الدروس
course cover
فوائد منثورة منوعة غير مرتبة
16 May 2015
16 May 2015

3510

0

0

course cover
خلاصة تفسير القرآن

القسم الثالث

فوائد منثورة منوعة غير مرتبة
16 May 2015
16 May 2015

16 May 2015

3510

0

0


0

0

0

0

0

فوائد منثورة منوعة غير مرتبة


قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ نَاصِرٍ السَّعْدِيُّ (ت: 1376هـ): (فوائد منثورة منوعة غير مرتبة

الأمَّة: جاء في القرآن لعدة معاني، جاء بمعنى الإمام الجامع لخصال الخير، مثل قوله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل: 120]

وبمعنى الطائفة:

{وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24]

وهذا المعنى كثير.

وبمعنى الملة والدين: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [المؤمنون: 52]

وبمعنى المدة الطويلة:

{وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} [يوسف: 45]

* السلطان: أكثر استعماله في القرآن بمعنى الحجة، مثل قوله:

{إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} [يونس: 68]

{فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [إبراهيم: 10]

ويأتي بمعنى الملك:

مثل قوله: {هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة: 29]

ويأتي بمعنى التسلط والسيطرة:

مثل قوله: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ - إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل: 99 - 100]

* اللسان: ورد في القرآن لعدة معاني، ورد بمعنى الجارحة:

{لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} [القيامة: 16]

{يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ} [الفتح: 11]

وهو كثير.

وبمعنى اللغة:

{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم: 4]

{بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 195]

وبمعنى الثناء الحسن:

{وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} [الشعراء: 84]

* استوى: وردت في القرآن على ثلاثة أوجه، تارة تُعدَّى بعلى فتدل على العلو والارتفاع مثل:

{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54]

{لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} [الزخرف: 13]

وتعدَّى بإلى فتدل على القصد مثل:

{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [البقرة: 29]

وتأتي بلا تعدية بحرف فتدل على الكمال، ومنه قوله:

{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى} [القصص: 14] أي: كمل في عقله وأحواله كلها.

* التأويل: أكثر وروده في القرآن بمعنى عاقبة الشيء وما يؤول إليه ووقت وقوعه مثل قوله:

{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ} [الأعراف: 53] أي: وقوع المخبر به من العذاب.

{هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ} [يوسف: 100] أي: هذا ما آلت إليه وهذا وقوعها.

وقد يأتي بمعنى التفسير وهو قليل، ومنه على أحد التفسيرين:

{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 7]

أي: تفسيره، وعلى القول الآخر يكون من المعنى الأول، أي: وما يعلم حقيقة المخبر عنه إلا الله وحده، فعلى هذا المعنى يتعين الوقوف على (اللَّهِ) ، وعلى المعنى الأول الذي بمعنى التفسير يعطف عليه: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران: 7] أي: فما يعلم تفسير المتشابه الذي يتشابه فهمه على أذهان أكثر الناس إلا الله وإلا أهل العلم، فإنهم يعلمون تأويله بهذا المعنى.

* الغافل: ورد في القرآن بمعنى الجاهل مثل قوله:

{لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ} [يس: 6]

وبمعنى النسيان لذكر الله وذكر طاعته، كقوله:

{وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف: 205]

{وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا} [الكهف: 28]

* فائدة: إخبار الله أنه مع عباده يرد في القرآن على أحد معنيين:

أحدهما: المعية العامة، كقوله:

{مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ} [المجادلة: 7] أي: هو معهم بعلمه وإحاطته.

الثاني: المعية الخاصة، وهي أكثر ورودا في القرآن، وعلامتها أن يقرنها الله بالاتصاف بالأوصاف التي يحبها، والأعمال التي يرتضيها مثل قوله:

{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 194]

مع المحسنين ومع الصابرين.

{لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40]

{قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46]

وهذه المعية تقتضي العناية من الله والنصر والتأييد والتسديد بحسب قيام العبد بذلك الوصف الذي رتبت عليه المعية.

ونظير هذا التقسيم وصف العباد بأنهم عبيد لله يرد في القرآن على نوعين: نوع عام مثل قوله:

{إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: 93]

أي: معبدا مملوكا لله، والنوع الثاني العبودية الخاصة، وهي تقتضي أن العبد بمعنى العابد المتعبد لربه القائم بعبوديته، وذلك مثل قوله:

{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ} [الفرقان: 63]

{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان: 1]

{أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36]

فبحسب قيام العبد بعبودية ربه تحصل له كفاية الله.

ونظير هذا القنوت يرد في القرآن على قسمين: قنوت عام مثل قوله: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} [الروم: 26]

أي: الكل عبيد خاضعون لربوبيته وتدبيره. النوع الثاني: وهو الأكثر في القرآن: القنوت الخاص، وهو دوام الطاعة لله على وجه الخشوع مثل قوله: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا} [الزمر: 9]

{وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238]

{يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي} [آل عمران: 43]

{وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ} [الأحزاب: 35] ونحوها.

* فائدة: طغيان الرئاسة وطغيان المال يحملان صاحبهما على الكبر والبطر والبغي على الحق وعلى الخلق، برهان ذلك قوله تعالى:

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} [البقرة: 258]

وقوله:

{إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى - أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 6 - 7]

فعلل هذا التجرؤ والطغيان بحصول الملك ورؤيته لنفسه الاستغناء، أما الموفقون الأصفياء فإنهم في هذه الأحوال يخضعون لله ويعترفون له بالنعمة ويزداد تواضعهم؛ ولهذا لما رأى سليمان عليه السلام من ملكه ملكا كبيرا، ورأى عرش ملكة سبأ مستقرا عنده لم يطغ ويقل: هذا من حولي وقوتي، ونحوه، بل قال: {قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} [النمل: 40] وقال قبل ذلك: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل: 19]

* فائدة: من الحكمة استعمال اللين في معاشرة المؤمنين، وفي مقام الدعوة للكافرين، كما قال تعالى:

{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159]

وقال: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44]

فأمر باللين في هذه المواضع، وذكر ما يترتب عليه من المصالح، كما أن من الحكمة استعمال الغلظة في موضعها. قال تعالى:

{يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التحريم: 9]

لأن المقام هنا مقام لا تفيد فيه الدعوة، بل قد تعين فيه القتال، فالغلظة فيه من تمام القتال، وقد جمع الله بين الأمرين في قوله في وصف خواص الأمة: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29]

والفرق بين قوله: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56] وبين قوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52] أن هداية الإرشاد والتعليم والبيان هي التي أثبتها لرسوله، بل ولكل من له تعليم وإرشاد للخلق كما قال:

{وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} [الأنبياء: 73]

وقال: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرعد: 7]

وأما هداية التوفيق ووضع الإيمان في القلوب فإنها مختصة بالله، فكما لا يخلق ولا يرزق ولا يحيي ويميت إلا الله، فلا يهدي إلا الله.

والفرق بين التبصرة والتذكرة في مثل قوله: {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} [ق: 8]

أن التبصرة هي العلم بالشيء والتبصر فيه، والتذكرة هي العمل بالعلم اعتقادا وعملا، وتوضيح هذا أن العلم التام النافع يفتقر إلى ثلاثة أمور: التفكر أولا في آيات الله المتلوة والمشهودة، فإذا تفكر أدرك ما تفكر فيه بحسب فهمه وذكائه، فعرف ما تفكر فيه وفهمه، وهذا هو التبصرة، فإذا علمه عمل به، فإن كان اعتقادا وإيمانا صدقه بقلبه وأقرَّ به واعترف، وإن اقتضى عملا قلبيا أو قوليا أو بدنيا عمل به، وهذا هو التذكر وهو التذكرة، وحاصل ذلك هو معرفة الحق واتباعه، ومعرفة الباطل واجتنابه.

والفرق بين المواضع التي ورد في القرآن أن الناس لا يتساءلون ولا يتكلمون، والمواضع التي ذكر فيها احتجاجهم وتكلمهم وخطاب بعضهم لبعض من وجهين أوجههما تقييد هذه المواضع بقوله:

{لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} [النبأ: 38]

فإثبات الكلام المتعدد من الخلق يوم القيامة تبع لإذن الله لهم في ذلك، ونفي التساؤل والكلام في الحالة التي لم يؤذن لهم.

الوجه الثاني: ما قاله كثير من المفسرين: إن القيامة لها أحوال ومقامات، ففي بعض الأحوال والمقامات يتكلمون، وفي بعضها لا يتكلمون، وهذا الوجه لا ينافي الأول، فيقال: هذه الأحوال والمقامات تبع لإذن الله لهم أو عدمه.

والفرق بين إثبات الله في القرآن الأنساب بين الناس في مواضع كثيرة، ونفيها في مواضع: إن المواضع المنفية المراد بها أن الأنساب لا تنفع، كما أن جميع الأسباب لا تنفع يوم القيامة إلا سبب واحد، وهو الإيمان والعمل الصالح، كما ذكره في كتابه في مواضع، وأما المواضع المثبتة فهو المطابق للحقيقة، ويذكر في كل مقام بحسبه.

ففي مقامات الفضل والثواب يذكر الله فضله على الجميع بإلحاق الناقص من المؤمنين بالكامل من غير نقص لدرجة الكامل مثل قوله:

{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطور: 21]

أي: ما نقصناهم، ومثل: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ} [الرعد: 23] ونحوها.

وفي مقامات العدل والعقوبة يذكر الأنساب، وأنها لا تنفع، وأن الأمر أعظم من أن يلتفت الإنسان إلى أقرب الناس إليه مثل قوله:

{يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ - وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ - وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ} [المعارج: 11 - 13]

ومثل: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ - وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ - وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ - لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس: 34 - 37]

ونظير هذا الإخبار عن المجرمين أنهم يُسألون عن أعمالهم، وذلك على وجه إظهار العدل والتوبيخ والتقريع لهم والفضيحة، وفي بعض المواضع مثل:

{فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ} [الرحمن: 39]

أي: لا يحتاج في علم ذلك وجزائه عليه إلى سؤاله سؤال استعلام؛ لأنها مسطرة عليهم قد حفظت بالشهود من الملائكة والجوارح والأرض وغيرها.

* فائدة: النفي المحض لا يكون كمالا، ولهذا في مقامات المدح كل نفي في القرآن فإنه يفيد فائدتين: نفي ذلك النقص المصرح به، وإثبات ضده ونقيضه؛ فيدخل في هذا أشياء كثيرة أعظمها أنه أثنى على نفسه بنفي أمور كثيرة تنافي كماله، نفي الشريك في مواضع متعددة فيقتضي توحُّده بالكمال المطلق، وأنه لا شريك له في ربوبيته وإلهيته وأسمائه وصفاته، وسبح نفسه في مواضع، وأخبر في مواضع عن تسبيح المخلوقات، والتسبيح تنزيه الله عن كل نقص، وعن أن يماثله أحد، وذلك يدل على كماله، ونفى عن نفسه الصاحبة والولد، ومكافأة أحد ومماثلته، وذلك يدل على كماله المطلق وتفرُّده بالوحدانية والغنى المطلق والملك المطلق، ونفى عن نفسه السِّنَةَ والنوم والموت؛ لكمال حياته وقيوميته، ونفى كذلك الظلم في مواضع كثيرة، وذلك يدل على كمال عدله وسعة فضله، ونفى أن يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء أو يعجزه شيء؛ وذلك لإحاطة علمه وكمال قدرته، ونفى العبث في مخلوقاته وفي شرعه؛ وذلك لكمال حكمته، وهذه فائدة عظيمة فاحفظها في خزانة قلبك، فإنها خير الكنوز وأنفعها.

وكذلك نفى عن كتابه القرآن الريب والعوج والشك ونحوها، وذلك يدل على أنه الحق في أخباره وأحكامه، فأخباره أصدق الأخبار وأحكمها وأنفعها للعباد، وأحكامه كلها محكمة في كمال العدل والحسن والاستقامة على الصراط المستقيم.

وقال عن نبيه صلى الله عليه وسلم: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم: 2]

فنفى عنه الضلال من جميع الوجوه، وهو عدم العلم أو قلته أو نقصه أو عدم جودته والغيّ وهو سوء القصد، فيدل ذلك أنه أعلم الخلق على الإطلاق، وأهداهم وأعظمهم علما ويقينا وإيمانا، وأنه أنصح الخلق للخلق، وأعظمهم إخلاصا لله وطلبا لما عنده، وأبعدهم عن الأغراض الرديئة، وكذلك نفى عنه كل نقص قاله أعداؤه فيه، وأنه في الذروة العليا من الكمال المضاد لذلك النقص.

وكذلك نفى الله عن أهل الجنة الحزن والكدر والنصب واللغوب والموت وغيرها من الآفات، فيدل ذلك على كمال سرورهم وفرحهم واتصال نعيمهم وكماله، وكمال حياتهم وقوة شبابهم وكمال صحتهم، وتمام نعيمهم الروحي والقلبي والبدني من كل وجه، وأنه لا أعلى منه حتى يطلب عنه حولا.

وعكس هذا ما نفى القرآن عنه صفات الكمال، فإنه يثبت له ضد ذلك من النقص، كما نفى عن آلهة المشركين جميع الكمالات القولية والفعلية والذاتية، وذلك يدل على نقصها من كل وجه، وأنها لا تستحق من العبادة مثقال ذرة.

* فائدة: قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [البقرة: 247]

أي: القوة والشجاعة في هذه الآية، على أن الملك إذا اجتمعت فيه هاتان الخصلتان: العلم بالولاية والسياسة وحسن التدبير والشجاعة والقوة، فهو الذي يصلح للولاية والملك، وإن لم يكن من بيت الملك ولا ذا مال، فإن العبرة بجميع الولايات إمكان إقامتها والنهوض بها على أكمل الحالات، وولاية الملك لا تتم إلا بالعلم والشجاعة القلبية والبدنية.

* فائدة: قوله تعالى: {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة: 189]

يؤخذ من عمومها اللفظي والمعنوي أن كل مطلوب من المطالب المهمة ينبغي أن يؤتى من بابه، وهو أقرب طريق ووسيلة يتوصل بها إليه، وذلك يقتضي معرفة الأسباب والوسائل معرفة تامة؛ ليسلك الأحسن منها والأقرب والأسهل، والأقرب نجاحا، لا فرق بين الأمور العلمية والعملية، ولا بين الأمور الدينية والدنيوية، ولا بين الأمور المتعدية والقاصرة، وهذا من الحكمة.

* فائدة: لما ذكر الله الأنبياء وأثنى عليهم قال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام: 90]

تدل على اتباع جميع الأنبياء في جميع هداهم، والله هداهم في عقائدهم وأخلاقهم وأعمالهم وأقوالهم وأفعالهم، فكل أمر أثنى الله فيه على أحد من أنبيائه من عقد أو خلق أو عمل فإننا مأمورون بالاقتداء بهم، وذلك من هداهم وهو أيضا من شريعتنا، فإن الله أمرنا بذلك، كما أمرنا بالأوصاف العامة التي تدخل فيها مفردات كثيرة.

* فائدة: إذا أمرنا الله في كتابه بأمر كان أمرا بذلك، وبكل أمر لا يتم إلا به، فالأمر مثلا بالصلاة أمر بالطهارة وستر العورة واجتناب النجاسة واستقبال القبلة وبجميع شروطها وأركانها، وكذلك هو أمر بمعرفتها ومعرفة ما لا تتم إلا به، وهذا من أعظم الأدلة على وجوب طلب العلم، فإن المأمورات يتوقف تكميلها على معرفتها، وكذلك إذا نهانا الله عن شيء كان نهيا عن كل وسيلة توصل إليه، والأمر بالجهاد أمر به، وبكل ما يتوقف عليه في كل زمان ومكان، والأمر بتبليغ الشريعة أمر بكل ما يحصل به التبليغ ويتم ويكمل ويشمل، ويدخل في هذا إيصال الأحكام الشرعية وتبليغها للناس بجميع المقربات الحادثة.

* فائدة: قد أخبر الله في عدة آيات بهدايته الكفار على اختلاف مللهم ونحلهم، وتوبته على كل مجرم، وأخبر في آيات أُخر أنه:

{لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 258]

{لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 108]

فما الجمع بينها؟ فيقال: قوله تعالى:

{إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ - وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [يونس: 96 - 97]

هي الفاصلة بين من هداهم الله ومن لم يهدهم، فمن حقت عليه كلمة العذاب - لعنادهم، ولعلم الله أنهم لا يصلحون للهداية، بحيث صار الظلم والفسق وصفا لهم، ملازما غير قابل للزوال، ويعلم ذلك بظاهر أحوالهم وعنادهم ومكابرتهم للحقائق - فهؤلاء يطبع الله على قلوبهم فلا يدخلها خير أبدا، والجرم جرمهم، فإنهم رأوا سبيل الرشد فزهدوا فيه، ورأوا سبيل الغي فرغبوا فيه، واتخذوا الشياطين أولياء من دون الله.

* فائدة: ورد في كثير من الآيات إضافة الأمور إلى قدرة الله ومشيئته وعموم خلقه، وفي آيات كثيرة إضافتها إلى عامليها وفاعليها، وهذه الآيات المتنوعة تنزل على الأصل العظيم المتفق عليه بين سلف الأمة، والذي دل عليه العقل والنقل، وهو أن جميع الأمور واقعة بقضاء الله وقدره: أعيانها وأوصافها وأفعالها، وجميع ما حدث ويحدث، لا يخرج شيء منه عن قضائه وقدره، ومع ذلك فقد جعل الله الحوادث تبعا لأسبابها، ولإرادة الفاعلين لها وقدرتهم عليها، فالآيات المتعددة المضافة إلى عموم قدرة تدل على الأصل الأول، والآيات المتعددة المضافة إلى فاعليها تدل على الأصل الثاني، ولا منافاة بينهما، فإن أعمال العباد مثلا تقع بفعلهم وإرادتهم وقدرتهم، والله خالقهم وخالق قدرتهم وإرادتهم وخالق السبب التام خالق للمسبب، ومع ذلك فقد جعلهم في أفعالهم وتروكهم مختارين غير مجبورين.

* فائدة: يختم الله كثيرا من الآيات عندما يبين للعباد الأصول والأحكام النافعة بقوله: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [البقرة: 73]

وهذا يدل على أمور:

منها: أن الله يحب منا أن نعقل أحكامه وإرشاداته وتعليماته، فنحفظها ونفهمها ونعقلها بقلوبنا، ونؤيد هذا العقل ونثبته بالعمل بها.

ومنها: أنه كما يحب منا أن نعقل هذا الحكم الذي بينه بيانا خاصا، فإنه يحب أن نعقل بقية ما أنزل علينا من الكتاب والحكمة، وأن نعقل آياته المسموعة وآياته المشهودة.

ومنها: أن في هذا أكبر دليل على أن معرفة ما أنزل الله إلينا من أعظم ما يربي عقولنا، ويجعلها عقولا تفهم الحقائق النافعة والضارة، وترجح هذه على هذه، ولا تميل بها الأهواء والأغراض والخيالات والخرافات الضارة المفسدة للعقول.

وإذا أردت معرفة مقادير عقول الخلق على الحقيقة، فانظر إلى عقول المهتدين بهداية القرآن والسنة، وإلى عقول المنحرفين عن ذلك تجد الفرق العظيم، ولا تحسبن العقل هو الذكاء وقوة الفطنة والفصاحة اللفظية وكثرة القيل والقال، وإنما العقل الصحيح أن يعقل العبد في قلبه الحقائق النافعة، عقلا يحيط بمعرفتها، ويميز بينها وبين ضدها، ويعرف الراجح من الأمور فيؤثره، والمرجوح أو الضار فيتركه، وبعبارة أخرى مختصرة نقول: العقل هو الذي يعقل به العلوم النافعة، ويعقل صاحبه ويمنعه من الأمور الضارة.

* فائدة: ورد في القرآن آيات عامة عطف عليه بعض أفرادها الداخلة فيها، وذلك يدل على فضيلة المخصوص وآكديته، وأن له من المزايا ما أوجب النص عليه مثل قوله:

{مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 98]

{تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا} [القدر: 4] وهو جبريل.

{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238]

{وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ} [الأعراف: 170]

دخل فيه الدين كله ثم قال: {وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ} [الأعراف: 170]

ومثله: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ} [العنكبوت: 45]

أي: اتبعه، ويدخل في ذلك جميع الشرائع، ثم قال: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ} [العنكبوت: 45]

وذكر السبب في ذلك، إلى غير ذلك من الآيات التي إذا تأملت المخصوص من العام علمت أن ذلك لشرفه وآكديته، وما يترتب عليه من الثمرات الطيبة.

* فائدة لطيفة: في عدة آيات من القرآن إذا ذكر الله الحكم لم ينص على نفس الحكم عليه، بل يذكر من أسمائه الحسنى ما إذا علم ذلك الاسم وعلمت آثاره، عُلم أن ذلك الحكم من آثار ذلك الاسم، وهذا إنهاض من الله لعباده أن يعرفوا أسماءه حق المعرفة، وأن يعلموا أنها الأصل في الخلق والأمر، وأن الخلق والأمر من آثار أسمائه الحسنى، وذلك مثل قوله:

{فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ - وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 226 - 227]

فيستفاد أن الفيئة يحبها الله، وأنه يغفر لمن فاء ويرحمه، وأن الطلاق كريه إلى الله، وأما المؤلي إذا طلق فإن الله تعالى سيجازيه على ما فعل من السبب، وهو الإيلاء، والمسبب، وهو ما ترتب عليه، ومثل هذا قوله تعالى:

{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 34]

أي: فإنكم إذا علمتم ذلك رفعتم عنه العقوبة المتعلقة بحق الله، وهذا كثير، وقد يصرح الله بالحكم ويعلله بذكر الأسماء الحسنى المناسبة له.

* فائدة: قوله تعالى:

{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31]

جمع الله فيها أمورا كثيرة نافعة في الدين والبدن والحال والمآل، فالأمر بالأكل والشرب يدل على الوجوب، وأن العبد لا يحل له ترك ذلك شرعا، كما لا يتمكن من ذلك قدرا ما دام عقله معه، وأن الأكل والشرب مع نية امتثال أمر الله يكون عبادة، وأن الأصل في جميع المأكولات والمشروبات الإباحة، إلا ما نص الشارع على تحريمه لضرره لإطلاق ذلك، وعلى أن كل أحد يأكل ما ينفعه ويناسبه ويليق به، ويوافق لغناه وفقره، ويوافق لصحته ومرضه ولعادته وعدمها، ولأنه حذف المأكول، والآية ساقها الله لإرشاد العباد إلى منافعهم، وهي تدل على ذلك كله، وعلى أن أصل صحة البدن تدبير الغذاء بأن يأكل ويشرب ما ينفعه، ويقيم صحته وقوته، وعلى الأمر بالاقتصاد في الغذاء والتدبير الحسن؛ لأنه لما أمر بالأكل والشرب نهى عن السرف، وعلى أن السرف منهي عنه، وخصوصا في الأطعمة والأشربة، فإن السرف يضر الدين والعقل والبدن والمال.

أما ضرره الديني فكل من ارتكب ما نهى الله ورسوله عنه فقد انجرح دينه، وعليه أن يداوي هذا الجرح بالتوبة والرجوع.

وأما ضرره العقلي فإن العقل يحمل صاحبه أن يفعل ما ينبغي على الوجه الذي ينبغي، ويوجب له أن يدبر حياته ومعاشه؛ ولهذا كان حسن التدبير في المعاش من أبلغ ما يدل على عقل صاحبه، فمن تعدى الطور النافع إلى طور الإسراف الضار فلا ريب أن ذلك لنقص عقله، فإنه يستدل على نقص العقل بسوء التدبير.

وأما ضرره البدني فإن من أسرف بكثرة المأكولات والمشروبات انضر بدنه واعتراه أمراض خطرة، وكثير من الأمراض إنما تحدث بسبب الإسراف في الغذاء، ثم إنه ينضرُّ أيضا من وجه آخر، فإن من عوَّد بدنه شيئا اعتاده، فإذا عوَّده كثرة الأكل أو أكل الأطعمة المتنوعة فربما تعذرت في بعض الأحوال لفقر أو غيره، وحينئذ يفقد البدن ما كان معتادا له فتنحرف صحته.

وأما ضرره المالي فظاهر فإن الإسراف يستدعي كثرة النفقات، ولهذا قال تعالى: {وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} [الإسراء: 29]

أي: تلام على ما فعلت؛ لأنه في غير طريقه، (مَحْسُورًا) : فارغ اليد، وإخباره أنه لا يحب المسرفين دليل على أنه يحب المقتصدين؛ ففي هذه الآية إثبات صفة المحبة لله، وأنها تتعلق بما يحبه الله من الأشخاص والأعمال والأحوال كلها، فسبحان من جعل كتابه كنوزا للعلوم النافعة المتنوعة.

* فائدة: ذكر الله في كتابه عدة آيات فيها وصف القلوب بالمرض وبالعمى وبالقسوة، وبجعل الموانع عليها من الران، والأكنة والحجاب، وبموتها وبحيرتها، فاعلم أن القلب يكون صحيحا ويكون مريضا، ويجتمع فيه المرض والموانع من وصول الصحة، وقد يكون لينا وقد يكون قاسيا.

فأما القلب الصحيح فهو السليم من جميع الآفات، وهو القلب الذي صحت وقويت قوته العلمية، وقوته العملية الإرادية، وهو الذي عرف الحق فاتبعه بلا تردد، وعرف الباطل فاجتنبه بلا توقف، فهذا هو القلب الصحيح الحي السليم، وصاحبه من أولي النُّهى وأولي الحجا وأولي الألباب وأولي الأبصار، والْمُخْبت لله والمنيب إليه.

وأما القلب المريض فهو الذي انحرفت إحدى قوتيه العلمية أو العملية أو كليهما.

فمرض الشبهات والشكوك الذي هو مرض المنافقين لما اختل علمهم وبقيت قلوبهم في شكوك واضطراب، ولم تتوجه إلى الخير، كان مرضها مهلكا.

ومرض الشهوات الذي هو ميل القلب إلى المعاصي مخل بقوة القلب العملية، فإن القلب الصحيح لا يريد ولا يميل إلا إلى الخير، أو إلى ما أباحه الله له، فمتى رأيت القلب ميالا إلى المعاصي سريع الانقياد لها فهو مريض، هو سريع الافتتان عند وجود أسباب الفتنة، كما قال تعالى:

{فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب: 32]

وأما القلب القاسي فهو الذي لا يلين لمعرفة الحق، وإن عرفه لا يلين للانقياد له، فتأتيه المواعظ التي تلين الحديد وقلبه لا يتأثر بذلك، إما لقسوته الأصلية أو لعقائد منحرفة اعتقدها ورسخ قلبه عليها، وصعب عليه الانقياد للحق إذا خالفها، وقد يجتمع الأمران، وأما الران والأكنة والأغطية التي تكون على القلوب فإنها من آثار كسب العبد وجرائمه، فإذا أعرض عن الحق وعارض الحق، وجاءه الحق فردَّه وفتح الله له أبواب الرشد فأغلقها عن نفسه عاقبه الله بهذا العمل بأن سدَّ عنه طرق الهداية التي كانت مفتوحة له ومتيسرة، فتكبر عنها وردَّها، فطبع على قلبه وختم عليه، وأحاطت به الجرائم ورانت عليه الذنوب وغطت قلبه، وجعلت بينه وبين الحق حجابا وأقفلت القلب، فهذه المعاني التي أكثر الله من ذكرها في كتابه، إذا عرفت هذه الضوابط المذكورة في هذه الفائدة اتضحت لك معانيها، وعرفت بذلك حكمة الله وعدله في عقوبة هذه القلوب، وأن الله ولاهم ما تولوه لأنفسهم ورضوه لها.

* فائدة: قوله تعالى: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفتح: 9]

جمع الله فيها الحقوق الثلاثة: الحق المختص بالله الذي لا يصلح لغيره، وهو العبادة في قوله: {وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفتح: 9] والحق المختص بالرسول، وهو التوقير والتعزير، والحق المشترك، وهو الإيمان بالله ورسوله.

* فائدة: ذكر الله اليقين في مواضع كثيرة من القرآن في المحل العالي من الثناء، أخبر أن اليقين هو غاية الرسل بقوله:

{وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام: 75]

وأنه بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين، وأن الآيات إنما ينتفع بها الانتفاع الكامل (الْمُوقِنِينَ) ، فحقيقة اليقين هو العلم الثابت الراسخ التام المثمر للعمل القلبي والعمل البدني.

أما آثار اليقين العلمية فثلاث مراتب: علم اليقين، وهي العلوم الناتجة عن الأدلة والبراهين الصادقة الخبرية، كجميع علوم أهل اليقين الحاصلة عن خبر الله وخبر رسوله وأخبار الصادقين، وعين اليقين وهي مشاهدة المعلومات بالعين حقيقة، كما طلب الخليل إبراهيم من ربه أن يريه كيف يحيي الموتى، فأراه الله ذلك بعينه، وغرضه عليه السلام الانتقال من مرتبة علم اليقين إلى عين اليقين، وحق اليقين: وهي المعلومات التي تحقَّق بالذوق، كذوق القلب لطعم الإيمان، والذوق باللسان للأشياء المحسة.

وأما آثاره القلبية فسكون القلب وطمأنينته، كما قال إبراهيم:

{وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260]

وقال صلى الله عليه وسلم: البر ما اطمأن إليه القلب، وفي لفظ: الصدق ما اطمأن إليه القلب، فإن العبد إذا وصل إلى درجة اليقين في علومه اطمأن قلبه لعقائد الإيمان كلها، واطمأن قلبه لحقائق الإيمان وأحواله التي تدور على محبة الله وذكره، وهما متلازمان، قال تعالى: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28]

فتسكن القلوب عند الأخبار فلا يبقى في القلب شك ولا ريب في كل خبر أخبر الله به في كتابه وعلى لسان رسوله، بل يفرح بذلك مطمئنا عالما أن هذا أعظم فائدة حصَّلتها القلوب، ويطمئن عند الأوامر والنواهي مكملا للمأمورات، تاركا للمنهيات، راجيا لثواب الله، واثقا بوعده.

ويطمئن أيضا عند المصائب والمكاره فيتلقاها بانشراح صدر واحتساب، ويعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلِّم، فيخف عليه حملها، ويهون عليه ثقلها، وقد علم بذلك آثارها البدنية، فإن الأعمال البدنية مبنية على أعمال القلوب، فأهل اليقين هم أكمل الخلق في جميع صفات الكمال، فإن اليقين روح الأعمال والأخلاق وحاملها، والله هو الموفق الواهب له ولأسبابه.

* فائدة: الظن ورد في القرآن على وجهين: وجه محمود، ووجه مذموم:

أما المحمود: ففي كل مقام مدح وجزاء بالخير والثواب، فإنه بمعنى العلم واليقين مثل قوله تعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ} [البقرة: 46]

أي: يتيقنون لذلك، ومثل قوله:

{إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة: 20]

وأما المذموم: ففي أغلب الآيات الواردة في الظن مثل: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} [الأنعام: 116]

{إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس: 36]

{وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [البقرة: 78]

وهو كثير، فهذا وما أشبهه فيمن قدم الظنون الكاذبة على الأخبار الصادقة؛ لأن الظن في الأصل يحتمل الصدق والكذب، ولكنه إذا ناقض الصدق قطعنا بكذبه.

* فائدة: قوله تعالى:

{يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 276]

وقوله: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم: 39]

تدل الآيتان على أن الزيادة من المحرمات، وخصوصا المكاسب المحرَّمة، نقص في البركة، وقد ينسحت المال بذاته عاجلا أو آجلا، وعلى أن من أخرج شيئا لله أو فعل شيئا لله فإن الله يزيده وينزل له البركة؛ فإن المال وإن نقص حسا بما يخرج منه لله فإنه يزداد معنى ووصفا؛ وقد يفتح للعبد بسبب ذلك أبواب من الرزق، أو يدفع عن العبد من أسباب النقص ما كان بصدد أن يصيبه.

* فائدة: الفرح ورد في القرآن محمودا مأمورا به في مثل قوله:

{قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58]

فهذا فرح بالعلم والعمل بالقرآن والإسلام، وكذلك قوله:

{فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [آل عمران: 170] فهذا فرح بثواب الله.

وورد منهيا عنه مذموما مثل الفرح بالباطل وبالرياسات والدنيا المشغلة عن الدين في مثل قوله تعالى: {إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ} [هود: 10]

وقوله عن قارون:

{قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص: 76]

وما أشبه ذلك، فصار الفرح تبعا لما تعلق به؛ إن تعلق بالخير وثمراته فهو محمود، وإلا فهو مذموم.

* فائدة: ورد السعي في القرآن في آيات كثيرة، والمراد به الاهتمام والجد في العمل مثل قوله:

{وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء: 19]

وقوله: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9]

وقوله: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [الليل: 4]

وآيات كثيرة كلها بمعنى الاهتمام للعمل، إلا في مثل قوله تعالى:

{وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى} [القصص: 20]

{وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى} [يس: 20]

فالمراد بذلك العَدْوُ، وهو يتضمن الأول وزيادة.

* فائدة: أمر الله بالصدق وأثنى على الصادقين، وذكر جزاء الصادقين في آيات كثيرة، والمراد بالصدق أن يكون العبد صادقا في عقيدته، صادقا في خلقه، صادقا في قوله وعمله، فهو الذي يجيء بالصدق في ظاهره وباطنه، ويصدق بالصدق لمن جاء به، كما قال تعالى:

{وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [الزمر: 33]

ولما كان من هذا وصفه هو أعلى الخلق في كل حالة، ذكر جزاءه أعلى الجزاء وأفضله فقال:

{لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ - لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الزمر: 34 - 35]

وخواص أهل هذا الوصف هم الصدِّيقون الذين ليس بعد درجة النبوة أعلى منهم، قال تعالى:

{وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} [الحديد: 19]

والمراد الإيمان الكامل، «كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر لأصحابه الغرف العالية التي يتراآها أهل الجنة من علوها وارتفاعها ونورها كالكوكب الدري في الأفق الشرقي أو الغربي، فقالوا: يا رسول الله تلك منازل الأنبياء، لا يبلغها غيرهم؟ فقال: بلى، والذي نفسي بيده، رجال آمنوا بالله وصدَّقوا المرسلين، وهؤلاء هم الهداة المهديون كما قال تعالى:

{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24] » [السجدة: 24] .

فالصديقية شجرة أصلها العلوم الصحيحة والعقائد السلفية المأخوذة من كتاب الله وسنة رسوله، وقوامها وروحها الإخلاص الكامل لله والإنابة إليه، والرجوع إليه في جميع الأحوال رغبة ورهبة ومحبة وتعظيما وخضوعا وذلا لله، وثمراتها الأخلاق الحميدة والأقوال السديدة والأعمال الصالحة، والإحسان في عبادة الخالق، والإحسان إلى المخلوقين بجميع وجوه الإحسان، وجهاد جميع أصناف المنحرفين، فهي في الحقيقة القيام بالدين ظاهرا وباطنا وحالا ودعوة إلى الله، والله هو الموفق وهو المعين لكل من استعان به صدقا.

* فائدة: قوله تعالى في المصطفين الذين أورثهم الله الكتاب:

{فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر: 32]

اشترك هؤلاء الثلاثة في أصل الإيمان، وفي اختيار الله لهم من بين الخليقة، وفي أنه منَّ عليهم بالكتاب، وفي دخول الجنة، وافترقوا في تكميل مراتب الإيمان، وفي مقدار الاصطفاء من الله وميراث الكتاب، وفي منازل الجنة ودرجاتها بحسب أوصافهم.

أما الظالم لنفسه فهو المؤمن الذي خلط عملا صالحا وآخر سيئا، وترك من واجبات الإيمان ما لا يزول معه الإيمان بالكلية، وهذا القسم ينقسم إلى قسمين:

أحدهما: من يرد القيامة وقد كفّر عنه السيئات كلها، إما بدعاء أو شفاعة أو آثار خيرية ينتفع بها في الدنيا، أو عذب في البرزخ بقدر ذنوبه، ثم رفع عنه العقاب وعمل الثواب عمله، فهذا من أعلى هذا القسم، وهو الظالم لنفسه.

القسم الثاني: من ورد القيامة وعليه سيئات، فهذا توزن حسناته وسيئاته ثم هم بعد هذا ثلاثة أنواع:

أحدها: من ترجح حسناته على سيئاته، فهذا لا يدخل النار، بل يدخل الجنة برحمة الله وبحسناته، وهي من رحمة الله.

ثانيها: من تساوت حسناتهم وسيئاتهم، فهؤلاء هم أصحاب الأعراف، وهي موضع مرتفع بين الجنة والنار يكونون عليه، وفيه ما شاء الله، ثم بعد ذلك يدخلون الجنة، كما وصف ذلك في القرآن.

ثالثها: من رجحت سيئاته على حسناته فهذا قد استحق دخول النار، إلا أن يمنع من ذلك مانع، من شفاعة الرسول له، أو شفاعة أحد أقاربه أو معارفه ممن يجعل الله لهم في القيامة شفاعة لعلو مقاماتهم على الله وكرامتهم عليه، أو تدركه رحمة الله المحضة بلا واسطة، وإلا فلا بد له من دخول النار يعذب فيها بقدر ذنوبه، ثم مآله إلى الجنة، ولا يبقى في النار أحد في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال حبة خردل من إيمان، كما تواترت بذلك الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأجمع عليه سلف الأمة وأئمتها.

وأما المقتصد فهو الذي أدى الواجبات وترك المحرمات، ولم يكثر من نوافل العبادات، وإذا صدر منه بعض الهفوات بادر إلى التوبة فعاد إلى مرتبته، فهؤلاء أهل اليمين، وأما من كان من أصحاب اليمين:

{فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} [الواقعة: 91]

فهؤلاء سلموا من عذاب البرزخ وعذاب النار، وسلم الله لهم إيمانهم وأعمالهم، فأدخلهم بها الجنة، كل على حسب مرتبته.

وأما السابق إلى الخيرات فهو الذي كمل مراتب الإسلام، وقام بمرتبة الإحسان، فَعَبَدَ الله كأنه يراه، فإن لم يكن يراه فإنه يراه، وبذل ما استطاع من النفع لعباد الله، فكان قلبه ملآنا من محبة الله والنصح لعباد الله، فأدى الواجبات والمستحبات، وترك المحرمات والمكروهات وفضول المباحات المنقصة لدرجته، فهؤلاء هم صفوة الصفوة، وهم المقربون في جنات النعيم إلى الله، وهم أهل الفردوس الأعلى، فإن الله كما أنه رحيم واسع الرحمة فإنه حكيم ينزل الأمور منازلها، ويعطي كل أحد بحسب حاله ومقامه، فكما كانوا هم السابقين في الدنيا إلى كل خير كانوا في الآخرة في أعلى المنازل، وكما تخيروا من الأعمال أحسنها جعل الله لهم من الثواب أحسنه؛ ولهذا كانت عين التسنيم أعلى أشربة أهل الجنة، يشرب منها هؤلاء المقربون صرفا، وتمزج لأصحاب اليمين مزجا في بقية أشربة الجنة، التي لا نقص فيها بوجه من الوجوه كما قال تعالى: {وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ - عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} [المطففين: 27 - 28]

وهكذا بقية ألوان وأصناف نعيم الجنة لهؤلاء السابقين منه أعلاه وأكمله وأنفسه، وإن كان ليس في نعيم الجنة دني ولا نقص ولا كدر بوجه من الوجوه، بل كل من تنعم بأي نعيم من نعيمها لم يكن في قلبه أعلى منه؛ فإن الله أعطاهم وأرضاهم، وخيار هؤلاء الأنبياء على مراتبهم، ثم الصديقون على مراتبهم، ولكل درجات مما عملوا، فسبحان من فاوت بين عباده هذا التفاوت العظيم، والله يختص برحمته من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.

* فائدة: ورد في القرآن (الظلم) بمعنى الكفر والشرك الأكبر، كما قال تعالى: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 254]

وقال: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] ونحوها.

وورد كثيرا بمعنى الجرائم التي دون الشرك كما سبق في الظالم لنفسه ومثل: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 110]

وورد أيضا عدة آيات يدخل فيها هذا وهذا، ومثل هذا: (الفسق) والمعصية والذنب والسيئة والجرم والخطيئة ونحوها، فإنها وردت في القرآن لكل واحد من هذه الثلاثة، فتفسر في كل مقام بما يناسب ذلك المقام.

* فائدة: قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى - وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى - فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل: 5 - 7]

جمعت السعادة وجميع الأسباب التي تنال بها السعادة، وهي ثلاثة أشياء: فعل المأمور، واجتناب المحظور، وتصديق خبر الله ورسوله، فهذه الثلاثة يدخل فيها الدين كله، وذلك أن قوله: (أَعْطَى) أي: جميع ما أمر به من قول وعمل ونية، (وَاتَّقَى) : جميع ما نهي عنه من كفر وفسوق وعصيان، {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} [الليل: 6] بما أخبر الله به ورسوله من الجزاء، فصدَّق بالتوحيد وحقوقه وجزاء أهله. . فمن جمع ثلاثة الأمور يسره الله لليسرى، أي: لكل حالة فيها تيسير أموره وأحواله كلها، ومقابل هذا قوله:

{وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ} [الليل: 8]

أي: ترك ما أمر به ليس خاصا بالنفقة، بل معنى البخل المنع، فإذا منع الواجبات المتوجهة إليه القولية أو الفعلية أو المالية فقد بخل.

{وَاسْتَغْنَى} [الليل: 8]

أي: رأى نفسه غير مفتقر إلى ربه، وذلك عنوان الكبر والتجرؤ على محارم الله.

{وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى} [الليل: 9]

أي: بلا إله إلا الله وحقوقها، وجزاء المقيمين لها والتاركين لها.

{فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل: 10]

أي: لكل حالة عسرة في معاشه ومعاده.

* فائدة: خطابات القرآن للناس خبرا وأمرا ونهيا قسمان:

أحدهما: وهو الأكثر جدا خطاب عام يخاطب به جميع الناس، ويتعلق الخبر أو الحكم فيهم في حالة واحدة مثل الخبر عن الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ومثل الأمر بالصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد والبر والصلة والعدل والنهي عن ضد ذلك؛ وهذا لأن القرآن هداية وبيان للناس، وهم مستوون في تعلق تلك الأحكام فيهم ما لم يمنع مانع عجز عن بعض الواجبات فيرتب عليه حكمه.

القسم الثاني: الخطاب العام من جهة، الخاص من جهة أخرى، وذلك كالخطاب المتعلق بالعبادات المعلقة على أوقاتها، كالأمر بالصلوات الخمس لأوقاتها، كقوله:

{أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء: 78]

وبالإمساك عن المفطرات مثل قوله: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187]

فمن جهة أنه موجه إلى جميع المكلفين فإنه خطاب عام، جميع أهل المشارق والمغارب مخاطبون بذلك، ومن جهة أن لكل موضع حكما بنفسه فإنه معلوم أن الوقت الذي تطلع فيه الشمس على هؤلاء أو تغرب، أو يطلع الفجر وتزول الشمس غير الوقت الذي توجد فيه هذه الأمور عند الآخرين، فكل يخاطب بحسب حاله وحسب الموضع الذي فيه بلا ريب، ونظير هذا الأمر باستقبال القبلة للصلاة موجه إلى جميع أهل الأرض، ومع ذلك فكل قطر ومحل فلهم جهة يتوصلون بها إلى الكعبة، ولهذا صرح الله بهذا المعنى بقوله:

{وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144]

فالمقصود واحد، والطرق والوسائل إلى هذا المقصود متباينة، وكل أحد مأمور بطريقه الخاص.

ونظير ذلك الإخبارات بطلوع الشمس والقمر والكواكب وغروبها: لو تحذلق جاهل فقال: إن مثل قوله: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} [الكهف: 86]

أي: في البحر برؤية العين، وقوله: {وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا} [الكهف: 90]

ينافي المعلوم أن الشمس والقمر والكواكب لا تغرب عن الدنيا بالكلية، فيقال هذا من الجهل والعجمة بمكان سحيق عن الحقائق، وذلك أن الله لم يقل: وجدها تغرب عن جميع الأرض حتى يكون لهذا الجاهل اعتراض، بل أخبر عن غروبها وطلوعها عن ذلك الموضع وذلك القطر، كما يفهم الناس كلهم سابقا ولاحقا، ولا فرق بين الإخبارات والأحكام بوجه، ومن المعلوم أن لكل أهل قطر مطلعا ومغربا، فهذه الخطابات في الأحكام والإخبارات في غاية الإحكام التي لا يتطرق إليها اعتراضات المعترض، ومن اعترض على شيء من ذلك عرف الناس أن ذلك من آثار جهله وحمقه، وهذا واضح لا يحتاج إلى كل هذا، يفهمه الذكي والبليد، وهذا مقتضى كون القرآن عربيا، أنزله الله بما يعقله العباد.

* فائدة: ورد في القرآن عدة آيات فيها ذكر الخلود في النار على ذنوب وكبائر ليست بكفر مثل قوله: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93]

{وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} [النساء: 14]

{بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 81]

فما الجمع بينها وبين النصوص المتواترة من الكتاب والسنة أنه لا يخلد في النار إلا الكفار، وأن جميع المؤمنين مهما عملوا من المعاصي التي دون الكفر فإنهم لا بد أن يخرجوا منها، فهذه الآيات قد اتفق السلف على تأويلها وردها إلى هذا الأصل المجمع عليه بين سلف الأمة، وأحسن ما يقال فيها إن ذكر الخلود على بعض الذنوب التي دون الشرك والكفر أنها من باب ذكر السبب، وأنها سبب للخلود في النار لشناعتها، وأنها بذاتها توجب الخلود إذا لم يمنع من الخلود مانع، ومعلوم بالضرورة من دين الإسلام أن الإيمان مانع من الخلود، فتنزل هذه النصوص على الأصل المشهور، وهو أنه لا تتم الأحكام إلا بوجود شروطها وأسبابها وانتفاء موانعها، وهذا واضح ولله الحمد، مع أن بعض الآيات المذكورة فيها ما يدل على أن الخطيئة المراد بها الكفر؛ لأن قوله: {وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} [البقرة: 81] دليل على ذلك؛ لأن المعاصي التي دون الكفر لا تحيط بصاحبها، بل لا بد أن يكون معه إيمان يمنع من إحاطتها، وكذلك قوله:

{وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا} [النساء: 14]

فالمعصية تطلق على الكفر وعلى الكبائر وعلى الصغائر، ومن المعلوم أنه إذا دخل فيها الكفر زال الإشكال.

* فائدة: ورد في القرآن آيات كثيرة فيها مضاعفة الحسنة بعشر أمثالها، وورد أيضا آيات أُخر فيها مضاعفة أكثر من ذلك، فما وجه ذلك؟

فيقال: أما مضاعفة الحسنة بعشر أمثالها فلا بد منها في كل عمل صالح كما قال تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160]

وأما مضاعفة العمل أكثر من ذلك فله أسباب، إما متعلقة بنفس العامل، أو بالعمل ومزيته أو نتائجه وثمراته أو بزمانه أو مكانه.

فمن أعظم أسباب مضاعفة العمل إذا حقق العبد في عمله الإخلاص للمعبود، والمتابعة للرسول، فمضاعفة الأعمال تبع لما يقوم بقلب العامل من قوة الإخلاص وقوة الإيمان.

وكذلك من الأسباب إذا كان العمل ناشئا عن عقيدة صحيحة سلفية خالصة متلقاة من الكتاب والسنة، فهذا العبد يكون اليسير من عمله أبرك من الكثير من عمل من ليس كذلك.

ومن ذلك ترك ما تهواه النفوس من الفواحش، مع قوة الداعي إليها لبرهان الإيمان والتوكل والإخلاص.

ومن أسباب المضاعفة أن يكون العمل فيه نفع للمسلمين وغناء، وذلك كالجهاد في سبيل الله، الجهاد بالحجة والبرهان، وبالسيف والسنان، كما قال تعالى في نفقات أهل هذا الصنف:

{مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 261]

ويدخل في هذا سلوك طريق التعليم والتعلم للعلوم الشرعية وما يعين عليها، وفى الحديث: «من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة» .

ومن ذلك العمل والسعي في المشاريع الخيرية التي ينتفع بها المسلمون في دينهم ودنياهم ويتسلسل نفعها، ومن ذلك العمل الذي إذا عمله العبد كثر مشاركوه والمقتدون به فيه.

ومن ذلك إذا كان العمل له وقع عظيم ونفع كبير، كإنجاء المضطرين، وكشف كربات المكروبين، فكم من عمل من هذا النوع هدم الله به ذنوب العبد كلها، وأوصله به إلى رضوانه، وقصة البغي التي سقت الكلب الذي كاد يموت من العطش شاهدة بذلك.

ومن ذلك علو مقام العامل عند الله ورفعة درجته، كما قال تعالى: {يا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ} [الأحزاب: 32]

وقوله قبلها: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} [الأحزاب: 31]

ومن ذلك الصدقة من كسب طيب وقوة إخلاص.

ومن ذلك العمل الواقع في زمان فاضل، أو مكان فاضل.

ومن أهم وأعظم ما يضاعف به العمل تحقيق مقام الإحسان في القيام بعبودية الله، وفي الحديث: «ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها» فالصلاة والقراءة والذكر وغيرها من العبادات إذا كانت بقوة حضور قلب وإيمان كامل فلا ريب أن بينها وبين عبادة الغافل درجات تنقطع دونها أعناق المطي.

وأسباب مضاعفة الثواب كثيرة، ولكن نبهنا على أصولها.

ومما هو كالمتفق عليه بين العلماء الربانيين أن الاتصاف في جميع الأوقات بقوة الإخلاص لله، والنصح لعباد الله، ومحبة الخير للمسلمين مع اللهج بذكر بقوة لا يلحقها شيء من الأعمال، وأهلها سابقون لكل فضيلة وأجر وثواب، وبقية الأعمال تبع لها، فأهل الإخلاص والإحسان والذكر هم السابقون السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم.

* فائدة: قد أمر الله في كتابه بالتفكر والتدبر والنظر والتبصر، وغيرها من الطرق التي تنال بها العلوم، وأثنى على أهلها، وأخبر أن كتابه أنزل لهذه الحكم، وأثنى على العلم واليقين ومدح أهلهما، ونهج جميع طريق يوصل إليها.

فاعلم أن الذي يجمع أشتات هذه الطرق وأنواعها وأجناسها ثلاثة طرق كلية: أحدها: طريق الإخبارات الصادقة، والثاني: طريق الحس، والثالث: طريق العقل، ووجه الحصر أن المعلومات إما أن تدرك بحاسة السمع أو البصر أو اللمس أو الذوق، وإما أن تدرك بالعقل، وإما أن تنال بالإخبار، وكل واحد من هذه الثلاثة قد يقارن الآخر، وخصوصا العقل والأخبار الصادقة فإنهما لا يتفارقان.

وقد يكون العلم ضروريا بديهيا يضطر الإنسان إلى علمه، والتصديق به من غير حاجة إلى زيادة نظر وتفكر، وقد يكون نظريا يحتاج إلى ذلك.

ثم العلم بهذه الأمور مراتب متفاوتة.

وأعلى درجات العلم واليقين وأوضحها وأنفعها للعباد خبر الله وخبر رسله، فإنه لا أصدق من الله قيلا، ولا أصدق منه حديثا.

{وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [الأحزاب: 4]

فكل ما قاله الله وقاله رسوله فهو الحق والصدق، وماذا بعد الحق إلا الضلال وهو يهدي إلى كل دليل عقلي ونقلي؟ وفي خبر الله وخبر رسله من البيان العظيم والتفصيلات لجميع أجناس العلوم النافعة ما لا تصل إليه علوم الخلائق كلهم، أولهم وآخرهم.

وإذا أردت أن تعرف أن الحق الصحيح هو ما قاله الله وقاله رسوله، وأن ما ناقضه ونافاه فهو باطل بلا ريب مبني على جهالات ومواد فاسدة، فانظر إلى أصول الدين وقواعده وأسسه كيف اتفقت عليها الأدلة النقلية والعقلية والحسية؟ انظر إلى توحيد الله ووجوب تفرده وإفراده بالوحدانية، وتوحده بصفات الكمال، كيف كانت الكتب السماوية مشحونة منها؟ بل هي المقصود الأعظم منها، وخصوصا القرآن الذي هو من أوله إلى آخره يقرر هذا الأصل الذي هو أكبر الأصول وأعظمها.

وانظر كيف اتفقت جميع الرسل من أولهم إلى آخرهم، وخصوصا إمامهم وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم على تقرير توحيد الله وتفرده بالوحدانية، وسعة الصفات وعظمتها: من سعة العلم والحكمة، وعموم القدرة والإرادة، وشمول الحمد والملك والمجد والجلال والجمال والحسن، والإحسان في أسمائه وصفاته وأفعاله؟ ثم انظر إلى هذا الأصل العظيم في قلوب سادات الخلق أولي الألباب الكاملة والعقول التامة كيف تجده أعظم من كل شيء، وأقوى وأكبر من كل شيء، وأوضح من كل شيء، وأنه مقدم عندهم على الحقائق كلها، وأنهم يعلمونه علما ضروريا بديهيا قبل الأدلة النظرية، ويعلمون أن كل ما عارضه فهو أبطل الباطل؟ ثم انظر إلى كثرة البراهين المنقولة والمعقولة والمحسوسة الشاهدة لله بالوحدانية.

ففي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد

فوجود جميع الأشياء في العالم العلوي والسفلي وبقاؤها وما هي عليه من الأوصاف المتنوعة، كل ذلك من الأدلة والبراهين على وجود مبدعها ومعدها وممدها بكل ما تحتاج إليه، ومن أنكر هذا فقد باهت وكابر وأنكر أجلى الأمور وأعظم الحقائق.

ومن هاهنا تعلم أن الماديين الملحدين أضل الخلق وأجهلهم وأعظمهم غرورا واغترارا حيث اغتروا حين وقفوا على بعض علوم الكون الأرضي المادي الطبيعي، وقفت عقولهم القاصرة عندها، واستولت عليهم الحيرة وتكبروا بمعارفهم الضئيلة وقالوا: نثبت ما وصلت إليه معارفنا وننفي ما سواه، فتعرف بهذا أن نفيهم هذا جهل وباطل باتفاق العقلاء، فإن من نفى ما لا يعرفه فقد برهن على كذبه وافترائه، فكما أن من أثبت شيئا بلا علم فهو ضال غاو، فكذلك من نفى شيئا بلا علم، وتعرف أيضا أن إثباتهم لعلوم الطبيعة التي عرفوها وانتهت إليها معارفهم أن هذا الإثبات منهم قاصر لم يصلوا إلى غايته وحقيقته، فلم يصلوا بذلك إلى خالق الطبيعة ومبدعها، ولم يعرفوا المقصود من نظامها وسببيتها؛ بل عرفوا ظاهرا منها وهم عن النافع غافلون، فأثبتوا بعض السبب وعموا عن المقصود، وهم في علمهم هذا حائرون، لا تثبت لهم قدم على أمر من الأمور، ولا تثبت لهم نظرية صحيحة مستقيمة، فهم دائما في خلط وخبط وتناقض، وكلما جاءهم من البراهين الحق ما يبطل قولهم قالوا: هذا من فلتات الطبيعة، وكلما برز مبرز من فحولهم وأذكيائهم ابتكر له طريقة غير طريقة إخوانه؛ فصدق عليهم قوله تعالى:

{بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} [ق: 5]

وقوله: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [غافر: 83]

والمقصود أن هذا الأصل العظيم قد دلت عليه جميع الأدلة بأجناسها وأنواعها، ودل عليه الشرع المحكم والقدر العام المنظم، ولم يقدح فيه إلا هؤلاء الضُّلَّال الذين كان قدحهم فيه أسقط اعتبارهم، وبرهن على فساد عقولهم.

وانظر إلى الأصل الثاني وهو إثبات الرسالة، وأن الله قد أقام على صدق رسله من الآيات ما على مثله يؤمن البشر، وخصوصا محمد صلى الله عليه وسلم، فإن آيات نبوته وأدلة رسالته وصدقه متنوعة: سيرته وأخلاقه وما جاء به من الدين القويم، وحثَّه على كل خلق كريم وعمل صالح ونفع وإحسان وعدل، ونهيه عن ضد ذلك، وما جاء به من الوحي: الكتاب والسنة، كله جملة وتفصيلا براهين على نبوته وصدقه، مع ما أكرمه الله به من النصر العظيم وإظهار دينه على الأديان كلها، ومن إجابة الدعوات وحلول أنواع البركات التي لا تعد أنواعها فضلا عن أفرادها، وهذا بقطع النظر عن شهادة الكتب السابقة، وعن عجز المعارضين له في مقامات التحدي كلها، وعجزهم عن نصر باطلهم.

ولا يزال الباطل بين يدي ما جاء به الرسول مخذولا راهقا، بحيث إن القائمين بما جاء به الرسول القائمين بمعرفة دينه يتحدَّوْن جميع أهل الأرض أن يأتوا بصلاح أو فلاح أو رقي حقيقي أو سعادة حقيقية بجميع وجوهها، وأنه محال أن يتوصل إلى شيء من ذلك بغير ما جاء به الرسول وأرشد إليه ودل الخلق عليه، ولولا الجهل بما جاء به الرسول، والتعصبات الشديدة من الأعداء والمقاومات العنيفة، وإقامة الحواجز المتعددة العنيفة لمنع الجماهير والدهماء من رؤية الحق الصريح والدين الصحيح، لم يبق على وجه الأرض دين سوى دين محمد صلى الله عليه وسلم لدعوته وإرشاده وحثه على كل صلاح وإصلاح وخير ورشد، ولكن مقاومات الأعداء ونصر القوة للباطل بالتمويهات والتزويرات وتقاعد أهل الدين عن القيام به ونصرته هي التي منعت أكثر الخلق من الوقوف على حقيقته.

ثم انظر إلى الأصل الثالث، وهو إثبات المعاد والجزاء كيف اتفقت الكتب السماوية والرسل العظام وأتباعهم على اختلاف طبقاتهم، وتباين أقطارهم وأزمانهم وأحوالهم على الإيمان به والاعتراف التام به؟ وكم أقام الله عليه من الأدلة النقلية والعقلية، وكذلك الحسية المشاهدة ما يدل أكبر دلالة عليه، وكم أشهد عباده في هذه الدار أنموذجا من الثواب والعقاب، وأراهم حلول المثلات بالمكذبين، وأنواع العقوبات الدنيوية بالمجرمين، كما أراهم نجاة الرسل ومن تبعهم من المؤمنين، وإكرامهم في الدنيا قبل الآخرة، وكم أبطل الله كل شبهة يقدح بها المكذبون بالمعاد، كما أقام الأدلة على إبطال الشبه الموجهة من المكذبين إلى توحيده وصدق رسله، وبين سفههم وفساد عقولهم، وأنه ليس لهم من المستندات على إنكار ذلك إلا استبعادات مجردة، وقياس قدرة رب العالمين على قدر المخلوقين.

والمقصود أن هذه الأصول العظيمة قد قامت البراهين القواطع عليها من كل وجه وبكل اعتبار، وجميع الحقائق الصحيحة غيرها لم يقم على ثبوتها وعلمها عشر معشار ما قام على هذه الأصول من البراهين المتنوعة، ففي هذا دليل على أن كل من أثبت معلوما أو حقيقة من الحقائق بطريق عقلي أو خبري أو حسي، ثم نفى مع ذلك واحدا من هذه الأصول الثلاثة التي هي أساس الدين، فقد كابر عقله وحسه وعلمه، ونادى على نفسه بالتناقض العظيم؛ لأن الطرق التي دلته على إثبات معلوماته هي - وأضعافها وأضعاف أضعافها، وما هو أقوى منها وأوضح - قد دلت على التوحيد والرسالة والمعاد.

واعلم أن المعلومات بخبر الله وخبر رسله عامة يدخل فيها الإخبار عن الله وعن ملائكته وعن الغيوب كلها، وأمور الشرع والقدر، وهي الأخبار المعصومة الصادقة التي يعلم كذب ما خالفها وبطلانه، ولنكتف بهذا الأنموذج من الأمثلة، والله أعلم.

وبعد هذا إخبار الصادقين عن المواضع والحوادث والوقائع التي شاهدوها، وهذا النوع بحسب صدق المخبرين، وتواتر خبرهم يفيد العلم القطعي، وكذلك إخبار الصادقين عن العلوم التي سمعوها، والألفاظ التي نقلوها، وأصدق الناقلين هنا حملة الشريعة المحمدية؛ لشدة عنايتهم، وكمال صدقهم، وقوة دينهم، وأنهم بالخصوص حفظوا عن الخطأ العمومي، والاتفاق على غير الصواب.

ومن الأمور التي تعلم بالعقل أن العقول الصحيحة التي لم تغير فطرتها، ولم تفسد بالعقائد الفاسدة، تعلم علما يقينا حسن التوحيد والإخلاص لله، كما تعلم قبح الشرك، وتعلم حسن الصدق والعدل والإحسان إلى المخلوقين، كما تعلم قبح ضده، وتعلم وجوب شكر المنعم، ووجوب بر الوالدين وصلة الأقارب، والقيام بحق من له حق عليك، وتستحسن كل صلاح وإصلاح، وتستقبح كل فساد وضرر، ومن أشرف ما يعلم بالعقل أنه مركوز في العقول أن الكمال المطلق لله وحده، وأن له الحكمة التامة في خلقه وشرعه، وأنه لا يليق به أن يترك خلقه سدى لا يؤمرون ولا ينهون، ولا يثابون ولا يعاقبون، ومن المعلوم بالحس ما يدرك بالحواس كسمع الأصوات وإبصار الأعيان وهو من أتم المعارف، فإنه ليس الخبر كالمعاينة، ومما يدرك بالحس ما يدرك بالشم كشم الروائح الطيبة والخبيثة، وما يدرك باللمس كالحرارة والبرودة، وما يدرك بتحليل الأشياء والوقوف على موادها وجواهرها وصفاتها، كل هذا من مدركات الحس، وبالجملة فطرق العلم إلى المعلومات كثيرة جدا، وكلما كان الشيء أعظم ومعرفته أهم كانت الطرق الموصلة إليه أكثر وأوضح وأصح وأقوى، كما تقدمت الإشارة إلى التوحيد والرسالة والمعاد، والله أعلم.

* فائدة: لما ذكر الباري نعمته على العباد بتيسير الركوب للأنعام والفلك قال: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ - وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} [الزخرف: 13 - 14]

ذكر فيها أركان الشكر الثلاثة: وهي الاعتراف والتذكر لنعمة الله، والتحدث بها، والثناء على الله بها، والخضوع لله، والاستعانة بها على عبادته؛ لأن المقصود من قوله: {وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} [الزخرف: 14] الاعتراف بالجزاء والاستعداد له، وأن المقصود من هذه النعم أن تكون عونا للعبد على ما خلق له من طاعة الله، وفي قوله: {ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} [الزخرف: 13] تقييدها في هذه الحالة وقت تبوء النعمة؛ لأن كثيرا من الخلق تسكرهم النعم، وتغفلهم عن الله، وتوجب لهم الأشر والبطر، فهذه الحالة التي أمر الله بها هي دواء هذا الداء المهلك، فإنه متى ذكر العبد أنه مغمور بنعم الله، وأن أصولها وتيسيرها وتيسير أسبابها وبقائها ودفع ما يضادها أو ينقصها كله من فضل الله وإحسانه ليس من العبد شيء، خضع لله وذلَّ وشكره وأثنى عليه، وبهذا تدوم النعمة ويبارك الله فيها، وتكون نعمة حقيقية، فأما إذا قابلها بالأشر والبطر، ونسي المنعم، وربما تكبر بها على عباد الله، فهذه نقمة في صورة نعمة، وهي استدراج من الله للعبد سريعة الزوال، وشيكة بالعقاب عليها والنكال، نسأل الله أن يوزعنا شكر نعمه). [تيسير اللطيف المنان: 1/307-345]