20 Jan 2018
الدرس السابع: تحليل عملية الكتابة وبيان أثرها في تنظيم القراءة
عناصر الدرس:
1. تمهيد
2. إيجاز بيان مراحل عملية الكتابة
3. شرح مراحل عملية الكتابة
4. تفاضل العلماء في المراحل الثلاث
5. فائدة معرفة مراحل عملية الكتابة
تمهيد:
من الأمور المهمّة في فقه القراءة أن يدرك القارئ المراحل التي تمرّ بها عملية الكتابة حتى تنتجَ المعرفةَ للقارئ، ومعرفة هذه المراحل بشيء من التفصيل تعرّف طالب العلم بمعايير تقويم الكتاب، وتكشف له قيمته المعرفية، وتعينه على الانتفاع من جوانب الإجادة والإحسان لدى الكاتب، وتبصّره بطرق تحصيل المعارف والمهارات التي يتمكن بها من تحسين الكتابة، وتنظيم القراءة، وبناء الأصول العلمية.
إيجاز بيان مراحل عملية الكتابة:
الكتاب مُنتَج معرفي، وعملية الكتابة التي تُنتج المعرفةَ هي كسائر العمليات الإنتاجية لها ثلاث مراحل رئيسة: المرحلة الأولى: مرحلة الاستمداد المعرفي والمرحلة الثانية: مرحلة المعالجة العلمية والمرحلة الثالثة: مرحلة الإنتاج والعرض فالكتاب وإن بدا
للقارئ في صورة المُنتَج النهائي إلا أنّه ينبغي أن يدرك أنه قد مرّ بهذه
المراحل الثلاث، فلا بدَّ له من استمداد يستمدّ منه الكاتب المعلومات
الأولية لمادّة الكتاب، ومعالجة علمية لتلك المعلومات الأولية؛ حتى يخرج
بالنتيجة التي ظهرت له في الكتاب. شرح مراحل عملية الكتابة: المرحلة الأولى: مرحلة الاستمداد المعرفي الكاتب يبني كتابه على معلومات أوّلية يستمدّها من أحد طريقين: الطريق الأول: مصادر
مكتوبة أو محفوظة، وتشمل الكتبَ التي يرجع إليها، والمعلوماتِ التي حفظها
بنصّها من أشياخه، فهي بالنسبة له معلومات أولية قبل أن تدخل مرحلة
المعالجة العلمية. والطريق الآخر: المخزون
المعرفي المتراكم لدى الكاتب من خبرة سنوات طويلة من الاطلاع على كتب ذلك
العلم، وإعمال الذهن في دلائله ومسائله، وتفهّم أصوله وقواعده، وإجراء
البحوث العلمية، ومناقشة المختصين به؛ فتحصل له خبرة ومعرفة متراكمة يصل
بها إلى إحسان تصوّر مسائل ذلك العلم والبيان عنها بأسلوبه دون الحاجة إلى
الاعتماد على مصادر حاضرة ينقل منها، ويكون بيانه عنها منضبطاً بأصول ذلك
العلم وقواعده وطريقة أهله في جملة الأمر. وربما لو سُئل عن
مصدر بعض كلامه في بعض المسائل لم يجد له أثراً عمّن سبقه بالتفصيل الذي
أتى به، لكنّه موافق لمجموع كلام العلماء في ذلك العلم، وسبب ذلك أنّه حصل
له بفهم مسائل ذلك العلم، وجمع النظائر والموازنة بين المسائل والأحوال
وإدراك الفروق المؤثرة بينها ما أوصله إلى حسن تصور تلك المسائل وجودة
البيان عنها. وهذا من الفهم في
العلم الذي يؤتيه الله من يشاء، ولذلك يتناقل العلماء عبارات مشتهرة عن بعض
الأئمة في بعض المسائل لما تضمنته من حسن البيان وجودة التفصيل، وإن كانت
دلائل تلك الأقوال ظاهرة لدى أهل ذلك العلم، لكن لما أتوا بعبارات حسنة
جامعة اكتسبت تلك الأقوال شهرة وقبولاً. والمقصود أن من
الكُتّاب من يكون أكثر اعتماده في الكتابة على ما تحصّل لديه من مخزون
معرفي متراكم في ذلك العلم، وهو مخزون مترسّخ في الذهن لا يقتضي أن يكون
مكتوباً. والعلماء يتفاضلون في طريقَي الاستمداد تفاضلاً كبيراً، ويظهر أثرُ هذا التفاضل في كتبهم ورسائلهم وسائر مخرجاتهم العلمية. فأمّا التفاضل في المخزون المعرفي فسبق شرحه، وأما التفاضل في الاطلاع على المصادر فيكون في جانبين: أحدهما: تميّز الاطلاع والآخر: سعة الاطلاع وتميز الاطلاع يُعرف بأمرين: الأمر الأول: النقل عن أولى مَن يُنقل عنه في ذلك العلم من الأئمة فلا تجد الكاتبَ حاطبَ ليلٍ؛ جمّاعا قمّاشا بلا تمييز. والأمر الثاني:
إيراد نقول مهمة عن علماء متمكنين من غير مظانها أو مما لا يحصل إلا بجهد
كبير، وهذا أمر يدلّ دلالة بيّنة على تميّز الاطلاع لدى الكاتب، وحرصه على
تتبّع النقول عن أولى من ينقل عنه من العلماء في المسائل التي يبحثها. وسعة الاطلاع تُعرف بأمرين: الأمر الأول: ثراء المخزون المعرفي لدى الكاتب بما يدلّ على كثرة قراءته وتنوّعها في ذلك العلم. والأمر الثاني: كثرة إيراد النقول عن العلماء؛ فتجده إذا تكلم في مسألة أورد من النقول ما يدل على سعة اطلاعه. وسعة الاطلاع عنصر
مهم من عناصر القوة العلمية لدى المؤلّف، لكن من المؤلفين من يكون قمَّاشاً
لما تقع عليه عينه؛ فيورد الغث والسمين بلا تمييز، ومنهم من يكون لديه
تمييز في الاطلاع؛ فإذا بحث مسألة رجع فيها إلى أئمة ذلك العلم الذين لهم
فيه مؤلفات معتمدة، وقد ينتقي من غيرها ما يصلح دون ما لا يصلح؛ فتجده
ينقُل وينقُد، وإذا أورد ما قد يستنكر؛ فإما أن ينكره أو يفسّره بما يزيل
النكارة. وتجد هذا ظاهراً في
المسائل الكبار التي تتضمن مسائل فرعية يتعلق بعضها بالمفردات اللغوية،
وبعضها بالنحو والصرف، وبعضها بالاعتقاد، وبعضها بالفقه، وبعضها بأصول
الفقه، وهذا يقع كثيراً في مسائل التفسير وشروح الأحاديث؛ فتجده يرجع في
مسائل اللغة إلى كلام المحققين من علماء اللغة، وفي مسائل النحو والصرف إلى
كبار النحاة، وفي مسائل الاعتقاد إلى الأئمة المتقدمين فيه، وفي مسائل
الفقه إلى الأئمة الفقهاء، وهكذا. فهذا الصنف من
العلماء مؤلفاتهم نافعة جداً لطالب العلم لأنها تعرّف طالب العلم بالعلماء
الذين يرجع إلى كلامهم في كلّ مسألة تعرض له. وأما الذي لا يميّز
مراتب العلماء ولا مراتب الكتب ولا مراتب الرواة عن الأئمة، ولا يتفطّن
لعلل المرويات، بل يورد ما صحّ وما لا يصحّ، بل قد يورد من الغرائب
والمنكرات ما يُتعجّب منه، فهؤلاء يَنتفع بمؤلفاتهم مَن يكونُ لديه تمييز
حسن يفرّق به بين ما يُقبل وما لا يُقبل. ومن المؤلفين من
يكون لديه تمييزٌ حسنٌ في علم من العلوم، وضعفُ تمييزٍ في علوم أخرى؛ فإذا
تكلّم فيما يتّصل بفنّه كان كلامه محرراً سديداً، وإذا تكلّم في غير فنّه
أتى بالعجائب؛ فهذا يُنتفع بكلامه فيما أحسن فيه. ومِنْ فِقْهِ طالب العلم أن يعلمَ
أن العالم المتمكن في فنّ من فنون العلم إذا أثنى على كتاب في ذلك الفن فهي
شهادة قيّمة لذلك الكتاب؛ فيحرص على قراءته والاستفادة منه، لكن إذا أثنى
على كتاب في علم تبيَّن للقارئ أن الكاتبَ غير مجيد له؛ فلا يقتضي ذلك حسن
الكتاب بل غاية ما يدل عليه أنه أعجب الكاتبَ، وهو كتاب في فنٍّ لا يجيده،
وإنما يؤخذ كل علم عن أهله. وينبغي لطالب العلم أن يعوّد نفسه على أخذ أحسن ما في الكتاب إما من مقاصده
وإمّا من دلائله اهتداء بقول الله تعالى: {فبشر عباد الذين يستمعون القول
فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأؤلئك هم أولوا الألباب}. - فمن كتب أهل العلم كتُبٌ قوّتها العلمية فيما تتضمنه من مباحث جليلة القدر، عظيمة النفع. - ومنها كتب قوتها في حسن دلائلها على كتبٍ وأقوال نفيسة لبعض العلماء. - ومنها كتب جمعت بين الحسنيين. وهذا ميدان
فسيح لو تأمله طالب العلم لوجد في مؤلفات العلماء جوانب من التميز تفيده
فوائد علمية جليلة فيما يحتاج إليه، وتعينه على تنظيم قراءته. وخلاصة الأمر في شأن الاطلاع لدى المؤلفين أنهم على أربع مراتب: المرتبة الأولى: من
لديه اطلاع واسع متميز ومخزون معرفي كبير، وهذه أعلى مراتب التحصيل العلمي
لمادة الكتاب، وقلَّ من يحققها على الدرجات العالية، وإذا ظفرت بكاتب مجيد
في هذه المرتبة في أيّ علم من العلوم؛ فعليك بكتبه؛ فإنه يقودك إلى
التحقيق بجودةِ بيانه وحسن إرشاده. المرتبة الثانية: من لديه اطلاع متميز غير واسع؛ فهذا مؤلفاته مفيدة أيضاً، وقد تكون أكثر مناسبة للمبتدئ؛ لأنه غالباً ما يذكر الفائدة ملخّصة مركّزة بأسلوب يناسب المبتدئ. المرتبة الثالثة: من لديه اطلاع واسع غير متميز، وهؤلاء
يَنتفع بكتبهم مَن لديه تحصيل علمي جيد يتمكّن به من تمييز ما يصحّ مما لا
يصحّ؛ فيجد في كتبهم من الجمع ما يختصر عليه كثيراً من الجهد والوقت. والمرتبة الرابعة: من
ليس لديه اطلاع واسع ولا متميز، فهؤلاء مادتهم المصدرية ضعيفة غالباً، لكن
هذا لا يقتضي سقوط المؤلف والإعراض عن كتبه، فقد يكون لدى بعضهم تميّز في
المعالجة العلمية لفرط ذكاء أو توفيق في جوانب يأتون فيها على سدّ حاجة
طلاب العلم؛ فيكون في كتاباتهم ما ينفع طلاب العلم على ضعف استمدادهم
المعرفي. المرحلة الثانية: مرحلة المعالجة العلمية: والمقصود بالمعالجة
العلمية ما يجريه الكاتب على المعلومات الأولية من أعمال متنوّعة لتحقيق
مقصده من تأليف الكتاب، والمؤلفون يستخدمون أدوات علمية كثيرة في تلك
المعالجة، ويسلكون فيها مسالك مختلفة، ويقع بينهم من التفاضل والتفاوت ما
هو ظاهر معروف. ومن المهمّ للقارئ اللبيب أن يلحظ جوانب الإجادة والإحسان في المعالجة العلمية لدى الكاتب الذي يقرأ في كتابه. والمداومة على
ملاحظة هذه الأمور واستكشاف الأدوات العلمية التي يستعملها الكاتب ويبرع
فيها تعينه على تنمية مهاراته في استعمال تلك الأدوات ومحاولة محاكاته
فيها، وقد تفتح له باباً لمسلك من مسالك المعالجة العلمية يجد في نفسه
مهارة عالية فيها. وأعمال المعالجة العلمية في كتب علماء الشريعة واللغة العربية يمكن تقسيمها إلى أقسام: القسم الأول: الفحص والتدقيق، والمقصود به فحص المعلومات الأولية، وتمييز صحيحها من ضعيفها، ومقبولها من مردودها. والقسم الثاني: الاستدلال والتأصيل، والمقصود به تأصيل المعلومات الأولية الصحيحة بإرجاعها إلى أصولها، وإقامة الأدلة عليها. والقسم الثالث: الانتقاء والتصنيف، ويراد به تصنيف المعلومات المنتقاة وترتيبها لغرض التقريب والتيسير. والقسم الرابع:
الدراسة والتحليل، وهذا يكون في المسائل التي يُحتاج فيها إلى دراسة
لعناصرها، وتحليل لتمييز مواضع اللبس والاشتباه، وتحرير محل النزاع، وجمع
الأدلة والحجج المتعلقة بالمسألة وعلل الاستدلال حتى يصل إلى ما يمكن من
الجمع والترجيح. والقسم الخامس:
السبر والتقسيم، وهو من أهمّ الأدوات التي يحتاج إليها المؤلفون، وله
استخدامات متنوعة، وقد برع فيه جماعة من العلماء، حتى إن منهم من يعرض
للمسألة المشكلة التي تختلف فيها الأنظار وتكثر فيها الأقوال وتشتمل على
أحوال مختلفة، فينعم النظر فيها حتى يصل إلى مورد التقسيم الصحيح؛ فيقسّم
أحوال المسألة أو الأقوال فيها فيسهل فهمها، ويحسُن تصوّرها. والقسم السادس:
التتبع والتقصي والإحصاء، وهذا يكون غالباً لغرض إجابة سؤال يُحتاج فيه
إلى تتبّع وإحصاء أو لإجراء بحث يُعتمد فيه على التتبع والإحصاء. والقسم السابع: التلخيص والاختصار، وهذا يكون عند إرادة اختصار كتاب مطوّل، أو وضع ملخّص مستفاد من كتب متعددة. والقسم الثامن:
التخريج والتحقق من صحة النسبة، وهو من المهارات العلمية التي يمتاز بها
الحاذقون من المؤلفين؛ فتجدهم يولون التحقق من صحة النسبة عناية حسنة، ومن
كان مقصراً في هذا الأمر ربما أورد في كتابه أقوالاً منسوبة لعلماء تقليداً
لغيره من غير وقوف منه على مصدر تلك النسبة وصحتها. والقسم التاسع: توجيه
أقوال العلماء، والمقصود به بيان وجه قول العالم في المسأله، وتبيين وجه
استدلاله وما يمكن أن يُحمل عليه قوله، وهذه المهارة برع فيها جماعة من
العلماء، وعناية طالب العلم بها تفيده فوائد جليلة في دراسته لمسائل العلم. والقسم العاشر: الاستنتاج والاستخراج، والمراد به إعمال الذهن في الأدلة والمعلومات الأولية واستنتاج المسائل والأحكام والفوائد. وهذه الأقسام هي
أهم ما يكون من أعمال المعالجة العلمية التي يقوم بها المؤلفون من أهل
العلم، وهي عمدة العمل العلمي في الكتاب، والبارعون في شأن المعالجة
العلمية هم غالباً من أصحاب التحرير العلمي للمسائل، وكتبهم من أنفع الكتب
وأحسنها. المرحلة الثالثة: مرحلة الإنتاج المعرفي والعرض: بعد مرحلتي
الاستمداد والمعالجة العلمية لا بد للكاتب من عرض ما خرج به في كتابه،
ومرحلة العرض وإن كانت هي أول ما يقع عليه نَظَرُ القارئ إلا أنّها آخر ما
يؤدّيه الكاتب، فقد يقوم بأعمال كثيرة في مسودة بحثه ثم يجري عليه من
التغيير والتعديل في مرحلة العرض ما يرجو أن يصل به إلى أحسن ما يمكن من
صور تقديم الكتاب للقارئ. والكلام في مرحلة العرض قائم على عنصرين مهمّين: أحدهما:
الأسلوب، والمقصود به لغة الكاتب في كتابه، والألفاظ والعبارات التي
يستعملها في كتابه؛ ومن سعادة الكاتب أن يُرزق أسلوباً سهلاً واضحاً
ممتعاً. فسهولة الأسلوب تكون باستعمال العبارات السهلة القريبة من أفهام القراء. ووضوحه يكون بأداء المعنى الذي يريد إيصاله بعبارات لا لبس فيها ولا تعقيد. ومتعة الأسلوب تكون بتحلية الكتاب بما يجذب القارئ لمواصلة القراءة في الكتاب. والعنصر الثاني:حسن العرض لمادة الكتاب، وهو قائم على ترتيب الأفكار ، وجودة الإخراج. فمن الكتّاب من
يكون في كتابه من الحسن والترتيب والوضوح ما يغني عن شرحه، ومنهم من يكون
في كتبه ما يحتاج معه القارئ المبتدئ والمتوسط إلى طلب الشرح والتوضيح مع
قوة مادته العلمية، وذلك لأنّ أسلوب الكاتب أو طريقة عرضه لمادة الكتاب
فيها صعوبة على بعض القرّاء. تفاضل العلماء في المراحل الثلاث: العلماء يتفاضلون
في المراحل الثلاث المتقدّم ذكرها، وأحسنهم رتبة في التأليف من كان تأليفه
في الذروة العليا في تلك المراحل، ومنهم من يكون متقدما في بعضها، ومقصّراً
في بعضها، وقد يكون لديه ما يُعذر به، لكن القارئ اللبيب هو الذي يميز
جوانب الإجادة والإحسان لدى الكتاب ويستفيد منها في تأليفه وكتاباته، وفي
دراسته للمسائل العلمية، فإنه إذا عرف براعة بعض المؤلفين في بعض ما يحتاج
إليه من أوجه الدراسة ومراحلها حرص على الرجوع إلى كتبهم والاستفادة من
طرقهم في دراسة تلك المسائل. وينبغي أن يتنبّه القارئ إلى أمرين مهمين: أحدهما:
أن بعض العلماء كثير التأليف مجيد لعلوم كثيرة؛ فلا يتعجل طالب العلم
بالحكم على جوانب القوة العلمية لديه من كتاب أو كتابين من كتبه، بل ينبغي
أن يستقرئ غالب كتبه ليتبيَّن بجلاء جوانب القوة العلمية لديه، وما يحصل
بين تآليفه من تفاوت فيها، أو يأخذ بيان جوانب القوة العلمية لديه من عالم
يثق به قرأ كتب ذلك الكاتب وسبر غورها، واعتنى بها جيداً. والأمر الآخر:
أن العالِمَ المشاركَ في علوم متعددة يكون لديه من التفاوت في إتقانها ما
هو ظاهر للقارئ البصير؛ فيجده إماماً مقدماً في بعض العلوم، ومجتهداً
مشاركاً في بعضها، وهذا يفيده في معرفة طبقات العلماء في العلم الذي يدرسه،
وهي مَلَكَةٌ يحتاجها طالب العلم المتقدم كثيراً. ومن العلماء من يكون بين المؤلفات التي كتبها في أوّل شبابه وبين المؤلفات
التي كتبها بعد النضج العلمي تفاوت ظاهر من حيث جودة التأليف فائدة معرفة مراحل عملية الكتابة: فهم هذه المراحل
يفيد في معرفة ما يتميز به الكاتب لأن جوانب قوته العلمية يمكن إرجاعها إلى
عنصر من هذه العناصر، ولبعض العلماء ملكات حسنة في جوانب من التأليف عظيمة
النفع لطلاب العلم، وقد روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال:
(قيمة كل امرئ ما يحسنه) وهذه الكلمة ميزان نقدي مهم في كثير من الأمور،
وهذا المعنى نظمه بعض الشعراء فيما أورده إبراهيم بن محمد البيهقي في
كتابه "المحاسن والمساوئ": الكتاب مُنتَج معرفي، وعملية الكتابة التي تُنتج المعرفةَ هي كسائر العمليات الإنتاجية لها ثلاث مراحل رئيسة: المرحلة الأولى: مرحلة الاستمداد المعرفي والمرحلة الثانية: مرحلة المعالجة العلمية والمرحلة الثالثة: مرحلة الإنتاج والعرض فالكتاب وإن بدا
للقارئ في صورة المُنتَج النهائي إلا أنّه ينبغي أن يدرك أنه قد مرّ بهذه
المراحل الثلاث، فلا بدَّ له من استمداد يستمدّ منه الكاتب المعلومات
الأولية لمادّة الكتاب، ومعالجة علمية لتلك المعلومات الأولية؛ حتى يخرج
بالنتيجة التي ظهرت له في الكتاب. شرح مراحل عملية الكتابة: المرحلة الأولى: مرحلة الاستمداد المعرفي الكاتب يبني كتابه على معلومات أوّلية يستمدّها من أحد طريقين: الطريق الأول: مصادر
مكتوبة أو محفوظة، وتشمل الكتبَ التي يرجع إليها، والمعلوماتِ التي حفظها
بنصّها من أشياخه، فهي بالنسبة له معلومات أولية قبل أن تدخل مرحلة
المعالجة العلمية. والطريق الآخر: المخزون
المعرفي المتراكم لدى الكاتب من خبرة سنوات طويلة من الاطلاع على كتب ذلك
العلم، وإعمال الذهن في دلائله ومسائله، وتفهّم أصوله وقواعده، وإجراء
البحوث العلمية، ومناقشة المختصين به؛ فتحصل له خبرة ومعرفة متراكمة يصل
بها إلى إحسان تصوّر مسائل ذلك العلم والبيان عنها بأسلوبه دون الحاجة إلى
الاعتماد على مصادر حاضرة ينقل منها، ويكون بيانه عنها منضبطاً بأصول ذلك
العلم وقواعده وطريقة أهله في جملة الأمر. وربما لو سُئل عن
مصدر بعض كلامه في بعض المسائل لم يجد له أثراً عمّن سبقه بالتفصيل الذي
أتى به، لكنّه موافق لمجموع كلام العلماء في ذلك العلم، وسبب ذلك أنّه حصل
له بفهم مسائل ذلك العلم، وجمع النظائر والموازنة بين المسائل والأحوال
وإدراك الفروق المؤثرة بينها ما أوصله إلى حسن تصور تلك المسائل وجودة
البيان عنها. وهذا من الفهم في
العلم الذي يؤتيه الله من يشاء، ولذلك يتناقل العلماء عبارات مشتهرة عن بعض
الأئمة في بعض المسائل لما تضمنته من حسن البيان وجودة التفصيل، وإن كانت
دلائل تلك الأقوال ظاهرة لدى أهل ذلك العلم، لكن لما أتوا بعبارات حسنة
جامعة اكتسبت تلك الأقوال شهرة وقبولاً. والمقصود أن من
الكُتّاب من يكون أكثر اعتماده في الكتابة على ما تحصّل لديه من مخزون
معرفي متراكم في ذلك العلم، وهو مخزون مترسّخ في الذهن لا يقتضي أن يكون
مكتوباً. والعلماء يتفاضلون في طريقَي الاستمداد تفاضلاً كبيراً، ويظهر أثرُ هذا التفاضل في كتبهم ورسائلهم وسائر مخرجاتهم العلمية. فأمّا التفاضل في المخزون المعرفي فسبق شرحه، وأما التفاضل في الاطلاع على المصادر فيكون في جانبين: أحدهما: تميّز الاطلاع والآخر: سعة الاطلاع وتميز الاطلاع يُعرف بأمرين: الأمر الأول: النقل عن أولى مَن يُنقل عنه في ذلك العلم من الأئمة فلا تجد الكاتبَ حاطبَ ليلٍ؛ جمّاعا قمّاشا بلا تمييز. والأمر الثاني:
إيراد نقول مهمة عن علماء متمكنين من غير مظانها أو مما لا يحصل إلا بجهد
كبير، وهذا أمر يدلّ دلالة بيّنة على تميّز الاطلاع لدى الكاتب، وحرصه على
تتبّع النقول عن أولى من ينقل عنه من العلماء في المسائل التي يبحثها. وسعة الاطلاع تُعرف بأمرين: الأمر الأول: ثراء المخزون المعرفي لدى الكاتب بما يدلّ على كثرة قراءته وتنوّعها في ذلك العلم. والأمر الثاني: كثرة إيراد النقول عن العلماء؛ فتجده إذا تكلم في مسألة أورد من النقول ما يدل على سعة اطلاعه. وسعة الاطلاع عنصر
مهم من عناصر القوة العلمية لدى المؤلّف، لكن من المؤلفين من يكون قمَّاشاً
لما تقع عليه عينه؛ فيورد الغث والسمين بلا تمييز، ومنهم من يكون لديه
تمييز في الاطلاع؛ فإذا بحث مسألة رجع فيها إلى أئمة ذلك العلم الذين لهم
فيه مؤلفات معتمدة، وقد ينتقي من غيرها ما يصلح دون ما لا يصلح؛ فتجده
ينقُل وينقُد، وإذا أورد ما قد يستنكر؛ فإما أن ينكره أو يفسّره بما يزيل
النكارة. وتجد هذا ظاهراً في
المسائل الكبار التي تتضمن مسائل فرعية يتعلق بعضها بالمفردات اللغوية،
وبعضها بالنحو والصرف، وبعضها بالاعتقاد، وبعضها بالفقه، وبعضها بأصول
الفقه، وهذا يقع كثيراً في مسائل التفسير وشروح الأحاديث؛ فتجده يرجع في
مسائل اللغة إلى كلام المحققين من علماء اللغة، وفي مسائل النحو والصرف إلى
كبار النحاة، وفي مسائل الاعتقاد إلى الأئمة المتقدمين فيه، وفي مسائل
الفقه إلى الأئمة الفقهاء، وهكذا. فهذا الصنف من
العلماء مؤلفاتهم نافعة جداً لطالب العلم لأنها تعرّف طالب العلم بالعلماء
الذين يرجع إلى كلامهم في كلّ مسألة تعرض له. وأما الذي لا يميّز
مراتب العلماء ولا مراتب الكتب ولا مراتب الرواة عن الأئمة، ولا يتفطّن
لعلل المرويات، بل يورد ما صحّ وما لا يصحّ، بل قد يورد من الغرائب
والمنكرات ما يُتعجّب منه، فهؤلاء يَنتفع بمؤلفاتهم مَن يكونُ لديه تمييز
حسن يفرّق به بين ما يُقبل وما لا يُقبل. ومن المؤلفين من
يكون لديه تمييزٌ حسنٌ في علم من العلوم، وضعفُ تمييزٍ في علوم أخرى؛ فإذا
تكلّم فيما يتّصل بفنّه كان كلامه محرراً سديداً، وإذا تكلّم في غير فنّه
أتى بالعجائب؛ فهذا يُنتفع بكلامه فيما أحسن فيه. ومِنْ فِقْهِ طالب العلم أن يعلمَ
أن العالم المتمكن في فنّ من فنون العلم إذا أثنى على كتاب في ذلك الفن فهي
شهادة قيّمة لذلك الكتاب؛ فيحرص على قراءته والاستفادة منه، لكن إذا أثنى
على كتاب في علم تبيَّن للقارئ أن الكاتبَ غير مجيد له؛ فلا يقتضي ذلك حسن
الكتاب بل غاية ما يدل عليه أنه أعجب الكاتبَ، وهو كتاب في فنٍّ لا يجيده،
وإنما يؤخذ كل علم عن أهله. وينبغي لطالب العلم أن يعوّد نفسه على أخذ أحسن ما في الكتاب إما من مقاصده
وإمّا من دلائله اهتداء بقول الله تعالى: {فبشر عباد الذين يستمعون القول
فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأؤلئك هم أولوا الألباب}. - فمن كتب أهل العلم كتُبٌ قوّتها العلمية فيما تتضمنه من مباحث جليلة القدر، عظيمة النفع. - ومنها كتب قوتها في حسن دلائلها على كتبٍ وأقوال نفيسة لبعض العلماء. - ومنها كتب جمعت بين الحسنيين. وهذا ميدان
فسيح لو تأمله طالب العلم لوجد في مؤلفات العلماء جوانب من التميز تفيده
فوائد علمية جليلة فيما يحتاج إليه، وتعينه على تنظيم قراءته. وخلاصة الأمر في شأن الاطلاع لدى المؤلفين أنهم على أربع مراتب: المرتبة الأولى: من
لديه اطلاع واسع متميز ومخزون معرفي كبير، وهذه أعلى مراتب التحصيل العلمي
لمادة الكتاب، وقلَّ من يحققها على الدرجات العالية، وإذا ظفرت بكاتب مجيد
في هذه المرتبة في أيّ علم من العلوم؛ فعليك بكتبه؛ فإنه يقودك إلى
التحقيق بجودةِ بيانه وحسن إرشاده. المرتبة الثانية: من لديه اطلاع متميز غير واسع؛ فهذا مؤلفاته مفيدة أيضاً، وقد تكون أكثر مناسبة للمبتدئ؛ لأنه غالباً ما يذكر الفائدة ملخّصة مركّزة بأسلوب يناسب المبتدئ. المرتبة الثالثة: من لديه اطلاع واسع غير متميز، وهؤلاء
يَنتفع بكتبهم مَن لديه تحصيل علمي جيد يتمكّن به من تمييز ما يصحّ مما لا
يصحّ؛ فيجد في كتبهم من الجمع ما يختصر عليه كثيراً من الجهد والوقت. والمرتبة الرابعة: من
ليس لديه اطلاع واسع ولا متميز، فهؤلاء مادتهم المصدرية ضعيفة غالباً، لكن
هذا لا يقتضي سقوط المؤلف والإعراض عن كتبه، فقد يكون لدى بعضهم تميّز في
المعالجة العلمية لفرط ذكاء أو توفيق في جوانب يأتون فيها على سدّ حاجة
طلاب العلم؛ فيكون في كتاباتهم ما ينفع طلاب العلم على ضعف استمدادهم
المعرفي. المرحلة الثانية: مرحلة المعالجة العلمية: والمقصود بالمعالجة
العلمية ما يجريه الكاتب على المعلومات الأولية من أعمال متنوّعة لتحقيق
مقصده من تأليف الكتاب، والمؤلفون يستخدمون أدوات علمية كثيرة في تلك
المعالجة، ويسلكون فيها مسالك مختلفة، ويقع بينهم من التفاضل والتفاوت ما
هو ظاهر معروف. ومن المهمّ للقارئ اللبيب أن يلحظ جوانب الإجادة والإحسان في المعالجة العلمية لدى الكاتب الذي يقرأ في كتابه. والمداومة على
ملاحظة هذه الأمور واستكشاف الأدوات العلمية التي يستعملها الكاتب ويبرع
فيها تعينه على تنمية مهاراته في استعمال تلك الأدوات ومحاولة محاكاته
فيها، وقد تفتح له باباً لمسلك من مسالك المعالجة العلمية يجد في نفسه
مهارة عالية فيها. وأعمال المعالجة العلمية في كتب علماء الشريعة واللغة العربية يمكن تقسيمها إلى أقسام: القسم الأول: الفحص والتدقيق، والمقصود به فحص المعلومات الأولية، وتمييز صحيحها من ضعيفها، ومقبولها من مردودها. والقسم الثاني: الاستدلال والتأصيل، والمقصود به تأصيل المعلومات الأولية الصحيحة بإرجاعها إلى أصولها، وإقامة الأدلة عليها. والقسم الثالث: الانتقاء والتصنيف، ويراد به تصنيف المعلومات المنتقاة وترتيبها لغرض التقريب والتيسير. والقسم الرابع:
الدراسة والتحليل، وهذا يكون في المسائل التي يُحتاج فيها إلى دراسة
لعناصرها، وتحليل لتمييز مواضع اللبس والاشتباه، وتحرير محل النزاع، وجمع
الأدلة والحجج المتعلقة بالمسألة وعلل الاستدلال حتى يصل إلى ما يمكن من
الجمع والترجيح. والقسم الخامس:
السبر والتقسيم، وهو من أهمّ الأدوات التي يحتاج إليها المؤلفون، وله
استخدامات متنوعة، وقد برع فيه جماعة من العلماء، حتى إن منهم من يعرض
للمسألة المشكلة التي تختلف فيها الأنظار وتكثر فيها الأقوال وتشتمل على
أحوال مختلفة، فينعم النظر فيها حتى يصل إلى مورد التقسيم الصحيح؛ فيقسّم
أحوال المسألة أو الأقوال فيها فيسهل فهمها، ويحسُن تصوّرها. والقسم السادس:
التتبع والتقصي والإحصاء، وهذا يكون غالباً لغرض إجابة سؤال يُحتاج فيه
إلى تتبّع وإحصاء أو لإجراء بحث يُعتمد فيه على التتبع والإحصاء. والقسم السابع: التلخيص والاختصار، وهذا يكون عند إرادة اختصار كتاب مطوّل، أو وضع ملخّص مستفاد من كتب متعددة. والقسم الثامن:
التخريج والتحقق من صحة النسبة، وهو من المهارات العلمية التي يمتاز بها
الحاذقون من المؤلفين؛ فتجدهم يولون التحقق من صحة النسبة عناية حسنة، ومن
كان مقصراً في هذا الأمر ربما أورد في كتابه أقوالاً منسوبة لعلماء تقليداً
لغيره من غير وقوف منه على مصدر تلك النسبة وصحتها. والقسم التاسع: توجيه
أقوال العلماء، والمقصود به بيان وجه قول العالم في المسأله، وتبيين وجه
استدلاله وما يمكن أن يُحمل عليه قوله، وهذه المهارة برع فيها جماعة من
العلماء، وعناية طالب العلم بها تفيده فوائد جليلة في دراسته لمسائل العلم. والقسم العاشر: الاستنتاج والاستخراج، والمراد به إعمال الذهن في الأدلة والمعلومات الأولية واستنتاج المسائل والأحكام والفوائد. وهذه الأقسام هي
أهم ما يكون من أعمال المعالجة العلمية التي يقوم بها المؤلفون من أهل
العلم، وهي عمدة العمل العلمي في الكتاب، والبارعون في شأن المعالجة
العلمية هم غالباً من أصحاب التحرير العلمي للمسائل، وكتبهم من أنفع الكتب
وأحسنها. المرحلة الثالثة: مرحلة الإنتاج المعرفي والعرض: بعد مرحلتي
الاستمداد والمعالجة العلمية لا بد للكاتب من عرض ما خرج به في كتابه،
ومرحلة العرض وإن كانت هي أول ما يقع عليه نَظَرُ القارئ إلا أنّها آخر ما
يؤدّيه الكاتب، فقد يقوم بأعمال كثيرة في مسودة بحثه ثم يجري عليه من
التغيير والتعديل في مرحلة العرض ما يرجو أن يصل به إلى أحسن ما يمكن من
صور تقديم الكتاب للقارئ. والكلام في مرحلة العرض قائم على عنصرين مهمّين: أحدهما:
الأسلوب، والمقصود به لغة الكاتب في كتابه، والألفاظ والعبارات التي
يستعملها في كتابه؛ ومن سعادة الكاتب أن يُرزق أسلوباً سهلاً واضحاً
ممتعاً. فسهولة الأسلوب تكون باستعمال العبارات السهلة القريبة من أفهام القراء. ووضوحه يكون بأداء المعنى الذي يريد إيصاله بعبارات لا لبس فيها ولا تعقيد. ومتعة الأسلوب تكون بتحلية الكتاب بما يجذب القارئ لمواصلة القراءة في الكتاب. والعنصر الثاني:حسن العرض لمادة الكتاب، وهو قائم على ترتيب الأفكار ، وجودة الإخراج. فمن الكتّاب من
يكون في كتابه من الحسن والترتيب والوضوح ما يغني عن شرحه، ومنهم من يكون
في كتبه ما يحتاج معه القارئ المبتدئ والمتوسط إلى طلب الشرح والتوضيح مع
قوة مادته العلمية، وذلك لأنّ أسلوب الكاتب أو طريقة عرضه لمادة الكتاب
فيها صعوبة على بعض القرّاء. تفاضل العلماء في المراحل الثلاث: العلماء يتفاضلون
في المراحل الثلاث المتقدّم ذكرها، وأحسنهم رتبة في التأليف من كان تأليفه
في الذروة العليا في تلك المراحل، ومنهم من يكون متقدما في بعضها، ومقصّراً
في بعضها، وقد يكون لديه ما يُعذر به، لكن القارئ اللبيب هو الذي يميز
جوانب الإجادة والإحسان لدى الكتاب ويستفيد منها في تأليفه وكتاباته، وفي
دراسته للمسائل العلمية، فإنه إذا عرف براعة بعض المؤلفين في بعض ما يحتاج
إليه من أوجه الدراسة ومراحلها حرص على الرجوع إلى كتبهم والاستفادة من
طرقهم في دراسة تلك المسائل. وينبغي أن يتنبّه القارئ إلى أمرين مهمين: أحدهما:
أن بعض العلماء كثير التأليف مجيد لعلوم كثيرة؛ فلا يتعجل طالب العلم
بالحكم على جوانب القوة العلمية لديه من كتاب أو كتابين من كتبه، بل ينبغي
أن يستقرئ غالب كتبه ليتبيَّن بجلاء جوانب القوة العلمية لديه، وما يحصل
بين تآليفه من تفاوت فيها، أو يأخذ بيان جوانب القوة العلمية لديه من عالم
يثق به قرأ كتب ذلك الكاتب وسبر غورها، واعتنى بها جيداً. والأمر الآخر:
أن العالِمَ المشاركَ في علوم متعددة يكون لديه من التفاوت في إتقانها ما
هو ظاهر للقارئ البصير؛ فيجده إماماً مقدماً في بعض العلوم، ومجتهداً
مشاركاً في بعضها، وهذا يفيده في معرفة طبقات العلماء في العلم الذي يدرسه،
وهي مَلَكَةٌ يحتاجها طالب العلم المتقدم كثيراً. ومن العلماء من يكون بين المؤلفات التي كتبها في أوّل شبابه وبين المؤلفات
التي كتبها بعد النضج العلمي تفاوت ظاهر من حيث جودة التأليف فائدة معرفة مراحل عملية الكتابة: فهم هذه المراحل
يفيد في معرفة ما يتميز به الكاتب لأن جوانب قوته العلمية يمكن إرجاعها إلى
عنصر من هذه العناصر، ولبعض العلماء ملكات حسنة في جوانب من التأليف عظيمة
النفع لطلاب العلم، وقد روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال:
(قيمة كل امرئ ما يحسنه) وهذه الكلمة ميزان نقدي مهم في كثير من الأمور،
وهذا المعنى نظمه بعض الشعراء فيما أورده إبراهيم بن محمد البيهقي في
كتابه "المحاسن والمساوئ":
قال علي بن أبي طالب ... وهو اللبيب الفطن المتقن
كل امرئ قيمته عندنا .. وعند أهل العلم ما يحسن
فقيمة الكاتب فيما يحسنه، وقيمة الكتاب في جوانب الإحسان فيه.
وإذا لحظ القارئ من الكاتب تميزا في جوانب يحتاج إليها حرص على القراءة في كتبه، ومحاولة التعرف على مصادر تلك الإجادة، فقد يجد ما يرشده إلى الازدياد من تلك المعارف والمهارات بالقراءة في كتب مَن يتقنها؛ حتى ينمّي معرفته ويكمّلها ويقويها بالاطلاع الموجّه والقراءة المنظّمة.