنه إذا حل من عمرته بأن فرغ من الطواف والسعي بادر بالدخول بالحج
بالنية، وقيل: إنه بسوقه للهدي صار قارنا، وأن الهدي الذي استصحبه - حيث
إنه كان للنسكين كليهما - مزج بين النسكين وصار صاحبه قارنا، وهذا هو القول
الصواب، وإنما منع تعالى من الحل لمن ساق الهدي قبل محله لما في سوق
الهدي، وما يتبعه من كشف الرأس، وترك أخذ الشعور ونحوها من الذل والخضوع
لله والانكسار له، والتواضع الذي هو روح النسك وعين صلاح العبد وكماله،
وليس عليه في ذلك ضرر؛ فإذا حصل الضرر بأن كان به أذى من رأسه من مرض ينتفع
بحلق رأسه أو قروح أو قمل أو نحو ذلك، فإنه يحل له أن يحلق رأسه، ولكن
يكون عليه فدية تخيير، يخير بين صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين، أو
ذبح شاة، وهذه تسمى فدية الأذى، وألحق بذلك إذا قلم أظفاره، أو لبس الذكر
المخيط، أو غطى رأسه، أو تطيب المحرم من ذكر وأنثى، فكل هذا فديته فدية
تخيير بين الصيام أو الإطعام أو النسك. وأما فدية قتل الصيد فقد ذكر الله التخيير
فيها بين ذبح المثل من النعم، أو تقويمه بطعام فيطعم كل مسكين مدبر أو نصف
صاع من غيره، أو يصوم عن إطعام كل مسكين يوما؛ فهذه الأنواع فديتها تخيير. وأما المتمتع والقارن فإن هديهما هدي نسك،
غير هدي جبران، وهو على الترتيب، إن تيسر الهدي وجب الهدي، فإن لم يتيسر
فعليه صيام عشرة أيام، ثلاثة في الحج - ولا يؤخرها عن أيام التشريق -،
وسبعة إذا رجع - أي: فرغ من جميع شؤون النسك -، ودل إطلاق إيجاب الصيام على
أنه يجوز فيها التتابع والتفريق. (ذَلِكَ) أي: وجوب الهدي على المتمتع
والقارن؛ أو بدله لمن لم يجد من الصيام، {لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ
حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 196] وهم الأفقية؛ لأن من
الحكمة في إيجاب الهدي على الأفقي أنه لما حصل نسكين في سفرة واحدة كان هذا
من أعظم نعم الله، فكان عليه أن يشكر الله على هذه النعمة الجليلة، ومن
جملة الشكر إيجاب الهدي عليه. وأما المقيمون في مكة أو كانوا في قربها -
بحيث لا يقال لهم مسافرون - فليس عليهم هدي ولا بدله لما ذكرنا من الحكمة
وَاتَّقُوا اللَّهَ: في جميع أموركم بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، ومن
ذلك امتثالكم لهذه المأمورات في هذه العبادة الجليلة، واجتنابكم
لمحظوراتها، {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [البقرة: 196]
أي: لمن عصاه، وذلك موجب للتقوى، فإن من خاف عقاب الله انكف عن السيئات،
كما أن من رجا ثواب الله عمل لما يوصله إلى الثواب، وأما من لم يخف الله
فإنه لا بد أن يتجرأ على المحارم، ويتهاون بالفرائض. ثم أخبر تعالى أن الحج واقع في أشهر
معلومات عند المخاطبين، بحيث لا تحتاج إلى تعيين كما احتاج الصيام لتعيين
شهره، وكما بين تعالى أوقات الصلوات الخمس، وأما الحج فقد كان من ملة
إبراهيم التي لم تزل مستمرة في ذريته، معروفة بينهم، والمراد بالأشهر
المعلومات عند الجمهور: شوال وذو القعدة، وعشر أو ثلاثة عشر من ذي الحجة،
فهي التي يقع فيها الإحرام بالحج غالبا، وهي التي تقع فيها أفعال الحج:
أركانه وواجباته ومكملاته، {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} [البقرة:
197] أي: عقده وأحرم به؛ لأن الشروع فيه يصيره فرضا ولو كان قبل ذلك نفلا. واستدل بهذه الآية الشافعي، ومن قال
بقوله: إنه لا يجوز الإحرام بالحج قبل أشهره، ولو قيل: إن الآية فيها دلالة
لقول الجمهور بصحة الإحرام بالحج قبل أشهره لكان قريبا، لأن قوله: {فَمَنْ
فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} [البقرة: 197] دليل على أنه يقع الفرض فيهن وفي
غيرهن، وإلا لما كان في القيد فائدة {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا
جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197] أي: يجب عليكم أن تعظموا حرمة الإحرام
بالحج، وخصوصا الواقع في أشهره، وتصونوه عن كل ما يفسده أو ينقضه من
الرفث، وهو الجماع ومقدماته الفعلية والقولية، خصوصا التكلم في أمور النكاح
بحضرة النساء، {وَلَا فُسُوقَ} [البقرة: 197] وهو جميع المعاصي، ومنها
محظورات الإحرام، {وَلَا جِدَالَ} [البقرة: 197] والجدال هو المماراة
والمنازعة والمخاصمة؛ لكونها تثير الشر وتوقع العداوة، والمقصود من الحج
الذل والانكسار لله، والتقرب إليه بما أمكن من القربات، والتنزه عن مقارفة
السيئات، فإنه يكون بذلك مبرورا، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة،
وهذه الأشياء - وإن كانت ممنوعة في كل زمان ومكان - فإنه يتأكد المنع منها
في الحج. واعلم أنه لا يتم التقرب إلى الله بترك
المعاصي حتى يفعل الأوامر، فلهذا أتبعه بقوله: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ
خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} [البقرة: 197] أتى (بِمَنْ) المفيدة لتنصيص
العموم؛ فكل عبادة وقربة فإنها تدخل في هذا، والإخبار بعلمه يتضمن الحث على
أفعال الخير خصوصا في تلك البقاع الشريفة والحرمات المنيفة فإنه ينبغي
اغتنام الخيرات والمنافسة فيها من صلاة وصيام وصدقة وقراءة وطواف وإحسان
قولي وفعلي، {وَتَزَوَّدُوا} [البقرة: 197] لهذا السفر المبارك؛ فإن التزود
فيه الاستغناء عن الخلق وعدم التشوف لما عندهم، وإعانة المسافرين،
والتوسعة على الرفقة، والانبساط والسرور في هذا السفر، وزيادة التقرب إلى
الله تعالى، وهذا الزاد المراد به إقامة البنية بلغة ومتاع، وأما الزاد
الحقيقي المستمر نفعه لصاحبه في دنياه وأخراه فهو زاد التقوى الذي هو زاد
إلى دار القرار، وهو الموصل لأكمل لذة وأجل نعيم دائما أبدا؛ ومن ترك هذا
الزاد فهو المنقطع به الذي هو عرضة لكل شر وممنوع من الوصول إلى دار
المتقين. وقد يتمكن الموفق من جعل الزاد الحسي يجمع
الزادين: بأن يقصد به وجه الله، والقيام بواجب النفس والرفقة ومن يتصل به،
والقيام بالإحسان المستحب، وقصد امتثال أمر الله، فالنية هي الأساس لكل
خير، التي تجعل الناقص كاملا والعادة عبادة، ثم قال: {وَاتَّقُونِ يا
أُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 197] أي: يا أهل العقول الرزينة اتقوا ربكم
الذي تقواه أعظم ما تأمر به العقول، وتركها دليل على فساد العقل والرأي. ولما أمر بتقواه أخبر أن ابتغاء فضله
بالاشتغال بالتكسب في التجارة في مواسم الحج وغيرها ليس فيه حرج إذا لم
يشغل عما يجب إذا كان المقصود هو الحج، وكان الكسب حلالا منسوبا إلى فضل
الله معترفا فيه بنعمة الله، لا منسوبا إلى حذق العبد والوقوف مع السبب
ونسيان المسبب، فإن هذا هو الحرج بعينه في كل وقت، فكيف إذا قارن النسك
الفاضل. وفي قوله: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 198] دلالة على أمور: * أحدها: أن الوقوف بعرفة من المشاعر
الجليلة، ومن أركان الحج، فإن الإفاضة من عرفات لا تكون إلا بعد الوقوف
الذي هو ركن الحج الأعظم بعد الطواف. * الثاني: الأمر بذكر الله عند المشعر
الحرام، وهو المزدلفة، وذلك أيضا معروف، يكون الحاج ليلة النحر بائنا بها،
وبعد صلاة الفجر يقف في المزدلفة داعيا حتى يسفر جدا، ويدخل في ذكر الله
عند المشعر الحرام ما يقع في المشعر من الصلوات فرضها ونفلها. * الثالث: أن الوقوف بمزدلفة متأخر عن الوقوف بعرفة، كما تدل عليه (الفاء) المفيدة للترتيب. * الرابع والخامس: أن عرفات ومزدلفة كليهما من مشاعر الحج المقصود فعلها وإظهارها. * السادس: أن مزدلفة في الحرم، كما قيده بالمشعر الحرام. * السابع: أن عرفة بالحل كما هو مفهوم التقييد بمزدلفة. {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ
كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ} [البقرة: 198] أي: اذكروا
الله كما من عليكم بالهداية بعد الضلالة، وكما علمكم ما لم تكونوا تعلمون،
فهذه من أكبر النعم التي يجب شكرها ومقابلتها بالإكثار من ذكر المنعم
بالقلب واللسان، {ثُمَّ أَفِيضُوا} [البقرة: 199] أي: من مزدلفة {مِنْ
حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: 199] من لدن إبراهيم إلى هذا الوقت،
والمقصود من هذه الإفاضة كان معروفا عندهم، وهو رمي الجمار، وذبح الهدايا،
والطواف، والسعي، والمبيت بمنى ليالي أيام التشريق، وتكميل بقية المناسك. ولما كانت هذه الإفاضة يقصد بها ما ذكر،
والمذكورات آخر المناسك، أمر تعالى بعد الفراغ منها باستغفاره؛ خشية الخلل
الواقع من العبد في أداء العبادة وتقصيره فيها، وبالإكثار من ذكره؛ شكرا له
على نعمة التوفيق لهذه العبادة العظيمة وتكميلها، وهكذا ينبغي للعبد كلما
فرغ من عبادة أن يستغفر الله عن التقصير، ويشكره على التوفيق، فهذا حقيق
بأن الله يجبر له ما نقص منها ويتقبلها، ويزيده نعما أخرى، لأن من جهل حق
ربه فرأى نفسه أنه قد كمل حقوق العبادة فأعجب بنفسه، ومن بعبادته على ربه،
وتراءى له أنه قد جعلت له محلا ومنزلة رفيعة، فهذا حقيق بالمقت، ويخشى عليه
من رد العمل. ثم أخبر تعالى عن أحوال الخلق، وأن الجميع
يسألونه مطالبهم، ويستدفعونه ما يضرهم؛ ولكن هممهم ومقاصدهم متباينة،
فمنهم من يقول: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا} [البقرة: 200] أي: يسأل
ربه من مطالب دنياه وشهواته فقط، {وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ}
[البقرة: 200] لا رغبة له فيها، ولا حظ له منها، ومنهم عالي الهمة من يدعو
الله لمصلحة الدارين، ويفتقر إلى ربه في مهمات دينه ودنياه، وكل من هؤلاء
وهؤلاء له نصيب من كسبهم وعملهم، وسيجازيهم الله على حسب أعمالهم ونياتهم،
جزاء دائرا بين الفضل والإحسان والكرم للمقبولين، وبين العدل والحكمة
لغيرهم، وفي هذه الآية دليل على أن الله تعالى يقبل دعوة كل داع، مسلما كان
أو كافرا، برا أو فاجرا، ولكن ليست إجابته دعاء من دعاه دليلا على محبته
وقربه منه إلا في مطالب الآخرة ومهمات الدين، فمن أجيبت دعوته في هذه
الأمور الدائم نفعها كان من البشرى، وكان أكبر دليل على بره وقربه من ربه. والحسنة المطلوبة في الدنيا يدخل فيها كل
ما يحسن وقعه عند العبد، وما به تكمل حياته، من رزق هنيء واسع حلال، وزوجة
صالحة، وولد تقر به العين، ومن راحة وعلم نافع وعمل صالح، وما يتبع ذلك من
المطالب النافعة المحبوبة والمباحة. وأما حسنة الآخرة فهي السلامة من العقوبات
التي يستقبلها العباد من عذاب القبر والموقف وعذاب النار، وحصول رضا الله،
والفوز بالنعيم المقيم، والقرب من الرب الرحيم، فهذا الدعاء أجمع الأدعية
وأكملها وأولاها بالإيثار، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من
الدعاء به، ويحث عليه. ولما أكمل الله تعالى أحكام النسك أمر
بالإكثار من ذكره في الأيام المعدودات، وهي أيام التشريق في قول جمهور
المفسرين، وذلك لمزيتها وشرفها وكون بقية المناسك تفعل بها، ولكون الناس
فيها أضيافا لله، ولهذا حرم صيامها، فللذكر فيها مزية ليست لغيرها؛ ولهذا
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله» ،
ويدخل في ذكر الله رمي الجمار، والتكبير عند رميها، والدعاء بين الجمرتين،
والذبح والتسمية فيه، والصلوات التي تفعل فيها من فرائض ونوافل، والذكر
المقيد بعد الفرائض فيها، وعند كثير من أهل العلم أنه يستحب فيها التكبير
المطلق كالعشر، فجميع ما يقرب إلى الله داخل بذكره: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي
يَوْمَيْنِ} [البقرة: 203] أي: خرج من منى، ونفر منها قبل غروب الشمس فلا
إثم عليه، ومن تأخر بأن بات بها ليلة الثالث من أيام التشريق؛ ليرمي من غده
فلا إثم عليه، وهذا تخفيف من الله على عباده حين أباح الأمرين، مع أن
التأخر أرجح لموافقته فعل النبي صلى الله عليه وسلم وزيادة العبادات،
وقوله: {لِمَنِ اتَّقَى} [البقرة: 203] هذا من الاحتراز العالي، لأن نفي
الحرج يوهم العموم، فقيل ذلك بهذا الشرط الذي هو شرط لنفي الحرج في كل شيء،
{وَاتَّقُوا اللَّهَ} [البقرة: 203] بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه،
{وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [البقرة: 203] فمجازيكم
بأعمالكم، فمن اتقاه وجد عنده جزاء المتقين، ومن لم يتقه عاقبه عقوبة تارك
التقوى، فإن التقوى هي ميزان الثواب والعقاب في القائم بها والمضيع لها،
فالعلم بالجزاء والإيمان به هو أعظم الدواعي للقيام بالتقوى. {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ
مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ
لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج: 26] الآية
- وما تلاها -[الحج: 26 - 29] . يذكر الله تعالى عظمة البيت الحرام
وجلالته، وعظمة بانيه، وهو خليل الرحمن فقال: {وَإِذْ بَوَّأْنَا
لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} [الحج: 26] أي: هيأناه له وأنزلناه
إياه، بحيث جعل قسما من ذريته هم سكانه، وأمره الله ببنيانه، فبناه وأسسه
على تقوى الله ورضوانه هو وابنه إسماعيل بنية صادقة وخضوع لله وإخلاص ودعاء
منهما أن يتقبل منهما هذا العمل الجليل، فتقبله الله. فهذه آثار القبول لهذا البيت في كل وقت
وجيل متواصلة، ووصاه بأن لا يشرك به شيئا، بأن ينفي الشرك عنه، وعن ذريته،
وعمن وصلت إليه دعوته، {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ} [الحج: 26] أي: من الشرك
والمعاصي، ومن الأنجاس والأدناس، وأضافه إلى نفسه ليكتسب شرفا إلى شرفه،
ولتعظم محبته في القلوب، لكونه بيت محبوبها الأعظم، وتنصب وتهوي إليه
الأفئدة من كل جانب، وليكون أعظم لتطهيره وتعظيمه للطائفين به؛ والقائمين
عنده للعبادات المتنوعة، {وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج: 26] أي:
المصلين، أي: طهره لهؤلاء الفضلاء الذين ليس لهم هم إلا طاعة مولاهم وما
يقربهم إليه، فهؤلاء لهم الحق، ومن إكرامهم تطهير هذا البيت لهم، وتهيئته
لما يريدونه عنده، ويدخل في تطهيره تطهيره من الأصوات اللاغية المرتفعة
التي تشوش على المتعبدين بالصلاة والطواف والقراءة وغيرها، وقدم الطواف
لاختصاصه بهذا البيت، ثم الاعتكاف لاختصاصه بجنس المساجد، {وَأَذِّنْ فِي
النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج: 27] أي: أعلمهم به وادعهم إليه، وبلغ دانيهم
وقاصيهم فرضه وفضيلته، فإنك إذا دعوتهم عن أمر الله أتوك حجاجا وعمارا
{رِجَالًا} [الحج: 27] أي: مشاة على أرجلهم من الشوق، {وَعَلَى كُلِّ
ضَامِرٍ} [الحج: 27] أي: ناقة ضامر تقطع المهامه والمفاوز، وتواصل السير
حتى تأتي إلى أشرف الأماكن {مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج: 27] أي: مكان
وبلد بعيد، وقد فعل الخليل صلى الله عليه وسلم ذلك، ثم من بعده ابنه محمد
صلى الله عليه وسلم، فدعيا الناس إلى حج هذا البيت، وأبديا وأعادا فيه فحصل
ما وعد الله به، أتاه الناس رجالا وركبانا من مشارق الأرض ومغاربها. ثم ذكر فوائد زيارة بيت الله الحرام مرغبا
فيه فقال: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج: 28] أي: لينالوا
بوصولهم لبيت الله في الأنساك منافع متنوعة دينية، ومنافع دنيوية كالتكسب
وحصول الأرباح، وهذا أمر مشاهد يعرفه كل أحد، فجميع العلوم والعبادات
الدينية التي تفعل في تلك البقاع الفاضلة، وما جعل الله لها من التضعيف
داخل في هذه المنافع، وجميع المنافع الدنيوية التي لا تعد ولا تحصى داخلة
في ذلك؛ فصدق الله وعده، وأنجز ما قاله، وكان ذلك آية وبرهانا على توحيده
وصدق رسله. وقوله: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي
أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ}
[الحج: 28] وهذه تجمع الأمرين: الدينية والدنيوية؛ أي: ليذكروا اسم الله
عند ذبح الهدايا؛ شكرا لله على ما رزقهم منها ويسرها لهم، فإذا ذبحتموها
{فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28] أي:
شديد الفقر. والآية الأخرى: {وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ
وَالْمُعْتَرَّ الْقَانِعَ} [الحج: 36] وهو الفقير الذي لا يسأل الناس،
{وَالْمُعْتَرَّ} [الحج: 36] الفقير السائل، وفي هذا الأمر بالأكل والإهداء
والصدقة، فإن الأمر يشمل أكل أهلها منها وإهداءهم للأغنياء، {ثُمَّ
لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} [الحج: 29] أي: يستكملوا بقية أنساكهم، ويزيلوا
عنهم محظورات الإحرام، وما ترتب عليها من الشعث ونحوه {وَلْيُوفُوا
نُذُورَهُمْ} [الحج: 29] التي أوجبوها على أنفسهم من الحج والعمرة
والهدايا، فنفس عقد العبد للإحرام إيجاب منه على نفسه، {وَلْيَطَّوَّفُوا
بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] أي: القديم أقدم المساجد على الإطلاق،
المعتق من تسلط الجبابرة عليه، وتخصيص الطواف به دون غيره من المناسك لفضله
وشرفه، ولكونه المقصود وما قبله وما بعده وسائل وتوابع، ولأنه يتعبد به
لله مع الأنساك ووحده، وأما بقية الأنساك فلا تكون عبادة إلا إذا كانت
تابعة لنسك). [تيسير اللطيف المنان: 1/97-108]
فصل في آيات تتعلق بالجهاد وتوابعه
قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ نَاصِرٍ السَّعْدِيُّ (ت: 1376هـ): (فصل في آيات تتعلق بالجهاد وتوابعه
قال تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج: 39]
كان المسلمون في أول الأمر مأمورين بكف الأيدي عن قتال الكفار، وإنما جهادهم بالدعوة لحكمة ظاهرة، فلما اضطهدوا واضطرهم الأعداء إلى ترك بلادهم وأوطانهم، وقتلوا من قتلوا، وحبسوا من حبسوا، وجدوا في العداوة البليغة بكل طريق، وهاجر المسلمون بسبب ذلك إلى المدينة، وقواهم الله على قتال الأعداء، وقد رماهم الأعداء عن قوس واحدة، فحينئذ أذن الله لهم في القتال، ولهذا قال: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج: 39] لمنعهم من دينهم، وإخراجهم من ديارهم، ومطاردتهم لهم في كل مكان، {وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج: 39] وهذا مع أمره لهم بفعل الأسباب، ومقاومة الأعداء بكل مستطاع أمر لهم بالتوكل عليه، واستنصاره، والطلب منه.
ثم ذكر صفة عدوانهم، فقال: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} [الحج: 40] بالأذية والفتنة بغير حق إلا أن ذنبهم إيمانهم بالله، واعترافهم بأنه ربهم وإلههم، وأنهم أخلصوا له الدين، وتبرءوا من عبادة المخلوقين، وهذا كما قال تعالى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج: 8]
وهذا ظاهر في حكمة الجهاد، وعظم مصلحته، وأنه من الضروريات في الدين؛ فإن المقصود به إقامة دين الله، والدعوة إلى عبادته التي خلق الله المكلفين لها، وأوجبها عليهم، ودفع كل من قاوم الأمر الضروري، ومقاومة الظالمين المعتدين على دين الله وعلى المؤمنين من عباده كما قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39]
ولهذا قال: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} [الحج: 40] فلولا مدافعة الله الناس بعضهم ببعض بأسباب متعددة، وطرق متنوعة قدرية وشرعية، وأعظمها وأجلها وأزكاها الجهاد في سبيله لاستولى الكفار الظالمون، ومحقوا أديان الرسل، فقتلوا المؤمنين بهم، وهدموا معابدهم، ولكن ألطاف الله عظيمة، وأياديه جسيمة، وبهذا وشبهه يعرف حكمة الجهاد الديني، وأنه من الضروريات لا كقتال الظلمة المبني على العداوات والجشع والظلم والاستعباد للخلق، بل الجهاد الإسلامي مرماه وغرضه الوحيد إقامة العدل، وحصول الرحمة، واستعباد الخلق لخالقهم، وأداء الحقوق كلها، ونصر المظلومين، وقمع الظالمين، ونشر الصلاح والإصلاح المطلق بكل وجه واعتبار، وهو من أعظم محاسن دين الإسلام.
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ - وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ - وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [الأنفال: 45 - 47]
هذه الآيات تضمنت الأمر بجهاد الأعداء، والإرشاد إلى الأسباب التي ينبغي للجيوش والمجاهدين الأخذ بها، فمن أعظمها وأهمها أمران: الصبر، وهو الثبات التام وإبداء كل مجهود في تحصيل ذلك، والثاني: التوكل على الله، والتضرع إليه، والإكثار من ذكره، فمتى اجتمع الأمران على وجه الكمال والتكميل فقد أتى المجاهدون بالأسباب الوحيدة للنصر والفلاح، فليبشروا بنصر الله وليثقوا بوعده.
فيدخل بالأمر بالصبر والثبات تمرين النفوس على ذلك، فإنه من يتصبر يصبره الله، وتعلم الرمي والركوب والفنون العسكرية المناسبة للزمان، فإن التعليم وتعلم أمور الجهاد من أكبر العون على الثبات والصبر؛ ومن ذلك الحث على الشجاعة، والسعي في أسبابها، والترغيب في فضائل الجهاد، وما فيه من الثمرات العاجلة والآجلة، وما في تضييعه من ضياع الدين والدنيا، واستيلاء الأعداء، والذل والدمار، فإن النفوس الأبية والهمم العلية لا ترضى لأنفسها بغير هذا الخلق الفاضل الذي هو أعلى الأخلاق وأنفعها، قال تعالى:
{إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ} [النساء: 104] فحثهم على الصبر بتأملهم وطمعهم في الأجر والثواب وإدراك المقامات العالية.
وقال أيضا في ذم الناكلين، وترغيب التائبين الصابرين:
{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ - وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [التوبة: 120 - 121]
وقال عن المنافقين ونكولهم عن مشقة الجهاد: {وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} [التوبة: 81] أي: لو كان عندهم فقه نافع في تنزيل الأشياء منازلها، وتقديم ما ينبغي تقديمه لآثروا مشقة الجهاد على راحة القعود الضار عاجلا وآجلا.
وفي هذا أنه بحسب فقه العبد وعلمه ويقينه يكون قيامه بالجهاد، وصبره عليه وثباته، ومن دواعي الصبر وهو من الفقه أيضا أنه إذا علم المجاهد أنه على الحق ويجاهد أهل الباطل أن هذا أعلى الغايات وأشرفها وأحقها، وأن الحق منصور وعاقبته حميدة.
ومن دواعي الصبر الثقة بالله وبوعده؛ فإن الله وعد الصابرين العون والنصر، وأنه معهم في كل أحوالهم، ومن كان الله معه فلو اجتمع عليه من بأقطارها لم يخف إلا الله، ومما يعين على الصبر والثبات (الأمر الثاني) وهو التوكل على الله، وقوة الاعتماد عليه، والتضرع إليه في طلب النصر، والإكثار من ذكره، كما قال تعالى هنا حيث رتب على هذا الفلاح: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال: 45] وقال تعالى: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249]
وقال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ - وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ - فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ} [آل عمران: 146 - 148]
وقال تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ} [محمد: 7] أي: تقوموا بدينه وبالحق الذي جاء به رسوله مخلصين لله، قاصدين أن تكون كلمة الله هي العليا ينصركم، ويثبت أقدامكم، وقال تعالى: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 160]
فإخباره بأنه المتفرد بنصرهم، وأن غيره لا يملك من النصر شيئا، وأمرهم بالتوكل عليه أمر لهم بأقوى الأسباب النافعة في هذا المقام العظيم؛ وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3] {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36]
أي: الذي قام بعبوديته، فبحسب توكلهم عليه، وقيامهم بعبوديته يحصل لهم النصر، والكفاية التامة.
ومن أسباب النصر والصبر والثبات: اتفاق القلوب، وعدم التفرق والتنازع، فإن ذلك محلل للقوة، موجب للفشل، وأما اجتماع الكلمة، وقيام الألفة بين المؤمنين، واتفاقهم على إقامة دينهم وعلى نصره فهذا أقوى القوى المعنوية التي هي الأصل، والقوة المادية تبع لها، والكمال: الجمع بين الأمرين كما أمر الله بذلك في هذه الآية، وفي قوله: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ} [الأنفال: 60]
ومن أسباب الثبات والنصر: حسن النية، وكمال الإخلاص في إعلاء كلمة الحق؛ فلهذا حذر تعالى من مشابهة الذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس، ويصدون عن سبيل الله، فهؤلاء لما لم يعتمدوا على ربهم، وأعجبوا بأنفسهم، وخرجوا أشرين بطرين، وكان قتالهم لنصر الباطل باءوا بالخيبة والفشل والخذلان، ولهذا أدب خيار الخلق لما حصل من بعضهم الإعجاب بالكثرة في غزوة حنين حيث قال القائل: لن نغلب اليوم عن قلة. فقال: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة: 25] فلما زال هذا الأمر عنهم، وعرفوا ضعفهم وعاقبة الإعجاب: {أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} [التوبة: 26]
ومن الأسباب التي أرشد الله إليها في القتال: الثبات والصبر وحسن التدبير، والنظام الكامل في جميع الحركات العسكرية، قال تعالى: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [آل عمران: 121]
وكان صلى الله عليه وسلم يرتب الجيش، وينزلهم منازلهم، ويجعل في كل جنبة كفئها، ويسد الثغرات التي يخشى أن يتسرب منها العدو، يحفظ المكامن، ويبعث العيون لتعرف أحوال العدو، ويستعين بمشاورة أصحابه كما أمر الله بذلك، خصوصا في هذا الأمر المهم، وتعرف أسرار العدو، وبث العيون، ووضع الجواسيس السريين الذين لا يكاد يشعر بهم، كما أن من المهم التحرز من جواسيس العدو، وعمل الأسباب لأخذ الحذر من ذلك بحسب ما يليق، ويناسب الزمان والمكان.
ومن المهم أيضا أن تفعل جميع الأسباب الممكنة في إخلاص الجيوش، وقتالها عن الحق، وأن تكون غايتها كلها واحدة لا يزعزعها عن هذا الغرض السامي فقد رئيس، أو انحراف كبير، أو تزعزع مركز قائد، أو توقف في صمودها في طريقها النافع على أمور خارجية، فإنه متى كانت هذه الغاية العالية هي التي يسعى لها أهل الحل والعقد، ويعملون لها التعليمات القولية والفعلية، كانت الجيوش التي على هذا الوصف مضرب المثل في الكمال وسداد الأحوال، وحصول المقاصد الجليلة؛ ولهذا أرشد الله المؤمنين يوم أحد إلى هذا النظام العجيب، فقال تعالى:
{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144]
فنبههم على أنه وإن كان محمد هو الإمام الأعظم، والرسول المعظم، فإنه لا ينبغي لكم أن يفت فقده في عزيمتكم، وانحلال قوتكم، بل أنتم تقاتلون لله، وعلى الحق الذي بعث به رسوله، ولدفع الباطل والشرور، فاجعلوا هذه الغاية نصب أعينكم، وأساس عملكم، وامضوا قدما في سبيل الله غير هائبين، ولا متأثرين إذا أتت الأمور على خلاف مرادكم، فإن الأمور هكذا تكون: تارة لك، وتارة عليك، والكمال كل الكمال أن يكون العبد عبدا لله في الحالين، في السراء والضراء، في حال إتيان الأمور على ما يحب، أو ضد ذلك، وهذا الوصف هو كمال الفرد، وكمال الجماعات، والله الموفق.
ومن الأمور المهمة جدا أن يكون الرئيس رحيما برعيته، ناصحا محبا للخير، ساعيا فيه جهده، كثير المراودة والمشاورة لهم، خصوصا لأهل الرأي والحجا منهم؛ وأن تكون الرعية مطيعة منقادة، ليس عندهم منازعات ولا مشاغبات، قال تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] أي: إذا حصل النزاع في أي أمر من الأمور، خصوصا في الأمور المتعلقة في سياسة الحرب، ردت إلى هذا الأصل الذي يطمئن إليه المؤمنون، ويلجأ إليه كبارهم وصغارهم، لعلمهم أنه فرض على جميعهم، ولعلمهم أن حكم الله ورسوله هو الخير والصلاح، وأن الله يعلم من مصالحهم ما لا يعلمون، ويرشدهم إلى كل ما به ينتفعون.
ومن الأمور المهمة جدا سلوك طريق الحق، والعدل في قسمة الغنائم، وأن لا تكون ظالمة مستبدا بها الأقوياء، محروما منها الضعفاء، أو تكون فوضى، فإن هذين الأمرين مع ضررهما في الدين - وإن هذا لا يحل ولا يجوز، وهو من أعظم المحرمات - فإنهما يضران غاية الضرر في الجيوش في وقوع العداوات، وحصول الجشع والطمع، وكون وجهتها تكون متباينة، فبذلك ينحل النظام، ويقع الفشل، ويكون هذا الأمر أعظم سلاح للأعداء على المسلمين.
ومن الأمور المهمة جدا أيضا - وهي عون كبير في الحروب - السعي بقدر الاستطاعة في إيقاع الانشقاق في صفوف الأعداء، وفعل كل سبب يحصل به تفريق شملهم وتفريق وحدتهم، ومهادنة من يمكن مهادنته منهم، وبذل الأموال للرؤساء إذا غلب على الظن أن ينكف شرهم عن المسلمين، فكم حصل بهذا الطريق من نكاية العدو ما لا يحصل بالجيوش الكثيرة، ولهذا قال:
{إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ} [النساء: 90]
فذكر الله هذه المصلحة العظيمة في الكف عن أمثال هؤلاء الموصوفين.
وللموفقين من الرؤساء وقواد الجيوش في هذه الأمور مقامات معروفة صار لهم فيها اليد البيضاء على المسلمين.
فانظر إلى هذه التعاليم الإلهية التي هي النظام الكامل الوحيد في جميع الأزمنة والأمكنة، واستدل بذلك على أن الإسلام الحقيقي هو الدين الحق الذي إليه ملجأ الخليقة، وبه سعادتها وسلامتها من الشرور، وأن النقص والهبوط بتضييع تعاليم هذا الدين الذي أكمله الله، وأتم به النعمة على المؤمنين). [تيسير اللطيف المنان: 1/108-116]