11 Apr 2015
تفسير قول الله تعالى: {قالت الأعراب آمنّا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا}
قال الله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14]
قوله تعالى: {قالت الأعراب آمنا}
التعريف في الأعراب للعهد الذهني، والمراد به القوم الذين نزلت فيهم الآية، وليس لجنس الأعراب.
- قال إسماعيل بن زكريا الخلقاني، عن حبيب بن أبي عمرة القصاب، عن سعيد بن جبير، قال: (أتى قوم من الأعراب النبي صلى الله عليه وسلم من بني أسد، فقالوا: جئناك ولم نقاتلك؛ فأنزل الله عز وجل: {يمنّون عليك أن أسلموا قل لا تمنّوا عليّ إسلامكم}). رواه سعيد بن منصور.
- وقال ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، في قوله: {قالت الأعراب آمنّا} قال: (أعراب بني أسد بن خزيمة). رواه ابن جرير.
- وقال معمر عن قتادة في قوله تعالى: {قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا} قال: (لم تعمّ هذه الآية الأعراب، إنَّ من الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله، ولكنها لطوائف من الأعراب). رواه عبد الرزاق، وروى ابن جرير نحوه من طريق يزيد بن زريع عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة.
قوله تعالى: {قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا}
في هذه الآية دلالة بيّنة على التفريق بين الإسلام والإيمان، وللسلف في تفسيرها قولان مشهوران:
القول الأول: الإسلام المثبَت لهم هو مرتبة الإسلام، ولم يبلغوا مرتبة الإيمان، وهذا قول الزهري، وإبراهيم النخعي، وأحمد بن حنبل، واختاره ابن جرير، وابن تيمية في مواضع من كتبه، وابن كثير، وابن رجب.
- قال معمر: قال الزهري: ({قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا} قال: (نرى أنَّ الإسلامَ الكلمة، والإيمان العمل). رواه عبد الرزاق وابن جرير.
- وقال سفيان الثوري، عن مغيرة بن مقسم، عن إبراهيم النخعي في قوله تعالى {ولكن قولوا أسلمنا} قال: (هو الإسلام). رواه ابن جرير.
- وقال جرير بن عبد الحميد، عن مغيرة بن مقسم قال: أتيت إبراهيم النّخعيّ، فقلت: إنّ رجلًا خاصمني في قوله عزّ وجلّ: {قالت الأعراب آمنّا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا} فقال: هو الاستسلام. فقال إبراهيم: (لا ، بل هو الإسلام). رواه إسحاق بن راهويه كما في المطالب العالية لابن حجر، وإتحاف الخيرة للبوصيري، ومن طريقه محمد بن نصر المروزي في تعظيم قدر الصلاة.
- وقال أبو عوانة، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: {قالت الأعراب آمنّا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا}، قال: قلت: الإسلام، أو الاستسلام؟ قال: (الإسلام). رواه سعيد بن منصور.
- وقال عبد الملك بن عبد الحميد الميموني: قلت لأحمد: يفرق بين الإسلام والإيمان؟
فقال لي: نعم.
قلت له: بأي شيء تحتج؟
قال لي: قال الله: {قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا} وذكر أشياء).
- وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (والدليل على أن الإسلام المذكور في الآية هو إسلام يثابون عليه، وأنهم ليسوا منافقين أنه قال: {قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم} ثم قال: {وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا} فدلَّ على أنهم إذا أطاعوا الله ورسوله مع هذا الإسلام آجرهم الله على الطاعة، والمنافق عمله حابط في الآخرة)ا.هـ.
القول الثاني: أن الإسلام المثبَت لهم هو الإسلام الظاهر الذي لا يقتضي أن يكون صاحبُه مسلماً حقاً في الباطن، وذلك كما يحكم لأهل النفاق بالإسلام الظاهر، وإن كانوا كفاراً في الباطن؛ لأنَّ معاملة الناس إنما تكون على ما يظهر منهم؛ فمن أظهر الإسلام قبلنا منه ظاهرَه ووكلنا سريرته إلى الله، فيعامل معاملة المسلمين ما لم يتبين لنا بحجة قاطعة ارتداده عن دين الإسلام.
وهذا قول مجاهد، وسعيد بن جبير، والشافعي، والبخاري، ومحمد بن نصر المروزي، واختاره أبو المظفر السمعاني، والبغوي، والشنقيطي.
- وقال سفيان الثوري عن زيادٍ عن قيس بن سعدٍ عن مجاهدٍ في قوله: {قالت الأعراب آمنّا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا} قال: (استسلموا حين خشوا القتل والسباء). هكذا في تفسير سفيان الثوري من رواية أبي حذيفة النهدي، وزياد أقرب ما يكون أنه ابن إسماعيل المكي، والله أعلم، ورواه ابن جرير من طريق مهران العطار، عن سفيان، عن رجلٍ، عن مجاهدٍ.
- وقال سفيان الثوري، عن رباح بن أبي معروفٍ، عن سعيد بن جبيرٍ، {قالت الأعراب آمنّا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا} قال: (استسلمنا لخوف السّباء والقتل). رواه ابن جرير.
- وقال عبد الله بن وهبٍ: قال ابن زيدٍ -وقرأ قول اللّه {قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا} -: (استسلمنا، دخلنا في السّلم، وتركنا المحاربة والقتال بقولهم: لا إله إلاّ اللّه). رواه ابن جرير.
- وقال الشافعي: (ثم أطلع الله رسوله على قوم يظهرون الإسلام ويسرون غيره، ولم يجعل له أن يحكم عليهم بخلاف حكم الإسلام، ولم يجعل له أن يقضي عليهم في الدنيا بخلاف ما أظهروا فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم {قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا}الآية).
قال الشافعي: (أسلمنا : يعني أسلمنا بالقول بالإيمان مخافة القتل والسباء، ثم أخبر أنه يجزيهم إن أطاعوا الله ورسوله يعني إن أحدثوا طاعة رسوله).
- وقال البخاري: (باب إذا لم يكن الإسلام على الحقيقة، وكان على الاستسلام أو الخوف من القتل لقوله تعالى: {قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا}فإذا كان على الحقيقة، فهو على قوله جل ذكره: {إن الدين عند الله الإسلام} {ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه}).
واستُدلَّ للقول الثاني بقول الله تعالى: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} قالوا : فهؤلاء لم يدخل الإيمان في قلوبهم بنص القرآن، ومن لم يدخل الإيمان في قلبه فليس بمسلم على الحقيقة، وإنما إسلامه بلسانه دون قلبه.
وأصحاب القول الأول يقولون إن الإيمان المنفي عنهم إنما هو ما تقتضيه مرتبة الإيمان، فهم لم يعرفوا حقيقة الإيمان وإنما أسلموا على جهل فيثبت لهم حكم الإسلام، فيكون معنى قوله تعالى: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} أي لم تباشر حقيقةُ الإيمان قلوبَكم.
وابن القيم رحمه الله قال بالقول الأول في بدائع الفوائد، وقال بالقول الثاني في إعلام الموقعين.
وحكى شيخ الإسلام ابن تيمية الخلاف في المسألة فقال: (فهذا الإسلام الذي نفى الله عن أهله دخول الإيمان في قلوبهم هل هو إسلام يثابون عليه؟ أم هو من جنس إسلام المنافقين؟
فيه قولان مشهوران للسلف والخلف:
أحدهما: أنه إسلام يثابون عليه ويخرجهم من الكفر والنفاق، وهذا مروي عن الحسن وابن سيرين وإبراهيم النخعي، وأبي جعفر الباقر؛ وهو قول حماد بن زيد وأحمد بن حنبل وسهل بن عبد الله التستري وأبي طالب المكي وكثير من أهل الحديث والسنة والحقائق.
والقول الثاني: أن هذا الإسلام: هو الاستسلام خوف السبي والقتل مثل إسلام المنافقين،قالوا: وهؤلاء كفار فإن الإيمان لم يدخل في قلوبهم ومن لم يدخل الإيمان في قلبه فهو كافر، وهذا اختيار البخاري، ومحمد بن نصر المروزي، والسلف مختلفون في ذلك)ا.هـ.
والتحقيق أن دلالة الآية تَسَعُ القولين، فإذا أريد بنفي الإيمان في قوله تعالى:{لَمْ تُؤْمِنُوا} نفي أصل الإيمان الذي يَثبت به حكم الإسلام ؛ فهؤلاء كفار في الباطن ، مسلمون في الظاهر، فيكون حكمهم حكم المنافقين، وقد يتوب الله على من يشاء منهم ويهديه للإيمان.
وإذا أريد بنفي الإيمان نفي القدر الواجب من الإيمان الذي مدح الله به المؤمنين وسماهم به مؤمنين؛ فهذا لا يستلزم نفي أصل الإيمان والخروج من دين الإسلام، فيثبت لهم حكم الإسلام، وينفى عنهم وصف الإيمان الذي يطلق على من أتى بالقدر الواجب منه.
وهذا كما في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((والله لا يؤمن! والله لا يؤمن! والله لا يؤمن!))
قيل: من يا رسول الله؟
قال:((الذي لا يأمن جاره بوائقه)).
فهذا نفى عنه حقيقة الإيمان والقدر الواجب منه الذي مدح الله به المؤمنين وسماهم به، ولا يقتضي أن من فعل ذلك فهو خارج عن دين الإسلام.
والذي يوضح هذا الأمر أن قول {أَسْلَمْنَا} قد يقوله الصادق والكاذب؛ فإذا قاله الكاذب فهو منافق مدَّعٍ للإسلام مخادع للذين آمنوا، يُظهر الإسلام ويبطن الكفر.
وإذا قاله الصادق فهو مسلم ظاهراً وباطناً، ومعه أصل الإيمان.
ولهذا قال الله تعالى: {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}
فعلّق وصف الإيمان بالصدق؛ فمن صدق منهم فهو من أهل الصنف الأول، ومن لم يصدق منهم فهو من أهل الصنف الثاني، وهذا يبيّن جواز أن يكون فيمن نزلت فيهم هذه الآيات من هو من أصحاب الصنف والأول، ومنهم من هو من أصحاب الصنف الثاني، وشملت هذه الآيات الصنفين كليهما.
وهذا مثال بديع لحسن بيان القرآن الكريم، ودلالته على المعاني العظيمة بألفاظ وجيزة.
والمقصود أن الآية على القول الأول في تفسيرها فيها دلالة على التفريق بين مرتبة الإسلام ومرتبة الإيمان.
- قال محمد بن نصر المروزي: (نقول إن الرجل قد يسمى مسلما على وجهين:
أحدهما: أن يخضع لله بالإيمان والطاعة تدينا بذلك يريد الله بإخلاص نية.
والجهة الأخرى: أن يخضع ويستسلم للرسول وللمؤمنين خوفا من القتل والسبي؛ فيقال قد أسلم أي خضع خوفا وتقية، ولم يسلم لله، وليس هذا بالإسلام الذي اصطفاه الله وارتضاه الذي هو الإيمان الذي دعا الله العباد إليه).
- وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (فإنَّ المظهرين الإسلام ينقسمون إلى مؤمن ومنافق؛ فالفارق بين المؤمن والمنافق هو الصدق، كما في قوله تعالى: {قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا} إلى قوله: {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون}).
وكذلك قول الله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات: 35-36]
نجَّى الله جميع المؤمنين من العذاب كما قال تعالى: {فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين} . وقوله : { فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين} دليل على أنه لم يكن في قرى قوم لوط إلا بيت واحد على الإسلام، وهو بيت لوط عليه السلام. وأهل لوط كلهم مؤمنون إلا امرأته كانت كافرة بنص القرآن كما في قوله تعالى: {ضرب الله مثلاً للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط} ، لكن اختلف أهل العلم: هل كانت مسلمة في الظاهر أو كانت على دين قومها ظاهراً وباطنا على قولين: القول الأول: أنها كانت على دين قومها، وإنما كانت خيانتها أنها تدل قومها الذين يعملون السوء على أضياف لوط، وهذه خيانة له. القول الثاني: أنها كانت تظهر الإسلام وتبطن الكفر. والقول الأول أصح وأشهر وهو المأثور عن ابن عباس وسعيد بن جبير. فإن قيل: كيف يبقيها في ذمته وهي كافرة؟ قيل: إن ذلك كان جائزاً في شريعتهم، كما كان جائزاً في أول الإسلام ثم نسخ. وسواء أكانت امرأة لوط مسلمة في الظاهر أم غير مسلمة
في الظاهر؛ فإن ذلك لا ينقض الحكم على البيت بأنه بيت إسلام،كما أن وجود
بعض الكفار في بلاد الإسلام لا يجعلها بلاد كفر. ومقصود الآية أن قرى قوم لوط لم يكن فيها بيت على الإسلام إلا بيت لوط عليه السلام. وهذه الآية فيها لطيفة وهي أن المؤمنين
موعودون بالنجاة ، والمسلم غير المؤمن ليس له عهد بالسلامة من العذاب
والنجاة منه؛ فقد يعذب بمعاصيه في الدنيا وقد يعذب في قبره وقد يعذب في
النار ، لكنه لا يخلد فيها. وهذا نظيره ما ورد في قصة أصحاب السبت فإن
الله تعالى أنجى المؤمنين الذين ينهون عن السوء وسكت عن الساكتين عن إنكار
المنكر وأخذ الذين ظلموا بعذاب بئيس، فتبين أن أصحاب الكبائر من المسلمين
ليس لهم عهد أمان من العذاب كما جعل الله ذلك لأهل الإيمان؛ فقد يُعذَّبون،
وقد يعفو الله عنهم بفضله وكرمه، وهذا يبين لك الفرق العظيم بين مرتبة
الإسلام ومرتبة الإيمان. فالمؤمن له عهد أمان بأن لا يعذبه الله ولا
يخذله، وأنه لا يخاف ولا يحزن، ولا يضل ولا يشقى، وقد تكفل الله له
بالهداية والنجاة والنصر والرفعة . وهو في أمان من نقمة الله تعالى وسخطه، وفي أمان من عذاب الآخرة كما قال الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ}