الدروس
course cover
الدرس الخامس: تنظيم القراءة وبناء الأصول العلمية
30 Dec 2017
30 Dec 2017

4909

0

0

course cover
أصول القراءة العلمية

القسم الأول

الدرس الخامس: تنظيم القراءة وبناء الأصول العلمية
30 Dec 2017
30 Dec 2017

30 Dec 2017

4909

0

0


0

0

0

0

0

الدرس الخامس: تنظيم القراءة وبناء الأصول العلمية


عناصر الدرس:
1. تمهيد
2. التذكير بمراحل التكوين العلمي لطالب العلم
3. بناء الأصول العلمية
4. أنواع الأصول العلمية
5. من بركات كتابة العلم
6. مسارات تنظيم القراءة وطرق بناء الأصول العلمية
7. وصية


تمهيد:

القراءة المنظمة من أعظم روافد التحصيل العلمي وأحسنها، وهي كمَثل البناء الذي يبنيه صاحبه لبنةً لبنةً حتى يشيد بناء عالياً محكماً ينتفع به، والذي يقرأ قراءة عشوائية على غير هدى كالذي يقذف باللبنات قذفاً حتى يكون لديه ركام من اللبنات، وربما حطم بعضها بعضاً.

ولهذا فإن القراءة العشوائية لا تنتج بناء محكما، ولا تثمر تحصيلاً علمياً يُعتمد عليه، وإنما قد يحصّل القارئ منها معارف متفرقة في بعض العلوم، أو يقضي بها وقتاً ممتعاً في القراءة، على أنه لا يأمن سوء الفهم ولا فساد التصور لأنه أتى الأمور من غير بابها.


وعماد تنظيم القراءة على ثلاثة أمور:
الأول: أن يعرف القارئ لماذا يقرأ؟
والثاني: ماذا يقرأ؟
والثالث: كيف يقرأ؟

فالأمر الأول: يتعلق بتعيين مقاصده من القراءة وغايته من طلب العلم حتى يبني خطّته في القراءة على تلك المقاصد ويرتّبها على مراحل السير إلى بلوغ الغاية.

والأمر الثاني: يعينه على تحقيقه وضوح المنهج في القراءة، ومراعاة المستوى العلمي، وما يحتاجه القارئ في كل مستوى، وهذا يتحقق في أوّل الأمر بالإشراف العلمي من عالم أو طالب علم متمكن يعينه على اختيار الكتب والرسائل، ثمّ يسير في خطّة القراءة بما يناسب مراحله التعليمية.

والأمر الثالث يتعلّق بتصحيح وتحسين طريقة القراءة حتى يستفيد من قراءته للكتاب في زيادة تحصيله العلمي، وهو لبّ موضوعات هذه الدورة، وسأذكر فيها أصولًا مهمّة استفدت عامّتها من تأمّل طرائق أهل العلم في القراءة، ومن تحليل عملية القراءة، وطرق انتقال المعرفة وتثبيتها؛ وآمل من دارس هذه الدورة أن يراعيها لينتفع بقراءته ولتكون له ملكة حسنة في القراءة.


التذكير بمراحل التكوين العلمي لطالب العلم
مما يحسن التذكير به أن طالب العلم يمرّ في مسيرته العلمية بثلاث مراحل:
المرحلة الأولى: التأسيس العلمي، وهي المرحلة التي يكتسب فيها مبادئ العلوم بإشراف علمي من عالم أو طالب علم متمكن، ويدرس فيها مختصرات في علوم المقاصد وعلوم الآلة.

والمرحلة الثانية: البناء العلمي، وهي المرحلة التي يكون فيها أكثر تحصيل طالب العلم، وهي أطول المراحل، وتستدعي من طالب العلم مداومةً حسنة وتنظيماً للقراءة والدراسة حتى يُحسنَ بناءه العلمي ويكمّلَه.

والمرحلة الثالثة: النشر العلمي، وهي مرحلة تزكية العلم ونشره بالتعليم والتأليف وكتابة المقالات وإلقاء الدروس والخطب وغير ذلك من وسائل النشر.

ولكل مرحلة سماتها ومقوّماتها التي سبق التفصيل فيها في محاضرة بعنوان "مراحل التكوين العلمي لطالب العلم".

ولكل مرحلة من هذه المراحل أثرها في تنظيم القراءة، ورسم خطّتها، ولذلك ينبغي لطالب العلم أن تكون عنايته في أوّل الأمر متجهة للقراءة في الكتب التي يتمّم بها مرحلة التأسيس العلمي في علوم المقاصد والآلة، حتى يجتاز مرحلة المبتدئين في كلّ علم.

وعامّة كتب مرحلة التأسيس العلمي من المختصرات، لكنّها تستدعي دراسة مركزة يعنى فيها الطالب بضبط المسائل العلمية، وإحسان فهمها.

ثم تكون عنايته بعد ذلك ببناء أصوله العلمية في كلّ فنّ من فنون العلم، ولا بأس أن يتخصص في علم منها، ويتوسّع في قراءة كتبه، بعد أن يكون قد أخذ نصيباً حسناً من التأسيس العلمي في علوم الشريعة واللغة العربية.


بناء الأصول العلمية:

من أهمّ ما يعين طالبَ العلم على تنظيم القراءة، ورسم خطّتها، وتجلية ثمرتها: العناية ببناء الأصول العلمية التي يستكمل بها الطالب تحصيله العلمي، ويضبط بها مسائله ويتعاهدها، ويرجع إليها وقت حاجته.
وهذه الأصول خاصة بالطالب، وهي إمّا مذكرات أو ملفات إلكترونية أو كتب جامعة في كل فنّ يطلبه، يختارها ويعلّق عليها ويضيف إليها حتى تكون عمدته في ذلك الفنّ.
وطالب العلم إذا توجّهت عنايته لبناء أصل علمي في علم من العلوم كانت خطته في القراءة متجهة لتحقيق هذا المقصد المهم.

وكلّ من تطلّعت نفسه للتمكن في علم من العلوم حتى يبلغ مرتبة العلماء فيه؛ فليعلم أن رصيده الحقيقي من ذلك العلم إنما هو ما ضبطه من مسائله ضبطَ صَدْرٍ أو ضبطَ كتاب؛ فإن ْكانت معرفته لمسائل ذلك العلم شاملة مفصلة مؤصّلة على طريقة أهل ذلك العلم كان معدوداً منهم.

وإن كان في ضبطه لمسائل ذلك العلم نقص أو ضعف لحقه من القصور والتقصير في بنائه العلمي بقدر ما فرّط في ضبطه من المسائل.

ولذلك فإنّ الأصول العلمية التي يتخذها طالب العلم لنفسه لها أثر كبير في ضبط المسائل العلمية، وتنمية المهارات، وتوسيع المدارك، والإلمام بأطراف العلوم، والمعرفة بمراتب الكتب، ومناهج العلماء، وهي ثروته العلمية في حقيقة الأمر.


ومن تأمّل سير العلماء وطرائقهم في طلب العلم وتحصيله وضبطه وجد عنايتهم ببناء الأصول العلمية ظاهرةً بيّنة، وعلمَ أنّها من أسباب تمكنهم العلمي وسعة معرفتهم وضبطهم لمسائل العلم وأدلّته.

وهذه الأصول وإن كانت غير منشورة إلا أنّها أصول يستخرجون منها مصنفاتهم، ويعتمدون عليه كثيراً في مؤلفاتهم، وينتقون منها ما يصلح للنشر، ويتعاهدونها بالمطالعة والتهذيب والإضافة حتى إنّ منهم من يحفظها من كثرة مداومته على مطالعتها، كما قال إسحاق ابن راهويه: (كأني أنظر إلى مائة ألف حديث في كتبي).

وقد نقل البيكنديّ هذه العبارة إلى محمد بن إسماعيل البخاري: فقال: (أوتعجب من هذا؟ لعلّ فِي هذا الزمان مَن ينظر إلى مائتي ألف حديث من كتابه).

قال البيكندي: (وإنّما عَنى بِهِ نفسه). وهذه الحكاية في تاريخ بغداد للخطيب.
وكتابه المقصود هنا إنما هو أصله العلمي الذي اتّخذه لنفسه، وأما صحيحه فأحاديثه نحو سبعة آلاف.
- وقال الإمام أحمد: (انتقيتُ المسند من سبعمائة ألف حديث وخمسين ألف حديث).
وأحاديث المسند نحو ثلاثين ألف حديث.
- وقال الإمام مسلم: (صنفت هذا المسند الصحيح من ثلاثمائة ألف حديث مسموعة).
- وقال أبو داود: (كتبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسمائة ألف حديث، انتخبت منها ما ضمّنته كتاب السنن).
- ومن تأمّل ما أجاب به الدارقطني في "كتاب العلل" مما يدلّ على سعة معرفته بالروايات وجمعه للطرق وتفطنّه لعلل الأسانيد علم أنّ ذلك لم يكن ليتهيّأ له من غير أصل علمي كبير متقن.
- وذكر ابن رشيق المغربي عن ابن تيمية رحمه الله أنّه وقف على خمسة وعشرين تفسيراً مسنداً، وأنه كتب نقول السلف مجردًا عن الاستدلال على جميع القرآن.
وهذا أصل علميّ مهمّ في التفسير، أرى أنّه من أعظم أسباب القوة العلمية لشيخ الإسلام ابن تيمية في التفسير.

والأمثلة على عناية العلماء ببناء أصول علمية خاصة بهم كثيرة.
وقد ذكرت من أخبار العلماء في اتّخاذ الأصول العلمية وبيان أنواعها في درس "التكوين العلمي" ما يكفي بإذن الله تعالى


أنواع الأصول العلمية:

تنظيم القراءة ينبغي أن يصاحبه تنظيمٌ للأصول العلمية، وأن تكون قراءات طالب العلم خادمة لبناء أصوله العلمية وإثرائه المعرفي، وإذا جمع طالب العلم بين النهمة في القراءة وبناء الأصول العلمية رُجي له أن يبلغ مرتبة عظيمة في العلم.


والأصول العلمية على نوعين:
النوع الأول: أصول محفوظة في الصدر، يتعاهدها العالم وطالب العلم حتى يرسخ علمه بها، ويتمكن من حفظها، وتفهُّم معانيها، والبناء عليها في استخراج المسائل والدلائل.
ومن أهمّ ذلك حفظ الأدلة والمسائل، وضبطها على الأبواب، فيجتهد في حفظ مسائل كل باب وأدلته، وقد كانت المذاكرة على الأبواب من أوجه المذاكرة عند المحدّثين.
قال أبو زرعة الرازي: كان أحمد بن حنبل يحفظ ألف ألف حديث !!
قيل له: وما يدريك؟
قال: (ذاكرته فأخذت عليه الأبواب). رواه الخطيب البغدادي في تاريخه.

والنوع الثاني: أصول مكتوبة، يُعنى بتدوينها وتصنيفها، ومداومة الاطلاع عليها وتهذيبها، والإضافة إليها، حتى يستكمل بناءه العلمي ويتقنه.

ومن العلماء من يجمع العناية بالنوعين، فتكون له أصول محفوظة وأصول مكتوبة، وهو أكمل وأحسن.

وينبغي أن لا يتبرم طالب العلم من كثرة الكتابة والتصنيف والفهرسة والتلخيص وإثراء أصوله العلمية بما يدوّنه ويجتهد في جمعه، وليذكّر نفسه بما نُقِلَ عن جماعة من العلماء المتقدمين من العناية بكتابة الأصول العلمية الكبيرة وتعاهدها.

- ومن ذلك ما رواه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد عن عبد الله بن جعفر بن خاقان السلمي أنه قال: سألت إبراهيم بن سعيد الجوهري عن حديث لأبي بكر الصديق؛ فقال لجاريته: (أخرجي إلي الثالث والعشرين من مسند أبي بكر).

فقلت له: لا يصح لأبي بكر خمسون حديثا، من أين ثلاثة وعشرين جزءا؟
فقال: (كلّ حديث لم يكن عندي من مائة وجه فأنا فيه يتيم)

وإبراهيم الجوهري هو الحافظ أبو إسحاق الطبري (ت:249هـ) من شيوخ مسلم وأبي داوود وابن ماجه والترمذي والنسائي، كان معروفاً بكثرة كتابة الأحاديث، قال عنه الإمام أحمد كما في التهذيب: (كثير الكتاب، كتب فأكثر).

وهذا من دلائل عنايته ببناء أصل علمي كبير له في الحديث، صنّفه على المسانيد، وقسّمه إلى أجزاء.

ومعرفتُه بالجزء الذي فيه الحديث يستفاد منه تعاهده لأصله حتى تيسّرت له هذه المعرفة.
وهكذا ينبغي أن يكون حال طالب العلم في تنظيم أصوله وعنايته بها، وأن تكون قراءاته معينة له على إتمام بناء أصوله العلمية وتحسينها، وتعاهدها حتى يكاد يستظهر ما فيها.

- وروى الخطيب البغدادي في تاريخه عن أبي بكر بن صدقة أنه قال: سمعت أبا القاسم بن الجَبُّلي، قال: قدم رجل فقال لي: أريد رجلا يكتب لي من كتاب الصلاة ما ليس في كتب ابن أبي شيبة.
قال: فقلنا: ليس لك إلا أبو بكر الأثرم.
قال: (فوجّه إليه ورقاً فكتب ست مائة ورقة من كتاب الصلاة، فنظرنا فإذا ليس في كتاب ابن أبي شيبة منه شيء).
وهذا أمرٌ لم يكن ليتأتّى له لولا أنّه كان لديه أصل علمي كبير اعتنى بجمعه وتصنيفه.

- وكذلك كان يحيى بن معين من المعروفين بكثرة كتابة الأحاديث مع البصيرة بأحوال الرجال وطرق رواية الأحاديث، حتى جمع أصلاً علمياً كبيراً في الأحاديث، وهذا الأصل خاصّ به لم يكن منشوراً، لأنه كتبه لنفسه ليميز به الأحاديث ويعرف به طرقها.

قال محمد بن نصر الطبري: دخلت على يحيى بن معين فعددت عنده كذا وكذا سِفْطا يعني دفاتر وسمعته يقول: (قد كتبت بيدي ألف ألف حديث).

وسمعته يقول: (كل حديث لا يوجد ها هنا - وأشار بيده إلى الأسفاط - فهو كذب). رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق.

وهذا يدلّ على أنّه بلغ رتبة عالية في جمع الأحاديث والرحلة إلى أئمة الرواية في الأمصار، وكتابة ما لديهم من الأحاديث والآثار، وتغذية أصوله العلمية بها، وكانت عامة كتاباته لبناء أصولٍ علمية تعينه على ضبط الأحاديث ومعرفة أحوال الرجال وتمييز مروياتهم.

ولذلك قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: (كل حديث لا يعرفه يحيى بن معين فليس هو بحديث). رواه الخطيب البغدادي في تاريخه.

- وروى ابن عساكر في تاريخ دمشق عن علي بن المديني أنه قال: (ما أعلم أحداً كتبَ ما كتبَ يحيى بن معين).
وفي رواية له أخرى عنه أنه قال: (لا نعلم أحداً من لدن آدم كتب من الحديث ما كتب يحيى بن معين).

والذي يظهر أنّ معرفته بالعلل إنما كان سببها كثرة عنايته بجمع الطرق والموازنة بين المرويات، ومع ذلك لم يتفرّغ للتصنيف والتأليف كما فعل أصحاب الكتب الستة وغيرهم، وإنما كانت كتابته لخاصة نفسه، وليُفيد مَن يسأله عن الأحاديث وعللها ورواتها، وهو الذي اشتهر عنه قوله: (إذا كتبت فقمّش، وإذا حدثت ففتش).

وقال أيضاً: (سيندم المنتخِب في الحديث حين لا تنفعه الندامة).

والمنتخِب هو الذي ينتقي من الأحاديث.

- ومن عجيب أمر يحيى بن معين في حرصه على الاستيعاب والضبط ما رواه الخطيب البغدادي في "الجامع لأخلاق الراوي" عن أبي بكر الأثرم أنه قال: رأى أحمدُ بن حنبل يحيى بن معين بصنعاء في زاوية وهو يكتب صحيفة معمر عن أبان عن أنس؛ فإذا طلع عليه إنسان كتمه؛ فقال له أحمد بن حنبل: تكتب صحيفة معمر عن أبان عن أنس وتعلم أنها موضوعة؟ فلو قال لك قائل: إنك تتكلم في أبان ثم تكتب حديثه على الوجه؟

فقال: (رحمك الله يا أبا عبد الله ! أكتب هذه الصحيفة عن عبد الرزاق عن معمر على الوجه فأحفظها كلها، وأعلم أنها موضوعة، حتى لا يجيء بعده إنسان؛ فيجعل بدل أبان ثابتاً، ويرويها عن معمر عن ثابت عن أنس بن مالك؛ فأقول له: كذبت إنما هي عن معمر عن أبان لا عن ثابت).


- وكذلك سفيان الثوري رحمه الله كانت له أصول كبيرة، وكان كثير الكتابة للحديث مع حسن الضبط ومعرفة العلل وفقه الحديث. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الاشج، حدثنا أبو عبد الرحمن الحارثي قال: خاف سفيان شيئاً فطرَح كُتُبَه، فلمَّا أَمِنَ أرسلَ إليَّ وإلى يزيد بن ثوير المرهبي؛ فقال: أخرجوا الكتب؛ فدخلنا البئر فجعلنا نخرجها؛فأقول: يا أبا عبد الله! وفي الركاز الخمس! - وهو يضحك - فأخرجنا تسعَ قِمَطْرَاتٍ كل واحد إلى هنا وأشار إلى أسفل ثندوته.

قال: فقلت: اعزل كتابا تحدّثني به.

قال: فعزل لي كتاباً فحدَّثني به).

القِمَطْرات جمع قِمَطْر ، وهو وعاء كبير كالخزانة تُحفظ فيه الكتب، وكان أكثر ما يُعمل من القصب، والثندوة للرجل كالثدي للمرأة.


- وذكر ابن أبي حاتم الرازي أنّ محمد بن مسلم بن وارة وفضلك الصائغ جرت بينهما مذاكرة فاختلفا في رواية حديث؛ فاحتكما إلى أبي زرعة الرازي وكان حاضراً؛ فسكت؛ فلمّا ألحّ عليه محمد بن مسلم قالَ: هاتوا أبا القاسم ابْنَ أَخِي، فدُعي بِهِ فَقَالَ: اذهب فادخل بَيْتَ الكتب فدَعِ القِمَطْرَ الأَوَّل، والقمطر الثَّانِي، والقمطر الثالث وعدَّ ستة عشر جزءا وائتني بالجزء السابع عشر.

فَذَهَبَ فجاء بالدفتر فدفعه إِلَيْهِ، فأخذ أَبُو زُرْعَة فتصفح الأوراق فأخرج الحَدِيث ودفعه إِلَى مُحَمَّد بْن مُسْلِم)ا.هـ ملخصاً.

وقال ابن أبي حاتم أيضاً: سمعت أبا زرعة يقول: سمعت من بَعْض المشايخ أحاديث، فسألني رجل من أَصْحَاب الحَدِيث فأعطيتُه كتابي فردَّ عَليَّ الكتاب بَعْد ستة أشهر، فأنظر فِي الكتاب فَإذَا بِهِ قَدْ غَيَّر فِي سبعة مواضع!!

قال أَبُو زُرْعَة: فأخذت الكتاب وصرت إِلَى عنده، فَقُلْتُ: ألا تتقي اللَّه تفعل مثل هَذَا؟!!

قال أَبُو زُرْعَة: وأوقفته على موضع وأخبرته، وقلت له: ما هذا الذي غيرت؟!! هذا الذي جعلت ابن أبي فديك فإنَّه عن أبي ضمرة مشهور، وليس هذا من حديث ابن أبي فديك، وأما هذا فإنه كذا أو كذا، فإنه لا يجئ عن فلان، وإنما هو كذا، وأما كذا فكذا، فلم أزل أخبره حتى أوقفته على كله.

ثم قال [أبو زرعة]: أما أني قد حفظت جميع ما فيه في الوقت الذي انتخبت على الشيخ، ولو لم أحفظه لكان لا يخفى عليَّ مثل هذا، فاتق الله يا رجل.

قال ابن أبي حاتم: فقلت له: من ذلك الرجل الذي فعل هذا؟ فأبى أن يسمّيه).
وهذه المعرفة الدقيقة بمواضع الأحاديث وتمييز ما يُجرى على بعض الأصول من التغيير لم يكن ليتأتّى لهم لولا طول مصاحبة أصولهم وتعاهدها بالحفظ والمراجعة حتى سهل عليهم استظهار ما فيها.

وقد كانت بعض أصول المحدّثين عظيمة جداً حتى يضطر للاستعانة بورّاقين لتبييضها.
قال أبو القاسم الأزهري: (بلغني أن يعقوب [بن شيبة ] كان في منزله أربعون لحافاً، أعدها لمن كان يبيت عنده من الوراقين لتبييض المسند ونقله). رواه الخطيب البغدادي في تاريخه.

ومسنده هذا كان من أكبر المسانيد في تاريخ الإسلام، وأحسنها عرضاً للأحاديث وطرقها، ولكنّه لم يتمّ، وقد أطنب الذهبي في مدحه في مواضع من كتبه:

فقال في سير أعلام النبلاء في ترجمة يعقوب بن شيبة: (صاحب المسند الكبير، العديم النظير، المعلل، الذي تم من مسانيده نحو من ثلاثين مجلدا، ولو كمل لجاء في مائة مجلد).

وقال في وصف منهجه في مسنده: (يذكر أولا سيرة الصحابي مستوفاة، ثم يذكر ما رواه، ويوضح علل الأحاديث، ويتكلم على الرجال، ويجرح ويعدل بكلام مفيد عَذْبٍ شافٍ، بحيث إن الناظر في مسنده لا يملّ منه، ولكن قلَّ من روى عنه)ا.هـ.

وقال في تذكرة الحفاظ: (صاحب المسند الكبير المعلَّل، ما صُنّف مسندٌ أحسن منه، ولكنه ما أتمه).

وقال في تاريخ الإسلام: (صنَّف مسندًا كبيرًا إلى الغاية القصوى لم يُتمّه، ولو تمّ لجاء فِي مائتي مجلد).

واختلاف التقدير راجع إلى اختلاف النظر من وقت لوقت أو إلى تقدير حجم المجلد؛ فالمجلد الكبير ليس كالمتوسط.

وقد مات وهو يقرأ مسند عتبة بن غزوان على حفيده راوي مسنده، وقد جاوز الثمانين من عمره.

قال الخطيب البغدادي: حدثني الأزهري قال: سمعت جماعة من شيوخنا، وسمَّى منهم أبا عمر بن حيويه، وأبا الحسن الدارقطني، يقولون: (لو أن كتاب يعقوب بن شيبة كان مسطورا على حمام لوجب أن يكتب).

قال الذهبي: (يعني: لا يفتقر الشخص فيه إلى سماع).

وقال الذهبي أيضاً: (والذي ظهر له: مسند العشرة، وابن مسعود، وعمار، والعباس، وعتبة بن غزوان، وبعض الموالي).

ومن هذه المسانيد ما هو متعدد الأجزاء، وقد طُبع من مسنده الجزء العاشر من مسند عمر بن الخطاب رضي الله عنه طبعات عدّة، وقد اطّلعت عليه فرأيته آيةً في حسن سرد الأحاديث وجمع طرقها، والتنبيه على عللها.

والمقصود أنّ يعقوب بن شيبة جمع من العلم ما احتاج في تبييضه إلى ورّاقين يساعدونه، ومع ذلك لم يتمّ تصنيف مسنده لكبر حجمه.


والمقصود من ذكر هذه الأمثلة حثّ طلاب العلم على العناية ببناء أصولهم العلمية وتنظيمها، وتنظيم قراءاتهم حتى يُحسنوا إعداد العدّة العلمية لنشر العلم والدعوة إلى الله تعالى بالتعليم والإرشاد والتأليف وكتابة المقالات وإعداد المشروعات العلمية النافعة.


من بركات كتابة العلم:

وكتابة العلم فيها بركات كثيرة؛ فكم من فائدة حرّكت القلب، وحملت على طاعة، وزجرت عن معصية، وصبّرت في بلاء، مع ما يستفيده كاتب الحديث من كثرة الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم.

وقد روى الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد عن أبي الحسن أحمد بن محمد الجرجاني أنه قال: سمعت حفص بن عبد الله بأردبيل، يقول: اشتهيت أن أرحل إلى أبي زرعة الرازي؛ فلم يقدّر لي؛ فدخلت الريّ بعد موته، فرأيته في النوم يصلي في سماء الدنيا بالملائكة، فقلت: عبيد الله بن عبد الكريم؟

قال: نعم.

قلت: بم نلت هذا؟
قال: (كتبت بيدي ألف ألف حديث، أقول فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من صلى علي صلاة صلى الله عليه عشرا").
فهذه رفعة بسبب كثرة صلاته على النبي صلى الله عليه وسلم في كتابته للحديث.

مسارات تنظيم القراءة وطرق بناء الأصول العلمية:

سلك العلماء مسارات متنوّعة في تنظيم قراءاتهم وبناء أصولهم العلمية بما يحقق مقاصدهم، ويوافق ما أنعم الله به عليهم من ملَكاتٍ ومهارات، والناس يتفاوتون في مواهبهم وقدراتهم وأوجه عناياتهم، وقد رُوي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: (قيمة كل امرئ ما يحسن)، ومن فُتح له في باب نافع فليلزمه وليشكر نعمة الله عليه بما فتح عليه ويسّر له إتقانه، وليحذر أن يتكلّف ما لا يحسن حتى يدع ما يحسن رغبة منه في اختيار الأفضل في نفسه، فإنّ من يختار علماً صحيحاً مفضولاً يتيسّر له إتقانه ونشره خير ممن يختار علماً فاضلاً لا يتيسّر له إتقانه، ولا يُنتفع منه فيه.

وإذا عرف طالب العلم ما يحسن من العلوم، وما يرجو أن يفتح له فيه ويكون له به أثر حسن إذا تعلّمه وعلّمه؛ أعانه ذلك على تنظيم قراءته بما يحقق له مقاصده من التعلم والتعليم، ولو كان العلم الذي اختاره مفضولاً عند الموازنة بين العلوم؛ فإنّه بالنية الصالحة والصدق في الطلب وقصد النفع وحسن الأثر يرجى أن يبارك الله له في علمه، وأن يؤيّده ويسدده حتى يكون لعلمه أثر في العلوم الفاضلة.

وتأمّل سيرة الإمام اللغوي أبو العباس أحمد بن يحيى الشيباني(ت:291هـ) الملقب بثعلب، وهو ممن أحسن تنظيم القراءة حتى بلغ مرتبة الأئمة المبرزين في علم اللغة، وصار ممن يُرجع إليه فيما يتّصل بالتفسير اللغوي وشرح الأحاديث، وأقبل العلماء على كتبه يتدارسونها وينتفعون بها.

هذا الإمام أقبل على قراءة كتب الفرَّاء فحذقها وعمره لم يجاوز الخامسة والعشرين، ثم استزاد عليها من كتب غيره ومما تعلمه من شيوخه فصار إماماً ذا شأن عظيم لدى أهل العلم.

قال عنه ياقوت الحموي: ( إمام الكوفيين في النحو واللغة والثقة والديانة)

وقال الإمام أبو بكر بن مجاهد وهو أول من اختار الأئمة السبعة في القراءات: (كنت عند أبي العباس ثعلب، فقال لي يا أبا بكر: اشتغل أصحاب القرآن بالقرآن ففازوا، واشتغل أهل الفقه بالفقه ففازوا، واشتغل أصحاب الحديث بالحديث ففازوا، واشتغلت أنا بزيد وعمرو، فليت شعري ما يكون حالي في الآخرة؟

فانصرفت من عنده، فرأيت تلك الليلة النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فقال لي: أقرئ أبا العباس عني السلام، وقل له: إنك صاحب العلم المستطيل) ا.هـ.

المستطيل: أي المنتشر الذي يبلغ نفعه أهل التفسير والحديث والفقه.
وثناء العلماء عليه مشتهر معروف، وكان -رحمه الله -حريصاً على القراءة حتى إنه مات وهو يقرأ، كان يسير في طريقٍ ومعه كتاب يقرأه وقد بلغ التسعين من عمره؛ فصدمته دابة فمات منها، رحمه الله رحمة واسعة.

والمقصود من ذكر هذا المثال أن طالب العلم إذا أقبل على ما يُحسنه ورسم لنفسه خطة في القراءة وسار عليها بجدّ واجتهاد فإنه يحصّل تحصيلاً عظيماً بإذن الله تعالى.

وأوجه العناية العلمية التي يمكن أن يبرز فيها طلاب العلم متنوّعة، ومن النافع لطالب العلم أن يطّلع على تنوّع مسالك أهل العلم في القراءة، حتى يتبيّن له ما يمكن أن يعدّه مقصده العامّ من القراءة ليجعله أصلاً يبني عليه خطّته في تنظيم قراءته.

فأهل العلم قد تنوّعت مسالكهم في تنظيم قراءاتهم واختلفت أوجه عناياتهم:

1: فمنهم: من يقبل على قراءة كتب إمام من الأئمة فيعتني بها عناية بالغة حتى يكاد يحفظها لإدمانه قراءتها ومراجعتها ومعرفة مواضع المسائل فيها، كما فعل الإمام ثعلب مع كتب الفراء.

- وكما فعل الفقيه الحنبلي ابن مفلح مع رسائل ومسائل الإمام أحمد، حتى كان مرجعاً فيها، حتى إن شيخ الإسلام ابن تيمية وهو شيخه يسأله ويستفيد منه مع عظيم عناية شيخ الإسلام بأقوال الإمام أحمد وآثاره، ولكن كان لابن مفلح مزيد عناية بأقوال الإمام أحمد وتمييز مراتب الروايات عنه، حتى قال عنه ابن القيم: (ما تحت قبة الفلك أعلم بمذهب الإمام أحمد من ابن مفلح).

- وكما فعل ابن القيم بكتب شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية فإنه حذقها ولخص أكثرها وحرص على تقصّيها وله رسالة اسمها: (أسماء مؤلفات ابن تيمية)

- وكما فعل الشيخ عبد الرحمن السعدي بكتب ابن تيمية وابن القيم فإنه اعتنى بها عناية كبيرة حتى إن أكثر علمه مستفاد من مدرسة شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم.


2: ومنهم من يزيد في ذلك فيقبل على علم عالم حتى يحصّل ما لديه ويستقصي منه ما استطاع، ثمّ ينتقل إلى غيره فيستقصي ما لديه، إلى أن يجمع علماً غزيراً؛ كما ذُكر عن الحافظ الكبير ابن ديزيل وهو إبراهيم بن الحسين الكسائي الهمذاني (ت:281هـ) رحمه الله، وكان من خاصة طلاب المحدث الكبير عفان بن مسلم الصفّار، حتى لقب بدابّة عفان، لكثرة ملازمته إيّاه.

وكان العلماء يتعجبون من حفظه وجَلَده في استماع الحديث وتكراره وحفظه وكتابته وجَرْد ما عند المحدّثين بإتقان وحسن تقصٍّ حتى لقّبه بعضهم بسِيفَنّة.

قال الدّامغاني: (إنما لُقّب إبراهيم بسيفنّة لكثرة كتابته الحديث، وسِيفَنَّة طائر بمصر لا يقع على شجرة إلاّ أكل ورقها حتى لا يُبقي فيها شيئاً، وكذلك إبراهيم إذا وقع إلى محدّث لا يفارقه حتى يكتب جميع حديثه).

وقد تقدّم ثناء العلماء عليه، وقول الذهبي فيه: (إليه المنتهى في الإتقان).

3: ومن أهل العلم من يجعل له في كل فن أصلاً يدمن قراءته حتى يكاد يحفظه ثم يضيف إليه من غيره بعض اللطائف والفوائد.
- قال ابن فرحون: (لازمت تفسير ابن عطية حتى كدت أن أحفظه)
- وكان الزركشي يلقب بالمنهاجي لكثرة عنايته بمنهاج الطالبين للنووي.
- والعلامة الكافِيجي شيخ السيوطي لقب بذلك نسبة إلى الكافية لابن الحاجب لكثرة قراءته وإقرائه لها.

4: ومنهم من يحفظ متناً أو أكثر في علم من العلوم، ويدرس شرحها دراسة جيدة، ويراجع محفوظاته، ثمّ ينظّم قراءاته في كتب ذلك العلم، وكلما استفاد فائدة أضافها إلى أصله العلمي، وعرف موضعها منه، حتى ينمو أصله العلمي بمداومته على القراءة والتحصيل واستخراج الفوائد.

وكان شيخنا ابن عثيمين رحمه الله يحفظ متن زاد المستقنع في الفقه، وقد عُني بدراسته وشرحه، وله عليه الشرح الممتع، وقد طبع في خمسة عشر جزءاً.


وقد ذكرت في درس "التكوين العلمي" أنواع الأصول العلمية لدى أهل العلم بتفصيل أكثر مما هنا، ومثّلت لها بأمثلة؛ فليرجع إليها من شاء.

وطرق بناء الأصول العلمية متنوّعة:
فمنها: اختيار كتاب من الكتب الجامعة في ذلك العلم؛ فيداوم الطالب على قراءته وتفهّمه، والتعليق عليه بالفوائد واللطائف والاستدراكات.
ومنها: أن يقبل على كتب عالم من العلماء فيتقصّى ما فيها من المسائل حتى يبني بها أصلا علمياً متيناً، ثم يضيف إليه بعد ذلك ما يتيسّر له.
ومنها: أن يختار كتباً مهمة في علم من العلوم فيقبل على تلخيصها في مذكرة واحدة يجمع فوائدها ويفهرس مسائلها، ويرتب ملخصه على أبواب ذلك العلم.
ومنها: أن يقسّم ذلك العلم إلى أبواب ثمّ يفهرس مسائل كل باب بمطالعة مراجع ذلك العلم والكتب المفردة في ذلك الباب.

ومن أيسر الطرق لبناء أصل علمي في علم من العلوم أن تختار منه كتابين أو ثلاثة من الكتب الجامعة؛ فتلخصها وتفهرس مسائلها، وتقسّمها إلى أبواب، وتجعل لكل باب مذكّرة أو ملفاً إلكترونياً تضع فيه ما يختصّ به من تلخيصاتك وفوائدك، فإذا أتممت كُتب المرحلة الأولى خرجت بأصل علمي مهمّ، يمكنك البناء عليه والزيادة فيه بطريقتين:

إحداهما: أنك كلما عرضت لك فائدة حسنة أو وجدت تفصيلا أو استدلالا حسنا أضفته إلى موضعه في أصلك العلمي.

والأخرى: أن تواصل القراءة المنهجية المنظمة في كتب ذلك العلم، وتضيف إلى أصلك ما يستجدّ من الفوائد، وقد تجد في بعض الأبواب من ذلك العلم كتباً مفردة، بل ربما تجد في بعض المسائل مؤلفات مفردة؛ فيثمر لك الاطلاع عليها، وتدوين فوائدها وإلحاقها بأصلك العلمي ثمرات علمية كثيرة، من أهمّها تقوية بنائك العلمي، وتوسيع مداركك في ذلك العلم، وتعرف مناهج العلماء في بحث وعرض المسائل العلمية وتنوّع طرائقهم في دراستها.


وليُعلم أنّ أصعب ما في البناء أوّله، ومن وفّق لتجاوز عقبة البداية هان عليه ما بعدها بإذن الله، ثمّ إذا وجد طالب العلم نفع أصوله، وعظم بركتها كان أحرص على حفظها وتنميتها.

وإذا فتر عزمك عن تنمية أصلك العلمي بالفوائد واللطائف فذكّرها ما كان عليه العلماء السابقون، وأنّ العلم لا ينال براحة الجسد، وتذكّر ما روي عن البخاري رحمه الله فيما رواه الخطيب البغدادي عن محمد بن يوسف البخاري قال: (كنت عند محمد بن إسماعيل البخاري بمنزله ذات ليلة فأحصيت عليه أنه قام وأسرج يستذكر أشياء يعلقها في ليلةٍ: ثماني عشرة مرة).

وروى عن محمد بن أبي حاتم الوراق أنه قال: كان أبو عبد الله إذا كنت معه في سفر يجمعنا بيت واحد إلا في القيظ أحيانا، فكنت أراه يقوم في ليلةٍ واحدةٍ خمس عشرة مرة إلى عشرين مرة في كل ذلك يأخذ القدَّاحة فيوري ناراً بيده ويسرج ثم يخرج أحاديث فيعلّم عليها ثم يضع رأسه، وكان يصلّي في وقت السحر ثلاث عشرة ركعة يوتر منها بواحدة، وكان لا يوقظني في كل ما يقوم، فقلت له: إنك تحمل على نفسك كل هذا ولا توقظني، قَالَ: (أنت شابّ فلا أحبّ أن أفسدَ عليك نومك).

وتعدد رواية هذا الأمر عنه دليل على أنّها من عادته ودأبه، ومن كان يداوم النظر في أصوله العلمية، ويعمل الذهن في تنميتها وتهذيبها وتحسينها بنيّة صالحة فإنه يستفيد علماً غزيراً مباركاً وراسخاً بإذن الله تعالى.


وصية:

ينبغي أن يقدّم طالب العلم العناية باستكمال مرحلة التأسيس العلمي، وأن يقرأ ما يعينه على ذلك، لأن هذه المرحلة أصل مهمّ تُبنى عليه خطط القراءة على اختلاف مقاصد القراء، والمقصود بمرحلة التأسيس العلمي ما يحتاجه طالب العلم من دراسة مختصرات في علوم الشريعة واللغة العربية بما يناسب حاله، وأن يعرف ما لا يَحْسُن بطالب العلم جهلُه من العلوم والمهارات.

ثم لا يخلو طالب العلم من إحدى حالتين:

- إمّا أن يكون قد ظهر له ما يحسنه ويرجو أن يفتح له من العلوم مما يوافق ملكاته العلمية ومهاراته فيجتهد فيه.

- وإما أن لا يكون ذلك ظاهراً له؛ فيحتاج إلى مواصلة الدراسة والطلب ومحاولة معرفة جوانب الإجادة والإحسان لديه، وما يرجو أن يحذقه من العلوم فينتفع به، ويكون له به أثرٌ حسن على غيره، ويستشير شيخه ومن يتوسم فيه حسن المعرفة حتى يظهر له ما يمكن أن يعدّه غايته من طلب العلم.


وإذا ظهر لطالب العلم ما يحسنه من العلوم وكانت له همّةٌ ونهمةٌ فيه؛ فينبغي أن تكون خطّته في القراءة متجّهة لتحقيق مقصده وبلوغ غايته، فيجمع عدّته لبناء أصل علمي فيما يحسن، وينظر في المهارات التي يحتاج إلى تعلّمها، وإلى الفرص المتاحة له في بلده وزمانه وما يمكن أن يتوصّل به من الأسباب التي تعينه على بلوغ غايته.

ثمّ ليجعل هذه الغاية نصب عينيه، وليعرف حقّ الله فيها، وليجتهد في إصلاح قصده وتنظيم وقته وليدأب في القراءة والبناء حتى يصل إلى غايته بإذن الله.

وليعلم أنّ المسارات أمامه متعددة، وقد عرّفت ببعض طرق أهل العلم في بناء أصولهم العلمية وللطالب أن يختار أوفقها له وأيسرها عليه وأحسنها أثراً في بنائه العلمي، وطلاب العلم في هذا العصر ينبغي لهم أن يُعنوا بالاستفادة من تقنية المعلومات في بناء أصولهم العلمية وتحسينها، والله الموفّق.