16 May 2015
كمال القرآن وأسلوبه وتأثيره
قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ نَاصِرٍ السَّعْدِيُّ (ت: 1376هـ): ({الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]
فلم يبق من العلوم النافعة علم إلا بيَّنه لهم، فإن القرآن تبيان لكل شيء، فعلوم الأصول وعلوم الفروع والأحكام، وعلوم الأخلاق والآداب، وعلوم الكون، وكل ما يحتاجه الخلق من ذلك اليوم إلى أن تقوم الساعة، ففي القرآن بيانه والإرشاد إليه، وهو الذي إليه المرجع في جميع الحقائق الشرعية والعقلية، ومحال وممتنع أن يأتي علم صحيح لا محسوس ولا معقول ينقض شيئا مما جاء به القرآن؛ فإنه {تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت: 42] {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]
{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9]
{وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [الأحزاب: 4]
فهذه الآية جمعت بين نوعي العلوم، فإن العلوم وسائل ومقاصد، وهو الحق الذي يقول الله في كتابه، وعلى لسان رسوله، ونوع وسائل، وهو الهداية إلى السبيل إلى كل علم وعمل، كما أن قوله تعالى: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان: 33]
جمعت الكمال في ألفاظه ومعانيه؛ فألفاظه أوضح الألفاظ وأبلغها وأحسنها تفسيرا لكل ما تفسره من الحقائق، بوضوحها وأحكامها وقوامها، ومعانيه كلها حق، وذلك أنه تمت كلمة ربك صدقا وعدلا، صدقا في أخبارها، وعدلا في أحكامها: أوامرها ونواهيها:
{وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50]
فأحكامه على الإطلاق أحسن الأحكام وأنفعها للعباد، فهذا في شرعه ودينه ونظيره في خلقه، الذي أحسن كل شيء خلقه، وبدأ خلق الإنسان من طين.
وقد جمع الله في كتابه بين المتقابلات العامة، وذلك لكمال هذا الكتاب وأحكامه كالأمثلة السابقة، وكما في قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2]
فإن البر اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من العقائد والأخلاق والأعمال، والتقوى اسم جامع لما يجب اتقاؤه من جميع المآثم والمضار، ولهذا قال: {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]
فالإثم المعاصي المتعلقة بحقوق الله، والعدوان البغي على الخلق في الدماء والأموال والأعراض والحقوق.
وكذلك قوله تعالى:
{وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197]
فجمع بين زاد سفر الدنيا، وزاد سفر الآخرة بالتقوى.
وكذلك قوله تعالى: {يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا} [الأعراف: 26]
فهذا اللباس الحسي الضروري والكمالي، ثم قال: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف: 26]
فهذا اللباس المعنوي، وإن شئت قلت عن الأول إنه لباس البدن، وعن لباس التقوى إنها لباس القلب والروح.
وكذلك قوله تعالى: {وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} [الإنسان: 11]
جمع لهم بين نعيم الظاهر بالنضرة والحسن والبهاء ونعيم الباطن بكمال الفرح والسرور.
وكذلك قوله في صفة نساء الجنة: {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} [الرحمن: 70]
فوصفهن بجمال الباطن بحسن الخلق الكامل، وجمال الظاهر بأنهن حسان الوجوه وجميع الظاهر.
ولما ذكر السير الحسي ذكر السير المعنوي، فقال: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ} [النحل: 9]
وكذلك قوله: {فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا} [النساء: 71]
وكذلك قوله: {لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى - الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [الليل: 15 - 16]
كذب الخبر وتولى عن الطاعة " التكذيب ": انحراف الباطن، " والتولي ": انحراف الظاهر، ونظيره قوله:
{إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [طه: 48]
وضد ذلك ما رتب الله على الإيمان والعمل الصالح من خير الدنيا والآخرة؛ فإن الإيمان ضد التكذيب، والتولي ضد الاستقامة والعمل الصالح.
وكذلك قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]
فاعبده وتوكل عليه تجمع جميع ما يراد من العبد؛ فالعبادة حق الله على العبد، والإعانة من ربه إسعافه بما استعان عليه من عبودية ربه وغيرها من منافعه؛ فالعبد في عبادة لله واستعانة به.
وكذلك قوله: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97]
فجمع للمؤمن العامل للصالحات بين طيب الحياة في الدنيا والآخرة، ونظيره:
{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ} [النحل: 30]
{وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ} [النحل: 41]
{رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً} [البقرة: 201]
وكذلك قوله: {وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 277]
في مواضع نفي جميع المكروه الماضي ينفي الحزن والمستقبل بنفي الخوف.
وكذلك قوله تعالى: {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ} [الواقعة: 89]
فالروح اسم جامع لنعيم القلب، والريحان اسم جامع لنعيم الأبدان، وجنة نعيم تجمع الأمرين.
وكذلك قوله: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 124]
جمع له بين عذاب الدنيا وعذاب البرزخ وعذاب دار القرار.
وكذلك قوله: {يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [غافر: 35]
أي: متكبر على الحق جبار على الخلق، ومثله: {مُعْتَدٍ أَثِيمٍ} [القلم: 12]
أي معتد في البغي على عباد الله، {أَثِيمٍ} [القلم: 12] أي: متجرئ على محارم الله.
وكذلك قوله في مواضع: {مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [الشورى: 8]
فالولي: الذي يجلب لموليه المنافع، والنصير: الذي يدفع عنه المضار). [تيسير اللطيف المنان: 1/303-307]