11 Apr 2015
رسالة في تفسير قول الله تعالى: {إنّما يخشى اللّه من عباده العلماء}
للحافظ ابن رجب الحنبلي
في قوله تعالى: {إنّما يخشى اللّه من عباده العلماء}.
قال ابن رجب رحمه الله تعالى:
دلّت هذه الآية على إثبات الخشية للعلماء بالاتفاق، وعلى نفيها عن غيرهم على أصح القولين، وعلى نفي العلم عن غير أهل الخشية أيضًا.
أما الأول:
فلا ريب فيه فإنّ صيغة "إنما" تقتضي تأكد ثبوت المذكور بالاتّفاق؛ لأنّ خصوصية "إن" إفادة التأكيد.
وأمّا "ما": فالجمهور على أنّها كافةٌ.
ثمّ قال جمهور النحاة: هي الزائدة التي تدخل على إنّ وأنّ وليت ولعلّ وكأن فتكفها عن العمل، لأنّ الأصل في الحروف العاملة أن تكون مُختصّة، فإذا اختصت بالاسم أو الفعل ولم يكن كالجزء منه عملت فيه، وإنّ وأخواتها مختصةٌ بالاسم فتعمل فيه، فإذا دخلت عليها "ما" زالت اختصاصها فصارت تدخل على الجملة الاسمية والفعلية فبطل عملها، وإنما عملت "ما" النافية على اللغة التي نزل بها القرآن وهي لغة أهل الحجاز استحسانًا لمشابهتها لـ "ليس ".
وذهب بعض الكوفيين، وابن درستويه إلى أنّ "ما" مع هذه الحروف اسمٌ مبهمٌ بمنزلة ضمير الشأن في التفخيم والإبهام، وفي أنّ الجملة بعده مفسرةٌ له ومخبرٌ بها عنه.
وذهبت طائفةٌ من الأصوليين وأهل البيان إلى أن "ما" هذه نافيةٌ واستدلّوا بذلك على إفادتها الحصر، وأنّ "إن" أفادت الإثبات في المذكور، و"ما" النفي فيما عداه، وهذا باطلٌ باتفاق أهل المعرفة باللسان، فإنّ "إن" إنما تفيد توكيد الكلام إثباتًا كان أو نفيًا لا تفيد الإثبات، و"ما" زائدةٌ كافة لا نافيةٌ، وهي الداخلة على سائر أخوات إنّ: لكنّ وكأن وليت ولعلّ، وليست في دخولها على هذه الحروف نافيةً بالاتفاق، فكذلك الداخلة على إنّ وأنّ.
وقد نسب القول بأنها نافيةٌ إلى أبي علي الفارسي لقوله في كتاب "الشيرازيات ": إنّ العرب عاملوا "إنما" معاملة النفيّ و"إلا" في فصل الضمير لقوله: "وإنّما يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي ".
وهذا لا يدل على أنّ "ما" نافيةٌ على ما لا يخفى، وإنما مراده أنّهم أجروا "إنما" مجرى النفي و"إلا" في هذا الحكم لما فيها من معنى النفي، ولم يصرّح بأنّ النفي مستفادٌ من "ما" وحدها.
وقيل: إنه لا يمتنع أن يكون "ما" في هذه الآية بمعنى الذي والعلماء خبرٌ والعائد مستترٌ في يخشى.
وأطلقت "ما" على جماعة العقلاء كما في قوله تعالى: {أو ما ملكت أيمانكم}، و {فانكحوا ما طاب لكم مّن النّساء}.
وأما دلالة الآية على الثاني وهو نفي الخشية عن غير العلماء فمن صيغة "إنّما".
أمّا على قول الجمهور وأنّ "ما" هي الكافة فنقول: إذا دخلت "ما" الكافة على "إنّ " أفادت الحصر هذا هو الصحيح، وقد حكاه بعض العلماء عن جمهور الناس وهو قول أصحابنا كالقاضي وابن عقيلٍ والحلواني والشيخ موفق الدين وفخر الدّين إسماعيل بن علي صاحب ابن المنّي، وهو قول أكثر الشافعية كأبي حامدٍ وأبي الطيب والغزالي والهرّاسي، وقول طائفةٍ من الحنفية كالجرجاني وكثيرٌ من المتكلمين كالقاضي أبي بكرٍ، وغيره، وكثيرٌ من النحاة وغيرهم، بل قد حكاه أبو علي فيما ذكره الرازيّ عن النحاة جملةً.
ولكن اختلفوا في دلالتها على النفي هل هو بطريق المنطوق، أو بطريق المفهوم؟
فقال كثيرٌ من أصحابنا، كالقاضي في أحد قوليه وصاحب ابن المنّي والشيخ موفّق الدّين: إنّ دلالتها على النفي بالمنطوق كالاستثناء سواء، وهو قول أبي حامد وأبي الطيب من الشافعية والجرجاني من الحنفية.
وذهبت طائفةٌ من أصحابنا كالقاضي في قوله الآخر وابن عقيلٍ والحلواني إلى أنّ دلالتها على النفي بطريق المفهوم وهو قول كثيرٍ من الحنفية والمتكلمين.
واختلفوا أيضًا هل دلالتها على النفي بطريق النّص أو الظاهر؟
فقالت طائفة: إنّما تدلّ على الحصر ظاهرًا، أو يحتمل التأكيد، وهذا الذي حكاه الآمديّ عن القاضي أبي بكرٍ والغزاليّ والهرّاسيّ وغيرهم من الفقهاء، وهو يشبه قول من يقول إنّ دلالتها بطريق المفهوم، فإنّ أكثر دلالات المفهوم بطريق الظاهر لا النّص، وظاهر كلام كثيرٍ من أصحابنا وغيرهم أن دلالتها على النّفي والإثبات كليهما بطريق النّص لأنّهم جعلوا "إنّما" كالمستثنى والمستثنى منه سواء، وعندهم أن الاستثناء من الإثبات نفيٌ ومن النفي إثباتٌ، نصًّا لا محلاً.
وأمّا من قال: إنّ الاستثناء ليس لإثبات النقيض بل لرفع الحكم إما مطلقًا أو في الاستثناء من الإثبات وحده كما يذكر عن الحنفية وجعلوه من باب المفهوم الذي ينفونه، فهو يقول ذلك في "إنّما" بطريق الأولى، فظهر بهذا أنّ المخالف في إفادتها الحصر هو من القائلين بأنّ دلالتها على النفيّ بالمفهوم وهم قسمان:
أحدهما: من لا يرى كون المفهوم حجّةً بالكلية، كالحنفية ومن وافقهم من المتكلمين.
والثاني: من يراه حجةً من الجملة، ولكن ينفيه هاهنا لقيام الدليل عنده على أنّه لا مفهوم لها، واختاره بعض المتأخرين من أصحابنا وغيرهم، وبيان ذلك:
أنّ "إنّما" مركبةٌ من "إنّ " المؤكدة و"ما" الزائدة الكافة فيستفاد التوكيد من "إنّ " والزائد لا معنى له، نعم، أكثر ما يقال إنّه يفيد تقوية التوكيد كما في الباء الزائدة ونحوها، فأمّا أن يحدث معنًى آخر فلا.
وقد تقدّم بيان بطلان قول من ادّعى أنّ "ما" نافية وأنّ النفي فيما عدا المذكور مستفادٌ منها.
وأيضًا فورودها لغير الحصر كثيرٌ جدًّا كقوله تعالى: {إنّما المؤمنون الّذين إذا ذكر اللّه وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانًا وعلى ربّهم يتوكّلون (2)}.
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الرّبا في النسيئة".
وقوله: "إنّما الشهر تسعٌ وعشرون " وغير ذلك من النصوص.
ويقال: "إنّما العالم زيد" ومثل هذا لو أريد به الحصر لكان هذا.
وقد يقال إن أغلب مواردها لا تكون فيها للحصر فإنّ قوله تعالى: {إنّما اللّه إلهٌ واحدٌ}، لا يفيد الحصر مطلقًا، فإنّه سبحانه وتعالى له أسماءٌ وصفاتٌ كثيرةٌ غير توحّده بالإلهية.
وكذلك قوله: {قل إنّما أنا بشرٌ مثلكم يوحى إليّ أنّما إلهكم إلهٌ واحدٌ} فإنّه لم ينحصر الوحي إليه في هذا وحده.
وكذلك قوله: {إنّما أنت منذرٌ}.
ومثل هذا كثيرٌ جدًّا.
وممّا يبيّن عدم إفادتها للحصر قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ما من نبي من الأنبياء إلا قد أوتي من الآيات ما آمن على مثله البشر، وإنّما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إليّ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة"، فلو كانت "إنّما" للحصر لبطلت أن تكون سائر آيات النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ومعجزاته سوى القرآن آياتٍ له تدلّ على صدقه لاعترافه بنفي ذلك، وهذا باطلٌ قطعًا، فدلّ على أنّ "إنما" لا تفيد الحصر في مثل هذا الكلام وشبهه.
والصواب: أنّها تدلّ على الحصر، ودلالتها عليه معلومٌ بالاضطرار من لغة العرب، كما يعلم من لغتهم بالاضطرار معاني حروف الشرط والاستفهام والنفي والنّهي وغير ذلك ولهذا يتوارد "إنّما" وحروف الشرط والاستفهام والنّفي والاستثناء، كما في قوله تعالى: {إنّما تجزون ما كنتم تعملون}.
وقوله: {إنّما إلهكم إلهٌ واحدٌ}، وقوله: {إنّما اللّه إلهٌ واحدٌ}، {إنّما إلهكم اللّه الّذي لا إله إلاّ هو}.
فإنه كقوله: {وما من إلهٍ إلاّ اللّه}، وقوله: {ما لكم من إلهٍ غيره} ، ونحو ذلك، ولهذا كانت كلّها واردةً في سياق نفي الشرك وإبطال إلهية سوى اللّه سبحانه.
وأمّا أنّها مركبةٌ من "إنّ " و"ما" الكافّة فمسلّم، ولكنّ قولهم إنّ "ما" الكافة أكثر ما تفيده قوة التوكيد لا تثبت معنى زائدًا، يجاب عنه من وجوه:
أحدها: أنّ "ما" الكافة قد تثبت بدخولها على الحروف معنىً زائدًا، وقد ذكر ابن مالك أنها إذا دخلت على الباء أحدثت معنى التقليل، كقول الشاعر:
فالآن صرت لا تحيد جوابًا ....... بما قد يرى وأنت حطيب
قال: وكذلك تحدث في "الكاف " معنى التعليل، في نحو قوله تعالى: (واذكروه كما هداكم) ، ولكن قد نُوزع في ذلك وادّعى أنّ "الباء" و"الكاف " للسببية، وأنّ "الكاف " بمجردها تفيد التعليل.
والثاني: أن يقال: لا ريب أنّ "إنّ " تفيد توكيد الكلام، و"ما" الزائدة تقوّي هذا التوكيد وتثبت معنى الكلام فتفيد ثبوت ذلك المعنى المذكور في اللفظ خاصةً ثبوتًا لا يشاركه فيه غيره واختصاصه به، وهذا من نوع التوكيد والثبوت ليس معنىً آخر مغايرًا له وهو الحصر المدّعى ثبوته بدخول "ما" يخرج عن إفادة قوّة معنى التوكيد وليس ذلك بمنكرٍ إذ المستنكر ثبوت معنى آخر بدخول الحرف الزائد من غير جنس ما يفيده الحرف الأوّل.
الوجه الثالث: أنّ "إن" المكفوفة بـ "ما" استعملت في الحصر فصارت حقيقةً عرفيّةً فيه، واللفظ يصير له بالاستعمال معنى غير ما كان يقتضيه أصل الوضع، وهكذا يقال في الاستثناء فإنه وإن كان في الأصل للإخراج من الحكم لكن صار حقيقة عرفيةً في مناقضة المستثنى فيه، وهذا شبيه بنقل اللفظ عن المعنى الخاص إلى العام إذا صار حقيقة عرفيةً فيه لقولهم "لا أشرب له شربة ماءٍ" ونحو ذلك، ولنقل الأمثال السائرة ونحوها مما ليس هذا موضع بسطه، وهذا الجواب ذكره أبو العباس ابن تيمية في بعض كلامه القديم وهو يقتضي أنّ دلالة "إنّما" على الحصر إنّما هو بطريق العرف والاستعمال لا بأصل وضع اللغة، وهو قولٌ حكاه غيره في المسألة.
وأمّا قوله تعالى: {إنّما المؤمنون الّذين إذا ذكر اللّه وجلت قلوبهم}، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنّما الربا في النسيئة"، و"إنّما الشهر تسع وعشرون"، وقولهم: "إنّما العالم زيد" ونحو ذلك، فيقال:
معلومٌ من كلام العرب أنّهم ينفون الشيء في صيغ الحصر وغيرها، تارةً
لانتفاء ذاته وتارةً لانتفاء فائدته ومقصوده، ويحصرون الشيء في غيره تارةً
لانحصار جميع الجنس فيه وتارةً لانحصار المفيد أو الكامل فيه، ثمّ إنهم
تارة يعيدون النفي إلى المسمّى وتارةً إلى الاسم وإن كان ثابتًا في اللغة
إذا كان المقصود الحقيقيّ بالاسم منتفيا عنه ثابتًا لغيره، كقوله تعالى: {قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتّى تقيموا التوراة والاٍنجيل وما أنزل إليكم مّن رّبكم}،
فنفى عنهم مسمّى الشيء مع أنّه في الأصل شامل لكلّ موجودٍ من حق وباطلٍ
،كما كان ما لا يفيد ولا منفعة فيه يؤول إلى الباطل الذي هو العدم فيصير
بمنزلة المعدوم، بل قد يكون أولى بالعدم من المعدم المستمر عدمه لأنه قد
يكون فيه ضررٌ، فمن قال الكذب لم يقل شيئًا،
ومن لم يعمل ما ينفعه بل ما يضرّه لم يعمل شيئا، ولهذا لمّا سئل النبيّ -
صلى الله عليه وسلم - عن الكفار فقال: "ليسوا بشيء". ويقول أهل الحديث عن بعض الرواة
المجروحين والأحاديث الواهية: "ليس بشيءٍ " إذا لم يكن مما ينتفع به في
الرواية لظهور كذبه عمدًا أو خطأ، ويقال أيضًا لمن خرج عن موجب الإنسانية
في الأخلاق ونحوها: هذا ليس بآدميّ ولا إنسان وما فيه إنسانية، ومنه قول
النّسوة في يوسف عليه السلام: {ما هذا بشرًا إن هذا إلاّ ملكٌ كريمٌ}. وكذلك قول اللّه تعالى: {فإنّها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب الّتي في الصّدور}. وقول النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "ليس
المسكين بهذا الطوّاف الذي تردّه اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان،
إنّما المسكين الذي لا يجد ما يغنيه ولا يفطن له فيتصدّق عليه ولا يسأل
الناس إلحافًا". وكذلك قال: "ما تعدّون المفلس فيكم؟ " قالوا: الذي لا درهم له ولا دينار قال:
"ليس ذلك بالمفلس، ولكنّ المفلس من يأتي يوم القيامة بحسناتٍ أمثال الجبال
ويجيء وقد شتم هذا وضرب هذا وأخذ مال هذا فيأخذ هذا من حسناته وهذا من
حسناته فإذا لم يتبقّ له حسنةٌ أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه ثمّ ألقي في
النار" وقال: "ما تعدّون الرقوب فيكم؟ " قالوا: الرقوب من لا يولد له، قال: "الرقوب من لم يقدّم من ولده شيئا". وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس الشديد بالصّرعة ولكنّ الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب " وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس الغنى عن كثرة العرض وإنّما الغنى غنى النفس". وأمثال ذلك. فهذا كلّه نفيٌ لحقيقة الاسم من جهة المعنى الذي يجب اعتباره، فإنّ اسم
الرقوب والمفلس والغني والشديد ونحو ذلك إنّما يتعارفه الناس فيمن عدم ماله
وولده أو حصل له مال أو قوّةٌ في بدنه، والنفوس تجزع من الأوّلين وترغب في
الآخرين، فيعتقد أنّه هو المستحقّ لهذا الاسم دون غيره، فبين - صلى الله
عليه وسلم - أنّ حقيقة ذلك المعنى ثابتةٌ لغير هذا المتوهّم على وجهٍ ينبغي
بعلو الاعتقاد والقصد بذلك الغير، فإن من عدم المال والولد يوم القيامة
حيث يضر عدمه أحقّ باسم المفلس والرقوب ممن يعدمهما حيث قد لا يتضرر بذلك
تضررًا معتبرًا، ولذلك وجود غنى النفس وقوتها أحقّ بالمدح والطلب من قوّة
البدن وغنى المال. وهكذا قوله - صلى الله عليه وسلم -: " إنّما الرّبا في النسيئة"، أو "لا ربا إلا في النسيئة"، فإنّ
الرّبا العام الشامل للجنسين والجنس الواحد المتفقة صفاته إنّما يكون في
النسيئة، وأمّا ربا الفضل فلا يكون إلا في الجنس الواحد ولا يفعله أحدٌ إلا
إذا اختلفت الصفات، كالمضروب بالتّبر، والجيد بالرديء، فأمّا مع استواء
الصفات فلا يبيع أحد درهمًا بدرهمين، وأيضًا فربا الفضل إنّما حرّم لأنه
ذريعةٌ إلى ربا النسيئة كما في "المسند" عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -
أنه قال: "لا تبيعوا الدرهم بالدرهمين، إنّي أخاف عليكم الرّبا". فالربا المقصود بالقصد الأول هو ربا
النسيئة، فإذا بيع مائة بمائةٍ وعشرين مع اتفاق الصفات ظهرت أن الزيادة
قابلت الأجل الذي لا منفعة فيه وإنّما دخل فيه للحاجة، ولهذا لا يضمن
الآجال باليد فلو بقيت العين في يده أو المال في ذمته مدةً لم يضمن الأجل
بخلاف زيادة الصفة، فإنها مضمونةٌ في الإتلاف والغصب وفي المبيع إذا قابلت
غير الجنس، فلهذا قيل: "إنّما الرّبا في النّسيئة" و"لا ربا إلا في النسيئة"، فإنّ المستحقّ لاسم الرّبا في الحقيقة هو ربا النسيئة، ولذلك نفى الأسماء الشرعية لانتفاء بعض واجباتها لقوله: {إنّما المؤمنون الّذين إذا ذكر اللّه وجلت قلوبهم..} إلى قوله: {أولئك هم المؤمنون حقًّا} ،
وهؤلاء هم المستحقون لهذا الاسم على الحقيقة الواجبة دون من أخلّ بشيءٍ من
واجبات الإيمان والإسلام عمن انتفى عنه بعض واجباتهما لقوله: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن " الحديث. وقوله: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه" وقوله: "المؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم، والمجاهد من جاهد نفسه في ذات اللّه ". ومثل هذا كثير. كذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنّما الشهر تسع وعشرون " فإنّ
هذا هو عدد الشّهر اللازم الدائم، واليوم الزائد على ذلك أمر جائز يكون في
بعض الشهور ولا يكون في بعضها، بخلاف التسعة والعشرين، فإنّه يجب عددها
واعتبارها بكلّ حال، وهذا كما يقال: الإسلام شهادة أن لا إله إلا اللّه
وأنّ محمدًا رسول اللّه. فهذا هو الذي لا بدّ منه، وما زاد على ذلك فقد يجب على الإنسان، وقد يموت قبل التمكن، فلا يكون الإسلام في حقّه إلا ما تكلّم به. وحاصل الأمر أن الكلام الخبريّ هو إمّا إثباث أو نفيٌ، فكما أنهم في
الإثبات يثبتون للشيء اسم الشيء إذا حصل فيه مقصود الاسم وإن انتفت صورة
المسمّى، فكذلك في النّفي، فإنّ أدوات النّفي تدل على انتفاء الاسم بانتفاء
مسمّاه فذلك تارةً لأنه لم يوجد أصلاً، وتارةً لأنه لم توجد الحقيقة
المقصودة بالمسمّى، وتارةً لأنه لم تكن تلك الحقيقة، وتارةً لأن ذلك
المسمّى مما لا ينبغي أن يكون مقصودًا بل المقصود غيره، وتارةً لأسبابٍ
أخر، وهذا كلّه إنّما يظهر من سياق الكلام وما اقترن به من القرائن اللفظية
التي لا تخرجه عن كونه حقيقةً عند الجمهور، ولكون المركب قد صار موضوعًا
لذلك المعنى، أو من القرائن الحالية التي تجعله مجازًا عند الجمهور، وأمّا
إذا أطلق الكلام مجرّدًا عن القرينتين فمعناه السلب المطلق وهو أكثر
الكلام، وهذا الجواب ملّخصٌ من كلام شيخ الإسلام أبي العباس ابن تيمية -
رحمه اللّه. وأما قوله تعالى: {إنّما اللّه إلهٌ واحدٌ} ، وقوله: {إنّما أًنت منذرٌ}. ونحو ذلك، فالجواب عنه أن يقال: الحصر تارةً يكون عامًا كقوله: {إنّما إلهكم اللّه الّذي لا إله إلاّ هو} ، ونحو ذلك. وتارةً يكون
خاصًّا بما يدل عليه سياق الكلام فليس الحصر أن ينفي عن الأوّل كل ما سوى
الثاني مطلقًا، بل قد ينفي عنه ما يتوهم أنه ثابتٌ له من ذلك النوع الذي
أثبت له في الكلام. فقوله: {إنّما اللّه إلهٌ واحدٌ}، فيه نفي تعدد الإلهيّة في حقّه سبحانه وأنّه لا إله غيره، ليس المراد أنه لا صفة له سوى وحدانية الإلهية. وكذلك قوله: {إنّما أنا بشرٌ مثلكم يوحى إليّ أنّما إلهكم إلهٌ واحدٌ}، فإنّ المراد به أنه لم يوح إليّ في أمر الإلهية إلا التوحيد لا الإشراك. والعجب أن أبا حيّان الأندلسيّ أنكر
على الزمخشريّ ادعاءه الحصر في هذه الآية لاستلزامه عنده أنّه لم يوح إليه
غير التوحيد، قال: لأنّ الحصر إنما يلقى من جهة: "أنما" المفتوحة الهمزة،
قال: ولا يعرف القول بإفادتها الحصر إلا عند الزمخشريّ وحده. وردّ ذلك عليه شيخنا أبو محمدٍ بن
هشامٍ بناءً على أنّ (أنّ) المفتوحة فرع عن "إن " المكسورة على الصحيح،
قال: ولهذا صحّ للزمخشريّ أن يدّعي أنها تفيد الحصر " انتهى. وهذا كلّه لا حاجة إليه في هذه
الآية فإنّ الحصر مستفاد فيها من "إنما" المكسورة التي في أول الآية، فلو
فرض أن "أنما" المفتوحة لا تفيد الحصر لم ينتف بذلك الحصر في الآية على ما
لا يخفى. وكذلك قوله تعالى: {إنّما أنت منذر} ، أي لست ربًّا لهم ولا مجازيًا ولا محاسبًا، وليس عليك أن تجبرهم على الإيمان، ولا أن تتكلف لهم طلب الآيات التي يقترحونها عليك {إنّما أنت منذر}، فليس عليك إلا الإنذار، كما قال: {فإنّما عليك البلاغ وعلينا الحساب}، وقال: {فذكّر إنّما أنت مذكّرٌ (21) لست عليهم بمصيطرٍ (22)}. ومن ها هنا يظهر الجواب عن قوله: "إنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه اللّه إليّ " فإنّه قال: "ما
من نبي إلا وقد أوتي من الآيات ما آمن على مثله البشر، وإنّما كان الذي
أوتيته وحيًا أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة"
فالكلام إنما سيق لبيان آيات الأنبياء العظام الذي آمن لهم بسببها الخلق
الكثير، ومعلومٌ أن أعظم آيات النبيّ - صلى الله عليه وسلم - التي آمن
عليها أكثر أمّته هي الوحي وهو الذي كان يدعو به الخلق كلّهم، ومن أسلم في
حياته خوفًا فأكثرهم دخل الإيمان في قلبه بعد ذلك بسبب سماع الوحي لمسلمي
الفتح وغيرهم، فالنفي توجه إلى أنه لم تكن آياته التي أوجبت إسلام الخلق
الكثير من جنس ما كان لمن قبله مثل ناقة صالح وعصا موسى ويده وإبراء المسيح
الأكمه والأبرص وإحياء الموتى ونحو ذلك، فإنّ هذه أعظم آيات الأنبياء قبله
وبها آمن البشر لهم. وأمّا آيته هو - صلى الله عليه وسلم
- التي آمن البشر عليها في حياته وبعد وفاته فهي الوحي التي أوحي إليه وهي
التي توجب إيمان البشر إلى يوم القيامة كما قال تعالى: {وأوحي إليّ هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ}، ولهذا قيل إنّ آيات الأنبياء انقطعت بموتهم وآياته - صلى الله عليه وسلم - باقيةً إلى يوم القيامة. ومما يبيّن أنّ الحصر لم ينتف عن "إنّما" في شيء من هذه الأنواع التي
توهموها أن الحصر قد جاء فيها وفي مثلها بـ "إلا" كما جاء بـ "إنّما"، فإنه
جاء "لا ربا إلا في النسيئة" كما جاء "إنما الربا في النسيئة"، وجاء في
القرآن: {وما محمّدٌ إلاّ رسولٌ قد خلت من قبله الرّسل} كما جاء: {إنّما أنت منذرٌ}، وكذلك قوله: {ما المسيح ابن مريم إلاّ رسولٌ قد خلت من قبله الرّسل}. ومثل ذلك كثير. فهذا وجه إفادتها الحصر في هذه الآية على القول المشهور وهو أن "ما" في قوله: {إنّما يخشى اللّه من عباده العلماء} ، هي الكافة. وأما على قول من جعلها موصولةً فتفيد الحصر من جهةٍ أخرى، وهو
أنّها إذا كانت موصولةً فتقدير الكلام "إن الذين يخشون الله هم العلماء"
وهذا أيضًا يفيد الحصر" فإنّ الموصول يقتضي العموم لتعريفه، وإذا كان
عامًّا لزم أن يكون خبره عامًّا أيضًا لئلا يكون الخبر أخصّ من المبتدأ،
وهذا النوع من الحصر يسمّى حصر المبتدأ في الخبر، ومتى كان المبتدأ عامًّا
فلا ريب إفادته الحصر. وأمّا دلالة الآية على الثالث، وهو نفي العلم عن غير أهل الخشية. فمن جهة الحصر أيضا
فإنّ الحصر المعروف المطّرد هو حصر الأول في الثاني، وهو هاهنا حصر الخشية
في العلماء، وأما حصر الثاني في الأول فقد ذكره الشيخ أبو العباس ابن تيمية
- رحمه الله - وأنه قد يكون مرادًا أيضًا فيصير الحصر من الطرفين ويكونان
متلازمين، ومثل ذلك قوله: {إنّما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرّحمن بالغيب}، و{إنّما يؤمن بآياتنا الّذين إذا ذكّروا بها خرّوا سجّدًا وسبّحوا بحمد ربّهم وهم لا يستكبرون (15) تتجافى جنوبهم عن المضاجع}. قال: وكذلك الحصر في هذه الآية أعني قوله: {إنّما يخشى اللّه من عباده العلماء}
فتقتضي أن كل من خشي اللّه فهو عالم، وتقتضي أيضًا أن العالم من يخشى
اللّه، وبيان الحصر الذي ذكره الشيخ - رحمه اللّه - في هذه الآيات أنّ
قوله: {إنّما تنذر من اتّبع الذكر وخشي الرّحمن بالغيب}
فيه الحصر من الطرفين، فإن اقتضى أن إنذاره مختصٌّ بمن اتبع الذكر وخشي
الرحمن بالغيب فإن هذا هو المختصّ بقبول الإنذار، والانتفاع به فلذلك نفى
الإنذار عن غيره، والقرآن مملوء بأنّ الإنذار إنما هو للعاقل له خاصةً،
ويقتضي أنه لا يتبع الذكر ويخشى الرحمن بالغيب إلا من أنذره أي من قبل
إنذاره وانتفع به، فإن اتّباع الذكر وخشية الرحمن بالغيب مختصّة بمن قبل
الإنذار كما يختص قبول الإنذار والانتفاع بأهل الخشية واتباع الذكر. وكذلك قوله: {إنّما أنت منذر من يخشاها}. وقوله: {إنّما يؤمن بآياتنا الّذين إذا ذكّروا بها خرّوا سجّدًا} الآية. فإن انحصار الإنذار في أهل الخشية كانحصار أهل الخشية في أهل الإنذار، والذين خرّوا سجدًا في أهل الإيمان، ونحو ذلك، فكذلك قوله: {إنّما يخشى اللّه من عباده العلماء}، وقد فسّرها السلف بذلك أيضًا كما سنذكره - إن شاء اللّه تعالى - ونذكر شواهده. وهاهنا نكتةٌ حسنةٌ، وهي أنّ قوله تعالى: {إنّما يخشى الله من عباده العلماء} قد عُلم أنه يقتضي ثبوت الخشية للعلماء، لكن هل يقتضي ثبوتها لجنس العلماء، كما يقال: إنما يحج المسلمون، أو: لا يحج إلا مسلم، فيقتضي ثبوت الحجّ لجنس المسلمين لا لكلّ فرد فردٍ منهم، أو يقتضي ثبوت الخشية لكلّ واحدٍ من العلماء؟ هذا الثاني هو الصّحيح، وتقريره من جهتين: الجهة الأولى:
أن الحصر هاهنا من الطرفين، حصر الأول في الثاني وحصر الثاني في الأول،
كما تقدّم بيانه، فحصر الخشية في العلماء يفيد أن كل من خشي اللّه فهو
عالمٌ، وإن لم يفد لمجرّده أن كل عالم فهو يخشى اللّه، وتفيد أن من لا يخشى
فليس بعالم، وحصر العلماء في أهل الخشية يفيد أن كل عالم فهو خاشٍ، فاجتمع
من مجموع الحصرين ثبوت الخشية لكلّ فردٍ من أفراد العلماء. والجهة الثانية: أن المحصور هل هو مقتضٍ للمحصور فيه أو هو شرطٌ له؟ قال الشيخ أبو العباس - رحمه اللّه -: وفي هذه الآية وأمثالها هو مقتضٍ، فهو عامٌّ، فإنّ العلم بما أنذرت به الرسل يوجب الخوف. ومراده بالمقتضي: العلة المقتضية، وهي التي يتوقف تأثيرها على وجود شروط
وانتفاء موانع، كأسباب الوعد والوعيد ونحوهما فإنها مقتضياتٌ وهي عامةٌ. ومراده بالشرط: ما يتوقف تأثير السبب عليه بعد وجود السبب، وهو الذي يلزم
من عدمه عدم المشروط ولا يلزم من وجوده وجود المشروط، كالإسلام بالنسبة إلى
الحجّ. والمانع بخلاف الشرط، وهو ما يلزم من وجوده العدم ولا يلزم من عدمه الوجود. وهذا الفرق بين السبب والشرط وعدم المانع إنّما يتم على قول من يجوّز تخصيص
العلّة، وأما من لا يسمّي علةً إلا ما استلزم الحكم ولزم من وجودها وجوده
على كلّ حال فهؤلاء عندهم الشرط وعدم المانع من جملة أجزاء العلّة. والمقصود هنا أنّ العلم إذا كان سببًا مقتضيًا للخشية كان ثبوت الخشية عامًا لجميع أفراد العلماء لا يتخلف إلا لوجود مانع ونحوه. وقد تقدّم بيان
دلالة الآية على أنّ من خشي اللّه وأطاعه وامتثل أوامره واجتنب نواهيه فهو
عالم لأنه لا يخشاه إلا عالمٌ، وعلى نفي الخشية عن غير العلماء، ونفي العلم
عن غير أولي الخشية أيضًا، وأنّ من لم يخش اللّه فليس بعالم، وبذلك فسّرها السلف.. فعن ابن عباس قال: "يريد: إنما يخافني من خلقي من علم جبروتي وعزّتي وجلالي وسلطاني ". وعن مجاهدٍ والشعبيّ: "العالم من خاف اللّه ". وعن ابن مسعودٍ قال: "كفى بخشية اللّه علمًا، وكفى بالاغترار باللّه جهلاً". وذكر ابن أبي الدنيا عن عطاءٍ الخراسانيّ في هذه الآية: "العلماء باللّه الذين يخافونه ". وعن الربيع بن أنسٍ في هذه الآية قال: "من لم يخش اللّه فليس بعالمٍ، ألا ترى أنّ داود قال: ذلك بأنّك جعلت العلم خشيتك والحكمة والإيمان بك، وما علم من لم يخشك، وما حكم من لم يؤمن بك". وعن الربيع عن أبي العالية في قوله تعالى: {يؤتي الحكمة من يشاء}قال: "الحكمة الخشية، فإنّ خشية اللّه رأس كلّ حكمةٍ". وروى الدارميّ من طريق عكرمة عن ابن عباسٍ: {إنّما يخشى اللّه من عباده العلماء} قال: "من خشي اللّه فهو عالمٌ ". وعن يحيى بن جعدة، عن عليٍّ قال:
"يا حملة العلم، اعملوا به فإنّما العالم من عمل بما علم فوافق علمه عمله،
وسيكون أقوامٌ يحملون العلم ولا يجاوز تراقيهم، يخالف علمهم عملهم، وتخالف
سريرتهم علانيتهم، يجلسون
حلقًا فيباهي بعضهم بعضًا، حتى إنّ الرجل ليغضب على جليسه أن يجلس إلى
غيره ويدعه، أولئك لا تصعد أعمالهم في مجالسهم تلك إلى اللّه عزّ وجلّ ". وعن مسروقٍ قال: " كفى بالمرء علمًا أن يخشى اللّه عزّ وجل، وكفى بالمرء جهلاً أن يعجب بعلمه ". وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: "لا يكون الرجل عالما حتّى لا يحسد من فوقه ولا يحقر من دونه ولا يبتغي بعلمه ثمنًا". وعن أبي حازمٍ نحوه. منه قول الحسن: "إنما الفقيه الزاهد في الدّنيا، الراغب في الآخرة، البصير بدينه، المداوم على عبادة ربّه ". وعن عبيد اللّه بن عمر أنّ عمر بن الخطاب سأل عبد اللّه بن سلامٍ: "من أرباب ألعلم؟ قال: الذين يعملون بما يعلمون ". وقال رجلٌ للشعبي: أفتني أيها العالم فقال: "إنما العالم من يخاف اللّه ". وعن الربيع بن أنس عن بعض أصحابه قال: "علامة العلم خشية اللّه عز وجل ". وسئل سعد بن إبراهيم: من أفقه أهل المدينة؟ قال: "أتقاهم لربّه ". وسئل الإمام أحمد عن معروفٍ، وقيل له: هل كان معه علمٌ؟ فقال: "كان معه أصل العلم، خشية اللّه عزّ وجلّ ". ويشهد لهذا قوله تعالى: {أمّن هو قانتٌ آناء اللّيل ساجدًا وقائمًا يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربّه قل هل يستوي الّذين يعلمون والّذين لا يعلمون). وكذلك قوله تعالى: {إنّما التّوبة على اللّه للّذين يعملون السّوء بجهالةٍ ثمّ يتوبون من قريبٍ}. وقوله: {أنّه من عمل منكم سوءًا بجهالةٍ ثمّ تاب من بعده وأصلح فأنّه غفورٌ رّحيمٌ}. وقوله: {ثمّ إنّ ربّك للّذين عملوا السّوء بجهالةٍ ثمّ تابوا من بعد ذلك وأصلحوا إنّ ربّك من بعدها لغفورٌ رحيمٌ (119)}. قال أبو العالية: "سألت أصحاب محمدٍ عن هذه الآية: {إنّما التّوبة على اللّه للّذين يعملون السّوء بجهالةٍ ثمّ يتوبون من قريبٍ} فقالوا: كلّ من عصى اللّه فهو جاهلٌ، وكلّ من تاب قبل الموت فقد تاب من قريبٍ ". وعن قتادة قال: "أجمع أصحاب رسول
اللّه - صلى الله عليه وسلم - على أنّ كلّ من عصى ربّه فهو جاهلٌ جهالةً،
عمدًا كان أو لم يكن، وكلّ من عصى ربّه فهو جاهلٌ ". وقال مجاهدٌ: "من عمل ذنبًا من شيخ أو شابٍ فهو بجهالةٍ". وقال أيضًا: "من عصى ربّه فهو جاهلٌ حتى ينزع عن معصيته ". وقال أيضًا: "من عمل سوءًا خطأً أو إثمًا فهو جاهلٌ حتى ينزع منه ". وقال أيضًا هو وعطاء: "الجهالة: العمد". رواهنّ ابن أبي حازمٍ وغيره، وقال: وروي عن قتادة، وعمرو بن مرة، والثوريّ نحو ذلك. وروي عن مجاهدٍ والضحاك قالا: "ليس من جهالته أن لا يعلم حلالاً ولا حرامًا، ولكن من جهالته حين دخل فيه ". وقال عكرمة: "الدنيا كلّها جهالةٌ". وعن الحسن البصريّ أنه سئل عنها
فقال: "هم قومٌ لم يعلموا ما لهم مما عليهم، قيل له: أرأيت لو كانوا علموا؟
قال: فليخرجوا منها فإنها جهالةٌ". ومما يبيّن أنّ العلم يوجب الخشية وأنّ فقده يستلزم فقد الخشية وجوه: إحداها:
أن العلم باللّه تعالى وما له من الأسماء والصفات كالكبرياء والعظمة
والجبروت، والعزة وغير ذلك يوجب خشيته، وعدم ذلك يستلزم فقد هذه الخشية. وبهذا فسّر الآية ابن عباسٍ، فقال: "يريد إنما يخافني من علم جبروتي وعزتي وجلالي وسلطاني ". ويشهد لهذا قول النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "إني لأعلمكم باللّه وأشدّكم له خشيةً". وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرًا". وفي "المسند" وكتاب الترمذيّ وابن ماجة من حديث أبي ذرٍّ عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال:
"إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون إنّ السماء أطّت وحقّ لها أن
تئِطّ، ليس فيها موضع أربع أصابع إلا وملكٌ واضعٌ جبهته ساجدٌ للّه - عز
وجلّ - واللّه لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرًا، وما تلذذتم
بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله عزّ وجلّ ". وقال الترمذيّ: حسنٌ غريبٌ، قال: ويروى عن أبي ذرٍّ موقوفًا. وذكر أبو نعيمٍ وغيره بالإسناد عن ابن عباسٍ أنه قال للنفر الذين كانوا
يختصمون ويتمارون: "أو ما علمتم أنّ للّه عبادًا أصمتتهم خشية اللّه من غير
بكمٍ ولا عيًّ، وإنهم لهم العلماء والفصحاء والطلقاء والنبلاء، العلماء
بأيام اللّه غير أنهم إذا تذكّروا عظمة اللّه طاشت لذلك عقولهم، وانكسرت
قلوبهم، وانقطعت ألسنتهم، حتّى إذا استفاقوا من ذلك، تسارعوا إلى اللّه عزّ
وجلّ بالأعمال الزكيّة، يعدون أنفسهم مع المفرّطين، وإنهم لأكياسٌ أقوياء
مع الظالمين والخاطئين، وإنهم لأبرارٌ برءاء، إلا أنهم لا يستكثرون له
الكثير، ولا يرضون له بالقليل، ولا يدلون عليه بالأعمال، هم حيث ما
لقيتموهم مهتمّون مشفقون وجلون خائفون ". وروى ابن أبي الدنيا أثرًا عن زناد
بن أبي حبيبٍ أنه بلغه أن من حملة العرش من سال من عينه أمثال الأنهار من
البكاء، فإذا رفع رأسه قال: سبحانك ما تُخشى حقّ خشيتك، قال تعالى ذكره:
لكن الذين يحلفون باسمي كاذبين لا يعلمون ذلك. وعن يزيد الرقاشيّ قال: "إن للّه تبارك وتعالى ملائكةً حول العرش تجري
أعينهم مثل الأنهار إلى يوم القيامة، يميدون كأنّهم ينفضهم الريح من خشية
اللّه، فيقول الربّ عزّ وجلّ: يا ملائكتي، ما الذي يخيفكم وأنتم عندي؟ فيقولون: يا ربّ، لو أنّ أهل الأرض
اطّلعوا من عزّتك وعظمتك على ما اطّلعنا عليها، ما أساغوا طعامًا ولا
شرابًا، ولا انبسطوا في فرشهم، ولخرجوا إلى الصّحاري يخورون كما تخور البقر". ومثل هذا كثيرٌ جدًّا. والمقصود أنّ العلم باللّه وأسمائه وصفاته وأفعاله من قدَره وخلقه والتفكر
في عجائب آياته المسموعة المتلوة وآياته المشاهدة المرئية من عجائب
مصنوعاته وحكم مبتدعاته ونحو ذلك مما يوجب خشيته وإجلاله ويمنع من ارتكاب
نهيه والتفريط في أوامره؛ وهو أصل العلم النافع، ولهذا قال طائفةٌ من السلف
كعمر بن عبد العزيز وسفيان بن عيينة: "أعجب الأشياء قلبٌ عرف ربه ثم عصاه
". وقال بشر بن الحارث: "لو يفكر الناس في عظمة اللّه لما عصوا اللّه " وفي هذا المعنى يقول الشاعر:
فواعجبًا كيف يُعصى الإله ....... أم كيف يجحده الجاحد
وللّه في كلّ تحريكةٍ ....... وتسكينةٍ أبدًا شاهد
وفي كلّ شيءٍ له آيةٌ ....... تدل على أنه واحد
الوجه الثاني: أنّ العلم بتفاصيل أمر اللّه ونهيه، والتصديق الجازم بذلك وبما يترتب عليه من الوعد والوعيد والثواب والعقاب، مع تيقن مراقبة اللّه واطّلاعه ومشاهدته ومقته لعاصيه، وحضور الكرام الكاتبين، كلّ هذا يوجب الخشية وفعل المأمور وترك المحظور، وإنّما يمنع الخشية ويوجب الوقوع في المحظورات الغفلة عن استحضار هذه الأمور، والغفلة من أضداد العلم، والغفلة والشهوة أصل الشرّ، قال تعالى: {ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتّبع هواه وكان أمره فرطًا (28)} الكهف.
والشهوة وحدها، لا تستقلّ بفعل السيئات إلا مع الجهل، فإنّ صاحب الهوى لو استحضر هذه الأمور المذكورة وكانت موجودةً في ذكره لأوجبت له الخشية القامعة لهواه، ولكنّ غفلته عنها مما يوجب نقص إيمانه الذي أصله التصديق الجازم المترتّب على التصور التام، ولهذا كان ذكر اللّه وتوحيده والثناء عليه يزيد الإيمان، والغفلة والإعراض عن ذلك يضعفه وينقصه، كما كان يقول من يقول من الصحابة: "اجلسوا بنا نؤمن ساعة".
وفي الأثر المشهور عن حماد بن سلمة عن أبي جعفرٍ الخطميّ عن جدّه عمير بن حبيبٍ وكان من الصحابة، قال: "الإيمان يزيد وينقص.
قيل: وما زيادته ونقصانه؟
قال: إذا ذكرنا اللّه ووحّدناه وسبّحناه فتلك زيادته، وإذا غفلنا ونسينا فذلك نقصانه ".
وفي مسندي الإمام أحمد والبزار من حديث أبي هريرة أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "جدّدوا إيمانكم " قالوا: وكيف نجدد إيماننا يا رسول اللّه؟
قال: "قولوا: لا إله إلا اللّه ".
ولهذا كان الصحيح المشهور عن الإمام أحمد الذي عليه أكثر أصحابه وأكثر علماء السنة من جميع الطوائف أنّ ما في القلب من التصديق والمعرفة يقبل الزيادة والنقصان، فالمؤمن يحتاج دائمًا كلّ وقتٍ إلى تجديد إيمانه وتقوية يقينه وطلب الزيادة في معارفه والحذر من أسباب الشكّ والريب والشبهة، ومن هنا يعلم معنى قول النبيًّ - صلى الله عليه وسلم -: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن " فإنه لو كان مستحضرًا في تلك الحال لاطّلاع اللّه عليه ومقته له مع ما توعّده اللّه به من العقاب المجمل والمفصل استحضارًا تامًّا لامتنع منه بعد ذلك وقوع هذا المحظور وإنما وقع فيما وقع فيه لضعف إيمانه ونقصه.
الوجه الثالث: أنّ تصور حقيقة المخوف يوجب الهرب منه، وتصور حقيقة المحبوب توجب طلبه، فإذا لم يهرب من هذا ولم يطلب هذا دلّ على أن تصوّره لذلك ليس تامًّا، وإن كان قد يتصوّر الخبرَ عنه، وتصوّر الخبر وتصديقه وحفظ حروفه غير تصوّر المخبَر به، فإذا أُخبر بما هو محبوبٌ أو مكروهٌ له ولم يكذّب الخبر بل عَرف صدقه لكن قلبه مشغولٌ بأمور أخرى عن تصوّر ما أُخبر به فهذا لا يتحرك للهرب ولا للطلب.
وفي الأثر المعروف عن الحسن وروي مرسلاً عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "العلم علمان، فعلم في القلب، فذاك العلم النافع، وعلمٌ على اللسان، فذاك حجة الله على ابن آدم ".
الوجه الرابع: أنّ كثيرًا من الذنوب قد يكون سبب وقوعه جهل فاعله بحقيقة قبحه وبغض اللّه له وتفاصيل الوعيد عليه وإن كان عالمًا بأصل تحريمه وقبحه، لكنّه يكون جاهلاً بما ورد فيه من التغليظ والتشديد ونهاية القبح، فجهله بذلك هو الذي جرّأه عليه وأوقعه فيه، ولو كان عالمًا بحقيقة قبحه لأوجب ذلك العلم تركه خشيةً من عقابه.
ولهذا كان القول الصحيح الذي عليه السلف وأئمة السنة أنه يصحّ التوبة من بعض الذنوب دون بعضٍ خلافًا لبعض المعتزلة، فإنّ أحد الذنبين قد يعلم قبحه فيتوب منه، ويستهين بالآخر لجهله بقبحه وحقيقة مرتبته فلا يقلع عنه، ولذلك قد يقهره هواه ويغلبه في أحدهما دون الآخر، فيقلع عما لم يغلبه هواه دون ما غلبه فيه هواه، ولا يقال لو كانت الخشية عنده موجودةً لأقلع عن الجميع، لأن أصل الخشية عنده موجودةٌ، ولكنها غير تامةٍ، وسبب نقصها إما نقص علمه، وإما غلبة هواه، فتبعُّض توبته نشأ من كون المقتضي للتوبة من أحد الذنبين أقوى من المقتضي للتوبة من الآخر، أو كون المانع من التوبة من أحدهما أشدّ من المانع من الآخر.
الخامس: أنّ كل من علم علمًا تامًّا جازمًا بأن فعل شيئ يضرّه ضررًا راجحًا لم يفعله، فإنّ هذا خاصة العاقل، أن نفسه تنصرف عمّا يعلم رجحان ضرره بالطبع، فإنّ اللّه جعل في النفس حبًّا لما ينفعها وبغضًا لما يضرّها، فلا يفعل ما يجزم بأنه يضرّها ضررًا راجحًا، ولا يقع ذلك إلا مع ضعيف العقل.
فإنّ السقوط من موضع عالٍ، أو في نهر مغرقٍ، والمرور تحت حائطٍ يخشى سقوطه، ودخول نارٍ متأججةٍ، ورمي المال في البحر، ونحو ذلك، لا يفعله من هو تامّ العقل لعلمه بأن هذا ضرر ولا منفعة فيه، وإنّما يفعله من لم يعلم ضرره كالصبيّ، والمجنون، والسّاهي، والغافل، وأمّا العاقل فلا يقدم على ما يضرّه مع علمه بما فيه من الضرر إلا لظنّه أنّ منفعته راجحة إمّا بأن يجزم بأن ضرره مرجوح، أو يظنّ أن خيره راجح، كالذي يركب البحر ويسافر الأسفار الخطرة للربح فإنه لو جزم بأنه يغرق أو يخسر لما فعل ذلك وإنّما أقدم عليه لترجيح السلامة عنده والربح، وإن كان قد يكون مخطئًا في هذا الظنّ.
وكذلك الزاني والسارق ونحوهما، لو حصل لهم جزم بإقامة الحدود عليهم من الرجم والقطع ونحو ذلك، لم يقدموا على ذلك.
فإذا عُلم هذا فأصل ما يوقع الناس في السيئات الجهل وعدم العلم بأنها تضرهم ضررًا راجحًا، أو ظنّ أنها تنفعهم نفعًا راجحًا، وذلك كلّه جهل إما بسيط وإمّا مركّب، ولهذا يسمّى حال فعل السيئات الجاهلية، فإن صاحبها في حال جاهليةٍ، ولهذا كان الشيطان يزيّن السيئات ويأمر بها، ويذكر ما فيها من المحاسن التي يظنّ أنها منافع لا مضارّ كما أخبر اللّه عنه في قصة آدم أنه: {يا آدم هل أدلّك على شجرة الخلد وملكٍ لا يبلى (120) فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما} طه.
وقال: {ما نهاكما ربّكما عن هذه الشّجرة إلّا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين (20)} الأعراف.
وقال تعالى: {ومن يعش عن ذكر الرّحمن نقيّض له شيطانًا فهو له قرينٌ (36) وإنّهم ليصدّونهم عن السّبيل ويحسبون أنّهم مهتدون (37)} الزخرف.
وقال تعالى: {أفمن زيّن له سوء عمله فرآه حسنًا.. (8)} فاطر.
وقال: {كذلك زيّنّا لكلّ أمّةٍ عملهم ثمّ إلى ربّهم مرجعهم فينبّئهم بما كانوا يعملون (108)} الأنعام.
وتزيين أعمالهم يكون بواسطة الملائكة والأنبياء والمؤمنين للخير.
وتزيين شياطين الإنس والجن للشر، وقال تعالى: {وكذلك زيّن لكثيرٍ من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم..(137)} الأنعام.
ومثل هذا كثيرٌ فالفاعل للذنب لو جزم بأنه يحصل له به الضرر الراجح لم يفعله، لكنه يُزين له ما فيه من اللذة التي يظنّ أنها مصلحة، ولا يجزم بوقوع عقوبته، بل يرجو العفو بحسناتٍ أو توبةٍ أو بعفو الله ونحو ذلك، وهذا كله من اتباع الظن وما تهوى الأنفس، ولو كان له علم كامل لعرف به رجحان ضرر السيئة، فأوجب له ذلك الخشية المانعة له من مواقعتها، ونبين هذا بـالوجه السادس.
الوجه السادس: وهو أن لذّات الذنوب لا نسبة لها إلى ما فيها من الآلام والمفاسد ألبتة، فإنّ لذاتها سريعة الانقضاء وعقوباتها وآلامها أضعاف ذلك.
ولهذا قيل: "إن الصبر على المعاصي أهون من الصبر على عذاب اللّه".
وقيل: "ربّ شهوة ساعة أورثت حزنًا طويلاً".
وما في الذنوب من اللذات كما في الطعام الطيب المسموم من اللذة، فهي مغمورة بما فيه من المفسدة، ومُؤْثِر لذة الذنب كمؤثر لذة الطعام المسموم الذي فيه من السموم ما يمرض أو يقتل.
ومن هاهنا يُعلم أنه لا يؤثر لذات الذنوب إلا من هو جاهل بحقيقة عواقبها، كما لا يؤثر أكل الطعام المسموم للذّته إلا من هو جاهل بحاله أو غير عاقل، ورجاؤه التخلص من شرها بتوبةٍ أو عفو أو غير ذلك كرجاء آكل الطعام المسموم الطيّب للخلاص من شرّ سمّه بعلاج أو غيره، وهو في غاية الحمق والجهل، فقد لا يتمكن من التخلّص منه بالكلية فيقتله سمّه، وقد لا يتخلص منه تخلّصًا تامًّا فيطول مرضه.
وكذلك المذنب قد لا يتمكن من التوبة، فإنّ من وقع في ذنبٍ تجرّأ عليه عمره وهان عليه خوض الذنوب وعسر عليه الخلاص منها، ولهذا قيل: "من عقوبة الذنب الذنب بعده ".
وقد دلّ على ذلك القرآن في غير موضع، وإذا قُدّر أنه تاب منه فقد لا يتمكن من التوبة النصوح الخالصة التي تمحو أثره بالكلية، وإن قُدّر أنه تمكن من ذلك، فلا يقاوم اللذةَ الحاصلة بالمعصية ما في التوبة النصوح المشتملة على النّدم والحزن والخوف والبكاء وتجشم الأعمال الصالحة من الألم والمشقة، ولهذا قال الحسن: "ترك الذنب أيسر من طلب التوبة" ويكفي المذنب ما فاته في حال اشتغاله بالذنوب من الأعمال الصالحة الّتي كان يمكنه تحصيل الدرجات بها.
وقد اختلف الناس في التائب، هل يمكن عوده إلى ما كان عليه قبل المعصية على قولين معروفين، والقول بأنه لا يمكن عوده إلى ما كان عليه قول أبي سليمان الدّرانيّ وغيره.
كذلك اختلفوا في التوبة إذا استكملت شروطها هل يجزم بقبولها على قولين، فالقاضي أبو بكر وغيره من المتكلمين على أنّه لا يجزم بذلك، ولكنّ أكثر أهل السنة والمعتزلة وغيرهم على أنه يقطع بقبولها.
وإن قُدّر أنه عفي عنه من غير توبةٍ فإن كان ذلك بسبب أمرٍ مكفرٍ عنه كالمصائب الدنيوية، وفتنة القبر، وأهوال البرزخ، وأهوال الموقف، ونحو ذلك، فلا يستريب عاقلٌ أن ما في هذه الأمور من الآلام والشدائد أضعاف أضعاف ما حصل في المعصية من اللذة.
وإن عفي عنه بغير سببٍ من هذه الأسباب المكفرة ونحوها، فإنه لابّد أن يلحقه عقوبات كثيرة منها: ما فاته من ثواب المحسنين، فإن اللّه تعالى وإن عفا عن المذنب فلا يجعله كالذين آمنوا وعملوا الصالحات، كما قال تعالى: {أم حسب الّذين اجترحوا السّيّئات أن نجعلهم كالّذين آمنوا وعملوا الصّالحات سواءً محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون (21).
وقال: (أم نجعل الّذين آمنوا وعملوا الصّالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتّقين كالفجّار (28)}.
ولهذا قال بعض السلف: "هب أن المسيء قد عفي عنه، أليس قد فاته ثواب المحسنين؟!!".
ولولا أنّ اللّه تعالى رضّى أهل الجنة كلّهم بما حصل لهم من المنازل لتقطّعت أصحاب اليمين حسرات مما فاتهم من منازل المقربين مع إمكان مشاركتهم لهم في أعمالهم التي نالوا بها منازلهم العالية، وقد جاء في الأحاديث والآثار أنهم يقولون: "ألم نكن مع هؤلاء في الدنيا؟ فيقال: كنتم تفطرون وكانوا يصومون، وكنتم تنامون وكانوا يقومون، وكنتم تبخلون وكانوا ينفقون" ونحو ذلك.
وكذلك جاء: "أنّ الرجل من أهل عليين ليخرج فيسير في ملكه فما تبقى خيمة من خيم الجنة إلا دخلها من ضوء وجهه، فيستبشرون بريحه فيقولون: واهًا لهذه الريح، هذا رجل من أهل عليين قد خرج يسير في ملكه ". هذا قد روي من حديث ابن مسعودٍ مرفوعًا، وروي من كلام كعبٍ.
ومنها: ما يلحقه من الخجل والحياء من اللّه عز وجلّ عند عرضه عليه وتقريره بأعماله، وربما كان ذلك أصعب عليه من دخول النار ابتداءً، وقد أخبر بذلك بعض المحتضرين في زمان السلف عند احتضاره وكان أغمي عليه حتى ظنّ أنه مات، ثم أفاق فأخبر بذلك.
وجاء تصديق ذلك في الأحاديث والآثار كما روى عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب "الزهد" بإسناده عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "يدني اللّه عزّ وجلّ العبد يوم القيامة، فيضع عليه كنفه، فيستره من الخلائق كلها، ويدفع إليه كتابه في ذلك الستر، فيقول: اقرأ يا ابن آدم كتابك، قال: فيمرّ بالحسنة، فيبيضّ لها وجهه ويسرّ بها قلبه قال: فيقول الله عز وجل: أتعرف يا عبدي؟
فيقول: نعم، يا رب أعرف، فيقول: إني قد قبلتها منك.
قال: فيخرّ للّه ساجدًا، قال: فيقول اللّه عزّ وجلّ: ارفع رأسك يا ابن آدم وعد في كتابك، قال: فيمرّ بالسيئة فيسود لها وجهه، ويوجل منها قلبه وترتعد منها فرائصه، ويأخذه من الحياء من ربه ما لا يعمله غيره، قال: فيقول اللّه عزّ وجلّ: أتعرف يا عبدي؟
قال: فيقول: نعم، يا رب أعرف، قال: فيقول: إني قد غفرتها لك؟
قال: فلا يزال حسنةٌ تقبل فيسجد، وسيئةٌ تغفر فيسجد، فلا ترى الخلائق منه إلا السجود، قال: حتى تنادي الخلائق بعضها بعضًا: طوبى لهذا العبد الذي لم يعص اللّه قط، ولا يدرون ما قد لقي فيما بينه وبين اللّه عز وجل ".
ومما قد وقفه عليه وروي معنى ذلك عن أبي موسى، وعبد اللّه بن سلامٍ وغيرهما، ويشهد لهذا حديث عبد اللّه بن عمر الثابت في الصحيح - حديث النجوى - أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا كان يوم القيامة دعا اللّه بعبده فيضع عليه كنفه فيقول: ألم تعمل يوم كذا وكذا ذنب كذا وكذا؟ فيقول: بلى يا ربّ.
فيقول: فإني قد سترتها عليك في الدنيا وغفرت ذلك لك اليوم ".
وهذا كلّه في حقّ من يريد اللّه أن يعفو عنه ويغفر له فما الظنّ بغيره؟!!
ولهذا في "مراسيل الحسن " عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أراد اللّه أن يستر على عبده يوم القيامة أراه ذنوبه فيما بينه وبينه ثمّ غفرها له ".
ولهذا كان أشهر القولين أنّ هذا الحكم عامٌّ في حقّ التائب وغيره، وقد ذكره أبو سليمان الدمشقيّ عن أكثر العلماء، واحتجّوا بعموم هذه الأحاديث مع قوله تعالى: {ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرةً ولا كبيرة إلاّ أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرًا}.
وقد نقل ذلك صريحًا عن غير واحدٍ من السلف كالحسن البصريّ وبلال بن سعد - حكيم أهل الشام - كما روى ابن أبي الدنيا، وابن المنادي وغيرهما عن الحسن: "أنه سئل عن الرجل يذنب ثم يتوب هل يمحى من صحيفته؟ قال: لا، دون أن يوقفه عليه ثم يسأله عنه ".
ثم في رواية ابن المنادي وغيره: "ثم بكى الحسن، وقال: لو لم تبك الأحياء من ذلك المقام لكان يحقّ لنا أن نبكي فنطيل البكاء".
وذكر ابن أبي الدنيا عن بعض السلف أنه قال: "ما يمرّ عليّ أشد من الحياء من اللّه عزّ وجلّ ".
وفي الأثر المعروف الذي رواه أبو نعيمٍ وغيره عن علقمة بن مرثدٍ: "أنّ الأسود بن يزيد لما احتضر بكى، فقيل له: ما هذا الجزع؟ قال: ما لي لا أجزع، ومن أحقّ بذلك مني؟ واللّه لو أتيت بالمغفرة من اللّه عزّ وجلّ، لهمّني الحياء منه مما قد صنعته، إنّ الرجل ليكون بينه وبين الرجل الذنب الصغير فيعفو عنه فلا يزال مستحيًا منه ".
ومن هذا قول الفضيل بن عياضٍ بالموقف: "واسوءتاه منك وإن عفوت ".
والمقصود هنا أن آلام الذنوب ومشاقّها وشداتها التي تزيد على لذاتها أضعافًا مضاعفةً، لا تتخلف عن صاحبها لا مع توبة ولا عفوٍ، فكيف إذا لم يوجد واحدٌ منهما؟ ويتضح هذا بما نذكره في الوجه السابع.
الوجه السابع: وهو أن المقدم على مواقعة المحظور إنما أوجب إقدامه عليه ما فيه من اللذة الحاصلة له به، فظنّ أنّه يحصل له لذته العاجلة، ورجا أن يتخلص من تبعته بسببٍ من الأسباب ولو بالعفو المجرّد فينال به لذةً ولا يلحقه به مضرةٌ.
وهذا من أعظم الجهل، والأمر بعكس باطنه، فإن الذنوب تتبعها ولابدّ من الهموم والآلام وضيق الصدر والنكد، وظلمة القلب، وقسوته أضعاف أضعاف ما فيها من اللذة، ويفوت بها من حلاوة الطاعات وأنوار الإيمان وسرور القلب ببهجة الحقائق والمعارف ما لا يوازي الذرة منه جميع لذات الدنيا، فيحصل لصاحب المعصية العيشة الضنك وتفوته الحياة الطيبة، فينعكس قصده بارتكاب المعصية، فإنّ اللّه ضمن لأهل الطاعة الحياة الطيبة، ولأهل المعصية العيشة الضنك.
قال تعالى: {ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشةً ضنكًا}.
وقال: {وإنّ للّذين ظلموا عذابًا دون ذلك ولكن أكثرهم لا يعلمون}.
وقال: {ولنذيقنّهم مّن العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلّهم يرجعون}.
وقال في أهل الطاعة: {من عمل صالحًا من ذكرٍ أو أنثى وهو مؤمنٌ فلنحيينّه حياةً طيّبةً}.
قال الحسن وغيره من السلف: "لنرزقنّه عبادةً يجد حلاوتها في قلبه ".
ومن فسّرها بالقناعة، فهو صحيح أيضًا، ومن أنواع الحياة الطيبة الرضى بالمعيشة، فإنّ الرّضى كما قال عبد الواحد بن زيدٍ: "جنة الدنيا ومستراح العابدين ".
وقال تعالى: {وأن استغفروا ربّكم ثمّ توبوا إليه يمتّعكم متاعًا حسنًا إلى أجلٍ مسمًّى ويؤت كلّ ذي فضلٍ فضله}.
وقال: {فآتاهم اللّه ثواب الدّنيا وحسن ثواب الآخرة واللّه يحبّ المحسنين (148)}.
كما قال عن إبراهيم عليه السلام:{وآتيناه في الدّنيا حسنةً وإنّه في الآخرة لمن الصّالحين (122)}.
ومثل هذا كثيرٌ في القرآن.
فما في الطاعة من اللذة والسرور والابتهاج والطمأنينة وقرة العين أمر ثابتٌ بالنصوص المستفيضة، وهو مشهودٌ محسوسٌ يدركه بالذوق والوجد من حصل له ولا يمكن التعبير بالكلام عن حقيقته، والآثار عن السلف والمشايخ العارفين في هذا الباب كثيرةٌ موجودةٌ حتّى كان بعض السلف يقول: "لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف ".
وقال آخر: "لو علموا ما نحن فيه لقتلونا ودخلوا فيه ".
وقال أبو سليمان: "أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم، ولولا الليل ما أحببت البقاء في الدّنيا".
وقال: "إنه ليمرّ على القلب أوقاتٌ يضحك فيها ضحكًا".
وقال ابن المبارك وغيره: "مساكين أهل الدنيا خرجوا منها ولم يذوقوا أطيب ما فيها، قيل: ما أطيب ما فيها؟ قال: معرفة اللّه ".
وقال آخر: "أوجدني اللّه قلبًا طيبًا حتى قلت: إن كان أهل الجنة في مثل هذا فإنّهم في عيشٍ طيب ".
وقال مالك بن دينار: "ما تنعم المتنعمون بمثل ذكر اللّه ".
وهذا بابٌ واسعٌ جدًّا، والمعاصي تقطع هذه الموادّ، وتغلق أبواب هذه الجنة المعجلة، وتفتح أبواب الجحيم العاجلة من الهمّ والغمّ، والضيق والحزن والتكدر وقسوة القلب وظلمته وبعده عن الربّ - عزّ وجلّ - وعن مواهبه السّنيّة الخاصة بأهل التقوى، كما ذكر ابن أبي الدنيا بإسناده عن علي - رضي الله عنه - قال: "جزاء المعصية الوهن في العبادة، والضيق في المعيشة، والتعس في اللذة.
قيل: وما التعس في اللذة؟
قال: لا ينال شهوةً حلالاً، إلا جاءه ما يبغّضه إيّاها".
وعن الحسن قال: "العمل بالحسنة نورٌ في القلب وقوةٌ في البدن، والعمل بالسيئة ظلمةٌ في القلب ووهن في البدن ".
وروى ابن المنادي وغيره عن الحسن، قال: "إن للحسنة ثوابًا في الدنيا وثوابًا في الآخرة، وإنّ للسيئة ثوابًا في الدنيا وثوابًا في الآخرة، فثواب الحسنة في الدنيا البصر في الدّين والنور في القلب والقوة في البدن مع صحبةٍ حسنةٍ جميلةٍ، وثوابها في الآخرة رضوان اللّه عزّ وجلّ، وثواب السيئة في الدنيا العمى في الدنيا والظلمة في القلب والوهن في البدن مع عقوباتٍ ونقماتٍ، وثوابها في الآخرة سخط اللّه عزّ وجلّ والنار".
وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن مالك بن دينارٍ، قال: "إن للّه عقوبات فتعاهدوهنّ من أنفسكم في القلوب والأبدان: ضنكٌ في المعيشة، ووهن فى العبادة، وسخطٌ في الرزق ".
وعنه أنه قال: "ما ضرب عبدٌ بعقوبةٍ أعظم من قسوة القلب ".
ومثل هذا كثيرٌ جدًّا، وحاصل الأمر ما قاله قتادة وغيره من السلف: إن اللّه لم يأمر العباد بما أمرهم به لحاجته إليه، ولا نهاهم عمّا نهاهم عنه بخلاً به، بل أمرهم بما فيه صلاحهم، ونهاهم عمّا فيه فسادهم، وهذا هو الذي عليه المحققون من الفقهاء من أصحابنا وغيرهم، كالقاضي أبي يعلى وغيره.
وإن كان بينهم في جواز وقوع خلاف ذلك عقلاً نزاعٌ مبنيّ على أن العقل هل له مدخل في التحسين والتقبيح أم لا؟
وكثير منهم كأبي الحسن التميمي وأبي الخطاب على أنّ ذلك لا يجوز عقلاً أيضًا وأما من قال بوقوع مثل ذلك شرعًا فقوله شاذٌ مردودٌ.
والصواب: أنّ ما أمر اللّه به عباده فهو عين صلاحهم وفلاحهم في دنياهم وآخرتهم، فإنّ نفس الإيمان باللّه ومعرفته وتوحيده وعبادته ومحبته وإجلاله وخشيته وذكره وشكره هو غذاء القلوب وقوتها وصلاحها وقوامها، فلا صلاح للنفوس ولا قرة للعيون ولا طمأنينة ولا نعيم للأرواح ولا لذة لها في الدنيا على الحقيقة إلا بذلك، فحاجتها إلى ذلك أعظم من حاجة الأبدان إلى الطعام والشراب والنّفس بكثيرٍ، فإنّ حقيقة العبد وخاصيته هي قلبه وروحه ولا صلاح له إلا بتألّهه لإلهه الحقّ الذي لا إله إلا هو، ومتى فقد ذلك هلك وفسد ولم يصلحه بعد ذلك شيء ألبتة.
وكذلك ما حرّمه اللّه على عباده هو عين فسادهم وضررهم في دينهم ودنياهم، ولهذا حرّم عليهم ما يصدّهم عن ذكره وعبادته كما حرم الخمر والميسر، وبين أنه يصدّ عن ذكره وعن الصلاة مع مفاسد أخر ذكرها فيهما، وكذلك سائر ما حرّمه اللّه فإنّ فيه مضرةً لعباده في دينهم ودنياهم وآخرتهم، كما ذكر ذلك السلف.
وإذا تبيّن هذا وعلم أنّ صلاح العباد ومنافعهم ولذاتهم في امتثال ما أمرهم الله به، واجتناب ما نهاهم اللّه عنه تبيّن أن من طلب حصول اللذة والراحة من فعل المحظور أو ترك المأمور، فهو في غاية الجهل والحمق، وتبيّن أنّ كلّ من عصى اللّه هو جاهل، كما قاله السلف ودلّ عليه القرآن كما تقدم، ولهذا قال: {كتب عليكم القتال وهو كرهٌ لكم وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خيرٌ لكم وعسى أن تحبّوا شيئًا وهو شرٌّ لكم واللّه يعلم وأنتم لا تعلمون (216)}.
وقال: {ولو أنّهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرًا لهم وأشدّ تثبيتًا (66) وإذًا لآتيناهم من لدنّا أجرًا عظيمًا (67) ولهديناهم صراطًا مستقيمًا (68)}.
وقال تعالى: {واتّبعوا ما تتلو الشّياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكنّ الشّياطين كفروا يعلّمون النّاس السّحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلّمان من أحدٍ حتّى يقولا إنّما نحن فتنةٌ فلا تكفر فيتعلّمون منهما ما يفرّقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارّين به من أحدٍ إلّا بإذن اللّه ويتعلّمون ما يضرّهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاقٍ ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون (102) ولو أنّهم آمنوا واتّقوا لمثوبةٌ من عند اللّه خيرٌ لو كانوا يعلمون (103)}.
فأخبر أنهم علموا أنّ من اشتراه أي تعوض به في الدنيا فلا خلاق له في الآخرة ثم قال: {ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون} ، فيدلّ هذا على أنّهم لم يعلموا سوء ما شروا به أنفسهم.
وقد اختلف المفسرون في الجمع بين إثبات العلم ونفيه هاهنا.
فقالت طائفة منهم: الذين علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق، هم الشياطين الذين يعلّمون الناس السحر، والذين قيل فيهم: {لو كانوا يعلمون} هم الناس الذين يتعلمون.
قال ابن جرير: وهذا القول خطأٌ مخالفٌ لإجماع أهل التأويل على أنّ قوله: {ولقد علموا}عائدٌ على اليهود الذين اتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان. ثم أخبر ابن جرير أنّ الذين علموا أنه لا خلاق لمن اشتراه هم اليهود، والذين قيل فيهم: {لو كانوا يعلمون}، هم الذين يتعلمون من الملكين، وكثيرًا ما يكون فيهم الجهال بأمر اللّه ووعده ووعيده، وهذا أيضًا ضعيفٌ فإنّ الضمير فيهما عائدٌ إلى واحدٍ، وأيضًا فإن الملكين يقولان لمن يعلمانه: إنما نحن فتنة فلا تكفر، فقد أعلماه تحريمه وسوء عاقبته.
وقالت طائفة: إنما نفى عنهم العلم بعدما أثبته لانتفاء ثمرته وفائدته، وهو العمل بموجبه ومقضتاه، فلمّا انتفى عنهم العمل بعلمهم جعلهم جهّالاً لا يعلمون، كما يقال: لا علم إلا ما نفع، وهذا حكاه ابن جريرٍ وغيره، وحكى الماوردي قولاً بمعناه، لكنه جعل العمل مضمرا، وتقديره لو كانوا يعملون بما يعلمون.
وقيل: إنهم علموا أنّ من اشتراه فلا خلاق له، أي لا نصيب له في الآخرة من الثواب، لكنهم لم يعلموا أنه يستحق عليه العقاب مع حرمانه الثواب، وهذا حكاه الماورديّ وغيره، وهو ضعيف أيضًا، فإنّ الضمير إن عاد إلى اليهود، فاليهود لا يخفى عليهم تحريم السحر واستحقاق صاحبه العقوبة، وإن عاد إلى الذين يتعلمون من الملكين فالملكان يقولان لهم: {إنّما نحن فتنةٌ فلا تكفر} والكفر لا يخفى على أحدٍ أن صاحبه يستحقّ العقوبة، وإن عاد إليهما وهو الظاهر فواضح، وأيضًا فإذا علموا أنّ من اشتراه ما له في الآخرة من خلاقٍ فقد علموا أنه يستحقّ العقوبة، لأنّ الخلاق: النصيب من الخير، فإذا علم أنه ليس له نصيب في الخير بالكلية فقد علم أن له نصيبًا من الشرّ، لأنّ أهل التكليف في الآخرة لا يخلو واحد منهم عن أن يحصل له خير أو شرّ لا يمكن انتكاله عنهما جميعًا ألبتة.
وقالت طائفة: علموا أنّ من اشتراه فلا خلاق له في الآخرة، لكنهم ظنّوا أنهم ينتفعون به في الدنيا، ولهذا اختاروه وتعوّضوا به عن بوار الآخرة وشروا به أنفسهم، وجهلوا أنه في الدنيا يضرّهم أيضًا ولا ينفعهم، فبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون ذلك، وأنّهم إنما باعوا أنفسهم وحظّهم من الآخرة بما يضرّهم في الدنيا أيضًا ولا ينفعهم، وهذا القول حكاه الماورديّ وغيره، وهو الصحيح، فإنّ اللّه تعالى قال: {ويتعلّمون ما يضرّهم ولا ينفعهم} أي هو في نفس الأمر يضرّهم ولا ينفعهم بحالٍ في الدنيا وفي الآخرة.
ولكنّهم لم يعلموا ذلك لأنهم لم يقدموا عليه إلا لظنّهم أنه ينفعهم في الدنيا.
ثم قال: {ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاقٍ} أي قد تيقّنوا أنّ صاحب السحر لا حظّ له في الآخرة، وإنما يختاره لما يرجو من نفعه في الدنيا، وقد يسمّون ذلك العقل المعيشي أي العقل الذي يعيش به الإنسان في الدنيا عيشةً طيبةً، قال اللّه تعالى: {ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون} أي: إن هذا الذي يعوضوا به عن ثواب الآخرة في الدنيا أمرٌ مذمومٌ مضر لا ينفع لو كانوا يعلمون ذلك ثم قال: {ولو أنّهم آمنوا واتّقوا لمثوبةٌ من عند اللّه خير لّو كانوا يعلمون} يعني: أنهم لو اختاروا الإيمان والتقوى بدل السّحر لكان اللّه يثيبهم على ذلك ما هو خير لهم مما طلبوه في الدنيا لو كانوا يعلمون، فيحصل لهم في الدنيا من ثواب الإيمان والتقوى من الخير الذي هو جلب المنفعة ودفع المضرّة ما هو أعظم مما يحصّلونه بالسّحر من خير الدنيا مع ما يدّخر لهم من الثواب في الآخرة.
والمقصود هنا: أن كل من آثر معصية اللّه على طاعته ظانًّا أنه ينتفع بإيثار المعصية في الدنيا، فهو من جنس من آثر السحر الذي ظنّ أنه ينفعه في الدنيا على التقوى والإيمان، ولو اتّقى وآمن لكان خيرًا له وأرجى لحصول مقاصده ومطالبه ودفع مضارّه ومكروهاته.
ويشهد كذلك أيضًا ما في "مسند البزار" عن حذيفة قال: "قام النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فدعا الناس فقال: "هلمّوا إليّ، فأقبلوا إليه فجلسوا"، فقال: "هذا رسول ربّ العالمين جبريل - عليه السلام. - نفث في روعي: أنّه لا تموت نفسٌ حتى تستكمل رزقها وإن أبطأ عليها، فاتقوا اللّه وأجملوا في الطلب ولا يحملنّكم استبطاء الرّزق أن تأخذوه بمعصية الله، فإنّ الله لا ينال ما عنده إلا بطاعته ".
إذا تبين هذا؛ فقد علم أن العلم مستلزم للخشية من هذه الوجوه كلّها.
لكن على الوجه الأول يستلزم الخشية العلم باللّه بجلاله وعظمته، وهو الذي فسر الآية به جماعةٌ من السلف، كما تقدّم.
وعلى الوجوه الأخر تكون الخشية ملازمةٌ للعلم بأوامر الله ونواهيه وأحكامه وشرائعه وأسرار دينه وشرعه وخلقه وقدره.
ولا تنافي بين هذا العلم والعلم باللّه؛ فإنّهما قد يجتمعان وقد ينفرد أحدهما عن الآخر، وأكمل الأحوال اجتماعهما جميعًا وهي حالة الأنبياء - عليهم السلام - وخواصّ الصديقين ومتى اجتمعا كانت الخشية حاصلةٌ من تلك الوجوه كلها، وإن انفرد أحدهما حصل من الخشية بحسب ما حصّل من ذلك العلم، والعلماء الكمّل أولو العلم في الحقيقة الذين جمعوا الأمرين.
وقد ذكر الحافظ أبو أحمد بن عديٍّ: ثنا أحمد بن عبد اللّه بن صالح بن شيخ بن عميرة: ثنا إسحاق بن بهلول قال: قال لي إسحاق بن الطباع: قال لي سفيان بن عيينة: "عالمٌ باللّه عالمٌ بالعلم، عالمٌ باللّه ليس بعالمٍ بالعلم عالمٌ بالعلم ليس بعالم باللّه.
قال: قلت لإسحاق: فهمنيه واشرحه لي.
قال: عالمٌ باللّه عالمٌ بالعلم، حماد بن سلمة، عالمٌ باللّه ليس بعالم بالعلم مثل أبي الحجاج العابد، عالمٌ بالعلم ليس بعالم باللّه فلانٌ وفلانٌ وذكر بعض الفقهاء".
وروى الثوريّ عن أبي حيّان التميمي سعيد بن حيّان عن رجلٍ قال: كان يقال: العلماء ثلاثةٌ: "فعالمٌ باللّه ليس عالمًا بأمر اللّه، وعالمٌ بأمر اللّه ليس عالمًا باللّه، وعالمٌ باللّه عالمٌ بأمر اللّه ".
فالعالم باللّه وبأوامر اللّه: الذي يخشى اللّه ويعلم الحدود والفرائض.
والعالم باللّه ليس بعالم بأمر اللّه: الذي يخشى اللّه ولا يعلم الحدود والفرائض.
والعالم بأمر اللّه ليس بعالم باللّه: الذي يعلم الحدود والفرائض، ولا يخشى اللّه عزّ وجلًّ.
وأما بيان أنّ انتفاء الخشية ينتفي معه العلم.
فإن العلم له موجب ومقتضى وهو اتباعه والاهتداء به، وضدّه الجهل، فإذا انتفت فائدته ومقتضاه صار حاله كحاله عند عدمه وهو الجهل، وقد تقدّم أن الذنوب إنّما تقع عن جهالةٍ، وبيّنا دلالة القرآن على ذلك وتفسير السلف له بذلك، فيلزم حينئذٍ أن ينتفي العلم ويثبت الجهل عند انتفاء فائدة العلم ومقتضاه وهو اتباعه.
ومن هذا الباب قوله تعالى:{وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلامًا}.
وقول النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "إذا كان أحدكم صائمًا فلا يرفث ولا يجهل فإن امرؤٌ شاتمه أو قاتله فليقل: إني امرؤٌ صائمٌ ".
وهذا كما يوصف من لا ينتفع بسمعه وبصره وعقله في معرفة الحقّ والانقياد له بأنه أصم أبكم أعمى قال تعالى: {صمٌّ بكمٌ عميٌ فهم لا يعقلون}.
ويقال أيضًا: إنه لا يسمع ولا يبصر ولا يعقل كما قال تعالى: {ولقد ذرأنا لجهنّم كثيرًا من الجنّ والإنس لهم قلوبٌ لا يفقهون بها ولهم أعينٌ لا يبصرون بها ولهم آذانٌ لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضلّ أولئك هم الغافلون (179)}.
فسلب العلم والعقل والسمع والبصر وإثبات الجهل والبكم والصمم والعمى في حقّ من فقد حقائق هذه الصفات وفوائدها من الكفّار والمنافقين أو من شركهم في بعض ذلك كله من باب واحدٍ وهو سلب اسم الشيء أو مسمّاه لانتفاء مقصوده وفائدته وإن كان موجودًا، وهو بابٌ واسعٌ وأمثلته كثيرةٌ في الكتاب والسّنّة.