الدروس
course cover
تفسير قول الله تعالى: {أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم} لابن القيم رحمه الله
7 May 2015
7 May 2015

6907

0

0

course cover
الرسائل التفسيرية للمتقدمين

القسم الأول

تفسير قول الله تعالى: {أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم} لابن القيم رحمه الله
7 May 2015
7 May 2015

7 May 2015

6907

0

0


0

0

0

0

0

تفسير قول الله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ}


قال ابن القيّم - رحمه الله -: (قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ}؛

قال ابن عباس: علم ما يكون قبل أن يخلقه.

وقال أيضا: على علم قد سبق عنده.

وقال أيضا: يريد الأمر الذي سبق له في أم الكتاب.

وقال سعيد بن جبير ومقاتل: على علمه فيه.

وقال أبو إسحاق: أي على ما سبق في علمه أنه ضال قبل أن يخلقه، وهذا الذي ذكره جمهور المفسرين.

وقال الثعلبي: (على علم منه بعاقبة أمره).

قال: وقيل على ما سبق في علمه أنه ضال قبل أن يخلقه، وكذلك ذكر البغوي وأبو الفرج بن الجوزي قال:على علمه السابق فيه أنه لا يهتدي.

وذكر طائفة منهم المهدوي وغيره قولين في الآية، هذا أحدهما؛ قال المهدوي: فأضله الله على علم علمه منه بأنه لا يستحقه.

قال: وقيل على علم من عابد الصنم أنه لا ينفع ولا يضر.

- وعلى الأول يكون {على علم} حالا من الفاعل، المعنى: أضله الله عالما بأنه من أهل الضلال في سابق علمه.

- وعلى الثاني حال من المفعول، أي أضله الله في حال علم الكافر بأنه ضال).

قلت: وعلى الوجه الأول فالمعنى أضله الله عالما به وبأقواله وما يناسبه ويليق به، ولا يصلح له غيره قبل خلقه وبعده، وأنه أهل للضلال، وليس أهلا أن يُهدى، وأنه لو هُدِي لكان قد وضع الهدى في غير محله، وعند من لا يستحقه، والرب تعالى حكيم إنما يضع الأشياء في محالها اللائقة بها.

فانتظمت الآية - على هذا القول - إثبات القدر والحكمة التي لأجلها قدّر عليه الضلال، وذكر العلم إذ هو الكاشف المبين لحقائق الأمور، ووضع الشيء في مواضعه، وإعطاء الخير من يستحقه، ومنعه من لا يستحقه؛ فإن هذا لا يحصل بدون العلم؛ فهو سبحانه أضله على علمه بأحواله التي تناسب ضلاله وتقتضيه وتستدعيه.

وهو سبحانه كثيرا ما يذكر ذلك مع إخباره بأنه أضل الكافر كما قال:{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ}، وقال تعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}، وقال تعالى: {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} : {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} : {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} : {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ} : {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ} : {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} : {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}.

وقد أخبر سبحانه أنه يفعل ذلك عقوبة لأرباب هذه الجرائم وهذا إضلال ثان بعد الإضلال الأول كما قال تعالى: {وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} وقال تعالى: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} وقال: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} وقال تعالى:{فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً}وقال:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}؛ أي إن تركتم الاستجابة لله ورسوله عاقبكم بأن يحول بينكم وبين قلوبكم فلا تقدرون على الاستجابة بعد ذلك.

ويشبه هذا إن لم يكن بعينه قوله: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا} الآية، وفي موضع آخر: {تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ}.

وفي هذه الآية ثلاثة أقوال:

أحدها: قال أبو إسحاق: هذا إخبار عن قوم لا يؤمنون كما قال عن نوح:{أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ}،واحتج على هذا بقوله: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ}.

قال: وهذا يدل على أنه قد طبع على قلوبهم.

وقال ابن عباس: فما كان أولئك الكفار ليؤمنوا عند إرسال الرسل بما كذبوا يوم أخذ ميثاقهم حين أخرجهم من ظهر آدم؛ فآمنوا كرها وأقروا باللسان، وأضمروا التكذيب.

وقال مجاهد: فما كانوا لو أحييناهم بعد هلاكهم ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل هلاكهم.

قلت: وهو نظير قوله: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْه}.

وقال آخرون: لما جاءتهم رسلهم بالآيات التي اقترحوها وطلبوها ما كانوا ليؤمنوا بعد رؤيتها ومعاينتها بما كذبوا به من قبل رؤيتها ومعاينتها؛ فمنعهم تكذيبهم السابق بالحق لما عرفوه من الإيمان به بعد ذلك، وهذه عقوبة من رد الحق أو أعرض عنه؛ فلم يقبله؛ فإنه يصرف عنه، ويحال بينه وبينه، ويقلب قلبه عنه؛ فهذا إضلال العقوبة، وهو من عدل الرب في عبده، وأما الإضلال السابق الذي ضل به عن قبوله أولا والاهتداء به؛ فهو إضلال ناشئ عن علم الله السابق في عبده أنه لا يصلح للهدى ولا يليق به، وأن محله غير قابل له؛ فالله أعلم حيث يضع هداه وتوفيقه، كما هو أعلم حيث يجعل رسالته؛ فهو أعلم حيث يجعلها أصلا وميراثا، وكما أنه ليس كل محل أهلا لتحمل الرسالة عنه وأدائها إلى الخلق؛ فليس كل محل أهلا لقبولها والتصديق بها كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ}؛ أي: ابتلينا واختبرنا بعضهم ببعض؛ فابتلى الرؤساء والسادة بالأتباع والموالى والضعفاء فإذا نظر الرئيس والمطاع إلى المولى والضعيف أَنِفه وأَنِفَ أن يسلم، وقال: هذا يمنُّ الله عليه بالهدى والسعادة دوني؟!!

قال الله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} وهم الذين يعرفون النعمة وقدرها، ويشكرون الله عليها؛ بالاعتراف والذل والخضوع والعبودية؛ فلو كانت قلوبكم مثل قلوبهم تعرفون قدر نعمتي وتشكروني عليها، وتذكروني بها وتخضعون لي كخضوعهم، وتحبوني كحبهم لمننت عليكم كما مننت عليهم، ولكن لِمِنَنِي ونِعَمي محالّ لا تليق إلا بها، ولا تحسن إلا عندها، ولهذا يقرن كثيرا بين التخصيص والعلم كقوله ههنا: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ}وقوله: {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} وقوله: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ}؛ أي سبحانه المتفرد بالخلق والاختيار مما خلق، وهو الاصطفاء والاجتباء، ولهذا كان الوقف التام عند قوله: {ويختار} ثم نفى عنهم الاختيار الذي اقترحوه بإرادتهم، وأن ذلك ليس إليهم بل إلى الخلاق العليم، الذي هو أعلم بمحالّ الاختيار ومواضعه، لا من قال: {لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ}؛ فأخبر سبحانه أنه لا يبعث الرسل باختيارهم، وأن البشر ليس لهم أن يختاروا على الله، بل هو الذي يخلق ما يشاء ويختار، ثم نفى سبحانه أن تكون لهم الخيرة كما ليس لهم الخلق.

ومن زعم أن (ما) مفعول يختار فقد غلط؛ إذ لو كان هذا هو المراد لكانت الخيرة منصوبة على أنها خبر كان، ولا يصح المعنى ما كان لهم الخيرة فيه وحذف العائد؛ فإن العائد ههنا مجرور بحرف لم يجر الموصول بمثله؛ فلو حذف مع الحرف لم يكن عليه دليل؛ فلا يجوز حذفه.

وكذلك لم يفهم معنى الآية من قال: إنّ الاختيار ههنا هو الإرادة، كما يقوله المتكلمون أنه سبحانه (فاعل بالاختيار)؛ فإن هذا الاصطلاح حادث منهم، لا يحمل عليه كلام الله، بل لفظ الاختيار في القرآن مطابق لمعناه في اللغة، وهو اختيار الشيء على غيره، وهو يقتضي ترجيح ذلك المختار، وتخصيصه وتقديمه على غيره، وهذا أمر أخص من مطلق الإرادة والمشيئة.

قال في الصحاح: (الخيرة الاسم من قولك خار الله لك في هذا الأمر والخيرة أيضا يقول محمد خيرة الله من خلقه وخيرة الله أيضا بالتسكين والاختيار الاصطفاء، وكذلك التخيير والاستخارة طلب الخيرة، يقال: استخر الله يخر لك، وخيرته بين الشيئين، فوضت إليه الاختيار). انتهى.

فهذا هو الاختيار في اللغة، وهو أخص مما اصطلح عليه أهل الكلام.

ومن هذا قوله:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}، وقوله تعالى: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا}؛ أي: اختار منهم.

وبهذا يحصل جواب السؤال الذي تورده القدرية، يقولون في الكفر والمعاصي: هل هي واقعة باختيار الله أم بغير اختياره؟

فإن قلتم: (باختياره)؛ فكل مختار مرضى مصطفى محبوب؛ فتكون مرضية محبوبة له.

وإن قلتم: (بغير اختياره) لم يكن بمشيئته واختياره.

وجوابه أن يقال: ما تعنون بالاختيار؟ ألعامّ في اصطلاح المتكلمين وهو المشيئة والإرادة؟ أم تعنون به الاختيار الخاص الواقع في القرآن والسنة وكلام العرب؟

وإن أردتم بالاختيار الأول؛ فهي واقعة باختياره بهذا الاعتبار، لكن لا يجوز أن يطلق ذلك عليها لما في لفظ الاختيار من معنى الاصطفاء والمحبة، بل يقال: واقعة بمشيئته وقدرته. وإن أردتم بالاختيار معناه في القرآن ولغة العرب فهي غير واقعة باختياره بهذا المعنى، وإن كانت واقعة بمشيئته.

فإن قيل: فهل تقولون إنها واقعة بإرادته؟ أم لا تطلقون ذلك؟

قيل: لفظ الإرادة في كتاب الله نوعان:

- إرادة كونية شاملة لجميع المخلوقات كقوله:{فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} وقوله:{وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً} وقوله: {إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} ونظائر ذلك.

- وإرادة دينية أمرية لا يجب وقوع مرادها كقوله:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} وقوله: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ}.

فهي مرادة بالمعنى الأول غير مرادة بالمعنى الثاني.

وكذلك إن قيل: هل هي واقعة بإذنه أم لا؟

والإذن أيضا نوعان:

- كوني كقوله: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ}.

- وديني أمري كقوله: {آللَّهُ أَذِنَ لَكُم} وقوله:{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا}.

ولفظ الاختيار مشتق من الخير المخالف للشر، ولما كان الأصل في الحي أنه يريد ما ينفعه وما هو خير؛ سميت الإرادة اختيارا، وهذا يتضمن أن الإرادة اختيار، لا ترجح نوعا على نوع إلا لمرجح رجح ذلك النوع عند الفاعل.

والمقصود أنه يذكر العلم عند التخصيصات كقوله تعالى: {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} لا خلاف بين الناس أن المعنى على علم منا بأنهم أهل الاختيار؛ فالجملة في موضع نصب على الحال، أي اخترناهم عالمين بهم وبأحوالهم، وما يقتضي اختيارهم من قبل خلقهم، ذكر سبحانه اختيارهم وحكمته في اختياره إياهم وذكر علمه الدال على مواضع حكمته واختياره.

ومن هذا قوله سبحانه:{وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ}

وأصح الأقوال في الآية أن المعنى من قبل نزول التوراة فإنه سبحانه قال: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ}، وقال:{وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} ثم قال:{وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ} مِنْ قَبْلِ ذلك. ولهذا قطعت قبل عن الإضافة، وبنيت لأن المضاف منوي معلوم، وإن كان غير مذكور في اللفظ.

وذكر سبحانه هؤلاء الثلاثة، وهم أئمة الرسل، وأكرم الخلق عليه: محمد وإبراهيم وموسى.

وقد قيل: {من قبل}؛ أي في حال صغره قبل البلوغ، وليس في اللفظ ما يدل على هذا السياق، إنما يقتضي من قبل ما ذكر.

وقيل المعنيّ بقوله: {من قبل}؛ أي في سابق علمنا، وليس في الآية أيضا ما يدل على ذلك، ولا هو أمر مختص بإبراهيم، بل كل مؤمن فقد قدر الله هداه في سابق علمه.

والمقصود قوله: {وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ}؛ قال البغوي: (أنه أهل للهداية والنبوة)

وقال أبو الفرج: (أي عالمين بأنه موضع لإيتاء الرشد).

وقال صاحب الكشاف: (المعنى علمه به أنه علم منه أحوالا بديعة وأسرارا عجيبة وصفات قد رضيها وحمدها حتى أهّله لمخالّته ومخالصته، وهذا كقولك في حرّ من الناس: أنا عالم بفلان؛ فكلامك هذا من الاحتواء على محاسن الأوصاف).

وهذا كقوله: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}، وقوله:{وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ}، ونظيره قوله: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}، وقريب منه قوله: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ}، حيث وضعنا هذا التخصيص في المحل الذي يليق به من الأماكن والأناسي). [شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل]