الدروس
course cover
تفسير قول الله تعالى: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله...} لشيخ الإسلام ابن تيمية
2 Apr 2015
2 Apr 2015

5238

0

0

course cover
الرسائل التفسيرية للمتقدمين

القسم الثاني

تفسير قول الله تعالى: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله...} لشيخ الإسلام ابن تيمية
2 Apr 2015
2 Apr 2015

2 Apr 2015

5238

0

0


0

0

0

0

0

قَالَ أَحْمَدُ بنُ عبدِ الحَلِيمِ بنِ عبدِ السلامِ ابنُ تَيْمِيَّةَ (ت: 728هـ): (فصلٌ:
في قوله تعالى: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه فيغفر لمن يشاء ويعذّب من يشاء واللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ} قد ثبت في صحيح مسلمٍ عن العلاء بن عبد الرّحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال: لمّا أنزل اللّه: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه} اشتدّ ذلك على أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، فأتوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، ثمّ بركوا على الرّكب وقالوا: أي رسول اللّه كلّفنا من العمل ما نطيق: الصّلاة والصّيام والجهاد والصّدقة؛ وقد نزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: (أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربّنا وإليك المصير)، فلمّا قرأها القوم وذلّت بها ألسنتهم أنزل اللّه في أثرها: {آمن الرّسول بما أنزل إليه من ربّه والمؤمنون كلٌّ آمن باللّه وملائكته وكتبه ورسله لا نفرّق بين أحدٍ من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربّنا وإليك المصير} فلمّا فعلوا ذلك نسخها اللّه، فأنزل اللّه: {لا يكلّف اللّه نفسًا إلّا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربّنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} قال: نعم {ربّنا ولا تحمل علينا إصرًا كما حملته على الّذين من قبلنا}، قال: نعم، {ربّنا ولا تحمّلنا ما لا طاقة لنا به}، قال: نعم {واعف عنّا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين} قال: نعم.
وروى سعيد بن جبيرٍ عن ابن عبّاسٍ معناه وقال: "قد فعلت قد فعلت"بدل "نعم".

ولهذا قال كثيرٌ من السّلف والخلف: إنّها منسوخةٌ بقوله: {لا يكلّف اللّه نفسًا إلّا وسعها} كما نقل ذلك عن ابن مسعودٍ وأبي هريرة وابن عمر وابن عبّاسٍ في روايةٍ عنه والحسن والشّعبيّ وابن سيرين وسعيد بن جبيرٍ وقتادة وعطاءٍ الخراسانيّ والسدي ومحمّد بن كعبٍ ومقاتلٍ والكلبيّ وابن زيدٍ.
ونقل عن آخرين أنّها ليست منسوخةً بل هي ثابتةٌ في المحاسبة على العموم فيأخذ من يشاء ويغفر لمن يشاء، كما نقل ذلك عن ابن عمر والحسن واختاره أبو سليمان الدّمشقيّ والقاضي أبو يعلى وقالوا: هذا خبرٌ والأخبار لا تنسخ.

وفصل الخطاب: أنّ لفظ " النّسخ " مجملٌ، فالسّلف كانوا يستعملونه فيما يظنّ دلالة الآية عليه من عمومٍ أو إطلاقٍ أو غير ذلك، كما قال من قال: إنّ قوله: {اتّقوا اللّه حقّ تقاته} و{وجاهدوا في اللّه حقّ جهاده} نسخ بقوله: {فاتّقوا اللّه ما استطعتم}، وليس بين الآيتين تناقضٌ، لكن قد يفهم بعض النّاس من قوله: {حقّ تقاته} و{حقّ جهاده} الأمر بما لا يستطيعه العبد، فينسخ ما فهمه هذا كما ينسخ اللّه ما يلقي الشّيطان ويحكم اللّه آياته، وإن لم يكن نسخ ذلك نسخ ما أنزله، بل نسخ ما ألقاه الشّيطان إمّا من الأنفس أو من الأسماع أو من اللّسان.
وكذلك ينسخ اللّه ما يقع في النّفوس من فهم معنًى وإن كانت الآية لم تدلّ عليه لكنّه محتملٌ، وهذه الآية من هذا الباب.
فإنّ قوله: {وإن تبدوا ما في أنفسكم} الآية إنّما تدلّ على أنّ اللّه يحاسب بما في النّفوس لا على أنّه يعاقب على كلّ ما في النّفوس.
وقوله: {لمن يشاء} يقتضي أنّ الأمر إليه في المغفرة والعذاب لا إلى غيره، ولا يقتضي أنّه يغفر ويعذّب بلا حكمةٍ ولا عدلٍ كما قد يظنّه من يظنّه من النّاس، حتّى يجوّزوا أنّه يعذّب على الأمر اليسير من السّيّئات مع كثرة الحسنات وعِظمها، وأنّ الرّجلين اللّذين لهما حسناتٌ وسيّئاتٌ يغفر لأحدهما مع كثرة سيّئاته وقلّة حسناته ويعاقب الآخر على السّيّئة الواحدة مع كثرة حسناته، ويجعل درجة ذاك في الجنّة فوق درجة الثّاني، وهؤلاء يجوّزون أن يعذّب اللّه النّاس بلا ذنبٍ وأن يكلّفهم ما لا يطيقون ويعذّبهم على تركه.
والصّحابة إنّما هربوا وخافوا أن يكون الأمر من هذا الجنس فقالوا: لا طاقة لنا بهذا؛ فإنّه إن كَلّفنا ما لا نطيق عَذّبنا، فنسخ اللّه هذا الظّنّ وبيّن أنّه لا يكلّف نفسًا إلّا وسعها، وبيّن بطلان قول هؤلاء الّذين يقولون إنّه يكلّف العبد ما لا يطيقه ويعذّبه عليه، وهذا القول لم يعرف عن أحدٍ من السّلف والأئمّة؛ بل أقوالهم تناقض ذلك، حتّى إنّ سفيان بن عيينة سئل عن قوله: {لا يكلّف اللّه نفسًا إلّا وسعها} قال: إلّا يسرها ولم يكلّفها طاقتها، قال البغوي: وهذا قولٌ حسنٌ؛ لأنّ الوسع ما دون الطّاقة، وإنّما قاله طائفةٌ من المتأخّرين لمّا ناظروا المعتزلة في " مسائل القدر " وسلك هؤلاء مسلك الجبر جهمٍ وأتباعه فقالوا هذا القول وصاروا فيه على مراتب وقد بسط هذا في غير هذا الموضع.
قال ابن الأنباريّ في قوله: {ولا تحمّلنا ما لا طاقة لنا به} أي لا تحمّلنا ما يثقل علينا أداؤه وإن كنّا مطيقين له على تجشّمٍ وتحمّلٍ مكروهٍ.
قال: فخاطب العرب على حسب ما تعقل؛ فإنّ الرّجل منهم يقول للرّجل ما أطيق النّظر إليك وهو مطيقٌ لذلك؛ لكنّه ثقيلٌ عليه النّظر إليه قال: ومثله قوله: {ما كانوا يستطيعون السّمع} .
قلتُ: ليست هذه لغة العرب وحدهم؛ بل هذا ممّا اتّفق عليه العقلاء.
و" الاستطاعة في الشّرع " هي ما لا يحصل معه للمكلّف ضررٌ راجحٌ كاستطاعة الصّيام والقيام، فمتى كان يزيد في المرض أو يؤخّر البرء لم يكن مستطيعًا؛ لأنّ في ذلك مضرّةً راجحةً؛ بخلاف هؤلاء فإنّهم كانوا لا يستطيعون السّمع لبغض الحقّ وثقله عليهم، إمّا حسدًا لقائله وإمّا اتّباعًا للهوى ورين الكفر والمعاصي على القلوب، وليس هذا عذرًا فلو لم يأمر العباد إلّا بما يهوونه لفسدت السّموات والأرض ومن فيهنّ.

والمقصود أن السّلف لم يكن فيهم من يقول إنّ العبد لا يكون مستطيعًا إلّا في حال فعله وأنّه قبل الفعل لم يكن مستطيعًا، فهذا لم يأت الشّرع به قطّ ولا اللّغة ولا دلّ عليه عقلٌ؛ بل العقل يدلّ على نقيضه كما قد بسط في غير هذا الموضع.
والرّبّ تعالى يعلم أنّ العبد لا يفعل الفعل مع أنّه مستطيعٌ له والمعلوم أنّه لا يفعله ولا يريده لا أنّه لا يقدر عليه، والعلم يطابق المعلوم، فاللّه يعلم ممّن استطاع الحجّ والقيام والصّيام أنّه مستطيعٌ ويعلم أنّ هذا مستطيعٌ يفعل مستطاعه، فالمعلوم هو عدم الفعل لعدم إرادة العبد لا لعدم استطاعته، كالمقدورات له الّتي يعلم أنّه لا يفعلها لعدم إرادته لها لا لعدم قدرته عليها، والعبد قادرٌ على أن يفعل وقد علم اللّه أنّه لا يفعل مع القدرة؛ ولهذا يعذّبه لأنّه إنّما أمره بما استطاع لا بما لا يستطيع، ومن لم يستطع لم يأمره ولا يعذّبه على ما لم يستطعه.

وإذا قيل: فيلزم أن يكون قادرًا على تغيير علم اللّه لأنّ اللّه علم أنّه لا يفعل فإذا قدر على الفعل قدر على تغيير علم اللّه.
قيل: هذه مغلطةٌ؛ وذلك أنّ مجرّد قدرته على الفعل لا يلزم فيها تغيير العلم، وإنّما يظنّ من يظنّ تغيير العلم إذا وقع الفعل، ولو وقع الفعل لكان المعلوم وقوعه لا عدم وقوعه، فيمتنع أن يحصل وقوع الفعل مع علم اللّه بعدم وقوعه؛ بل إن وقع كان اللّه قد علم أنّه يقع، وإن لم يقع كان اللّه قد علم أنّه لا يقع، ونحن لا نعرف علم اللّه إلّا بما يظهر، وعلم اللّه مطابقٌ للواقع، فيمتنع أن يقع شيءٌ يستلزم تغيير العلم، بل أيّ شيءٍ وقع كان هو المعلوم، والعبد الّذي لم يفعل لم يأت بشيء يغيّر العلم؛ بل هو قادرٌ على فعل ما لم يقع، ولو وقع لكان اللّه قد علم أنّه يقع لا أنّه لا يقع.

وإذا قيل: فمع عدم وقوعه يعلم اللّه أنّه لا يقع فلو قدر العبد على وقوعه قدر على تغيير العلم.
قيل ليس الأمر كذلك؛ بل العبد يقدر على وقوعه وهو لم يوقعه، ولو أوقعه لم يكن المعلوم إلّا وقوعه، فمقدور العبد إذا وقع لم يكن المعلوم إلّا وقوعه، فإذا وقع كان اللّه عالمًا أنّه سيقع، وإذا لم يقع كان اللّه عالمًا بأنّه لا يقع ألبتّة، فإذا فرض وقوعه مع انتفاءٍ لازم الوقوع صار محالًا من جهة إثبات الملزوم بدون لازمه،ـ وكلّ الأشياء بهذا الاعتبار هي محالٌ.
وممّا يلزم هؤلاء أن لا يبقى أحدٌ قادرًا على شيءٍ إلّا الرّبّ؛ فإنّ الأمور نوعان: نوعٌ علم اللّه أنّه سيكون، ونوعٌ علم اللّه أنّه لا يكون، فالأوّل لابدّ من وقوعه، والثّاني لا يقع ألبتّة.
فما علم اللّه أنّه سيقع يعلم أنّه يقع بمشيئته وقدرته، وما علم أنّه لا يقع يعلم أنّه لا يشاؤه، وهو سبحانه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.

وأمّا المعتزلة فعندهم أنّه يشاء ما لا يكون ويكون ما لا يشاء، وأولئك " المجبرة " في جانبٍ وهؤلاء في جانبٍ وأهل السّنّة وسطٌ.
وما يفعله العباد باختيارهم يعلم سبحانه أنّهم فعلوه بقدرتهم ومشيئتهم، وما لم يفعلوه مع قدرتهم عليه يعلم أنّهم لم يفعلوه لعدم إرادتهم له لا لعدم قدرتهم عليه، وهو سبحانه الخالق للعباد ولقدرتهم وإرادتهم وأفعالهم، وكلّ ذلك مقدورٌ للرّبّ وليس هذا مقدورًا بين قادرين، بل القادر المخلوق هو وقدرته ومقدوره مقدورٌ للخالق مخلوقٌ له.

والمقصود هنا أنّ قوله تعالى {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه} حقٌّ، والنّسخ فيها هو رفع فهم من فهم من الآية ما لم تدلّ عليه، فمن فهم أنّ اللّه يكلّف نفسًا ما لا تسعه فقد نسخ اللّه فهمه وظنّه، ومن فهم منها أنّ المغفرة والعذاب بلا حكمةٍ وعدلٍ فقد نسخ فهمه وظنّه، فقوله: {لا يكلّف اللّه نفسًا إلّا وسعها} ردٌّ للأوّل، وقوله: {لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} ردٌّ للثّاني، وقوله: {فيغفر لمن يشاء ويعذّب من يشاء} كقوله في آل عمران: {وللّه ما في السّماوات وما في الأرض يغفر لمن يشاء ويعذّب من يشاء واللّه غفورٌ رحيمٌ} وقوله: {ألم تعلم أنّ اللّه له ملك السّماوات والأرض يعذّب من يشاء ويغفر لمن يشاء واللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ} ونحو ذلك.
وقد علّمنا أنّه لا يغفر أن يشرك به وأنّه لا يعذّب المؤمنين وأنّه يغفر لمن تاب كذلك قوله: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه} الآية.

ودلّت هذه الآية على أنّه سبحانه يحاسب بما في النّفوس، وقد قال عمر: زنوا أنفسكم قبل أن توزنوا وحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا.
والمحاسبة تقتضي أن ذلك يحسب ويحصى، وأمّا المغفرة والعذاب فقد دلّ الكتاب والسّنّة على أنّ من في قلبه الكفر وبغض الرّسول وبغض ما جاء به أنّه كافرٌ باللّه ورسوله، وقد عفا اللّه لهذه الأمّة - وهم المؤمنون حقًّا الّذين لم يرتابوا - عمّا حدّثت به أنفسها ما لا تتكلّم به أو تعمل كما هو في الصّحيحين من حديث أبي هريرة وابن عبّاسٍ وروي عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: (أنّ الّذي يهمّ بالحسنة تكتب له، والّذي يهمّ بالسّيّئة لا تكتب عليه حتّى يعملها)؛ إذا كان مؤمنًا من عادته عمل الحسنات وترك السّيّئات، فإن ترك السّيّئة للّه كتبت له حسنةٌ، فإذا أبدى العبد ما في نفسه من الشّرّ بقول أو فعلٍ صار من الأعمال الّتي يستحقّ عليها الذّمّ والعقاب، وإن أخفى ذلك وكان ما أخفاه متضمّنًا لترك الإيمان باللّه والرّسول مثل الشّكّ فيما جاء به الرّسول أو بغضه كان معاقبًا على ما أخفاه في نفسه من ذلك؛ لأنّه ترك الإيمان الّذي لا نجاة ولا سعادة إلّا به.
وأمّا إن كان وسواسًا والعبد يكرهه فهذا صريح الإيمان كما هو مصرّحٌ به في الصّحيح، وهذه الوسوسة هي ممّا يهجم على القلب بغير اختيار الإنسان، فإذا كرهه العبد ونفاه كانت كراهته صريح الإيمان، وقد خاف من خاف من الصّحابة من العقوبة على ذلك فقال تعالى: {لا يكلّف اللّه نفسًا إلّا وسعها}.

و "الوسع" فُعل بمعنى المفعول، أي ما تسعه، لا يكلّفها ما تضيق عنه فلا تسعه، وهو المقدور عليه المستطاع.
وقال بعض النّاس: إن "الوسع" اسمٌ لما يسع الإنسان ولا يضيّق عليه، وليس كذلك؛ بل ما يسع الإنسان هو مباحٌ له، وما لم يسعه ليس مأمورًا به، فما يسعه قد يؤمر به، وأمّا ما لا يسعه فهو المباح، يقال: يسعني أن أفعل كذا ولا يسعني أن أفعل كذا، والمباح هو الواسع ومنه باحة الدّار، فالمباح لك أن تفعله هو يسعك ولا تخرج عنه، ومنه يقال: رحم اللّه من وسعته السّنّة فلم يتعدّها إلى البدعة، أي فيما أمر اللّه به وما أباحه ما يكفي المؤمن المتّبع في دينه ودنياه لا يحتاج أن يخرج عنه إلى ما نهي عنه.
وأمّا ما كلّفت به فهو ما أمرت بفعله، وذلك يكون ممّا تسعه أنت لا ممّا يسعك هو، وقد يقال: لا يسعني تركه؛ بل تركه محرّمٌ، وقد قال تعالى: {تلك حدود اللّه فلا تقربوها} وهو أوّل الحرام وقال: {تلك حدود اللّه فلا تعتدوها}، وهي آخر الحلال.
وقال: {ذلك بأنّ اللّه لم يك مغيّرًا نعمةً أنعمها على قومٍ حتّى يغيّروا ما بأنفسهم}، وهذا التّغيير نوعان:
أحدهما: أن يبدوا ذلك فيبقى قولًا وعملًا يترتّب عليه الذّمّ والعقاب.

والثّاني: أن يغيّروا الإيمان الّذي في قلوبهم بضدّه من الرّيب والشّكّ والبغض، ويعزموا على ترك فعل ما أمر اللّه به ورسوله، فيستحقّون العذاب هنا على ترك المأمور وهناك على فعل المحظور.
وكذلك ما في النّفس ممّا يناقض محبّة اللّه والتّوكّل عليه والإخلاص له والشّكر له يعاقب عليه؛ لأنّ هذه الأمور كلّها واجبةٌ، فإذا خلّي القلب عنها واتّصف بأضدادها استحقّ العذاب على ترك هذه الواجبات.

وبهذا التّفصيل تزول شبهٌ كثيرةٌ ويحصل الجمع بين النّصوص فإنّها كلّها متّفقةٌ على ذلك، فالمنافقون الّذين يظهرون خلاف ما يبطنون يعاقبون على أنّهم لم تؤمن قلوبهم بل أضمرت الكفر، قال تعالى: {يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم}، وقال: {في قلوبهم مرضٌ}، وقال: {أولئك الّذين لم يرد اللّه أن يطهّر قلوبهم} فالمنافق لا بدّ أن يظهر في قوله وفعله ما يدلّ على نفاقه وما أضمره، كما قال عثمان بن عفان: ما أسرّ أحدٌ سريرةً إلّا أظهرها اللّه على صفحات وجهه وفلتات لسانه، وقد قال تعالى عن المنافقين: {ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم}، ثمّ قال: {ولتعرفنّهم في لحن القول} وهو جواب قسمٍ محذوفٍ أي: واللّه لتعرفهم في لحن القول، فمعرفة المنافق في لحن القول لا بدّ منها، وأمّا معرفته بالسّيما فموقوفةٌ على المشيئة.
ولمّا كانت هذه الآية: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه} خبرًا من اللّه ليس فيها إثبات إيمانٍ للعبد بخلاف الآيتين بعدها كما قال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: (الآيتان من آخر سورة البقرة من قرأهما في ليلةٍ كفتاه) متّفقٌ عليه وهما قوله: {آمن الرّسول بما أنزل إليه من ربّه والمؤمنون} إلى آخرها.

وكلام السّلف يوافق ما ذكرناه، قال ابن عبّاسٍ: هذه الآية لم تنسخ ولكنّ اللّه إذا جمع الخلائق يقول: "إنّي أخبركم بما أخفيتم في أنفسكم ممّا لم تطّلع عليه ملائكتي" فأمّا المؤمنون فيخبرهم ويغفر لهم ما حدّثوا به أنفسهم وهو قوله: {يحاسبكم به اللّه} يقول: يخبركم به اللّه، وأمّا أهل الشّرك والرّيب فيخبرهم بما أخفوه من التّكذيب وهو قوله: {فيغفر لمن يشاء ويعذّب من يشاء} .
وقد روي عن ابن عبّاسٍ: أنّها نزلت في كتمان الشّهادة، وروي ذلك عن عكرمة والشّعبيّ وكتمان الشّهادة من باب ترك الواجب، وذلك ككتمان العيب الّذي يجب إظهاره وكتمان العلم الّذي يجب إظهاره.
وعن مجاهدٍ أنّه الشّكّ واليقين وهذا أيضًا من باب ترك الواجب؛ لأنّ اليقين واجبٌ.
وروي عن عائشة: (ما أعلنت فإنّ اللّه يحاسبك به وأمّا ما أخفيت فما عجّلت لك به العقوبة في الدّنيا)، وهذا قد يكون ممّا يعاقب فيه العبد بالغمّ كما سئل سفيان بن عيينة عن غمٍّ لا يعرف سببه قال: "هو ذنبٌ هممت به في سرّك ولم تفعله فجزيت همًّا به"، فالذّنوب لها عقوباتٌ: السّرّ بالسّرّ والعلانية بالعلانية.
وروي عنها مرفوعًا قالت: سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن هذه الآية: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه}، فقال: (يا عائشة هذه معاتبة اللّه العبد ممّا يصيبه من النّكبة والحمّى حتّى الشّوكة والبضاعة يضعها في كمّه فيفقدها فيروع لها فيجدها في جيبه، حتّى إنّ المؤمن ليخرج من ذنوبه كما يخرج التّبر الأحمر من الكير).

قلت: هذا المرفوع هو واللّه أعلم بيان ما يعاقب به المؤمن في الدّنيا؛ وليس فيه أنّ كلّ ما أخفاه يعاقب به، بل فيه أنّه إذا عوقب على ما أخفاه عوقب بمثل ذلك، وعلى هذا دلّت الأحاديث الصّحيحة.
وقد روى الروياني في مسنده من طريق اللّيث عن يزيد بن أبي حبيبٍ عن سعيد بن سنانٍ عن أنسٍ عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه قال: (إذا أراد اللّه بعبده الخير عجّل له العقوبة في الدّنيا وإذا أراد بعبده الشّرّ أمسك عنه العقوبة بذنبه حتّى يوافيه بها يوم القيامة)، وقد قال تعالى: {فأثابكم غمًّا بغمٍّ لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم واللّه خبيرٌ بما تعملون * ثم أنزل عليكم من بعد الغمّ أمنةً نعاسًا يغشى طائفةً منكم وطائفةٌ قد أهمّتهم أنفسهم يظنّون باللّه غير الحقّ ظنّ الجاهليّة يقولون هل لنا من الأمر من شيءٍ قل إنّ الأمر كلّه للّه يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك يقولون لو كان لنا من الأمر شيءٌ ما قتلنا هاهنا قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الّذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم وليبتلي اللّه ما في صدوركم وليمحّص ما في قلوبكم واللّه عليمٌ بذات الصّدور}. فهؤلاء كانوا في ظنّهم ظنّ الجاهليّة ظنًّا ينافي اليقين بالقدر وظنًّا ينافي بأنّ اللّه ينصر رسوله، فكان عقابهم على ترك اليقين ووجود الشّكّ وظنّ الجاهليّة ومثل هذا كثيرٌ.

وممّا يدخل في ذلك نيّات الأعمال، فإنّما الأعمال بالنّيّات وإنّما لكلّ امرئٍ ما نوى. و"النّيّة" هي ممّا يخفيه الإنسان في نفسه فإن كان قصده ابتغاء وجه ربّه الأعلى استحقّ الثّواب، وإن كان قصده رياء النّاس استحقّ العقاب، كما قال تعالى: {فويلٌ للمصلّين * الّذين هم عن صلاتهم ساهون * الّذين هم يراءون} وقال: {وإذا قاموا إلى الصّلاة قاموا كسالى يراءون النّاس} .
وفي حديث أبي هريرة الصّحيح في الثّلاثة الّذين أوّل من تسعّر بهم النّار في الّذي تعلّم وعلّم ليقال: عالمٌ قارئٌ، والّذي قاتل ليقال جريءٌ وشجاعٌ، والّذي تصدّق ليقال جوادٌ وكريمٌ، فهؤلاء إنّما كان قصدهم مدح النّاس لهم وتعظيمهم لهم وطلب الجاه عندهم؛ لم يقصدوا بذلك وجه اللّه وإن كانت صور أعمالهم صورًا حسنةً فهؤلاء إذا حوسبوا كانوا ممّن يستحقّ العذاب كما في الحديث: (من طلب العلم ليباهي به العلماء أو ليماري به السّفهاء أو ليصرف به وجوه النّاس إليه فله من عمله النّار) وفي الحديث الآخر: (من طلب علمًا ممّا يبتغى به وجه اللّه لا يطلبه إلّا ليصيب به عرضًا من الدّنيا لم يرح رائحة الجنّة وإنّ ريحها ليوجد من مسيرة خمسمائة عامٍ) .

وفي الجملة فالقلب هو الأصل، كما قال أبو هريرة: "القلب ملك الأعضاء والأعضاء جنوده فإذا طاب الملك طابت جنوده وإذا خبث خبثت جنوده"، وهذا كما في حديث النّعمان بن بشيرٍ المتّفق عليه أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: (إنّ في الجسد مضغةً إذا صلحت صلح لها سائر الجسد وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ألا وهي القلب) فصلاحه وفساده يستلزم صلاح الجسد وفساده، فيكون هذا ممّا أبداه لا ممّا أخفاه.
وكلّ ما أوجبه اللّه على العباد لا بدّ أن يجب على القلب فإنّه الأصل وإن وجب على غيره تبعًا، فالعبد المأمور المنهيّ إنّما يعلم بالأمر والنّهي قلبه، وإنّما يقصد بالطّاعة والامتثال القلب، والعلم بالمأمور والامتثال يكون قبل وجود الفعل المأمور به كالصّلاة والزّكاة والصّيام وإذا كان العبد قد أعرض عن معرفة الأمر وقصد الامتثال كان أوّل المعصية منه؛ بل كان هو العاصي وغيره تبعٌ له في ذلك؛ ولهذا قال في حقّ الشّقيّ: {فلا صدّق ولا صلّى} {ولكن كذّب وتولّى} الآيات، وقال في حقّ السّعداء: {إنّ الّذين آمنوا وعملوا الصّالحات} في غير موضعٍ.

والمأمور نوعان:
الأول:
نوعٌ هو عملٌ ظاهرٌ على الجوارح، وهذا لا يكون إلّا بعلم القلب وإرادته فالقلب هو الأصل فيه، كالوضوء والاغتسال وكأفعال الصّلاة من القيام والرّكوع والسّجود وأفعال الحجّ من الوقوف والطّواف، وإن كانت أقوالًا فالقلب أخصّ بها فلا بدّ أن يعلم القلب وجود ما يقوله أو بما يقول ويقصده.

ولهذا كانت الأقوال في الشّرع لا تعتبر إلّا من عاقلٍ يعلم ما يقول ويقصده، فأمّا المجنون والطّفل الّذي لا يميّز فأقواله كلّها لغوٌ في الشّرع لا يصحّ منه إيمانٌ ولا كفرٌ ولا عقدٌ من العقود ولا شيءٌ من الأقوال باتّفاق المسلمين، وكذلك النّائم إذا تكلّم في منامه فأقواله كلّها لغوٌ سواءٌ تكلّم المجنون والنّائم بطلاق أو كفرٍ أو غيره، وهذا بخلاف الطّفل؛ فإنّ المجنون والنّائم إذا أتلف مالًا ضمنه ولو قتل نفسًا وجبت ديتها كما تجب دية الخطأ، وتنازع العلماء في السّكران مع اتّفاقهم أنّه لا تصحّ صلاته لقوله صلّى اللّه عليه وسلّم: (مروهم بالصّلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر وفرّقوا بينهم في المضاجع) وهو معروفٌ في السّنن، وتنازعوا في عقود السّكران كطلاقه وفي أفعاله المحرّمة كالقتل والزّنا هل يجرى مجرى العاقل أو مجرى المجنون أو يفرّق بين أقواله وأفعاله وبين بعض ذلك وبعض على عدّة أقوالٍ معروفةٍ، والّذي تدلّ عليه النّصوص والأصول وأقوال الصّحابة أنّ أقواله هدرٌ كالمجنون لا يقع بها طلاقٌ ولا غيره؛ فإنّ اللّه تعالى قد قال: {حتّى تعلموا ما تقولون}، فدلّ على أنّه لا يعلم ما يقول، والقلب هو الملك الّذي تصدر الأقوال والأفعال عنه، فإذا لم يعلم ما يقول لم يكن ذلك صادرًا عن القلب بل يجري مجرى اللّغو، والشّارع لم يرتّب المؤاخذة إلّا على ما يكسبه القلب من الأقوال والأفعال الظّاهرة كما قال: {ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم} ولم يؤاخذ على أقوالٍ وأفعالٍ لم يعلم بها القلب ولم يتعمّدها، وكذلك ما يحدّث به المرء نفسه لم يؤاخذ منه إلّا بما قاله أو فعله، وقال قومٌ: إنّ اللّه قد أثبت للقلب كسبًا فقال: {بما كسبت قلوبكم} فليس للّه عبدٌ أسرّ عملًا أو أعلنه من حركةٍ في جوارحه أو همٍّ في قلبه إلّا يخبره اللّه به ويحاسبه عليه ثمّ يغفر لمن يشاء ويعذّب من يشاء، واحتجّوا بقوله تعالى: {إنّ السّمع والبصر والفؤاد كلّ أولئك كان عنه مسئولًا}، وهذا القول ضعيفٌ شاذٌّ؛ فإنّ قوله: {يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم} إنّما ذكره لبيان أنّه يؤاخذ في الأعمال بما كسب القلب لا يؤاخذ بلغو الأيمان كما قال: {بما عقّدتم الأيمان}، فالمؤاخذة لم تقع إلّا بما اجتمع فيه كسب القلب مع عمل الجوارح، فأمّا ما وقع في النّفس فإنّ اللّه تجاوز عنه ما لم يتكلّم به أو يعمل، وما وقع من لفظٍ أو حركةٍ بغير قصد القلب وعلمه فإنّه لا يؤاخذ به.
وأيضًا فإذا كان السّكران لا يصحّ طلاقه والصّبيّ المميّز تصحّ صلاته، ثمّ الصّبيّ لا يقع طلاقه فالسّكران أولى، وقد قال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم لماعز لمّا اعترف بالحدّ: (أبك جنونٌ؟ قال: لا ثمّ أمر باستنكاهه لئلّا يكون سكران)، فدلّ على أنّ إقرار السّكران باطلٌ، وقضيّة ماعزٍ متأخّرةٌ بعد تحريم الخمر فإنّ الخمر حرّمت سنة ثلاثٍ بعد أحدٍ باتّفاق النّاس، وقد ثبت عن عثمان وغيره من الصّحابة كعبد اللّه بن عبّاسٍ أنّ طلاق السّكران لا يقع ولم يثبت عن صحابيٍّ خلافه، والّذين أوقعوا طلاقه لم يذكروا إلّا مأخذًا ضعيفًا وعمدتهم أنّه عاصٍ بإزالة عقله، وهذا صحيحٌ يوجب عقوبته على المعصية الّتي هي الشّرب فيحدّ على ذلك، وأمّا الطّلاق فلا يعاقب به مسلمٌ على المعصية، ولو كان كذلك لكان كلّ من شرب الخمر أو سكر طلقت امرأته، وإنّما قال من قال: "إذا تكلّم به طلقت" فهم اعتبروا كلامه لا معصيته، ثمّ إنّه في حال سكره قد يعتق والعتق قربةٌ فإن صحّحوا عتقه بطل الفرق، وإن ألغوه فإلغاء الطّلاق أولى فإنّ اللّه يحبّ العتق ولا يحبّ الطّلاق، ثمّ من علّل ذلك بالمعصية لزمه طرد ذلك فيمن زال عقله بغير مسكرٍ كالبنج وهو قول من يسوّي بين البنج والسّكران من أصحاب الشّافعيّ وموافقيه كأبي الخطّاب، والأكثرون على الفرق وهو منصوص أحمد وأبي حنيفة وغيرهما؛ لأنّ الخمر تشتهيها النّفس وفيها الحدّ؛ بخلاف البنج فإنّه لا حدّ فيه بل فيه التّعزير لأنّه لا يشتهى، كالميتة والدّم ولحم الخنزير فيها التّعزير وعامّة العلماء على أنّه لا حدّ فيها إلّا قولًا نقل عن الحسن فهذا فيمن زال عقله.
وأمّا إذا كان يعلم ما يقول فإن كان مختارًا قاصدًا لما يقوله فهذا هو الّذي يعتبر قوله.
وإن كان مكرهًا فإن أكره على ذلك بغير حقٍّ فهذا عند جمهور العلماء أقواله كلّها لغوٌ مثل كفره وإيمانه وطلاقه وغيره، وهذا مذهب مالكٍ والشّافعيّ وأحمد وغيرهم.
وأبو حنيفة، وطائفةٌ يفرّقون بين ما يقبل الفسخ وما لا يقبله، قالوا: فما يقبل الفسخ لا يلزم من المكره كالبيع بل يقف على إجازته له، وما لا يقبل الفسخ كالنّكاح والطّلاق واليمين فإنّه يلزم من المكره.
والجمهور ينازعون في هذا الفرق في ثبوت الوصف وفي تعلّق الحكم به؛ فإنّهم يقولون النّكاح ونحوه يقبل الفسخ، وكذلك العتق يقبل الفسخ عند الشّافعيّ وأحد القولين في مذهب أحمد حتّى إنّ المكاتب قد يحكمون بعتقه ثمّ يفسخون العتق ويعيدونه عبدًا، والأيمان المنعقدة تقبل التّحلّة كما قال تعالى: {قد فرض اللّه لكم تحلّة أيمانكم}.

وبسط الكلام على هذا له موضعٌ آخر.

والمقصود هنا أن القلب هو الأصل في جميع الأفعال والأقوال، فما أمر اللّه به من الأفعال الظّاهرة فلا بدّ فيه من معرفة القلب وقصده وما أمر به من الأقوال وكل ما تقدّم.
والمنهيّ عنه من الأقوال والأفعال إنّما يعاقب عليه إذا كان بقصد القلب، وأمّا ثبوت بعض الأحكام كضمان النّفوس والأموال إذا أتلفها مجنونٌ أو نائمٌ أو مخطئٌ أو ناسٍ فهذا من باب العدل في حقوق العباد ليس هو من باب العقوبة.
فالمأمور به كما ذكرنا نوعان: نوعٌ ظاهرٌ على الجوارح، ونوعٌ باطنٌ في القلب.

النّوع الثّاني: ما يكون باطنًا في القلب، كالإخلاص وحبّ اللّه ورسوله والتّوكّل عليه والخوف منه، وكنفس إيمان القلب وتصديقه بما أخبر به الرّسول، فهذا النّوع تعلّقه بالقلب ظاهرٌ فإنّه محلّه، وهذا النّوع هو أصل النّوع الأوّل وهو أبلغ في الخير والشّرّ من الأوّل، فنفس إيمان القلب وحبّه وتعظيمه للّه وخوفه ورجائه والتّوكّل عليه وإخلاص الدّين له لا يتمّ شيءٌ من المأمور به ظاهرًا إلّا بها، وإلّا فلو عمل أعمالًا ظاهرةً بدون هذه كان منافقًا، وهي في أنفسها توجب لصاحبها أعمالًا ظاهرةً توافقها، وهي أشرف من فروعها كما قال تعالى: {لن ينال اللّه لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التّقوى منكم} .
وكذلك تكذيب الرّسول بالقلب وبغضه وحسده والاستكبار عن متابعته أعظم إثمًا من أعمالٍ ظاهرةٍ خاليةٍ عن هذا كالقتل والزّنا والشّرب والسّرقة، وما كان كفرًا من الأعمال الظّاهرة كالسّجود للأوثان وسبّ الرّسول ونحو ذلك فإنّما ذلك لكونه مستلزمًا لكفر الباطن، وإلّا فلو قدّر أنّه سجد قدّام وثنٍ ولم يقصد بقلبه السّجود له بل قصد السّجود للّه بقلبه لم يكن ذلك كفرًا، وقد يباح ذلك إذا كان بين مشركين يخافهم على نفسه فيوافقهم في الفعل الظّاهر ويقصد بقلبه السّجود للّه، كما ذكر أنّ بعض علماء المسلمين وعلماء أهل الكتاب فعل نحو ذلك مع قومٍ من المشركين حتّى دعاهم إلى الإسلام فأسلموا على يديه ولم يظهر منافرتهم في أوّل الأمر.

وهنا أصولٌ تنازع النّاس فيها:
منها: أنّ القلب هل يقوم به تصديقٌ أو تكذيبٌ ولا يظهر قطّ منه شيءٌ على اللّسان والجوارح وإنّما يظهر نقيضه من غير خوفٍ؟
فالّذي عليه السّلف والأئمّة وجمهور النّاس أنّه لا بدّ من ظهور موجب ذلك على الجوارح، فمن قال إنّه يصدّق الرّسول ويحبّه ويعظّمه بقلبه ولم يتكلّم قطّ بالإسلام ولا فعل شيئًا من واجباته بلا خوفٍ فهذا لا يكون مؤمنًا في الباطن؛ وإنّما هو كافرٌ.

وزعم جهمٌ ومن وافقه أنّه يكون مؤمنًا في الباطن... وأنّ مجرّد معرفة القلب وتصديقه يكون إيمانًا يوجب الثّواب يوم القيامة بلا قولٍ ولا عملٍ ظاهرٍ، وهذا باطلٌ شرعًا وعقلًا كما قد بسط في غير هذا الموضع، وقد كفّر السّلف كوكيع وأحمد وغيرهما من يقول بهذا القول، وقد قال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: (إنّ في الجسد مضغةً إذا صلحت صلح الجسد كلّه وإذا فسدت فسد الجسد كلّه ألا وهي القلب)، فبيّن أنّ صلاح القلب مستلزمٌ لصلاح الجسد، فإذا كان الجسد غير صالحٍ دلّ على أنّ القلب غير صالحٍ، والقلب المؤمن صالحٌ، فعلم أنّ من يتكلّم بالإيمان ولا يعمل به لا يكون قلبه مؤمنًا، حتّى إنّ المكره إذا كان في إظهار الإيمان فلا بدّ أن يتكلّم مع نفسه وفي السّرّ مع من يأمن إليه ولا بدّ أن يظهر على صفحات وجهه وفلتات لسانه كما قال عثمان، وأمّا إذا لم يظهر أثر ذلك لا بقوله ولا بفعله قطّ فإنّه يدلّ على أنّه ليس في القلب إيمانٌ، وذلك أنّ الجسد تابعٌ للقلب فلا يستقرّ شيءٌ في القلب إلّا ظهر موجبه ومقتضاه على البدن ولو بوجه من الوجوه وإن لم يظهر كلّ موجبه لمعارض فالمقتضي لظهور موجبه قائمٌ؛ والمعارض لا يكون لازمًا للإنسان لزوم القلب له؛ وإنّما يكون في بعض الأحوال متعذّرًا إذا كتم ما في قلبه كمؤمن آل فرعون، مع أنّه قد دعا إلى الإيمان دعاءً ظهر به من إيمان قلبه ما لا يظهر من إيمان من أعلن إيمانه بين موافقيه، وهذا في معرفة القلب وتصديقه.

ومنها: قصْد القلب وعزمه إذا قصد الفعل وعزم عليه مع قدرته على ما قصده هل يمكن أن لا يوجد شيءٌ ممّا قصده وعزم عليه؟
فيه قولان أصحّهما أنّه إذا حصل القصد الجازم مع القدرة وجب وجود المقدور وحيث لم يفعل العبد مقدوره دلّ على أنّه ليس هناك قصدٌ جازمٌ، وقد يحصل قصدٌ جازمٌ مع العجز عن المقدور لكن يحصل معه مقدّمات المقدور، وقيل: بل قد يمكن حصول العزم التّامّ بدون أمرٍ ظاهرٍ، وهذا نظير قول من قال ذلك في المعرفة والتّصديق وهما من أقوال أتباع جهمٍ الّذين نصروا قوله في الإيمان كالقاضي أبي بكرٍ وأمثاله فإنّهم نصروا قوله وخالفوا السّلف والأئمّة وعامّة طوائف المسلمين.

وبهذا ينفصل النّزاع في " مؤاخذة العبد بالهمة " فمن النّاس من قال يؤاخذ بها إذا كانت عزمًا، ومنهم من قال لا يؤاخذ بها.
والتّحقيق: أنّ الهمّة إذا صارت عزمًا فلا بدّ أن يقترن بها قولٌ أو فعلٌ؛ فإنّ الإرادة مع القدرة تستلزم وجود المقدور.
والّذين قالوا يؤاخذ بها احتجّوا بقوله: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النّار) الحديث، وهذا لا حجّة فيه؛ فإنّه ذكر ذلك في رجلين اقتتلا كلٌّ منهما يريد قتل الآخر، وهذا ليس عزمًا مجرّدًا بل هو عزمٌ مع فعل المقدور لكنّه عاجزٌ عن إتمام مراده، وهذا يؤاخذ باتّفاق المسلمين، فمن اجتهد على شرب الخمر وسعى في ذلك بقوله وعمله ثمّ عجز فإنّه آثمٌ باتّفاق المسلمين وهو كالشّارب وإن لم يقع منه شربٌ، وكذلك من اجتهد على الزّنا والسّرقة ونحو ذلك بقوله وعمله ثمّ عجز فهو آثمٌ كالفاعل، ومثل ذلك في قتل النّفس وغيره، كما جعل الدّاعي إلى الخير له مثل أجر المدعوّ ووزره لأنّه أراد فعل المدعوّ وفعل ما يقدر عليه، فالإرادة الجازمة مع فعل المقدور من ذلك، فيحصل له مثل أجر الفاعل ووزره، وقد قال تعالى: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضّرر والمجاهدون في سبيل اللّه بأموالهم وأنفسهم} الآية.
وفصل الخطاب في الآية أنّ {أولي الضّرر} نوعان:
الأول: نوعٌ لهم عزمٌ تامٌّ على الجهاد ولو تمكّنوا لما قعدوا ولا تخلّفوا وإنّما أقعدهم العذر فهم كما قال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: (إنّ بالمدينة رجالًا ما سرتم مسيرًا ولا قطعتم واديًا إلّا كانوا معكم قالوا: وهم بالمدينة قال: وهم بالمدينة حبسهم العذر) وهم أيضًا كما قال في حديث أبي كبشة الأنماري: (هما في الأجر سواءٌ) وكما في حديث أبي موسى: (إذا مرض العبد أو سافر كتب له من العمل ما كان يعمل صحيحًا مقيمًا) فأثبت له مثل ذلك العمل؛ لأنّ عزمه تامٌّ وإنّما منعه العذر.
والنّوع الثّاني من أولي الضّرر: الّذين ليس لهم عزمٌ على الخروج، فهؤلاء يفضّل عليهم الخارجون المجاهدون وأولو الضّرر العازمون عزمًا جازمًا على الخروج، وقوله تعالى: {غير أولي الضّرر} سواء كان استثناءً أو صفةً دلّ على أنّهم لا يدخلون مع القاعدين في نفي الاستواء، فإذا فصّل الأمر فيهم بين العازم وغير العازم بقيت الآية على ظاهرها، ولو جعل قوله: {فضّل اللّه المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجةً} عامًّا في أهل الضّرر وغيرهم لكان ذلك مناقضًا لقوله: {غير أولي الضّرر} فإنّ قوله: {لا يستوي القاعدون} {والمجاهدون} إنّما فيها نفي الاستواء؛ فإن كان أهل الضّرر كلّهم كذلك لزم بطلان قوله: {غير أولي الضّرر} ولزم أنّه لا يساوي المجاهدين قاعدٌ ولو كان من أولي الضّرر وهذا خلاف مقصود الآية.
وأيضًا، فالقاعدون إذا كانوا من غير أولي الضّرر والجهاد ليس بفرض عينٍ فقد حصلت الكفاية بغيرهم؛ فإنّه لا حرج عليهم في القعود؛ بل هم موعودون بالحسنى كأولي الضّرر وهذا مثل قوله: {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل} الآية، فالوعد بالحسنى شاملٌ لأولي الضّرر وغيرهم.
فإن قيل: قد قال في الأولى في فضلهم درجةً ثمّ قال في فضلهم {درجاتٍ منه ومغفرةً ورحمةً} كما قال: {أجعلتم سقاية الحاجّ وعمارة المسجد الحرام كمن آمن باللّه واليوم الآخر وجاهد في سبيل اللّه لا يستوون عند اللّه واللّه لا يهدي القوم الظّالمين} {الّذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل اللّه بأموالهم وأنفسهم أعظم درجةً عند اللّه وأولئك هم الفائزون} {يبشّرهم ربّهم برحمةٍ منه ورضوانٍ وجنّاتٍ لهم فيها نعيمٌ مقيمٌ.} فقوله: {أعظم درجةً}، كما قال في السّابقين: {أعظم درجةً} وهذا نصبٌ على التّمييز أي درجتهم أعظم درجةً وهذا يقتضي تفضيلًا مجملًا، يقال: منزلة هذا أعظم وأكبر، كذلك قوله: {وفضّل اللّه المجاهدين على القاعدين أجرًا عظيمًا} الآيات؛ ليس المراد به أنّهم لم يفضّلوا عليهم إلّا بدرجة فإنّ في الحديث الصّحيح الّذي يرويه أبو سعيدٍ وأبو هريرة: (إنّ في الجنّة مائة درجةٍ أعدّها اللّه للمجاهدين في سبيله ما بين كلّ درجتين كما بين السّماء والأرض) الحديث، وفي حديث أبي سعيدٍ: (من رضي باللّه ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمّد نبيًّا وجبت له الجنّة) فعجب لها أبو سعيدٍ، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: (وأخرى يرفع اللّه بها العبد مائة درجةٍ في الجنّة ما بين كلّ درجتين كما بين السّماء والأرض)، فقال: وما هي يا رسول اللّه؟ قال: (الجهاد في سبيل اللّه)، فهذا الحديث الصّحيح بيّن أنّ المجاهد يفضّل على القاعد الموعود بالحسنى من غير أولي الضّرر مائة درجةٍ وهو يبطل قول من يقول إنّ الوعد بالحسنى والتّفضيل بالدّرجة مختصٌّ بأولي الضّرر فهذا القول مخالفٌ للكتاب والسّنّة.
وقد يقال: إنّ {درجةً} منصوبٌ على التّمييز، كما قال: {أعظم درجةً} أي فضل درجتهم على درجتهم أفضل، كما يقال: فضّل هذا على هذا منزلًا ومقامًا، وقد يراد بالدّرجة جنس الدّرج وهي المنزّلة والمستقرّ لا يراد به درجةٌ واحدةٌ من العدد، وقوله: {وفضّل اللّه المجاهدين على القاعدين أجرًا عظيمًا} {درجاتٍ} منصوبٌ بـ {فضّل} لأنّ التّفضيل زيادةٌ للمفضّل، فالتّقدير زادهم عليهم أجرًا عظيمًا درجاتٍ منه ومغفرةً ورحمةً، فهذا النّزاع في العازم الجازم إذا فعل مقدوره هل يكون كالفاعل في الأجر والوزر أم لا، وأمّا في استحقاق الأجر والوزر فلا نزاع في ذلك.
وقوله: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما) فيه حرص كلّ واحدٍ منهما على قتلٍ صاحبه وفعل مقدوره فكلاهما مستحقٌّ للنّار، ويبقى الكلام في تساوي القعودين بشيء آخر.
وهكذا حال المقتتلين من المسلمين في الفتن الواقعة بينهم فلا تكون عاقبتهما إلّا عاقبة سوءٍ الغالب والمغلوب، فإنّه لم يحصل له دنيا ولا آخرةٌ، كما قال الشّعبيّ: "أصابتنا فتنةٌ لم نكن فيها بررةً أتقياء ولا فجرةً أشقياء"، وأمّا الغالب فإنّه يحصل له حظٌّ عاجلٌ ثمّ يُنتقم منه في الآخرة، وقد يعجّل اللّه له الانتقام في الدّنيا كما جرى لعامّة الغالبين في الفتن فإنّهم أصيبوا في الدّنيا، كالغالبين في الحرّة وفتنة أبي مسلمٍ الخراسانيّ ونحو ذلك.

وأمّا من قال إنّه لا يؤاخذ بالعزم القلبيّ، فاحتجّوا بقوله صلّى اللّه عليه وسلّم: (إنّ اللّه تجاوز لأمّتي عمّا حدّثت به أنفسها)، وهذا ليس فيه أنّه عافٍ لهم عن العزم بل فيه أنّه عفا عن حديث النّفس إلى أن يتكلّم أو يعمل، فدلّ على أنّه ما لم يتكلّم أو يعمل لا يؤاخذ؛ ولكن ظنّ من ظنّ أنّ ذلك عزمًا وليس كذلك؛ بل ما لم يتكلّم أو يعمل لا يكون عزمًا؛ فإنّ العزم لا بدّ أن يقترن به المقدور وإن لم يعمل العازم إلى المقصود، فالّذي يعزم على القتل أو الزّنا أو نحوه عزمًا جازمًا لا بدّ أن يتحرّك ولو برأسه أو يمشي أو يأخذ آلةً أو يتكلّم كلمةً أو يقول أو يفعل شيئًا، فهذا كلّه ما يؤاخذ به، كزنا العين واللّسان والرّجل فإنّ هذا يؤاخذ به وهو من مقدّمات الزّنا التّامّ بالفرج، وإنّما وقع العفو عمّا ما لم يبرز خارجًا بقول أو فعلٍ ولم يقترن به أمرٌ ظاهرٌ قطّ فهذا يُعفى عنه لمن قام بما يجب على القلب من فعل المأمور به سواءٌ كان المأمور به في القلب وموجبه في الجسد أو كان المأمور به ظاهرًا في الجسد وفي القلب معرفته وقصده، فهؤلاء إذا حدّثوا أنفسهم بشيء كان عفوًا مثل همٍّ ثابتٍ بلا فعلٍ ومثل الوسواس الّذي يكرهونه وهم يثابون على كراهته وعلى ترك ما همّوا به وعزموا عليه للّه تعالى وخوفًا منه). [مجموع الفتاوى: 14/ 99-128]