7 Apr 2010
فإن قال قائل: فما أحسن طرق التفسير؟
فالجواب: إن
أصح الطرق في ذلك أن يفسر القرآن بالقرآن، فما أجمل في مكان فإنه قد فسر في
موضع آخر، فإن أعياك ذلك فعليك بالسنة فإنها شارحة للقرآن وموضحة له، بل
قد قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي، رحمه الله تعالى: كل ما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مما فهمه من القرآن. قال الله تعالى: {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما} [ النساء: 105]، وقال تعالى: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} [ النحل: 44]، وقال تعالى: {وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون} [النحل: 64].
ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه))
يعني: السنة. والسنة أيضا تنزل عليه بالوحي، كما ينزل القرآن؛ إلا أنها لا
تتلى كما يتلى القرآن، وقد استدل الإمام الشافعي، رحمه الله تعالى وغيره
من الأئمة على ذلك بأدلة كثيرة ليس هذا موضع ذلك.
والغرض أنك تطلب تفسير القرآن منه، فإن لم تجده فمن السنة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: ((بم تحكم؟)). قال: بكتاب الله. قال: ((فإن لم تجد؟)). قال: بسنة رسول الله. قال: ((فإن لم تجد؟)). قال: أجتهد برأيي. قال: فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدره، وقال: ((الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله)) وهذا الحديث في المسانيد والسنن بإسناد جيد، كما هو مقرر في موضعه.
وحينئذ، إذا لم نجد التفسير في القرآن ولا
في السنة، رجعنا في ذلك إلى أقوال الصحابة، فإنهم أدرى بذلك، لما شاهدوا
من القرائن والأحوال التي اختصوا بها، ولما لهم من الفهم التام، والعلم
الصحيح، والعمل الصالح، لا سيما علماؤهم وكبراؤهم، كالأئمة الأربعة الخلفاء
الراشدين، والأئمة المهتدين المهديين، وعبد الله بن مسعود، رضي الله عنه.
قال الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري
حدثنا أبو كريب، حدثنا جابر بن نوح، حدثنا الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق،
قال: قال عبد الله -يعني ابن مسعود- : والذي لا إله
غيره، ما نزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيمن نزلت وأين نزلت ولو
أعلم مكان أحد أعلم بكتاب الله مني تناله المطايا لأتيته. وقال الأعمش أيضا، عن أبي وائل، عن ابن مسعود قال: كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن، والعمل بهن.
وقال أبو عبد الرحمن السلمي:
حدثنا الذين كانوا يقرئوننا أنهم كانوا يستقرئون من النبي صلى الله عليه
وسلم، فكانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يخلفوها حتى يعملوا بما فيها من
العمل، فتعلمنا القرآن والعمل جميعا.
ومنهم الحبر البحر عبد الله بن عباس، ابن
عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وترجمان القرآن ببركة دعاء رسول الله صلى
الله عليه وسلم له حيث قال: ((اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل)).
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا وكيع، ثنا سفيان، عن الأعمش، عن مسلم قال: قال عبد الله -يعني ابن مسعود- : نعم ترجمان القرآن ابن عباس. ثم رواه عن يحيى بن داود، عن إسحاق الأزرق، عن سفيان، عن الأعمش، عن مسلم بن صبيح أبي الضحى، عن مسروق، عن ابن مسعود أنه قال: نعم الترجمان للقرآن ابن عباس. ثم رواه عن بندار، عن جعفر بن عون، عن الأعمش به كذلك.
فهذا إسناد صحيح إلى ابن مسعود: أنه قال
عن ابن عباس هذه العبارة. وقد مات ابن مسعود، رضي الله عنه، في سنة اثنتين
وثلاثين على الصحيح، وعمر بعده ابن عباس ستا وثلاثين سنة، فما ظنك بما كسبه
من العلوم بعد ابن مسعود رضي الله عنه.
وقال الأعمش عن أبي وائل: استخلف علي عبد الله بن عباس على الموسم، فخطب الناس، فقرأ في خطبته سورة البقرة، وفي رواية: سورة النور، ففسرها تفسيرا لو سمعته الروم والترك والديلم لأسلموا.
ولهذا غالب ما يرويه إسماعيل بن عبد
الرحمن السدي الكبير في تفسيره، عن هذين الرجلين: عبد الله بن مسعود وابن
عباس، ولكن في بعض الأحيان ينقل عنهم ما يحكونه من أقاويل أهل الكتاب، التي
أباحها رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: ((بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار))
رواه البخاري عن عبد الله بن عمرو؛ ولهذا كان عبد الله بن عمرو رضي الله
عنهما قد أصاب يوم اليرموك زاملتين من كتب أهل الكتاب، فكان يحدث منهما بما
فهمه من هذا الحديث من الإذن في ذلك.
ولكن هذه الأحاديث الإسرائيلية تذكر للاستشهاد، لا للاعتضاد، فإنها على ثلاثة أقسام:
أحدها: ما علمنا صحته مما بأيدينا مما يشهد له بالصدق، فذاك صحيح.
والثاني: ما علمنا كذبه مما عندنا مما يخالفه.
والثالث: ما هو مسكوت عنه لا من هذا
القبيل ولا من هذا القبيل، فلا نؤمن به ولا نكذبه، وتجوز حكايته لما تقدم،
وغالب ذلك مما لا فائدة فيه تعود إلى أمر ديني؛ ولهذا يختلف علماء أهل
الكتاب في مثل هذا كثيرا، ويأتي عن المفسرين خلاف بسبب ذلك، كما يذكرون في
مثل هذا أسماء أصحاب الكهف، ولون كلبهم، وعددهم، وعصا موسى من أي الشجر
كانت؟ وأسماء الطيور التي أحياها الله لإبراهيم، وتعيين البعض الذي ضرب به
القتيل من البقرة، ونوع الشجرة التي كلم الله منها موسى، إلى غير ذلك مما
أبهمه الله تعالى في القرآن، مما لا فائدة في تعيينه تعود على المكلفين في
دينهم ولا دنياهم. ولكن نقل الخلاف عنهم في ذلك جائز، كما قال تعالى: {سيقولون
ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب ويقولون سبعة
وثامنهم كلبهم قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل فلا تمار فيهم إلا
مراء ظاهرا ولا تستفت فيهم منهم أحدا} [الكهف: 22]،
فقد اشتملت هذه الآية الكريمة على الأدب في هذا المقام وتعليم ما ينبغي في
مثل هذا، فإنه تعالى حكى عنهم ثلاثة أقوال، ضعف القولين الأولين وسكت عن
الثالث، فدل على صحته إذ لو كان باطلا لرده كما ردهما، ثم أرشد على أن
الاطلاع على عدتهم لا طائل تحته، فيقال في مثل هذا: {قل ربي أعلم بعدتهم} فإنه ما يعلم ذلك إلا قليل من الناس، ممن أطلعه الله عليه؛ فلهذا قال: {فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا}
أي: لا تجهد نفسك فيما لا طائل تحته، ولا تسألهم عن ذلك فإنهم لا يعلمون
من ذلك إلا رجم الغيب. فهذا أحسن ما يكون في حكاية الخلاف: أن تستوعب
الأقوال في ذلك المقام، وأن تنبه على الصحيح منها وتبطل الباطل، وتذكر
فائدة الخلاف وثمرته؛ لئلا يطول النزاع والخلاف فيما لا فائدة تحته، فتشتغل
به عن الأهم. فأما من حكى خلافا في مسألة ولم يستوعب أقوال الناس فيها فهو
ناقص، إذ قد يكون الصواب في الذي تركه. أو يحكي الخلاف ويطلقه ولا ينبه
على الصحيح من الأقوال، فهو ناقص أيضا. فإن صحح غير الصحيح عامدا فقد تعمد
الكذب، أو جاهلا فقد أخطأ، وكذلك من نصب الخلاف فيما لا فائدة تحته، أو حكى
أقوالا متعددة لفظا ويرجع حاصلها إلى قول أو قولين معنى، فقد ضيع الزمان،
وتكثر بما ليس بصحيح، فهو كلابس ثوبي زور، والله الموفق للصواب.