12 Jan 2018
الدرس السادس: بيان أغراض التأليف
عناصر الدرس:
1. تمهيد
2. أقوال العلماء في أغراض التأليف
3. تداخل الأغراض
4. أنواع المصادر العلمية
5. أنواع المسائل العلمية وأصول نشأتها.
تمهيد
من الأمور المعينة على إحسان القراءة أن يعرف القارئ أغراض المؤلفين من أهل العلم، ومسالكهم في تآليفهم، ولكل مسلك مقوّماته ومهاراته التي يتفاضل فيها المؤلفون، وتتفاوت رتبهم.
وقد كان الغرض
الأهمّ للكتابة في أوّل الأمر ضبط العلم بالكتابة لئلا يُنسى، فلما كثرت
المرويات والمسائل في صحف كثيرة متفرقة، دعت الحاجة إلى الجمع والتصنيف
والترتيب، فلما كان في بعضها ما يوجب الفحص والتمييز وكشف الخطأ والتصحيف
دعت الحاجة إلى التأليف في نقد المرويات وكشف العلل وتبيين الخطأ، فلما كان
في بعضها ما يحتاج إلى شرح وتوضيح واستدراك وتتميم دعت الحاجة إلى التأليف
في شرح الكتب وتتميمها، فلما كثرت الشروح وتنوّعت المؤلفات في العلم
الواحد دعت الحاجة إلى اختصار المختصرات الجامعة، ثمّ احتيج إلى شرح بعض
تلك المختصرات. ولم تزل الحاجة إلى
التأليف تتجدّد وتتوسّع،ومقاصد المؤلفين تتعدد غير أنّ أصولها أربعة ذكرها
ابن فارس في كتابه "الصاحبي في فقه اللغة" بقوله: (وإنما لنا فيه اختصار
مبسوط، أو بسط مختصر، أو شرح مشكل، أو جمع متفرق)ا.هـ. أقوال العلماء في أغراض التأليف: وقد حصر بعض العلماء أغراض التأليف في ثمانية، وحصرها بعضهم في سبعة: 1. فقال جمال الدين القاسمي في "قواعد التحديث" : ( قد قالوا: ينبغي أن لا
يخلو تصنيف من أحد المعاني الثمانية التي تصنف لها العلماء وهي: اختراع
معدوم، أو جمع مفترق، أو تكميل ناقص، أو تفصيل مجمل، أو تهذيب مطول، أو
ترتيب مخلط، أو تعيين مبهم، أو تبيين خطأ، كذا عدها أبو حيان، ويمكن
الزيادة فيها)ا.هـ. ولم أقف على موضع عدّها عند أبي حيان. 2. وقال ابن حزم -
كما في مجموع رسائله - : (وإنما ذكرنا التآليف المستحقة للذكر، والتي تدخل
تحت الأقسام السبعة التي لا يؤلف عاقل إلا في أحدها، وهي: - إما شيء لم يسبق إليه يخترعه. - أو شيء ناقص يتمه. - أو شيء مستغلق يشرحه. - أو شيء طويل يختصره دون أن يخل بشيء من معانيه. - أو شيء متفرق يجمعه. - أو شيء مختلط يرتبه. - أو شيء أخطأ فيه مؤلفه يصلحه. وأما التآليف المقصرة عن مراتب غيرها فلم نلتفت إلى ذكرها، وهي عندنا من تأليف أهل بلدنا أكثر من أن نحيط بعلمها)ا.هـ. 3. وقال المقري في
أزهار الرياض: (رأيت بخط بعض الأكابر ما نصه: المقصود بالتأليف سبعة: شيء
لم يسبق إليه فيؤلف، أو شيء ألف ناقصا فيكمل، أو خطأ فيصحح، أو مشكل فيشرح،
أو مطول فيختصر، أو مفترق فيجمع، أو منثور فيرتب. وقد نظمها بعضهم فقال:
ألا فاعلمنْ أنَّ التآليف سبعة ... لكل لبيب في النصيحة خالصِ
فشرح لإغلاق وتصحيح مخطئ ... و إبداع حَبر مُقْدِمٍ غير ناكِصِ
و ترتيب منثور وجمع مفرَّق ... وتقصير تطويل وتتميم ناقصِ).
4. وقال ابن خلدون في مقدمته: (ثم إن الناس حصروا مقاصد التأليف التي ينبغي اعتمادها وإلغاء ما سواها، فعدوها سبعة:
أولها: استنباط العلم بموضوعه وتقسيم أبوابه وفصوله وتتبع مسائله، أو استنباط مسائل ومباحث تعرض للعالم المحقق، ويحرص على إيصاله بغيره، لتعم المنفعة به فيودع ذلك بالكتاب لعل المتأخر يظهر على تلك الفائدة، كما وقع في الأصول في الفقه. تكلم الشافعي أولاً في الأدلة الشرعية اللفظية ولخصها، ثم جاء الحنفية فاستنبطوا مسائل القياس واستوعبوها، وانتفع بذلك من بعدهم إلى الآن.
وثانيها: أن يقف على كلام الأولين وتآليفهم فيجدها مستغلقة على الأفهام ويفتح الله له في فهمها فيحرص على إبانة ذلك لغيره ممن عساه يستغلق عليه، لتصل الفائدة لمستحقها. وهذه طريقة البيان لكتب المعقول والمنقول، وهو فصل شريف.
وثالثها: أن يعثر المتأخر على غلط أو خطإ في كلام المتقدمين ممن اشتهر فضله وبعد في الإفادة صيته، ويستوثق في ذلك بالبرهان الواضح الذي لا مدخل للشك فيه، فيحرص على إيصال ذلك لمن بعده، إذ قد تعذر محوه ونزعه بانتشار التأليف في الآفاق والأعصار، وشهرة المؤلف ووثوق الناس بمعارفه، فيودع ذلك الكتاب ليقف على بيان ذلك.
ورابعها: أن يكون الفن الواحد قد نقصت منه مسائل أو فصول بحسب انقسام موضوعه فيقصد المطلع على ذلك أن يتمم ما نقص من تلك المسائل ليكمل الفن بكمال مسائله وفصوله، ولا يبقى للنقص فيه مجال.
وخامسها: أن يكون مسائل العلم قد وقعت غير مرتبة في أبوابها ولا منتظمة، فيقصد المطلع على ذلك أن يرتبها ويهذبها، ويجعل كل مسألة في بابها، كما وقع في المدونة من رواية سحنون عن ابن القاسم، وفي العتبية من رواية العتبي عن أصحاب مالك ، فإن مسائل كثيرة من أبواب الفقه منها قد وقعت في غير بابها فهذب ابن أبي زيد المدونة وبقيت العتبية غير مهذبة. فنجد في كل باب مسائل من غيره. واستغنوا بالمدونة وما فعله ابن أبي زيد فيها والبرادعي من بعده.
وسادسها: أن تكون مسائل العلم مفرقة في أبوابها من علوم أخرى فيتنبه بعض الفضلاء إلى موضوع ذلك الفن وجميع مسائله، فيفعل ذلك، ويظهر به فن ينظمه في جملة العلوم التي ينتحلها البشر بأفكارهم، كما وقع في علم البيان. فإن عبد القاهر الجرجاني وأبا يوسف السكاكي وجدا مسائله مستقرية في كتب النحو وقد جمع منها الجاحظ في كتاب البيان والتبيين مسائل كثيرة، تنبه الناس فيها لموضوع ذلك العلم وانفراده عن سائر العلوم، فكتبت في ذلك تآليفهم المشهورة، وصارت أصولاً لفن البيان، ولقنها المتأخرون فأربوا فيها على كل متقدم.
وسابعها: أن يكون الشيء من التآليف التي هي أمهات للفنون مطولاً مسهباً فيقصد بالتأليف تلخيص ذلك، بالاختصار والإيجاز وحذف المتكرر، إن وقع، مع الحذر من حذف الضروري لئلا يخل بمقصد المؤلف الأول.
فهذه جماع المقاصد التي ينبغي اعتمادها بالتأليف ومراعاتها. وما سوى ذلك ففعل غير محتاج إليه وخطأ عن الجادة التي يتعيّن سلوكها في نظر العقلاء، مثل انتحال ما تقدم لغيره من التآليف أن ينسبه إلى نفسه ببعض تلبيس، من تبديل الألفاظ وتقديم المتأخر وعكسه، أو يحذف ما يحتاج إليه في الفن أو يأتي بما لا يحتاج إليه، أو يبدل الصواب بالخطأ، أو يأتي بما لا فائدة فيه. فهذا شأن الجهل والقحة)ا.هـ.
وأوصلها صديق حسن خان إلى سبعة عشر مقصداً في مقدمة كتابه "أبجد العلوم"؛ فأضاف: نثر المنظوم، ونظم المنثور، والترجمة، وتجريد الزائد، والردّ على الشبهة، وتصحيح الكتب وتحقيقها، وبناء أصل من أبواب متفرقة، ونحو ذلك.
وهي لا تخرج عند التحقيق عما تقدّم.
تداخل الأغراض:
والكلام في الأغراض العامة للتأليف لا يقتضي تمحّض كلّ كتاب إلى غرض منها، بل قد يكون في بعض الكتب ما يجمع غرضين أو أكثر.
وهذه الأغراض تدلّ على أنّّ غالب مؤلفات أهل العلم تعتمد على مؤلفات سابقة، وأنّ الأصل في العلم الاتبّاع، وأخذ اللاحق عن السابق، وأن التأليف الذي يكون لسدّ حاجة طلاب العلم ولو بغرض من هذه الأغراض معدود من التآليف النافعة إذا أحسن فيه صاحبه.
وما كان من المؤلفات فيه اختراع وابتكار؛ فإنما سمّي اختراعاً لأنه أتى فيه بجانب جديد، فوَجْهُ الاختراع إنما هو في جانب منه يتعلّق بترتيبه أو تصنيفه أو تقريب فهمه، وأمّا سائر ما تتضمّنه تلك الكتب الموصوفة بالاختراع فهو معلومات مأثورة، وربما كان كثير منها مبثوثاً معروفاً.
- فابتكار الخليل بن أحمد لعلم العروض هو من جهة ضبط أوزان بحور الشعر وما يدخلها من علل، وأمّا بحور الشعر نفسها فهي معروفة قبل زمن الخليل، وكانت العرب تدرك الفروق بينها، وقد كانوا يتعلمون الشعر ويعلّمونه، ومن الأدلّة على أنّ الشعر يُعلّم قول الله تعالى: {وما علّمناه الشعر وما ينبغي له} فلمّا خصّ النبي صلى الله عليه وسلم بنفي تعليمه الشعر بقي غيره على إمكان التعليم.
وقال الشاعر:
وكم علّمته نظم القوافي .. فلمّا قال قافية هجاني
ومن المعلوم أنهم لا يعلّمون الشعر إلا بأوزانه وبحوره، لكن كانت طريقتهم في تعليمه مختلفة، فأتي الخليل بابتكار الأوزان العروضية لأنها أيسر وأضبط.
- وكذلك وَضْعُ الشافعيّ لعلم أصول الفقه، لم يأت فيه بأحكام غير مستعملة في الشرع وفي فتاوى أهل العلم قبله، وإنما سبر تلك الأحكام واستخرج أنواعها وأمثلتها، ونظر في استدلالات أهل الفتوى من الصحابة والتابعين وتابعيهم فيما أثر عنهم من المسائل والاستدلالات، وعرف أصولهم ومناهجهم، وصنّف تلك المسائل وقسّمها وشرحها، وبيّن أحوالها وشرائطها، وأجاد في تقسيمها وتبيينها؛ فوضع بذلك علم أصول الفقه، وقد عدّه الإمام أحمد مجدّد القرن الثاني لما أتى به من بيانٍ حَسَنٍ لأدلة الشريعة وأحوالها وأحكامها.
والمقصود التنبيه إلى أنّ علوم الشريعة واللغة العربية لا يُؤتى فيها بعلم يُنشأ بمسائله بحيث لا يكون له أصل في الشريعة ولا في اللغة.
وقال صديق حسن خان القنوجي: (اعلم أن كتب العلم كثيرة لاختلاف أغراض المصنفين في الوضع والتأليف ولكن تنحصر من جهة المعنى في قسمين:
الأول: إما أخبار مرسلة وهي كتب التواريخ وإما أوصاف وأمثال ونحوها قيَّدها النظم وهي دواوين الشعر.
والثاني: قواعد علوم وهي تنحصر من جهة المقدار في ثلاثة أصناف:
الأول: مختصرات تجعل تذكرة لرؤوس المسائل ينتفع بها المنتهي للاستحضار وربما أفادت بعض المبتدئين الأذكياء لسرعة هجومهم على المعاني من العبارات الدقيقة.
والثاني: مبسوطات تقابل المختصرات وهذه يُنتفع بها للمطالعة.
والثالث: متوسّطات وهذه نفعها عام)ا.هـ.
أنواع المصادر العلمية:
إذا تبيّن ما تقدّم
عرفت أنّ كثيراً من المسائل العلمية التي يذكرها أهل العلم في كتبهم لها
أصول سابقة، وأن المصادر التي يرجع إليها أهل العلم على ثلاثة أصناف:
الصنف الأول: مصادر أصلية، وهي المصادر التي تروي الدلائل والأقوال بالإسناد، وهذا يكون في علوم الشريعة وفي علوم اللغة:
- فأمّا علوم الشريعة فمصادرها الأصلية هي التي تروي الأحاديث والآثار وأقوال السلف بالأسانيد، وهذه المرويات شاملة لما يُروى في علوم الشريعة من التفسير والحديث وشرحه والعقيدة والفقه والسلوك.
- وأمّا علوم اللغة فمصادرها الأصلية هي تلك التي يروي أصحابها عن أئمة اللغة المتقدمين والأعراب والشعراء المحتجّ بكلامهم بالأسانيد.
والصنف الثاني: المصادر البديلة، وهي التي تنقل عن مصادر أصلية مفقودة.
والصنف الثالث: مصادر ناقلة، وهي التي تنقل عن كتب الصنفين السابقين.
وليُعلم أنّ هذا التقسيم إنما هو باعتبار كلّ مسألة، ولذلك فإنه قد يجتمع في الكتاب الواحد أن يكون مصدراً أصيلا وبديلاً وناقلاً، فيكون أصيلاً في المسائل التي يرويها صاحب الكتاب بإسناده، وبديلاً إذا نقل عن كتاب أصيل مفقود، وناقلاً فيما ينقله منهما.
أنواع المسائل العلمية وأصول نشأتها:
ثمّ إنّ الكلام في المسائل العلمية على نوعين:
النوع الأول: عمدته النقل، ويدخله الاجتهاد من جهة التثبّت من صحة النقل، وتمييز الصحيح من الضعيف، وما ثبت مما لم يثبت.
والنوع الثاني: عمدته الفهم، وهذا النوع قائم على الاجتهاد في فهم الأدلة والشواهد، واستخراج الأحكام منها، وكشف العلل، وتبيين الخطأ، والجمع والترجيح بين الأقوال.
ولذلك قد يكون لدى بعض أصحاب المصادر الناقلة من حسن الفهم والتحرير والبيان ما لا يجده الباحث في كثير من المصادر الأصلية، ولذلك كان الأولى لطالب العلم المبتدئ أن يبدأ بمختصر جامع ميسّر للعلم الذي يطلبه قبل أن ينتقل إلى القراءة في مصادره الأصلية.
لكن من فقه القارئ أن يعلم أن خطته في القراءة ينبغي أن تقوده إلى قراءة المصادر الأصلية لذلك العلم الذي يطلبه؛ فيلحظ عند قراءته في المصادر الناقلة أمرين:
الأمر الأول: ما اعتمد عليه المؤلفون مِن كُتُبِ مَنْ سَبقهم.
والأمر الثاني: ما أضافوه من حسن البيان والتحرير مما منّ الله عليهم بفهمه.
فأمّا الأمر الأول فتسلسل الخطة في القراءة ينبغي أن يوصله إلى أصول نشأة المسائل في ذلك العلم، فيعرف منشأ مسائله وكيف تناقلها أهل العلم وتدارسوها.
وأمّا الأمر الثاني فيفيده في تقوية ملكته في فهم المسائل العلمية، وأن يعرف موارد الاجتهاد في دراسة المسائل وكيف يستفيد من دراسة المسألة الواحدة في نظائرها.
ومن كان هذا شأنه ربما فَتحت عليه جملةٌ يقرأها أو كلمةٌ يسمعها أبواباً من العلم، كما قال عكرمة مولى ابن عباس: « إني لأخرج إلى السوق، فأسمع الرجل يتكلم بالكلمة فينفتح لي خمسون باباً من العلم ». رواه ابن سعد في الطبقات من طريق ابن علية عن أيوب عن عكرمة، وهذا إسناد صحيح.