المقدّمة
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت:774 هـ):
الحمد لله الذي افتتح كتابه بالحمد فقال: {الحمد لله رب العالمين * الرحمن الرحيم * مالك يوم الدين} [الفاتحة: 2- 4]، وقال تعالى: {الحمد
لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا * قيما لينذر بأسا شديدا
من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا * ماكثين
فيه أبدا * وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا * ما لهم به من علم ولا
لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا} [الكهف: 1- ه]، وافتتح خلقه بالحمد، فقال تعالى: {الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون} [الأنعام: 1]، واختتمه بالحمد، فقال بعد ما ذكر مآل أهل الجنة وأهل النار: {وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين} [الزمر: 75]؛ ولهذا قال تعالى: {وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون} [القصص: 70]، كما قال تعالى: {الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير} [سبأ: 1].
فله الحمد في الأولى والآخرة، أي في جميع ما خلق وما هو خالق، هو المحمود في ذلك كله، كما يقول المصلى: ((اللهم ربنا لك الحمد، ملء السماوات وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد))؛
ولهذا يلهم أهل الجنة تسبيحه وتحميده كما يلهمون النفس، أي يسبحونه
ويحمدونه عدد أنفاسهم؛ لما يرون من عظيم نعمه عليهم، وكمال قدرته وعظيم
سلطانه، وتوالي مننه ودوام إحسانه إليهم، كما قال تعالى: {إن
الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم تجري من تحتهم الأنهار
في جنات النعيم * دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم
أن الحمد لله رب العالمين} [ يونس: 9، 10].
والحمد لله الذي أرسل رسله {مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} [النساء: 165]،
وختمهم بالنبي الأمي العربي المكي الهادي لأوضح السبل، أرسله إلى جميع
خلقه من الإنس والجن، من لدن بعثته إلى قيام الساعة، كما قال تعالى: {قل
يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض لا
إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله
وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون} [الأعراف: 158]، وقال تعالى: {لأنذركم به ومن بلغ} [الأنعام: 19].
فمن بلغه هذا القرآن من عرب وعجم، وأسود وأحمر، وإنس وجان، فهو نذير له؛ ولهذا قال تعالى: {ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده} [هود: 17]. فمن كفر بالقرآن ممن ذكرنا فالنار موعده، بنص الله تعالى، وكما قال تعالى: {فذرني ومن يكذب بهذا الحديث سنستدرجهم من حيث لا يعلمون * وأملي لهم} [القلم: 44، 45].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بعثت إلى الأحمر والأسود)). قال مجاهد: يعني: الإنس والجن.
فهو -صلوات الله وسلامه عليه- رسول الله إلى جميع الثقلين: الإنس والجن،
مبلغا لهم عن الله ما أوحاه إليه من هذا الكتاب العزيز الذي {لا يأتيه
الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد} [فصلت: 42].
وقد أعلمهم فيه عن الله تعالى أنه ندبهم إلى تفهمه، فقال تعالى: {أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} [ النساء: 82]، وقال تعالى: {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب} [ص: 29]، وقال تعالى: {أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها} [محمد: 24].
فالواجب على العلماء الكشف عن معاني كلام الله، وتفسير ذلك، وطلبه من مظانه، وتعلم ذلك وتعليمه، كما قال تعالى: {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون} [آل عمران: 187]، وقال تعالى: {إن
الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة
ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم} [آل عمران: 77].
فذم الله تعالى أهل الكتاب قبلنا بإعراضهم
عن كتاب الله إليهم، وإقبالهم على الدنيا وجمعها، واشتغالهم بغير ما أمروا
به من اتباع كتاب الله.
فعلينا -أيها المسلمون- أن ننتهي عما ذمهم
الله تعالى به، وأن نأتمر بما أمرنا به، من تعلم كتاب الله المنزل إلينا
وتعليمه، وتفهمه وتفهيمه، قال الله تعالى: {ألم
يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا
كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم
فاسقون * اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها قد بينا لكم الآيات لعلكم
تعقلون} [الحديد: 16، 17]. ففي ذكره تعالى
لهذه الآية بعد التي قبلها تنبيه على أنه تعالى كما يحيي الأرض بعد موتها،
كذلك يلين القلوب بالإيمان والهدى بعد قسوتها من الذنوب والمعاصي، والله
المؤمل المسؤول أن يفعل بنا ذلك، إنه جواد كريم.