16 May 2015
أحكام القرآن [المعاملات]
فصل في البيوع وأنواع المعاملات
قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ نَاصِرٍ السَّعْدِيُّ (ت: 1376هـ): (فصل في البيوع وأنواع المعاملات
قال الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران: 130] وقال: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا
تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ
تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا
تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282]
إلى قوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 282] اشتملت هذه الآيات الكريمات على أحكام جمة
وفوائد مهمة، منها أن الأصل في البيوع والمعاملات والتجارات كلها الحل
والإطلاق، كما هو صريح هذه الآيات، لا فرق بين تجارة الإدارة التي يديرها
التجار بينهم، هذا يأخذ العوض، وهذا يعطي المعوض، ولا بين التجارة في
الديون الحال ثمنها، المؤجل مثمنها كالسلم، وبيع السلع بأثمان مؤجلة لعموم
قوله: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ} [البقرة: 282] ولا بين تجارة التربص
والانتظار، بأن يشتري السلع في أوقات رخصها، وينتظر بها الفرص من مواسم
وغيرها، ولا بين التجارة بالتصدير والتوريد من محل إلى آخر، ولا بين
التجارة والتكسب أفرادا ومشتركين، فكل هذه الأنواع وما يتبعها قد أباحها
الشارع وأطلقها لعباده؛ رحمة بهم، وقياما لمصالحهم، ودفعا للأضرار عنهم،
وكلها جائزة بما يقترن بها ويتبعها من شروط ووثائق ونحوها إذا سلمت من
المحاذير الشرعية التي نبه الله عليها ورسوله، يدخل في هذا العموم جميع
أجناس المبيعات وأنواعها وأفرادها من عقارات وحيوانات وأمتعة وأطعمة وأوان
وأشربة وأكسية وفرش وغيرها، وكلها لا بد أن تقترن بهذا الشرط الذي ذكره
الله، وهو التراضي بين المتعاوضين، الرضا الصادر عن معرفة، وأما السفيه
والمجنون ومن لا يعتبر كلامه فوليه يقوم مقامه في معاملاته. وأعظم المحاذير المانعة من صحة المعاملات: الربا والغرر والظلم. فالربا الذي حرمه الله ورسوله يدخل فيه
ربا الفضل، وهو بيع المكيل بالمكيل من جنسه متفاضلا، وبيع الموزون بالموزون
من جنسه متفاضلا، ويشترط في هذا النوع في حله ما شرط الشارع، وهو التماثل
بين المبيعين بمعياره الشرعي، مكيلا كان أو موزونا، والقبض للعوضين قبل
التفرق، وربا النسيئة: وهو بيع المكيل بالمكيل إلى أجل، أو غير مقبوض - ولو
من غير جنسه - وبيع الموزون بالموزون إلى أجل أو بلا قبض، ويستثنى من هذا
السلم. وأشد أنواع هذا النوع قلب الديون في الذمم، وهو الذي ذكره بقوله: {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران: 130] وذلك إذا حل ما في ذمة المدين، قال له
الغريم: " إما أن تقضيني ديني، وإما أن تزيد في ذمتك "، فيتضاعف ما في ذمة
المعسر أضعافا مضاعفة بلا نفع ولا انتفاع، وذلك أن المعسر قد أوجب الله على
غريمه إنظاره كما قال تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى
مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] وسواء كان قلب الدين المذكور صريحا أو
يتحيل عليه بحيلة ليست مقصودة، وإنما يراد بها التوصل إلى مضاعفة ما في ذمة
الغريم، فهذا الذي قد توعده الله بهذا الوعيد الشديد، وأن الذين يأكلون
الربا لا يقومون من قبورهم إلى بعثهم ونشورهم إلا كما يقوم الذي يتخبطه
الشيطان من المس، أي: من الجنون، فيقومون مرعوبين منزعجين قد اختلت حركاتهم
لما يعلمون ما أمامهم من القلاقل والأهوال المزعجة والعقوبات لأكلة الربا،
وقد آذنهم الله بمحاربته ومحاربة رسوله إذا لم يتوبوا، ومن كان محاربا لله
ورسوله فإنه مخذول، وإن عواقبه وخيمة، وإن استدرج في وقت فآخر أمره المحق
والبوار، قال تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ}
[البقرة: 276] {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ
النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ} [الروم: 39] فالمرابي يأخذه الأمن والغرور الحاضر، ولا
يدري ما خبئ له في مستقبل أمره، وأن الله سيجمع له بين عقوبات الدنيا
والآخرة، إلا إن تاب وأناب، فإذا تاب فله ما سلف، وأما العقود الحاضرة
فالزيادة لا تحل، وعليه أن ينزل على رأس ماله، كما قال تعالى: {وَإِنْ
تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ} [البقرة: 279] بأخذ الزيادة، {وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 279] بأخذ بعض رؤوس أموالكم. ومن أنواع الربا: القرض الذي يجر نفعا؛
فإن القرض من الإحسان والمرافق بين العباد، فإذا دخلته المعاوضة وشرط
المقرض على المقترض رد خير منه بالصفة أو المقدار، أو شرط نفعا أو محاباة
في معاوضة أخرى، فهو من الربا؛ لأنه في الحقيقة دراهم بدراهم مؤخرة، والربح
ذلك النفع المشروط، فالله تعالى وعظ المؤمنين عن تعاطي الربا كله
والمعاملة به، وأن يكتفوا بالمكاسب الطيبة التي فيها البركة وصلاح الدين
والدنيا، وفيها تزكو الأخلاق، ويحصل الاعتبار وحسن المعاملة والصدق والعدل
وأداء الحقوق والسلامة من جميع التبعات. ومن المحاذير في المعاملات محذور الميسر
والغرر، فإن الله حرم في كتابه الميسر، وقرنه بالخمر، وذكر مضار ذلك
ومفاسده، والميسر يدخل في المعاملات كما يدخل في المغالبات، فكما أن
المراهنات والمقامرات وتوابعها من الميسر، فالبيوع التي فيها غرر ومخاطرات
وجهالات داخلة في الميسر، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم كلمة جامعة «نهى عن
بيع الغرر» ، فيدخل في ذلك بيع الحمل في البطن، وبيع الآبق والشارد،
والشيء الذي لم ير ولم يوصف، ودخل فيه بيع الملامسة والمنابذة، وجميع
العقود التي فيها جهالة بينة؛ وذلك لأن أحد المتعاملين إما أن يغنم، وإما
أن يغرم، وهذا مخالف لمقاصد المعاوضات التي يقصد أن يكون العوض في مقابلة
المعوض على وجه يستوي فيه علم المتعاوضين، فإذا جهل الثمن أو المثمن، أو
كان الأجل في الديون غير مسمى ولا معلوم دخل هذا في بيع الغرر والميسر الذي
زجر الله عنه. ومن المحاذير المنهي عنها في المعاملات:
الظلم والغش والتدليس وبخس المكاييل والموازين وبخس الحقوق أخذا وإعطاء،
بأن يأخذ أكثر مما له، أو يعطي أقل مما عليه، فهذا من أعظم المحرمات، وقد
توعد الله عليه بالعقوبات في الدنيا والآخرة، وأهلك أمة عظيمة بسبب هذه
المعاملة الخبيثة، وهذه المعاملات المحرمة تدخل في قوله: {لَا تَأْكُلُوا
أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء: 29] كما يدخل فيه الغضب
والسرقة ونحوهما). [تيسير اللطيف المنان: 1/116-120]
آية كتابة الديون وما فيها من الفوائد
قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ نَاصِرٍ السَّعْدِيُّ (ت: 1376هـ): (وفي آية الدين من الفوائد سوى ما تقدم: الأمر بكتابة المعاملات، والإشهاد عليها، وأن يكون الكاتب عدلا عارفا بالكتابة وبما ينبغي أن يكتب؛ وهذا الأمر للندب والاستحباب عند جمهور العلماء، إلا إذا وجب حفظ المال، وكان على دين مؤجل أو غير مقبوض، فإنه لا يتم حفظه إلا بذلك، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وفيها أن الكاتب لا يكتب إلا ما أملاه من عليه الحق إن كان رشيدا، ووليه إن كان عاجزا ضعيفا كالمجنون والصغير والسفيه، وأن على صاحب الحق أن يقر بالحق كله من غير بخس، أي: نقص لعدده أو صفته.
وتدل الآية أن الإقرار من أعظم الطرق التي تثبت بها الحقوق في الذمم، كما يثبت فيها براءة الذمم المشتغلة بالحقوق إذا أقر من له الحق بالإقباض أو الإبراء المعتبر، وأنه لا يعذر من أقر لو ادعى الغلط أو الكذب ونحوه.
وفيها الإرشاد إلى حفظ الحقوق بالإشهاد والكتابة والرهن إذا احتيج إليه في سفر أو غيره، وأن نصاب الشهادة في المعاملات كلها من عقود وفسوخ وثبوت وشروط وابراء ونحوها رجلان مرضيان إن أمكن، وإلا فرجل واحد وامرأتان، وثبت في السنة قبول شهادة الواحد مع يمين صاحب الحق.
وفيها أن شهادة الفساق والمجهولين غير مقبولة، وأن الاعتبار بمن يرضاه الناس ويعتبرونه.
وفيها أن شهادة المرأتين تقوم مقام شهادة الرجل لكمال حفظ الرجل وقوة ذاكرته، كما نبه عليه بقوله: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة: 282]
وفيها دلالة أن من نسي شهادة فتذكرها، أو ذكرها فذكرها أن شهادته صحيحة.
وفيها أنه لا يحل أن يشهد إلا بما علمه وتيقنه، فإن شك فيه لم يحل له أن يشهد.
وفيها بيان الحكمة العظيمة في هذه الإرشادات من الرب في حفظ المعاملات، وأن ذلك صلاح للعباد في معاملاتهم، وأن تكون جارية على القسط، وأنها تقطع الخصومات والمنازعات، وتبرئ الذمم، وتمنع الظالم من ظلمه، فلهذا قال:
{ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا} [البقرة: 282]
فكم حصل بهذه الوثائق التي أرشد الله إليها من مصالح عظيمة، وكم اندفع بها من مفاسد وشرور كثيرة، فسبحان من جعل شرعه صلاحا لدين العباد ودنياهم.
وفيها أن التجارة الحاضرة لا بأس بترك كتابتها لكون التقابض يغني غالبا عن ذلك، ولمشقة كثرة ذلك، وأما الشهادة فلا ينبغي تركها خصوصا في الأمور المهمة وقوله: {وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ} [البقرة: 282] يحتمل أنه مبني للفاعل أو للمفعول، والمعنى يشمل الأمرين؛ فالكاتب والشهيد يجب عليه أن يعدل في كتابته وشهادته، ولا يحل له أن يميل مع أحدهما لغرض من أغراضه، ولا يضارهما بأخذ أجرة لا تحل له على شهادته، أو يماطل في شهادته وكتابته مماطلة تضرهما أو أحدهما، وكذلك المعاملان لا يحل أن يضارا الكاتب والشهيد بأن يكلفاه ما لا يطيقه، أو يتضرر به، لأن الشاهد والكاتب محسنان، حقهما أن يشكرا على ذلك، فمضارتهما تنافي ذلك.
وفيها أن تعلُّم الكتابة من الأمور المحبوبة لله، وأنه نعمة من الله على من علمه الله الكتابة، فمن شكر هذه النعمة - أن لا يأبى كاتب أن يكتب كما علمه الله.
ويستفاد من المعنى المقصود أن الله شرع هذه الأمور حفظا للحقوق، وأنه ينبغي تعلم كتابة الوثائق والاصطلاحات الجارية بين الناس في المعاملات؛ حتى يكون الكاتب بهذه الصفة التي يحرر فيها المعاملات، فينتفع الناس بحفظ حقوقهم، فلا يكفي مجرد الكتابة من غير معرفة بهذه الأمور، كما أنه لا بد أن يكون الكاتب معتبرا ثقة؛ ليحصل الاعتماد على كتابته والطمأنينة إليها.
ويستفاد من هذا أن الخط المعروف صاحبه وثقته أنه معتبر معمول به؛ ليتم المقصود من الكتابة في حياة الكاتب وبعد موته.
وفيها وجوب أداء الشهادة وتعينها على من تحملها، وأن كتمان الشهادة من كبائر الذنوب، وكما أن شهادة الزور بأن يشهد بثبوت ما ليس بثابت، أو بالبراءة من الحق الثابت وهو كاذب من أكبر الكبائر، فكذلك السكوت عن أداء الشهادة، وكلا الأمرين ظلم لصاحب الحق بتفويت حقه، وظلم أيضا للنفس بوقوع الإثم، وظلم للظالم لإعانته على الإثم والعدوان.
وفيها مشروعية الوثائق بالحقوق، وهي أربعة: الشهادة والرهن - كما هو مذكور في هذا الموضع - والضمان والكفالة، يؤخذ من الاعتبار على هذا المعنى، ومن قوله: {وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72]
أي: كفيل وضامن، وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه، وتقييد الرهن بالسفر لا يدل على أنه لا يكون رهن في الحضر، بل قيد لأجل الحاجة إليه لعدم الكاتب غالبا.
وفيها ثبوت الولاية على القاصرين - لجنون أو صغر أو سفه - لقوله: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} [البقرة: 282]
فأقامه في التصرفات في ماله مقام المالك الرشيد، وعليه أن يفعل في أموالهم ما هو الأصلح، قال تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152]
ولا يدفع إليهم حتى يرشدوا، ويعرف ذلك بالاختبار والتجربة كما قال تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6]
وفيها في قوله: {وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ} [البقرة: 282] من الفوائد: التنبيه على أن كل من فعل إحسانا ومعروفا أن عليه أن يتممه ويكمله بالتسهيل والتيسير وعدم المضارة، وأن للمحسنين على الناس أن يشكروا لهم معروفهم، وأن لا يكلفوهم الضرر والمشقة جزاء لهم على إحسانهم، وترغيبا في الإحسان.
واستدل بقوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 282] أن تقوى الله وسيلة إلى حصول العلم، كما أن العلم سبب للتقوى، وأوضح من هذا قوله تعالى:
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال: 29] أي: علما تفرقون به بين الحق والباطل، وبين الحقائق المحتاج إليها.
وفيها أنه كما أنه من العلوم النافعة تعليم الأمور الدينية المتعلقة بالعبادات والمعاملات، فمنه أيضا تعليم الأمور الدنيوية المتعلقة بالمعاملات، فإن الله حفظ على العباد أمور دينهم ودنياهم، وكتابه العظيم فيه تبيان كل شيء.
وفيها أنه يجوز التعامل بغير وثيقة، بل بمجرد الاستئمان لقوله: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283]
ولكن في هذه الحال تتوقف الثقة على التقوى والخوف من الله، وإلا فصاحب الحق مخاطر، فلهذا وعظ الله من عليه الحق أن يؤدي أمانته، ويؤخذ من هذا أن من عاملك ورضي بأمانتك ووثق فيك أنه قد فعل معك معروفا، ورآك موضع الثقة والأمانة؛ فيتأكد عليك أداء الأمانة من الجهتين: أداء لحق الله، ووفاء بحق من وثق فيك ومكافأة له). [تيسير اللطيف المنان: 1/120-124]
فصل
قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ نَاصِرٍ السَّعْدِيُّ (ت: 1376هـ): (فصل
قال الله تعالى: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص: 26] وقال يوسف: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55]
يؤخذ من هاتين الآيتين أنه ينبغي أن يتخير في الإجارات والجعالات والأمانات والولايات كلها - كبيرة كانت أو صغيرة - من جمع الوصفين: القوة على ذلك العمل، والكفاءة والحفظ وتوابع ذلك من جميع ما تقوم به الأعمال، والأمر الثاني: الأمانة، فبالأمانة تتم به الثقة، ويعلم نصحه وبذله الواجب، وبالكفاءة والقوة يحصل العمل ويتم ويتقن، فإن وجد الجامع للوصفين على وجه الكمال فليستمسك بغرزه، وإلا اكتفى بالأمثل فالأمثل، ونقص الأعمال كلها من الإخلال بالوصفين أو أحدهما). [تيسير اللطيف المنان: 1/124-125]
فصل في آيات المواريث
قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ نَاصِرٍ السَّعْدِيُّ (ت: 1376هـ): (فصل في آيات المواريث
قال الله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] إلى قوله: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ} [النساء: 13]
والتي في آخر السورة:
{يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} [النساء: 176] إلى آخرها [النساء: 176] .
تضمنت هذه الآيات الكريمة أحكام المواريث في غاية البيان والتفصيل والإيضاح، وفي غاية الحكمة، فتوصيته للعباد بأولادهم من كمال رحمته وعنايته، وأنه أرحم بهم من والديهم، ولذلك وصى الوالدين بالأولاد، فالأولاد عند والديهم وصايا من الله وأمانات عندهم؛ على الوالدين أن يربوهم تربية نافعة لدينهم ودنياهم، فإن فعلوا فقد قاموا بهذه الأمانة، وإلا فقد ضيعوها، وباءوا بإثمها وخسرانها، فذكر الله ميراث الأولاد، وأن لهم ثلاث حالات:
الحالة الأولى: إما أن يجتمع الذكور والإناث، فحينئذ يتقاسمون المال، أو ما أبقت الفروض على عدد رؤوسهم: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] سواء كانوا أولاد صلب أو أولاد ابن، ويؤخذ من هذا:
الحالة الثانية: أن يكون الأولاد ذكورا فقط، فإنهم يتقاسمونه متساوين، ومن ارتفعت درجته حجب من دونه من الأولاد إذا كان الرفيع من الذكور.
الحالة الثالثة: إذا كن إناثا، فإن كانت واحدة فلها النصف، سواء كانت بنت صلب أو بنت ابن، وإن كانتا اثنتين فأكثر فلهما الثلثان، ومن الحكمة في الإتيان بقوله: {فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} [النساء: 11] التنبيه على أنه لا يزيد الفرض وهو الثلثان بزيادتهن على الثنتين، كما زاد فرض النصف لما صرن أكثر من واحدة، وقد نص الله على أن الأختين فرضهما الثلثان، فالبنتان من باب أولى وأحرى، فإن كان البنتان بنات صلب لم يبق لبنات الابن شيء، وصار البقية بعد فرض البنات للعاصب، وإن كانت العالية واحدة أخذت النصف، وباقي الثلثين وهو السدس لبنت أو بنات الابن.
هذا ميراث الأولاد قد استوعبته الآية استيعابا، وقد علمنا من ذلك أن لفظ الولد يشمل الذكر والأنثى من أولاد الصلب وأولاد الابن وإن نزل، وأما أولاد البنات فلا يدخلون في إطلاق اسم الأولاد في المواريث.
ثم ذكر الله ميراث الأبوين: الأم والأب، فجعل الله للأم سدسا وثلثا، جعل لها السدس مع وجود أحد من الأولاد مطلقا، منفردين أو متعددين، أولاد صلب أو أولاد ابن، وكذلك جعل لها السدس بوجود جمع من الإخوة والأخوات اثنين فأكثر، وجعل لها الثلث إذا فقد الشرطان المذكوران.
وأما ثلث الباقي في زوج أو زوجة وأبوين فقيل إنه يؤخذ من قوله: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} [النساء: 11] فإذا كان معهما أحد الزوجين خرجت عن هذا فلم يكن لها ثلث كامل، أو يقال: إن الله أضاف الميراث للأبوين - وهو الأب والأم - فيكون لها ثلث ما ورثه الأبوان، ويكون ما يأخذه الزوج أو الزوجة بمنزلة ما يأخذه الغريم. . فالله أعلم.
وأما الأب فقد فرض الله له السدس مع وجود أحد من الأولاد، فإن كان الأولاد ذكورا لم يزد الأب على السدس، وصار الأبناء أحق بالتقديم من الأب بالتعصيب بالإجماع.
وإن كان الأولاد إناثا واحدة أو متعددات فرض له السدس ولهن أو لها الفرض، فإن بقي شيء فهو لأولى رجل، وهو الأب هنا؛ لأنه أقرب من الإخوة وبنيهم ومن الأعمام وبنيهم، فجمع له في هذه الحال بين الفرض والتعصيب، وإن استغرقت الفروض التركة لم يبق للأب زيادة عن السدس، كما لو خلف أبوين وابنتين؛ فلكل واحد من الأبوين السدس، وللبنتين الثلثان.
ومفهوم الآية الكريمة أنه إذا لم يكن أولاد ذكور ولا إناث، أن الأب يرث بغير تقدير، بل بالعصب، بأن يأخذ المال كله إذا انفرد، أو ما أبقت الفروض إن كان معه أصحاب فروض، وهو إجماع، وحكم الجد حكم الأب في هذه الأحكام إلا في العمريتين؛ فإن الأم ترث ثلثا كاملا مع الجد؛ وأما ميراث الجدة السدس عند عدم الأم فهو في السنة.
ثم ذكر الله ميراث الزوجين، وأن الزوج له نصف ما تركت زوجته إن لم يكن لها ولد، فإن كان لها ولد فله الربع، وأن الزوجة واحدة أو متعددات لها الربع مما ترك الزوج إن لم يكن له ولد، فإن كان للزوج ولد منها أو من غيرها ذكر أو أنثى، ولد صلب أو ولد ابن فلها أو لهن الثمن.
ثم ذكر الله ميراث الإخوة من الأم، وأنهم لا يرثون إلا إذا كانت الورثة كلالة ليس فيهم أحد من الفروع ولا الأب والجد، فللواحد من الإخوة من الأم أو الأخوات السدس، وللأنثيين فأكثر الثلث، يستوي فيه ذكرهم وأنثاهم، وهذه الفروض كلها ذكر الله أنها من بعد الوصية إذا حصل الإيصاء بها، ومن بعد الدين، وقد قضى النبي صلى الله عليه وسلم: أن الدين قبل الوصية، وقد اتفق العلماء على ذلك، وشرط الله في الوصية أن لا تكون على وجه المضارة بالورثة، فإن كانت كذلك فإنها وصية إثم وجنف يجب تعديلها ورد الظلم الواقع فيها.
وأخبر تعالى أن هذه التقديرات والفرائض حدود الله قدرها وحددها، فلا يحل مجاوزتها، ولا الزيادة فيها والنقصان، بأن يعطى وارث فوق حقه، أو يحرم وارث، أو ينقص عن حقه.
ثم ذكر في آخر السورة ميراث الإخوة لغير أم وأخواتهم بأن الأنثى الواحدة لها النصف، وللثنتين فأكثر الثلثان، وإن اجتمع رجال ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين، ويقال فيهم كما يقال في الأولاد إذا كانوا ذكورا تساووا إذا كانوا أشقاء أو لأب، فإن وجد هؤلاء وهؤلاء حجب الأشقاء الإخوة للأب، وإن كن نساء شقيقات وأخوات لأب، واستغرق الشقيقات الثلثين لم يبق للأخوات للأب شيء؛ فإن كانت الشقيقة واحدة أخذت نصفها، وأعطيت الأخت للأب أو الأخوات السدس تكملة الثلثين.
وما سوى هذه الفروض فإن الورثة من إخوة لغير أم وبنيهم وأعمام وبنيهم وولاء يدخلون في قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس الصحيح: «ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولى رجل ذكر» . رواه مسلم، فيقدم الإخوة ثم بنوهم ثم الأعمام ثم بنوهم ثم الولاء؛ ويقدم منهم الأقرب منزلة، فإن استوت منزلتهم قدم الأقوى وهو الشقيق على الذي لأب. والله أعلم). [تيسير اللطيف المنان: 1/125-129]
فصول تتعلق بالنكاح وتوابعه من الأحكام
قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ نَاصِرٍ السَّعْدِيُّ (ت: 1376هـ): (فصول تتعلق بالنكاح وتوابعه من الأحكام
قال الله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا - وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 3 - 4]
لما من الباري على عباده بالنكاح قدرا وأباحه شرعا، بل أحبه ورضيه وحث عليه؛ لما يترتب عليه من المصالح الكثيرة، رتب عليه أحكاما كثيرة وحقوقا متنوعة تدور كلها على الصلاح وإصلاح أحوال الزوجين، ودفع الضرر والفساد، وهي من محاسن الشريعة، والشريعة كلها محاسن، وجلب للمصالح، ودرء للمفاسد، يقول تعالى هنا: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا} [النساء: 3] أي: تقوموا بحق النساء اليتامى اللاتي تحت حجوركم وولايتكم لعدم محبتكم إياهن فاعدلوا إلى غيرهن {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] أي: ينبغي أن تختاروا منهن الطيبات في أنفسهن اللاتي تطيب لكم الحياة بالاتصال بهن، الجامعات للدين والحسب والعقل والآداب الحسنة وغير ذلك من الأوصاف الداعية لنكاحهن.
وفي هذه الآية الحث على الاختيار قبل الخطبة، وأنه ينبغي أن لا يتزوج إلا الجامعة للصفات المقصودة بالنكاح، فإن النكاح يقصد لأمور كثيرة من أهمها كفاءة البيت والعائلة وحسن التدبير وحسن التربية، وأهم صفة هذا النوع الدين والعقل.
ويقصد به إحصان الفرج، والسرور في الحياة، وعمدة هذا حسن الأخلاق الظاهرة، وحسن الخلائق الباطنة.
ويقصد به نجابة الأولاد وشرفهم، وأساسه الحسب والنسب الرفيع، ولهذا أباح الشارع بل أمر بالنظر لمن يخطبها؛ ليكون على بصيرة من أمره.
{مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] أي: من أحب أن يتزوج اثنتين فليفعل، أو ثلاثا أو أربعا فليفعل، ولا يزيد على الأربع؛ لأن الآية سيقت للامتنان، فلا يجوز الزيادة على غير ما سمى الله إجماعا، وذلك أن الرجل قد لا تندفع شهوته بالواحدة، أو لا يحصل مقصوده أو مقاصده بها، كما تقدم أن النكاح له عدة مقاصد، فلهذا أباح الله له هذا العدد؛ لأن في الأربع غنية لكل أحد إلا ما ندر، ومع هذا فإذا خاف من نفسه الجور والظلم بالزيادة على الواحدة فليقتصر على الواحدة، أو على ملك يمينه التي لا يجب عليه لها قسم كالزوجات، ذَلِكَ أي: الاقتصار على واحدة من الزوجات، أو ما ملكت اليمين، أدنى أن لا تعولوا أي: تظلموا وتجوروا.
ويستفاد من هذا المعنى أن تعرض العبد للأمر الذي يخاف منه الجور والظلم وعدم القيام بالواجب - ولو كان مباحا - لا ينبغي له أن يتعرض له، بل يلزم السعة والعافية، فإن العافية خير ما أعطي العبد، ولما كان كثير من الناس يظلمون النساء ويهضمونهن حقوقهن، وخصوصا الصداق الذي يكون شيئا كثيرا دفعة واحدة يشق عليهم، حثهم على إيتاء النساء صدقاتهن أي: مهورهن {نِحْلَةً} [النساء: 4] أي: عن حال طمأنينة وطيب نفس من غير مطل ولا بخس منه شيئا.
وفيه أن المهر للمرأة، وأنه يدفع إليها أو إلى وكيلها إن كانت رشيدة، أو إلى وليها إن لم تكن رشيدة، وأنها تملكه بالعقد لأنه أضافه إليها وأمر بإعطائه لها، وذلك يقتضي الملك، {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ} [النساء: 4] أي: من الصداق، {نَفْسًا} [النساء: 4] بإسقاط شيء منه، أو تأخيره، أو المحاباة في التعوض عنه {فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4] لا تبعة عليكم فيه ولا حرج؛ وهذا دليل على أن للمرأة الرشيدة التصرف في مالها، ولو بالتبرع، وأنه ليس لوليها من الصداق شيء إلا ما طابت نفسها به إذا كانت رشيدة، ويؤخذ من الأمر بنكاح ما طاب من النساء تحريم نكاح الخبيثة التي لا يحل للمسلم نكاحها، وهي الكافرة غير الكتابية، وكذلك الزانية حتى تتوب كما نص الله على الثنتين.
وفي هذه الآية دليل على أنه لا بد في النكاح من صداق، وأنه يجوز في الكثير واليسير للعموم، وأنه لا يباح لأحد أن يتزوج بدون صداق، وإن لم يسم فمهر المثل، إلا النبي صلى الله عليه وسلم فإن له ذلك خاصة، كما قال تعالى:
{وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50]
وفي قوله: {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة: 232] دليل على اعتبار الولي في النكاح، وهو العاصب، ويقدم منهم الأقرب فالأقرب، فإن تعذر الولي القريب والبعيد لعدم أو جهل أو غيبة طويلة قام الحاكم مقام الولي، فالسلطان والحاكم ولي من لا ولي لها من النساء.
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19] إلى قوله: {مِيثَاقًا غَلِيظًا} [النساء: 21]
كان أهل الجاهلية إذا مات أحدهم ورثت زوجته عنه كما يورث ماله، فرأى قريبه كأخيه وابن عمه أنه أحق بها من نفسها، ويحجرها عن غيره، فإن رضي بها تزوجها على غير صداق، أو على صداق يحبه هو دونها، وإن لم يرض بزواجها عضلها ومنعها من الأزواج إلا بعوض من الزوج أو منها، وكان منهم أيضا من يعضل زوجته التي هي في حباله، فيمنعها من حقوقها، ومن التوسعة لها لتفتدي منه، فنهى الله المؤمنين عن هذه الأحوال القبيحة الجائرة {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [النساء: 19] كالزنا والكلام الفاحش وأذيتها لزوجها ومن يتصل به، فيجوز في هذه الحال أن يعضلها مقابلة لها على فعلها لتفتدي منه؛ فإن هذا الافتداء بحق لا بظلم، ثم قال: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19] وهذا يشمل المعاشرة القولية والفعلية، فعلى الزوج أن يعاشر زوجته ببذل النفقة والكسوة والمسكن اللائق بحاله، ويصاحبها صحبة جميلة بكف الأذى، وبذل الإحسان، وحسن المعاملة والخلق، وأن لا يمطلها بحقها، وهي كذلك عليها ما عليه من العشرة، وكل ذلك يتبع العرف في كل زمان ومكان وحال ما يليق به، قال تعالى:
{لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7]
وقوله: {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19] أي: ينبغي لكم يا معشر الأزواج أن تمسكوا زوجاتكم ولو كرهتموهن، فإن في ذلك خيرا كثيرا:
منها: امتثال أمر الله ورسوله الذي فيه سعادة الدنيا والآخرة.
ومنها: أن إجباره نفسه، ومجاهدته إياها مع عدم محبة زوجته تمرين على التخلق بالأخلاق الجميلة، وربما زالت الكراهة وخلفتها المحبة، وربما زالت الأسباب التي كرهها لأجلها، وربما رزق منها ولدا صالحا نفع الله به والديه في الدنيا والآخرة، ولا بد لهذه الكراهة من أسباب من الزوجة، فينبغي إذا كره منها خلقا لحظ بقية أخلاقها، وما فيها من المقاصد الأخر، ويجعل هذا في مقابلة هذا، وهذا عنوان الإنصاف والرأي الأصيل، فإن النزق الطائش الذي ليس عنده إنصاف يلاحظ بعض أغراضه النفسية، فإذا لم يأت على ما يريد أهدر المحاسن والمناقب الأخر، وهذا لا يكاد يصفو له خل في حياته، لا زوجة ولا صاحب ولا حبيب، بل هو سريع التقلب.
أما الرجل الحازم الوفي الذكي فإنه يوازن بين الأمور، ويقدم الحق السابق، ويفي بالسوابق، ويكون نظره للمحاسن أرجح من نظره للمساوئ.
فإن وصل إلى الدرجة العالية التي لا يصل إليها إلا أفراد من كمل الرجال جعل المحاسن نصب عينيه، وأغضى عن المساوئ بالكلية، وعفا عنها لله ولحق صاحب الحق، فهذا قد كسب الأجر والراحة والخلق الذي لا يلحق، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وهذا الصبر المأمور به إنما هو مع الإمكان، فإن كان لا بد من الفراق، ولم يبق للصبر والإمساك موضع، فالله قد أباح الفراق، فلهذا قال: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ} [النساء: 20] أي: فلا حرج عليكم، ولكن إذا آتيتم إحداهن أي: الزوجة السابقة أو اللاحقة (قِنْطَارًا) وهو المال الكثير، {فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [النساء: 20] بل وفروه لهن ولا تمطلوهن، وهذا يدل على جواز إعطاء النساء من المهور وغيرها المال الكثير، وأنها بذلك تملكه، ولكن الأكمل والأفضل التساهل في المهور اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، وتسهيلا للنكاح ولطرقه وبراءة للذمم.
ثم ذكر الحكمة في تحريم أخذ الزوج ما أعطاه لزوجته، فقال: {أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا - وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [النساء: 20 - 21] وبيان ذلك أن الأنثى قبل عقد النكاح محرمة على الزوج، وهي لم ترض بهذا الحل إلا بالعقد والميثاق الغليظ الذي عقد على ذلك العوض المشروط، فإذا دخل عليها وباشرها، وأفضى إليها وأفضت إليه، وباشرها المباشرة التي كانت قبل هذه الأمور حراما فقد استوفى المعوض، فثبت عليه العوض تاما، فكيف يستوفي المعوض ثم يرجع على العوض؟ لا ريب أن هذا من المنكرات القبيحة شرعا وعقلا وفطرة.
{وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 22]
ثم عدد المحرمات إلى أن قال: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24]
قد استوفى الباري المحرمات في النكاح في هذه الآيات في النسب والرضاع والمصاهرة، أما المحرمات بالمصاهرة فإن تزوج الرجل امرأة ترتب على هذا الزواج أربعة أحكام: تحريم هذه الزوجة على أولاده وإن نزلوا نسبا ورضاعا، وتحريمها على آبائه وإن علوا نسبا ورضاعا، وحرمت عليه أمها في الحال، وأما بنتها فإن كان قد دخل بزوجته حرمت أيضا، وصارت ربيبة، لا فرق بين بنتها من زوج سابق له، أو من زوج خلفه عليها.
وأما المحرمات بالنسب فتحرم الأمهات، وهن كل أنثى لها عليك ولادة، وهي التي تخاطبها بالأم والجدة وإن علت من كل جهة، وتحرم البنات، وهن كل أنثى تخاطبك بالأبوة أو بالجدودة من بنات الابن وبنات البنات وإن نزلن، وتحرم الأخوات شقيقات كن أو لأب أو لأم، وبنات الإخوة وبنات الأخوات مطلقا، وتحرم العمات والخالات، وهن كل أخت لأحد آبائك وإن علا، أو أحد أمهاتك وإن علون، وما سوى ذلك من الأقارب حلال كبنات الأعمام، وبنات العمات، وبنات الأخوال، وبنات الخالات، ولهذا ذكر الله هذا الحل والتحريم المهم في موضعين: في هذا الموضع صرح بالمحرمات السبع وقال: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] وفي سورة الأحزاب أتى بها بأسلوب آخر، فقال في الحل: {وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} [الأحزاب: 50] أي: فهن حلال، ومن عداهن من الأقارب حرام.
وأما المحرمات بالرضاع فإنهن نظير المحرمات بالنسب من جهة المرضعة وصاحب اللبن، فالمرضعة أم للرضيع، وأمهاتها جداته، وإخوتها وأخواتها أخواله وخالاته، وأولادها إخوته وأخواته، وهو عم لأولادهم أو خال، وكذلك صاحب اللبن.
وأما الانتشار من جهة الطفل الراضع فلا ينتشر التحريم لأحد من أقاربه إلا لذريته فقط، وتقييد الآية في الربيبة بقوله: {اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ} [النساء: 23] بيان لأغلب أحوالها، ولبيان أعلى حكمة تناسب حكمة التحريم، وأنها إذا كانت في حجرك بمنزلة بناتك لا يليق إلا أن تكون من محارمك.
وتقييدها الآخر بقوله: {وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ} [النساء: 23] يخرج ابن التبني لا يخرج ابن الرضاع في قول جمهور العلماء، {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 24] أي: ذوات الأزواج، فكل أنثى في عصمة زوج أو في بقية عدته لا تحل لغيره؛ لأن الأبضاع ليست محل اشتراك، بل قصد تمييزها التام، ولهذا شرعت العدة والاستبراء، ونحو ذلك.
وقوله: {إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] المراد بهذا الملك ملك السبي، إذا سبيت المرأة ذات الزوج من الكفار في القتال الشرعي حلت للمسلمين، ولكن بعد الاستبراء أو العدة، فزوجها الحربي الذي في دار الحرب لم يبق له فيها حق، ولا له حرمة، فلهذا حلت للمسلمين كما حل لهم ماله ودمه، لأنه ليس له عهد ولا مهادنة.
وقوله: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] أي: ما سوى ما نص الله على تحريمه: سبع بالنسب، وسبع بالرضاع، وأربع بالصهر، فما عداهن فإنه حلال، إلا أنه حرم تعالى الجمع بين الأختين، وحرم النبي صلى الله عليه وسلم الجمع بين المرأة وعمتها، وحرم على الأحرار نكاح المملوكات لما فيه من إرقاق الولد، ولما فيه من الدناءة والضرر العائد للأولاد؛ لتنازع الملاك، وتنقلات الأرقاء، لكن إذا رجحت مصلحة الإباحة فقد أباحه الله بشرط المشقة لحاجة متعة أو خدمة، وأن لا يقدر على الطول للحرة، وأن تكون الأمة مؤمنة بإذن أهلها، فعند اجتماع هذه الشروط كلها يحل للحر نكاح الإماء.
وقوله: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} [النساء: 34]
هذا خبر وأمر، أي: الرجال قوامون على النساء في أمور الدين والدنيا، يلزمونهن بحقوق الله، والمحافظة على فرائضه، ويكفونهن عن جميع المعاصي والمفاسد، وبتقويمهن بالأخلاق الجميلة والآداب الطيبة، وقوامون أيضا عليهن بواجباتهن من النفقة والكسوة والمسكن وتوابع ذلك، {بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء: 34] أي: ذلك بسبب فضل الرجال عليهن وإفضالهم عليهن، فتفضيل الرجال على النساء من وجوه متعددة: من كون الولايات كلها مختصة بالرجال والنبوة والرسالة، وباختصاصهم بالجهاد البدني، ووجوب الجماعة والجمعة ونحو ذلك، وبما تميزوا به عن النساء من العقل والرزانة والحفظ والصبر والجلد والقوة التي ليست للنساء، وكذلك يده هي العليا عليها بالنفقات المتنوعة، بل وكثير من النفقات الأخر والمشاريع الخيرية، فإن الرجال يفضلون النساء بذلك كما هو مشاهد، ولهذا حذف المتعلق في قوله: {وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء: 34] ليدل على هذا التعميم، فعلم من ذلك أن الرجل كالوالي والسيد على امرأته، وهي عنده أسيرة عانية تحت أمره وطاعته، فليتق الله في أمرها، وليقومها تقويما ينفعه في دينه ودنياه، وفي بيته وعائلته يجد ثمرات ذلك عاجلا وآجلا، وإلا يفعل فلا يلومن إلا نفسه؛ وهن قسمان:
القسم الأول: قسم هن أعلى طبقات النساء، وخير ما حازه الرجال، وهن المذكورات في قوله: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} [النساء: 34] أي: مطيعات لله ولأزواجهن، قد أدت الحقين، وفازت بكفلين من الثواب، حافظات أنفسهن من جميع الريب، وحافظات لأمانتهن ورعاية بيوتهن، وحافظات للعائلة بالتربية الحسنة، والأدب النافع في الدين والدنيا، وعليهن بذل الجهد والاستعانة بالله على ذلك؛ فلهذا قال: {بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} [النساء: 34] أي: إذا وفقن لهذا الأمر الجليل فليحمدن الله على ذلك، ويعلمن أن هذا من حفظه وتوفيقه وتيسيره لها، فإن من وكل إلى نفسه فالنفس أمارة بالسوء، ومن شاهد منة الله، وتوكل على الله، وبذل مقدوره في الأعمال النافعة، كفاه الله ما أهمه، وأصلح له أموره، ويسر له الخير، وأجراه على عوائده الجميلة.
والقسم الثاني: هن الطبقة النازلة من النساء، وهن بضد السابقات في كل خصلة، اللاتي من سوء أخلاقهن وقبح تربيتهن تترفع على زوجها، وتعصيه في الأمور الواجبة والمستحبة، فأمر الله بتقويمهن بالأسهل فالأسهل، فقال: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ} [النساء: 34] أي: بينوا لهن حكم الله ورسوله في وجوب طاعة الأزواج، ورغبوهن في ذلك بما يترتب عليه من الثواب، وخوفوهن معصية الأزواج، وذكروهن ما في ذلك من العقاب، وما يترتب عليه من قطع حقوقها، وإباحة هجرها وضربها، فإن تقومن بالوعظ والتذكير فذلك المطلوب، وحصل الاتفاق الذي لا يشوبه مكدر، فإن لم يفد التذكير فاهجروهن في المضاجع، بأن لا ينام عندها، ولا يباشرها بجماع ولا غيره؛ لعل الهجر ينجع فيها، ذلك بمقدار ما يحصل به المقصود فقط، فإن القصد بالهجر نفع المهجور وأدبه، ليس الغرض منه شفاء النفس كما يفعله من لا رأي له إذا خالفته زوجته أو غيرها، ولم يحصل مقصوده، هجر هجرا مستمرا، أي: بقي متأثرا بذلك، عاتبا على من لم يواته على ما يحب، ووصلت به الحال إلى الحقد الذي هو من الخصال الذميمة، فهذا ليس من الهجر الجميل النافع، وإنما هو من الحقد الضار بصاحبه، الذي لا يحصل به تقويم ولا مصلحة، فإن نفع الهجر للزوجة وإلا انتقل إلى ضربها ضربا خفيفا غير مبرح، فإن حصل المقصود، ورجعت إلى الطاعة، وتركت المعصية، عاد الزوج إلى عشرتها الجميلة، ولا سبيل له إلى غير ذلك من أذيتها؛ لأنها رجعت إلى الحق.
وهذا الدواء لكل عاص ومجرم، إن الشارع رغبه إذا ترك إجرامه عاد حقه الخاص والعام كما في حق التائب من الظلم وقطع الطريق وغيرها، فكيف الزوج مع زوجته.
وفي هذه الآية ونحوها فائدة نافعة، وهي أنه ينبغي لمن عاد إلى الحق أن لا يذكر الأمور السالفة، فإن ذلك أحرى للثبات على المطلوب، فإن تذكير الأمور الماضية ربما أثار الشر، فانتكس المرض، وعادت الحال إلى أشد من الأولى.
{وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} [النساء: 35]
هذه حالة أخرى غير الحالة السابقة التي يمكن للزوج معالجتها، وهذه إذا استطار الشر بين الزوجين، وبلغت الحال إلى الخصام وعدم الالتئام، ولم ينفع في ذلك وعظ ولا كلام {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} [النساء: 35] عدلين عاقلين يعرفان الجمع والتفريق، ويفهمان الأمور كما ينبغي، فإن الحكم لا بد أن يتصف بهذه الأوصاف، فيبحثان في الأسباب التي أدت بهما إلى هذه الحال، ويسألان كلا منهما ما ينقم على صاحبه، ويزيلان ما يقدران عليه من المعتبة بترغيب الناقم على الآخر بالإغضاء عن الهفوات واحتمال الزلات، وإرشاد الآخر إلى الوعد بالرجوع، وإرشاد كل منهما إلى الرضى والنزول عن بعض حقه، فكم حصل بهذا الطريق من المصالح شيء كثير، وإن أمكنهما إلزام المتعصب على الباطل منهما بالحق فَعَلَا، ومهما وجدا طريقا إلى الإصلاح والاتفاق والملاءمة بينهما لم يعدلا عنها، إما بتنازل عن بعض الحقوق، أو ببذل مال، أو غير ذلك، فإن تعذرت الطرق كلها، ورأيا أن التفريق بينهما أصلح لتعذر الملاءمة فرقا بينهما بما تقتضيه الحال بعوض أو بغير عوض، ولا يشترط في هذا رضى الزوج؛ لأن الله سماهما حكمين لا وكيلين، ومن قال إنهما وكيلان اشترط في التفريق رضى الزوج، ولكن هذا القول ضعيف، ولمحبة الباري للاتفاق بينهما وترجيحه على الآخر قال: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء: 35] أي: بسبب الرأي الميمون، والكلام اللطيف، والوعد الجميل الذي يجذب القلوب، ويؤثر فيها: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا} [النساء: 35] بالسرائر والظواهر مطلعا على الخفايا، فمن كمال علمه وحكمته شرع لكم هذه الأحكام الجليلة التي هي الطريق الوحيد إلى القيام بالحقوق: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50]
{وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 128]
هذه حالة من أحوال الزوجين غير الأحوال السابقة؛ لأن الحالتين السابقتين: حالة نشوز الزوجة، وحالة وقوع الخصام واستطارة الشر بينهما، وهذه إذا كان الزوج هو الراغب عن زوجته، إما عدم محبة وإما طمعا، فأرشد الله في هذه الحال إلى الطريق الذي تستقيم به الأمور، وهو طريق الصلح من المرأة أو وليها ليعود الزوج إلى الاستقامة، بأن تسمح المرأة عن بعض حقها اللازم لزوجها على شرط البقاء معه، وأن يعود إلى مقاصد النكاح أو بعضها، كأن ترضى ببعض النفقة أو الكسوة أو المسكن، أو تسقط حقها من القسم، أو تهب يومها وليلتها لزوجها أو لضرتها بإذنه، فمتى اتفقا على شيء من ذلك فلا حرج ولا بأس، وهو أحسن من المقاضاة في الحقوق المؤدية إلى الجفاء أو إلى الفراق، ولهذا قال: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128]
وهذا أصل عظيم في جميع الأشياء، وخصوصا في الحقوق المتنازع فيها أن المصالحة فيها خير من استقصاء كل منهما على حقه كله؛ لما في الصلح من بقاء الألفة، والاتصاف بصفة السماح، وهو جائز بين المسلمين في كل الأبواب - إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا -.
واعلم أن كل حكم من الأحكام لا يتم ولا يكمل إلا بوجود مقتضيه وانتفاء موانعه، فمن ذلك هذا الحكم الكبير الذي هو الصلح، فذكر تعالى المقتضى لذلك، فقال: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128] والخير كل عاقل يطلبه ويرغب فيه، فإن كان مع ذلك قد أمر الله به وحث عليه ازداد المؤمن طلبا له ورغبة فيه، وذكر المانع بقوله: {وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ} [النساء: 128] أي: جبلت النفوس على الشح، وهو الاستئثار والتفرد في الحقوق، وعدم الرغبة في بذل ما على الإنسان، والحرص على الحق الذي له، فالنفوس مجبولة على ذلك طبعا، أي: فينبغي لكم أن تحرصوا على قلع هذا الخلق الدنيء من نفوسكم، وتقليله وتلطيفه وتستبدلوا به ضده، وهو السماحة ببذل جميع الحقوق التي عليك، والاقتناع ببعض الحق الذي لك، والإغضاء عن التقصير، فمتى وفق العبد لهذا الخلق الطيب سهل عليه الصلح بينه وبين كل من بينه وبينه منازعة ومعاملة، وتسهلت الطريق الموصلة إلى المطلوب، ومن لم يكن بهذا الوصف تعسر الصلح أو تعذر؛ لأنه لا يرضيه إلا جميع ما له كاملا مكملا، ولا يهون عليه أن يؤدي ما عليه، فإن كان خصمه مثله اشتد الأمر.
ثم قال: {وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا} [النساء: 128] أي: تحسنوا في عبادة الخالق، والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، وتحسنوا إلى المخلوقين بكل إحسان قولي أو فعلي، وتتقوا الله بفعل جميع المأمورات، وترك جميع المحظورات، أو تحسنوا بفعل المأمور، وتتقوا بترك المحظور {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 128] فيجازيكم على قيامكم بالإحسان والتقوى، أو على عدم ذلك بالجزاء بالفضل والعدل.
{وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 129]
يخبر تعالى أنه ليس في قدرة الأزواج العدل التام بين زوجاتهم، فإن العدل التام يقتضي أن يكون الداعي والحب على السواء، والميل القلبي على السواء، ويقتضي مع ذلك الإيمان الصادق، والرغبة في مكارم الأخلاق للعمل بمقتضى ذلك، وهذا متعذر غير ممكن، فلذلك عذر الله الأزواج، وعفا عنهم عما لا يقدرون عليه، ولكنه أمرهم بالعدل الممكن فقال: {فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [النساء: 129] أي: لا تميلوا إلى إحداهن عن الأخرى ميلا كثيرا، بحيث لا تؤدون حقوقهن الواجبة، بل افعلوا مستطاعكم من العدل، فالنفقة والكسوة والقسم في المبيت والفراش ونحو ذلك مقدور، فعليكم العدل فيها بينهن، بخلاف الحب والوطء وتوابع ذلك، فالعبد لا يملك نفسه فعذره الله، وقوله: {فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [النساء: 129] يعني: أن الزوج إذا مال عن زوجته وزهد فيها ولم يقم بحقوقها الواجبة، وهي في حباله أسيرة عنده صارت كالمعلقة التي لا زوج لها فتستريح، ولا ذات زوج يقوم بحقوقها، وإن تصلحوا فيما بينكم وبين زوجاتكم بوجه من وجوه الصلح كما تقدم، وبمجاهدة أنفسكم على فعل ما لا تهواه النفس احتسابا وقياما بحق الزوجة، وتصلحوا أيضا فيما بينكم وبين الناس فيما تنازعتم به من الحقوق، وتتقوا الله بامتثال أمره واجتناب نهيه {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 129]
{وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا} [النساء: 130]
يعني: إذا تعذر الاتفاق والالتئام فلا بأس بالفراق، فقال: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا} [النساء: 130] أي: بفسخ أو طلاق أو خلع أو غير ذلك {يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا} [النساء: 130] من الزوجين {مِنْ سَعَتِهِ} [النساء: 130] أي: من فضله وإحسانه العام الشامل، فيغني الزوج بزوجة خير له منها، ويغنيها من فضله برزق من غير طريقه، فإنها وإن توهمت أنه إذا فارقها زوجها المنفق عليها القائم بمؤنتها ينقطع عنها الرزق، فسوف يغنيها الله من فضله، فإن رزقها ليس على الزوج ولا على غيره، بل على المتكفل القائم بأرزاق الخليقة كلها، وخصوصا من تعلق قلبه به ورجاه رجاء قلبيا طامعا في فضله كل وقت، فإن الله عند ظن عبده به، ولعل الله يرزقها زوجا خيرا لها منه وأنفع {وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا} [النساء: 130] أي: واسع الرحمة كثير الإحسان {حَكِيمًا} [النساء: 130] في وضعه الأمور مواضعها.
وفي الآية تنبيه على أنه ينبغي للعبد أن يعلق رجاءه بالله وحده، وأن الله إذا قدر له سببا من أسباب الرزق والراحة أن يحمده على ذلك، ويسأله أن يبارك فيه له، فإن انقطع أو تعذر ذلك السبب فلا يتشوش قلبه، فإن هذا السبب من جملة أسباب لا تحصى ولا يتوقف رزق العبد على ذلك السبب المعين، بل يفتح له سببا غيره أحسن منه وأنفع، وربما فتح له عدة أسباب، فعليه في أحواله كلها أن يجعل فضل ربه، والطمع في بره نصب عينيه وقبلة قلبه، ويكثر من الدعاء المقرون بالرجاء؛ فإن الله يقول على لسان نبيه: «أنا عند ظن عبدي بي، فإن ظن بي خيرا فله، وإن ظن بي شرا فله» ، وقال: «إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي»). [تيسير اللطيف المنان: 1/129-144]
فصل في أحكام الطلاق والعدد
قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ نَاصِرٍ السَّعْدِيُّ (ت: 1376هـ): (فصل
قال الله تعالى في أحكام الطلاق والعدد: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] إلى قوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 231]
وقال: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] الآيات [الطلاق: 1 وما بعدها] .
ذكر الله أحكام الفراق كما ذكر أحكام النكاح والدخول فيه، تقدم أنه تعالى حث الزوج على الصبر على زوجته ما دام متمكنا من الصبر، وفي هذا ذكر الله أنه إذا كان لا بد له من الطلاق، فعليه أن يطلق زوجته لعدتها، أي: لتستقبل عدتها، وذلك أن يطلقها مرة واحدة في طهر لم يجامعها فيه، أو يطلقها وهي حامل قد تبين حملها، أو وهي آيسة أو صغيرة؛ لأنها في هذه الأحوال كلها تبتدئ بالعدة البينة الواضحة، فمن طلقها أكثر من واحدة، أو وهي حائض أو نفساء، أو في طهر قد وطئ فيه ولم يتبين حملها فإنه آثم متعد لحدود الله، وإذا طلقها هذا الطلاق المشروع فله أن يراجعها ما دامت في العدة كما قال تعالى:
{وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا} [البقرة: 228]
وسواء رضيت أو كرهت.
وهذا الطلاق الذي يتمكن فيه العبد من الرجعة هو الطلاق بواحدة إلى ثنتين بلا عوض، فإن طلقها الطلقة الثالثة فلا تحل له حتى تنقضي عدتها، وتنكح زوجا غيره نكاح رغبة لا نكاح تحليل، ويطأها ويطلقها رغبة في طلاقها، وتنقضي عدتها منه فله أن ينكحها برضاها، وببقية شروط النكاح من الولي ومن الصداق وغيره، فإن طلقها بعوض بلفظ الطلاق أو الخلع أو الفداء، أو غيرها من الألفاظ، فقد أباح الله هذا الفداء عند الحاجة، وهي التي نص عليها بقوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] سواء كان العوض بقليل أو كثير لعموم الآية، فإذا فارقها على هذا الوجه حصل لها الفكاك منه، ولم يكن له عليها رجعة إلا إذا شاءت بنكاح جديد، وعند التراجع بين الزوجين إذا رغب كل منهما في الآخر، فليس لولي الأنثى أن يعضلها ويمنعها أن تراجع بعلها الأول أو الذي فارقها، بغضا له أو نكاية له وغضبا عليه، أو طمعا في بذلها أو بذله له شيئا من المال، فكل هذا لا يحل للولي أن يفعله، بل عليه أن يسعى في التأليف بينها وبين زوجها، وأقل ما عليه أن لا يعارض في ذلك، وإذا كان منهيا عن ذلك بعد الطلاق أو الفداء ونحوهما، فكيف في ابتداء الأمر؟ ولكن بشرط أن يكون الزوج كفئا وترضى المرأة فيه.
وأما إذا منعها من تزوج من ليس كفئا لها في دينه أو غيره من الصفات المعتبرة شرعا فهو محسن، لأن منعها عما فيه ضررها إحسان عليها، وهذا أحد الأسباب في اعتبار الولي للمرأة في النكاح، وفي قوله في الرجعة: {إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا} [البقرة: 228]
وفي التراجع {إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ} [البقرة: 230] اعتبار هذا الشرط في الرجعة والتراجع، وإلا فلا يراجع، ولا يتراجعا للضرار وللبقاء على غير ما يحبه الله، وفي هذا أن الأفعال مبنية على مقاصدها، وأن الأمر الذي يقصد فيه الخير والصلاح لا بد أن يجعل الله فيه بركة، كما أن الذي يقصد به غير ذلك ولو مكن منه العبد فإنه ضرر حاضر، ويخشى أن تكون عواقبه ذميمة.
ويستفاد من هذا معنى كلي نافع، وهو أنه ينبغي للعبد إذا أراد أن يدخل في أمر من الأمور مثل الأمور التي يترتب عليها حقوق كثيرة، ومثل الولايات الكبار والصغار والأمور المهمة أن يتأنى وينظر في نفسه وعاقبة أمره، فإن رأى من نفسه قوة على ذلك، ووثق بقيامه بما فيها من الحقوق تقدم إليها متوكلا على الله، وإلا أحجم واغتنم السلامة عن الدخول في الأمور الخطرة، وأمر تعالى الأزواج أن يمسكوا زوجاتهم بمعروف أو يسرحوهن بمعروف، فإن أمسكها أمسكها بعشرة حسنة، وإن فارقها فليكن على وجه الشرع بطمأنينة من غير مغاضبة ولا مشاتمة ولا عداوات تقع بينه وبينها، أو بينه وبين أهلها.
ومن التسريح بالمعروف أن يعطيها شيئا من المال تتمتع به وينجبر به خاطرها، وتذهب عن زوجها شاكرة، ولا يكون لهذا الفراق على هذا الوجه إلا العواقب الطيبة للطرفين.
ولما بين الباري هذه الأحكام الجليلة غاية التبيين، وكان القصد بها أن يعلمها العباد ويعملوا بها، ويقفوا عندها ولا يتجاوزوها، فإنه لم ينزلها عبثا بل أنزلها بالعلم والصدق والحق النافع والجد، نهى عن اتخاذها هزوا أي: لعبا بها، وهو التجري عليها وعدم الامتثال لواجبها مثل المضارة في الإمساك والإرسال، أو كثرة الطلاق وجمع الثلاث، وقال: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 231] عموما باللسان حمدا وثناء، وبالقلب اعترافا وإقرارا، وبالأركان بأن يستعان بنعمه على طاعته، وخصوصا ما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة، فإن في الكتاب والسنة من بيان الحق والهدى من الضلال، والحلال من الحرام، وجميع ما يحتاجه العباد في أمور دينهم ودنياهم ما يوجب للعباد أن يشكروه شكرا كثيرا، ويقوموا بحقه ويخضعوا لأحكامه، وختم الآيات بعموم علمه تنبيه على أن أحكامه قد شرعها العليم الحكيم صالحة للعباد في كل زمان ومكان.
وقد ذكر عدة المفارقة بحسب أحوالها في كتابه، فذكر أن المفارقة بطلاق إن كانت تحيض باستكمال ثلاثة قروء من بعد وقوع الطلاق عليها، وأن الآيسة والتي لم تحض لصغر ونحوه عدتها ثلاثة أشهر، وأن المفارقة بموت زوجها تربص أربعة أشهر وعشرا، وأن الحامل من المفارقات في الحياة وبعد الممات عدتها بوضع الحمل.
وفي هذه العدد وتقديرها من الأسرار والحكم والمنافع للزوجين وغيرهما ما هو من آيات الله للمتأملين المستبصرين، وقال تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب: 49]
ففي هذه الآية أن المفارقة في الحياة بطلاق ونحوه ليس لزوجها عليها عدة إذا لم يدخل أو يخل بها، بل بمجرد ما يطلقها لها التزوج في الحال.
وفي هذا أن العدة تثبت بالدخول، وكذلك الخلوة، كما ثبت عن الخلفاء الراشدين، ومفهوم الآية أن الفراق بالموت تعتد له الزوجة المعقود عليها ولو قبل الدخول، وكما يؤخذ من مفهوم هذه فإنه يؤخذ من عموم قوله: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة: 234] الآية [البقرة: 234] .
وفيها أن العدة من حقوق الزوج؛ لتمكنه من الرجعة ولحفظ فراشه ومائه من الاختلاط، وحق لها أيضا؛ فإن المعتدة نوعان: نوع حامل لها النفقة بكل حال. قال تعالى:
{وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6]
ونوع غير حامل، وهي أيضا نوعان: مفارقة بائنة بموت أو فسخ أو خلع أو ثلاث أو عوض، فهؤلاء كلهن لا نفقة لهن ولا كسوة ولا مسكن إلا على وجه المعروف والإحسان، ومفارقة رجعية فما دامت في العدة فلها النفقة والكسوة والمسكن وتوابعها على الزوج، وحكمها حكم الزوجة التي في حباله في كل حال إلا في القسم فلا قسم له؛ لأن الله سماه بعلا لها في قوله: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228] ولأن له أن يرجعها إلى الزوجية التامة رضيت أو كرهت ما دامت في العدة.
وفي قوله: {وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة: 228] دليل على أمانتها على نفسها، وقبول قولها في وجود الحيض وانقطاعه؛ لأنه توعدها بكتمان ذلك، وهذا دليل على أن قولها معتبر، وفي قوله: {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} [الأحزاب: 49] دليل على أنه لا يقع الطلاق إلا بعد النكاح، وأن من علق طلاقا بنكاح امرأة لم ينعقد هذا التعليق، ولم يقع عليها شيء إذا نكحها؛ لأن النكاح لا يراد به خلاف مقصوده، وهذا بخلاف تعليق عتق المملوك للغير بملكه إياه، فإنه صحيح ويعتق إذا ملكه؛ لأن تملك الرقيق يقصد به العتق، وهو مقصود شرعي صحيح.
وقوله: {فَمَتِّعُوهُنَّ} [الأحزاب: 49] فيه الأمر بتمتيع المفارقة بالطلاق قبل المسيس مطلقا، وفي آية البقرة الأمر بالتمتيع إذا لم يسم لها مهرا، فإن سمى لها مهرا فإنه يتنصف إذا طلقها قبل الدخول، ويكون نصف الصداق هو المتعة كما قال تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ - وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 236 - 237]
فحث على العفو في هذا الموضع الخاص لنفعه وعظم موقعه، وقال: {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237] وهذا إرشاد عظيم نافع في جميع المعاملات أنه ينبغي للعبد فيها أن لا يستقصي في كل شيء، بل يجعل للفضل محلا من عفو ومحاباة وإعطاء أزيد مما في الذمة قدرا أو وصفا، وقبول أدنى من الحق كمية وكيفية، فكم حصل بهذا الفضل - وإن كان طفيفا - خير كثير وأجر كبير، ومعروف وبركة، وراحة فكر وطمأنينة قلب.
وفي قوله: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 241]
وهذا العموم يقتضي أن كل مطلقة لها على زوجها متعة، لكن إن كانت غير مدخول بها ولم يسم لها مهر، فالمتعة واجبة كما تقدم بحسب يسار الزوج وإعساره، وإن كان قد سمي لها مهر تنصف المهر وكان النصف الحاصل لها هو المتعة، فإن لم يكن الأمر كذلك كانت المتعة حقا معروفا وإحسانا جميلا؛ لما فيها من جبر خاطرها وقضاء نوائبها التي هي مظنة الحاجة إليها في تلك الحال، وكون ذلك عنوانا على التسريح بالمعروف، ودفعا للمشاغبات والعداوات التي تحدث لكثير من الناس عند الطلاق، واحتياطا لبراءة ذمته مما لعله لحقه لها من الحقوق، وتسهيلا للرجعة أو المراجعة إذا تغيرت الحال، وأحدث الله بعد ذلك أمرا، ولها من الفوائد شيء كثير، ومدح الله هذه الأحكام الجليلة بقوله: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [البقرة: 242]
فسمى هذه الأحكام آيات؛ لأنها تدل أكبر دلالة على عنايته ولطفه بعباده، وأنه شرع لهم من الأحكام، الأحكام الصالحة لكل زمان ومكان، ولا يصلح العباد غيرها). [تيسير اللطيف المنان: 1/144-150]
فصل في آيات في الإيلاء والظهار واللعان
قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ نَاصِرٍ السَّعْدِيُّ (ت: 1376هـ): (فصل في آيات في الإيلاء والظهار واللعان
قال تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ - وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 226 - 227]
وقال: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة: 1] الآيات. [المجادلة: 1] .
وقال في اللعان: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] الآيات. [النور: 6] .
من جملة الأحكام المنتشرة المتعلقة بالزوجة أنه قد يؤلي منها أو يظاهر منها، والفرق بين الإيلاء والظهار أن الإيلاء هو الحلف بالله على ترك وطء زوجته أبدا، أو مدة طويلة تزيد على أربعة أشهر إذا كان قادرا على الوطء، فإذا فعل ذلك وحلف هذا الحلف فلا يخلو: إما أن تطالبه الزوجة بحقها من الوطء أو لا تطالبه، فإن لم تطالبه ترك وشأنه، فإن وطئ في هذه المدة فقد حنث، وعليه كفارة يمين، وإلا فلا كفارة عليه، وإن طالبته بالوطء أمر بذلك وجعل له أربعة أشهر، فإن فاء ورجع إلى الوطء فذلك هو المطلوب منه، وهو أحب الأمرين إلى الله، وإن أبى وامتنع ومضت الأربعة الأشهر وهو مصر على عدم وطئها وهي مقيمة على طلب حقها، أجبر على أحد أمرين: إما أن يفيء ويكفر كفارة يمين، وإما أن يطلق، فإن امتنع من كل منهما طلق الحاكم عليه.
وأما الظهار فأن يحرم زوجته ويقول لها: أنت علي كظهر أمي، أو نحوه من ألفاظ التحريم الصريحة، فهذا قد أتى منكرا من القول وزورا، وكذب أعظم كذب إذ شبه من هي حلال بمن هي أعظم المحرمات، وهي الأم، ولهذا قال: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} [المجادلة: 2]
ثم عرض التوبة فقال: {وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} [المجادلة: 2]- تتمة الآية -[المجادلة: 2] .
ثم ذكر طريقها بالكفارة، فأمر المظاهر أن يعتق رقبة من قبل أن يمسها فإن لم يجد صام شهرين متتابعين من قبل المسيس أيضا، فإن لم يستطع أطعم ستين مسكينا، فبعد هذه الكفارة تحل له الزوجة وتنحل يمينه.
وأما اللعان فإن الزوج إذا رمى زوجته بالزنا، ولم يكن له على ذلك أربعة شهود، ولم تعترف بل أقامت على الإنكار، فعليه ما على من قذف المحصنات من جلد ثمانين جلدة إلا أن يلاعنها، وذلك بأن يشهد أربع مرات أنه لمن الصادقين فيما رماها به من الزنا، ويقول في الخامسة داعيا على نفسه، وأن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، فحينئذ يترتب عليها الحد أو الحبس حتى تقر، إلا أن تقابله بلعان يدرأ عنها العذاب، بأن تقول أربعا: أشهد بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماني به من الزنا، وتزيد في الخامسة وأن غضب الله عليها إن كان من الصادقين، فعند ذلك يحصل الفراق الأبدي بينه وبينها.
والحكمة في تخصيص الزوج بسقوط حد القذف عنه إذا لاعن أن الزوج محتاج، وربما كان مضطرا إلى رميها لنفي ما يلحقه من أولاد غيره ولحقه وإفساد فراشه، وأما القاذف: إذا كان غير زوج، إذا قذف غيره بالزنا، فإن الله قال في حده: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ - إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [النور: 4 - 5]). [تيسير اللطيف المنان: 1/150-152]
فصل في آيات الحدود
قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ نَاصِرٍ السَّعْدِيُّ (ت: 1376هـ): (فصل في آيات الحدود
{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ - إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [النور: 4 - 5]
قال تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ} [البقرة: 178]- إلى آخرها والتي بعدها -[البقرة: 178 - 179] .
يمتن الله على عباده بأنه فرض عليهم القصاص في القتلى، أي: المساواة فيه، وأن يقتل القاتل عمدا على الصفة التي قتل عليها المقتول؛ إقامة للعدل بين العباد، وتوجيه الخطاب لعموم المؤمنين فيه دليل على أنه يجب عليهم كلهم حتى أولياء القاتل، حتى القاتل بنفسه، إعانة ولي المقتول إذا طلب القصاص وتمكينه من القاتل، وأنه لا يحل لهم أن يحولوا بينه وبين القاتل إذا تمت الشروط كما يفعله أهل الجاهلية ومن أشبههم من إيواء المحدثين.
ثم فصل ذلك بقوله: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} [البقرة: 178] يدخل في منطوقها وفي منطوق قوله: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] أن الذكر يقتل بالأنثى، كما تقتل الأنثى بالذكر، فيكون هذا المنطوق مقدما على مفهوم قوله: {وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} [البقرة: 178] مع دلالة صريح السنة الصحيحة قتل النبي صلى الله عليه وسلم اليهودي بالجارية، وخرج من هذا العموم الأبوان وإن علوا فلا يقتلان بالولد لورود السنة بذلك، مع أن في لفظ القصاص ما يدل على أنه ليس من العدل أن يقتل الوالد بولده، ولأن ما في قلب الوالدين من الرحمة المانعة من صدور هذه الجريمة منهما على ولدهما ما يحدث الشبهة، إما أنه لا بد أن في عقلهما اختلالا أو أذية شديدة أحوجته إلى قتل ولده، أو لم يحرر أن القتل عمد محض.
وخرج من هذا العموم أن المسلم لا يقتل بالكافر لثبوت السنة بذلك، مع أن الآية في خطاب المؤمنين خاصة، وليس أيضا من العدل أن يقتل ولي الله بعدوه {وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} [البقرة: 178] ذكرا كان أو أنثى تساوت قيمتهما أو اختلفت، ودل مفهومها على أن الحر لا يقتل بالعبد لكونه غير مساو له.
وفي هذه الآية دليل على أن الأصل وجوب القود في العمد العدوان، وأن الدية بدل عنه، فلهذا قال: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة: 178] أي: عفا ولي المقتول عن القاتل إلى الدية، أو عفا بعض الأولياء فإنه يسقط القصاص وتجب الدية، وتكون الخيرة في القود واختيار الدية إلى الولي، فإذا عفا عنه وجب على ولي المقتول أن يتبع القاتل بالمعروف من غير أن يشق عليه ولا يحمله ما لا يطيق، بل يحسن الاقتضاء والطلب ولا يحرجه، وعلى القاتل أداء إليه بإحسان من غير مطل ولا نقص ولا إساءة فعلية أو قولية، فهل جزاء الإحسان إليه بالعفو إلا الإحسان بحسن القضاء؟ وهذا مأمور به في كل ما ثبت في ذمم الناس للإنسان: مأمور من له الحق بالاتباع بالمعروف، ومن عليه الحق بالأداء بإحسان كما قال صلى الله عليه وسلم: «رحم الله عبدا سمحا إذا قضى، سمحا إذا اقتضى» .
وفي قوله: {عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ} [البقرة: 178] ترقيق وحث على العفو إلى الدية، وأكمل من ذلك العفو مجانا، وفي قوله: {أَخِيهِ} [البقرة: 178] دليل على أن القاتل عمدا لا يكفر؛ لأن المراد بالأخوة هنا أخوة الإسلام، فلم يخرج بالقتل عنها، ومن باب أولى سائر المعاصي التي هي دون القتل، فإن صاحبها لا يكفر، ولكنه يستحق العقاب، وينقص بذلك إيمانه إن لم يتب، وإذا عفا أولياء المقتول أو بعضهم احتقن دم القاتل، وصار معصوما منهم ومن غيرهم، فلهذا قال: {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ} [البقرة: 178] أي: بعد العفو {فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 178] أي: في الآخرة، وأما قتله وعدمه فيؤخذ مما تقدم؛ لأنه قتل مكافئا له فيجب قتله بذلك.
ثم بين تعالى حكمته العظيمة في مشروعية القصاص فقال: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] أي: تنحقن بذلك الدماء، وتنقمع به الأشقياء؛ لأن من عرف أنه إذا قَتَلَ قُتِلَ لا يكاد يصدر منه قَتْلٌ؛ وإذا رئي القاتل مقتولا انزجر غيره بذلك؛ فلو كان عقوبة القاتل غير القتل لم يحصل من انكفاف الشر ما يحصل بالقتل، وهكذا سائر الحدود الشرعية: فيها من النكاية والانزجار ما يدل على حكمة الحكيم الغفار، ونكر الحياة لإفادة التعظيم.
ولما كان هذا الحكم لا يعرفه حقيقة المعرفة إلا أهل العقول الكاملة قال: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179] وهذا يدل على أنه يحب من عباده أن يعملوا أفكارهم وعقولهم في تدبير ما في أحكامه من الحكم والمصالح الدالة على كماله، وكمال حكمته وحمده وعدله ورحمته الواسعة، وأن من كان بهذا الوصف فقد استحق الثناء والمدح بأنه من ذوي الألباب، الذين وجه إليهم الخطاب، وكفى بذلك فضلا وشرفا، وقوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179] وذلك أن من عرف ربه، وعرف ما في دينه وشرعه من الأسرار العظيمة والحكم البديعة والآيات الرفيعة أوجب له أن ينقاد لأمر الله، ويخضع لشرعه طاعة لله ولرسوله.
قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2]
هذا حد الزاني غير المحصن من ذكر أو أنثى يجلد مائة جلدة، جلدات تؤلمه وتزجره ولا تهلكه، ويتعين أن يكون ذلك علنا لا سرا بحيث يشهده طائفة من المؤمنين؛ لأن إقامة الحدود من الضروريات لقمع أهل الجرائم، واشتهارها هو الذي يحصل به الردع والانزجار وإظهار شعائر الدين، والاستتار به أو على أحد دون أحد فيه مفاسد كثيرة، ووردت السنة بتغريب عام كامل عن وطنه مع الجلد، كما تواترت السنة وأجمع المسلمون على رجم الزاني المحصن، يرجم بالحجارة حتى يموت.
وقال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة: 38]
السارق هو من أخذ مال غيره المحترم بغير رضاه، وهو من كبائر الذنوب الموجبة لترتب هذه العقوبة، وهو أنه يجب قطع يده اليمنى كما هي قراءة بعض الصحابة، واليد إذا أطلقت فهي الكف إلى الكوع فقط، فإذا قطعت حسمت وجوبا في زيت أو ودك مغلي لتنسد العروق فيقف الدم، ولكن السنة قيدت عموم الآية الكريمة بأمور كلها ترجع إلى تحقيق السرقة للأموال.
فمنها: لا بد أن يكون المسروق نصابا، وهو ربع دينار، أو ثلاثة دراهم، أو ما يساوي ذلك.
ومنها: لا بد أن يكون المأخوذ منه حرزا، وحرز كل مال ما يحفظ به عادة، فلو سرق من مال غير محرز فلا قطع عليه، ويؤخذ هذا من لفظ السارق؛ فإنه الذي يأخذ المال على وجه لا يمكن التحرز منه، فإن عاد السارق قطعت رجله اليسرى، فإن عاد فقيل تقطع يده اليسرى، ثم إن عاد قطعت رجله اليمنى، وقيل: يحبس حتى يموت، وورد في ذلك آثار عن السلف مختلفة.
وقوله: {جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} [المائدة: 38] من التجري على أموال الناس {نَكَالًا مِنَ اللَّهِ} [المائدة: 38] أي: ترهيبا منه للسراق ليرتدعوا إذا علموا أنهم يقطعون، وهذا نظير قوله في القتل: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة: 38] أي: عز وحكم، فقطع بحكمته يد السارق؛ تنكيلا للمجرمين، وحفظا للأموال.
وقد ذكر الله قبل هذا حد قطاع الطريق المحاربين في قوله: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ} [المائدة: 33]
فقيل: إن الإمام مخير فيهم بين هذه الأمور، وعليه أن يفعل ما تقتضيه المصلحة، ويحصل به النكاية، وقيل: إن هذه العقوبة مرتبة بحسب الجريمة؛ فإن جمعوا بين القتل وأخذ المال جمع لهم بين القتل والصلب، وإن قتلوا ولم يأخذوا مالا قتلوا ولم يصلبوا، وإن أخذوا مالا ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإن أخافوا الناس ولم يقتلوا ولا أخذوا مالا نفوا من الأرض، فلا يتركون يأوون إلى بلد، أو يحبسون كما قاله بعضهم). [تيسير اللطيف المنان: 1/152-157]
فصل في الأيمان ونحوها
قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ نَاصِرٍ السَّعْدِيُّ (ت: 1376هـ): (فصل في الأيمان ونحوها
قال الله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ - وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ - لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 87 - 89]
يقول الباري: يا أيها الذين آمنوا اعملوا بمقتضى أيمانكم في تحليل ما أحل الله، وتحريم ما حرم الله، فلا تحرموا ما أحل الله لكم من المطاعم والمشارب وغيرها، فإنها نعم تفضل الله بها عليكم فاقبلوها، واشكروا الله عليها إذ أحلها شرعا ويسرها قدرا، ولا تردوا نعمة الله بكفرها، أو عدم قبولها، أو اعتقاد تحريمها، أو الحلف على عدم تناولها، فإن ذلك كله من الاعتداء، ولهذا قال: {وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [المائدة: 87] بل يبغضهم ويمقتهم على ذلك {وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا} [المائدة: 88] أي: كلوا من رزقه الذي ساقه إليكم، ويسره لكم بأسبابه المتنوعة، إذا كان حلالا، لا سرقة ولا غصبا، ولا حصل في معاملة خبيثة، وكان أيضا طيبا نافعا لا خبث فيه {وَاتَّقُوا اللَّهَ} [المائدة: 88] في امتثال أوامره، واجتناب نواهيه {الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} [المائدة: 88] فإن الإيمان لا يتم إلا بذلك، وهو يدعو إلى ذلك.
ودلت الآية الكريمة أن العبد إذا حرم حلالا عليه من طعام وشراب وكسوة واستعمال وسرية ونحو ذلك، فإن هذا التحريم منه لا يحرم ذلك الحلال، لكن إذا فعله فعليه كفارة يمين، لأن التحريم يمين كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ - قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [التحريم: 1 - 2]
وهذا عام في تحريم كل طيب، إلا أن تحريم الزوجة يكون ظهارا فيه كفارة الظهار السابقة.
وكما أنه ليس له أن يحلف على ترك الطيبات فليس له أن يمتنع من أكلها، ولو بلا حلف تنسكا وغلوا في الدين؛ بل يتناولها مستعينا بها على طاعة ربه {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [المائدة: 89] ويشمل هذا الأيمان التي حلف بها من غير نية ولا قصد، أو عقدها يظن صدق نفسه فبان بخلاف ذلك، {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [المائدة: 89] أي: بما عقدت عليه قلوبكم، كما قال في الآية الأخرى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225]
فإذا عقد العبد اليمين وحنث - بأن فعل ما حلف على تركه، أو ترك ما حلف على فعله - خير في الكفارة بين إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم، وذلك يختلف باختلاف الناس والأوقات والأمكنة، أو كسوتهم بما يعد كسوة، وقيد ذلك بكسوة تجزي في الصلاة، أو تحرير رقبة صغير أو كبير، ذكر أو أنثى، بشرط أن تكون الرقبة مؤمنة، كما في الآية المقيدة بالأيمان، وأن تكون تلك الرقبة سليمة من العيوب الضارة بالعمل، فمتى كفر بواحد من هذه الثلاثة انحلت يمينه.
وهذا من نعمة الله على هذه الأمة أنه فرض لهم تحلة أيمانهم، ورفع عنهم الإلزام والجناح، فمن لم يجد واحدا من هذه الثلاثة فعليه صيام ثلاثة أيام، أي: متتابعة مع الإمكان، كما قيدت في قراءة بعض الصحابة، {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة: 89] عن أن تحلفوا بالله وأنتم كاذبون، وعن كثرة الأيمان لا سيما عند البيع والشراء، واحفظوها إذا حلفتم عن الحنث فيها، إلا إذا كان الحنث خيرا من المضي فيها، كما قال تعالى: {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ} [البقرة: 224]
أي: لا تقولوا: إننا قد حلفنا على ترك البر، وترك التقوى، وترك الإصلاح بين الناس، فتجعلوا أيمانكم مانعة لكم من هذه الأمور التي يحبها الله ورسوله، بل احنثوا وكفروا وافعلوا ما هو خير وبر وتقوى، واحفظوا أيضا أيمانكم إذا حلفتم وحنثتم بالكفارة، فإن الكفارة بها حفظ اليمين الذي معناه تعظيم المحلوف به، فمن كان يحلف ويحنث ولا يكفر فما حفظ يمينه، ولا قام بتعظيم ربه {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ} [المائدة: 89] المبينة للحلال من الحرام، الموضحة للأحكام {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 89] فعلى العباد أن يشكروا ربهم على بيانه وتعليمه لهم ما لم يكونوا يعلمون، فإن العلم أصل النعم وبه تتم). [تيسير اللطيف المنان: 1/157-159]
فصل في آيات في الأطعمة ونحوها والصيود وتوابعها
قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ نَاصِرٍ السَّعْدِيُّ (ت: 1376هـ): (فصل في آيات في الأطعمة ونحوها والصيود وتوابعها
قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ} [البقرة: 29]
{وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 119]
{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157]
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3]
وبعدها: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} [المائدة: 4]
{وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121]
{قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام: 145]
دلت هذه الآيات الكريمات على أن الأصل في الأشياء الحل من طعام وشراب وغيرها؛ ولأن الله تعالى خلق لنا ما في الأرض جميعا ننتفع به بكل وجوه الانتفاعات، من أكل وشرب واستعمال، وفصل لنا ما حرم علينا، فما لم يذكر في الكتاب والسنة تحريمه فهو حلال، وأباح لنا كل طيب، وحرم علينا كل خبيث.
فمن الخبائث المحرمة الميتة - سوى ميتة الجراد والسمك - وهي ما مات حتف أنفه أو ذكي ذكاة غير شرعية، والدم المسفوح كما قيدته الآية الأخرى، وأما الدم الذي يبقى في اللحم والعروق بعد الذبح فإنه طيب حلال {وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [المائدة: 3] بأن ذبح لغير الله من أصنام وملائكة أو إنس أو جن أو غيرها من المخلوقات.
ومن الخبائث كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير كما صح بذلك الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن الميتة {وَالْمُنْخَنِقَةُ} [المائدة: 3] أي: التي تخنق بالحبال أو غيرها، أو تختنق فتموت، {وَالْمَوْقُوذَةُ} [المائدة: 3] وهي التي تضرب بالحصى أو بالعصا حتى تموت، ومن هذا إذا رمى صيدا فأصاب الصيد بعرضه فقتله، {وَالْمُتَرَدِّيَةُ} [المائدة: 3] وهي التي تسقط من موضع عال كسطح وجبل فتموت، {وَالنَّطِيحَةُ} [المائدة: 3] التي تنطحها غيرها فتموت بذلك، وما أكله ذئب أو غيره من السباع، وكل هذه المذكورات إذا لم تدرك ذكاتها، فإن أدركها حية فذكاها حلت؛ لقوله: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] وسواء غلب على الظن بقاؤه أو تلفه إذا لم يُذَكّ أم لا.
ومن المحرمات الحشرات وخشاش الأرض من فأرة وحية ووزغ، ونحوها من المستخبثة شرعا وطبا.
ومن المحرمات ما ذكي ذكاة غير شرعية، إما أن الذابح غير مسلم ولا كتابي، وإما أن يذبحها في غير محل الذبح وهي مقدور عليها، وإما أن لا يقطع حلقومها ومريها، وإما أن يذبحها بغير ما ينهر الدم أو بعظم أو ظفر، وما أمر الشارع بقتله أو نهى عن قتله دل على تحريمه وخبثه.
وكل هذه الأشياء تحريمها في حال السعة، وأما إذا اضطر إليها غير باغ لأكلها قبل أن يضطر، ولا متعد إلى الحرام، وهو يقدر على الحلال، فإنه إذا اضطر إليها غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم، من رحمته أباح المحرمات في حال الضرورة.
ومن رحمته وسع لعباده طرق الحلال، فأباح الصيد إذا جرح في أي موضع من بدنه، وأباح صيد السهام إذا سمى الرامي عند رميها، وأباح أيضا صيد الكلاب المعلمة والطيور المعلمة، والتعليم يختلف باختلاف الحيوانات، قال العلماء: تعليم الكلب أن يسترسل إذا أرسل وينزجر إذا زجر، وإذا أمسك لم يأكل من صيده لقوله: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} [المائدة: 4] أي: عند إرسالها لقصد الصيد). [تيسير اللطيف المنان: 1/160-162]
فصل في جوامع الحكم والقضايا في الأصول والفروع
قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ نَاصِرٍ السَّعْدِيُّ (ت: 1376هـ): (فصل في جوامع الحكم والقضايا في الأصول والفروع
قال الله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49]
{لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء: 105]
{وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} [المائدة: 42]
{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]
{يا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26]
{وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50]
{وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام: 115]
الحكم بين الناس بالحق والقسط، هو الحكم بما أنزل الله، وهو الرد إلى الله ورسوله؛ فإن هذه الآيات يصدق بعضها بعضا؛ وتدل على أن الحق والعدل لا يخرج عما جاء به الرسول، وأن حكم الله ورسوله أحسن الأحكام على الإطلاق، أي: أعدلها وأقومها وأصلحها وأحسمها للشرور، وأعظم أحكام توسل بها إلى تحصيل درء المفاسد، وأن رد مسائل النزاع والاختلافات الدينية والدنيوية إلى الله والرسول خير في الحال وأحسن عاقبة، وأن كلمات الله تمت وكملت من كل وجه صدقا في إخبارها، عدلا في أحكامها وأوامرها ونواهيها، فكل مسألة خارجة عن العدل إلى الظلم، وعن الصلاح إلى الفساد، فليست من الشرع، وقد جاء شرع الله محكم الأصول والفروع، موافقا للمعقول الصحيح والاعتبار والميزان العادل.
وقد حكم الله ورسوله بأحكام متنوعة متفرعة عن هذا الأصل العظيم، وتفصيل لمجمله، فحكم الله بأن إقرار من عليه الحق معتبر في القليل والكثير كما تقدم التنبيه عليه في آية الدَّيْن.
وحكم بأن البينة على المدعي لإثبات حق، أو المدعي براءة الذمة من الحقوق الثابتة، وأن اليمين على من أنكر، وهاتان القاعدتان عليهما مدار جمهور القضايا، اعتبار إقرار من عليه الحق إذا كان جايز التصرف، وتكليف المدعين كلهم بالبينات.
والبيعة شرعا اسم جامع لكل ما بين الحق، والبيان مراتب، بعضها يصل إلى درجة اليقين، وبعضها كالقرائن، وشواهد الأحوال توصل إلى غلبة الظن، والترجيحات كثيرة جدا.
وعند تساوي الترجيحات ومقادير الأشياء وكمياتها بالتوسط بينها، إما بقسمتها متساوية وجعل الزيادة والنقص بحسب ذلك، وإلا بالقرعة إذا تعذرت القسمة، ومن أحكام الشارع العادلة إلغاؤه المعاملات الظالمة الجائرة: كأنواع الغرر والظلم والميل على أحد المتعاملين بغير حق.
ومن أحكامه الكلية اعتباره التراضي بين المتعاملين في عقود المعاوضات، وفي عقود التبرعات، وأنه لا يحل مال امرئ مسلم أو معاهد إلا بطيب نفسه.
ومن أحكامه الكلية منع الضرر والإضرار بغير حق في كل معاملة وخلطة وجوار واتصال.
ومن أحكامه الكلية أن على العمال تكميل أعمالهم بغير نقص، وعلى من عمل لهم تكميل أجورهم.
ومن أحكامه الكلية إيجابه الوفاء بالعقود والشروط التي يشترطها أحد المتعاقدين على الآخر في أبواب العقود كلها، مما لكل منهما أو لأحدهما فيه مصلحة، إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا، فهذا قد أهدره الشارع وألغاه وقال: من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد.
ومن أحكامه الكلية اعتبار المقاصد والنيات في أبواب المعاملات والأعمال، كما تعتبر في باب العبادات، وبهذا الأصل أبطل جميع الحيل التي يتوسل بها إلى فعل محرم، أو إسقاط حق مسلم ونحوها.
ومن أحكامه الكلية أن جميع العقود اللازمة والجائزة: عقود المعاوضة وعقود التبرع، وكذلك الفسوخ تنعقد بما دل عليها من الألفاظ التي يتعارفها المتعاقدان، ومن الأفعال الدالة على ذلك.
ومن أحكامه الكلية أن تلف الشيء بيد الظالم كالغاصب ونحوه فيه الضمان، فرط أو لم يفرط، فإن ثبوت يده على وجه الظلم والعدوان، وأن تلف الشيء تحت يد الأمين لا ضمان فيه إن لم يفرط أو يتعد.
ومن أحكامه الكلية أن الشيء المشكوك فيه يرجع فيه إلى اليقين في العبادات والمعاملات، فمن ادعى الأصل فقوله مقبول، ومن ادعى خلاف الأصل لم يقبل إلا ببينة، وأن الأصل بقاء ما كان على ما كان، والأصل براءة الذمة حتى يتيقن اشتغالها، كما أن الأصل بقاء ما كان ثابتا في الذمة حتى يتيقن البراءة بوفاء أو إسقاط أو سقوط، وأن الأصل في عقود المسلمين الصحة والسلامة حتى نعرف أنه جرى ما يفسدها.
ومن أحكامه الكلية أن جميع الأحكام من أصول وفروع لا تتم وتكمل ويحصل مقتضاها إلا باجتماع شروطها وأركانها ومقوماتها، وانتفاء موانعها ومفسداتها.
ومن أحكامه الكلية وجوب المماثلة في المتلفات والمضمونات بمثلها إن أمكن المثل، وبالقيمة إن تعذر المثل.
وكذلك الأعمال، فمن عمل لغيره عملا بعوض لم يسم، أو سمي تسمية فاسدة، أو جهلت التسمية، أو عاوضه معاوضة تعذر معرفة العوض فيها، فإنه يرجع في ذلك إلى أجرة المثل وعوض المثل.
ومن أحكامه الكلية وجوب العدل بين الأولاد والزوجات، ووجوب العدل بين ذوي الحقوق الذي لا مزية لواحد منهم على الآخر، كالعول الداخل على أهل الفروض بالسوية، وكقسمة المال بين الغرماء إذا لم يف بحقوقهم يعطون على قدر حقوقهم إذا لم يكن لأحدهم مزية رهن ونحوه، وكاشتراك الملاك في الزيادة المترتبة عليها على قدر أملاكهم، والنقص على قدر أملاكهم إذا اعتراها نقص، وسواء كان النقص بحق تعلق بها أو بتلف أو خسارة أو وقع ظلما فإنهم يشتركون في الزيادة والنقص على قدر أملاكهم.
ومن أحكامه الكلية إثبات الخيار في كل عقد ظهر في العوض المعين أو المعوض عيب ينقصه؛ وأنه إذا لم يمكن الرد تعين الأرش وإسقاط النقص، وعلى الصحيح لا فرق بين البيوع وغيرها، فإن هذا من قاعدة العدل.
ومن أحكامه الكلية جعل المجهول كالمعدوم، ويندرج تحت هذا الأصل الأموال التي جُهِلَ مُلَّاكُهَا أنه يتصدق بها عنهم، أو تبذل في المصالح نيابة عنهم، وتملك اللقطة، ومن مات لا وارث له بفرض ولا تعصيب ولا رحم، تركته في بيت المال للمصالح العامة جعلًا للمجهول في ذلك كالمعدوم.
ومن أحكامه الكلية الرجوع إلى العرف إذا تعذر التعيين شرعا ولفظا، كالرجوع للعرف في نفقة الزوجات والأقارب والأجراء، وكالشروط العرفية في المعاملات إذا اطردت بين الناس، وكالقبض والحرز ونحوها مما لا يعد ولا يحصى.
ومن أحكامه الكلية أن الأصل في العبادات الحظر؛ فلا يشرع منها إلا ما شرعه الله ورسوله، والأصل في المعاملات والاستعمالات كلها الإباحة؛ فلا يحرم منها إلا ما حرمه الله ورسوله، وعلى هذا جميع أحكام العبادات والمعاملات وغيرها مما لا يمكن إحصاؤه، ولهذا من شرع في عبادة لم تنقل عن الشارع فهو مبتدع، ومن حرم من العادات شيئا لم يرد عن الشارع فهو مبتدع.
ومن أحكامه الكلية حثه على الصلح والإصلاح بين من بينهم حقوق، وخصوصا عند اشتباهها أو عند تناكرهما، وإذا تعذر استيفاء الحق كله أو تعسر، فقد شرع في ذلك كله الصلح بالعدل، وسلوك الحالة المناسبة لتلك القضية بما تقتضيه الحال، وفيه من الفوائد والثمرات الطيبة ما لا يعد ولا يحصى.
ومن أحكامه الكلية اعتبار العدالة في الشهود، وأن يكونوا ممن يرضى من الشهداء، وذلك يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص، فالشارع اعتبر شهادة العدل المرضي من الشهداء، وأسقط شهادة الكاذب والقاذف قبل التوبة، وأمر بالتثبت في خبر الفاسق، وكذلك المجهول؛ لأنه اعتبر المرضي العدل عند الناس، فلا بد من تحقيق هذا الوصف، وأما عدد الشهود ونصابها فذلك يختلف باختلاف المشهود به كما فصله أهل العلم.
ومن أحكامه الكلية أن من سبق إلى مباح فهو أحق به، فيدخل في هذا السبق إلى الجلوس في المساجد والأسواق والأفنية، ويدخل فيه السبق إلى النزول في المساكن والأوقاف التي لا تتوقف على نظر ناظر، ويدخل في ذلك السبق إلى المباحات من الصيود البرية والبحرية، وإلى ما يستخرج من البحار والمعادن، وإلى الاحتشاش والاحتطاب وغير ذلك، وإلى إحياء الموات وغيرها من المسائل المتنوعة الداخلة في هذا الأصل.
ومن أحكامه الكلية قبول قول الأمناء على ما في أيديهم مما هم عليه أولياء من قبل الشارع، أو قبل المالك بالوكالة أو الوصاية أو النظارة للأوقاف، فكل هؤلاء مقبول قولهم فيما يدعونه من داخل وخارج ومصرف ونحوه إذا كان ذلك ممكنا، وهذا معنى تأمينهم وتوليهم وولايتهم، واعلم أن قبول قول هؤلاء في هذه الأمور لا يمنع محاسبتهم، وطلب الوقوف على كيفية تلك المصارف الداخلية والخارجية، وتبيين وجه النقص والتلف ونحو ذلك، ليستظهر بذلك على صدقهم وكذبهم، وأما تمكينهم من إطلاق سراحهم بحجة أنهم أمناء مقبول قولهم، فهذا غلط على الشريعة وعلى الحقيقة، فالشارع حاسب عماله واستدرك عليهم، والحقيقة والوقوف عليها مطلوب باتفاق أهل الاعتبار؛ فكم من أمين ظهرت خيانته يقينا حين استدرك عليه.
ومن أحكامه الكلية أن الواجب يسقط بالعجز عنه بالكلية، وأنه إذا قدر على بعض الواجب وجب عليه ما يقدر عليه منه، وسقط عنه ما يعجز عنه، وهذا مطرد في العبادات والحقوق الواجبة وغيرها، كما أن الضرورة تبيح المحظور وتقدر بقدرها.
ومن أحكامه الكلية أنه أقام البدل مقام مبدله في أحكام العبادات والمعاملات والحقوق وغيرها، فمتى كان للشيء بدل وتعذر الأصل قام هذا مقامه، وحكم له بأحكامه، وأن النماء تابع للأصل.
ومن أحكامه الكلية أن من وجب عليه أمر من الأمور فإنه يجبر عليه بحق، وأن من أتلف شيئا لدفع أذاه له دفعا عن نفسه، فلا ضمان عليه، فإن أتلفه للانتفاع به ضمنه.
وأن ما ترتب على المأذون فيه من تلف فغير مضمون، وما ترتب على غير المأذون فإنه مضمون.
ومن أحكامه الكلية أن الاستثناءات والقيود والأوصاف الملحقة بالألفاظ تعتبر وتقيد الكلام، ويرتبط بها بشرط الاتصال لفظا أو حكما، ويدخل في هذا ألفاظ العقود والفسوخ والوقف والوصايا والعتق والطلاق والأيمان والإقرارات وغيرها.
ومن أحكامه الكلية أن الشركاء في الأملاك والمنافع يلزمون بكل ما يعود إلى حصول المنافع الضرورية ودفع المضار، ويجبر الممتنع منهما من ذلك من المصارف والنفقات والضرائب التي تلحق الأملاك هم فيها شركاء على كل منهم بقدر ملكه.
ومن أحكامه الكلية أن المباشر لإتلاف الأموال أو المتسبب لذلك ضامن لها متعمدا كان أو ناسيا أو جاهلا، وأنه إذا اجتمع المباشر والمتسبب كان الضمان على المباشر إلا إن تعذر تضمينه لفقد أو امتناع أو عسر أو نحوه، فيحال الضمان على المتسبب بغير حق.
ومنها: أن من أدى عن غيره دينا واجبا بنية الرجوع، فإنه يرجع ولو لم يأذن له في ذلك.
ومنها: أن الوصف في الشيء الذي بيد الغير، وذلك الغير لا يدعيه لنفسه بينة.
ومنها: أن من تعجل شيئا قبل أوانه على وجه محرم عوقب بحرمانه.
ومن أحكامه الكلية أنه إذا تزاحمت المصالح قدم الأعلى منها، وإن تزاحمت المفاسد وكان لا بد من فعل إحداها ارتكب الأخف منها لدفع الأشد مفسدة، وعلى هذا من مسائل الفقه ما لا يعد ولا يحصى، لأن الشارع شرع الشريعة لتحصيل المصالح أو تكميلها، ولتقليل المفاسد وتعطيلها بحسب الإمكان.
ومنها: أن إطلاق التشريك في الوصايا والهبات والإقرارات، وإيقاع العقود والفسوخ على الأعيان وغير ذلك: كل ذلك يقتضي المساواة بين من شرك بينهم في شيء من ذلك، إلا إن دل دليل على المفاضلة بينهم، وكذلك في الأشياء المشتبهة التي يعلم أنها لهؤلاء الأشخاص، ولا يعلم مقدار ما لِكُلٍّ، فإنهم يتساوون فيها، وأدلة هذه الأصول من الكتاب والسنة ظاهرة، وهي أصول جامعة عظيمة النفع، ينتفع بها الحاكم والمفتي وطالب العلم، وهي من محاسن الشريعة، ومن أكبر البراهين على أن ما جاء به الرسول حق من عند الله محكم الأصول، متناسب الفروع، عدل في معانيه، تابع للحكم والصلاح في مبانيه، فلنقتصر على هذه القواعد إذ غيرها تبع لها، وهي تغني عن غيرها، ولا يغني عنها سواها. . والله أعلم). [تيسير اللطيف المنان: 1/162-170]